المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

‌ص: كتاب الإجارات

ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإجارات، وهو جمع إجارة، وهي فِعَالة أو إِعَالة على تقدير حذف فاء الفعل، وهي في الشرع بيع منفعة معلومة بأجر معلوم.

‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستئجار على تعليم القرآن، هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن عامر الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه أنه قال:"أقبلنا من عند رسول الله عليه السلام فأتينا على حي من أحياء العرب، فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الحبر بخير، فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوهًا في القيود؟ فقلنا: نعم، فجاءوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي ثم أتفل، فكأنما نُشِطَ من عقال، فأعطوني جعلًا، فقلت: لا، حتى أسأل رسول الله عليه السلام، فسألته فقال: كُلْ، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق".

ش: إسناده جيد حسن، وعبد الله بن أبي السفر -بفتح السين المهملة والفاء- واسمه سعيد بن يحمد الثوري الكوفي، روى له الجماعة.

وخارجة بن الصلت بن صحار التميمي، وثقه ابن حبان.

وعمه علاقة بن صحار السليطي الصحابي.

ص: 354

وأخرجه أبو داود في البيوع في باب "كسب المعالجين من الطب"(1): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه:"أنه مر بقوم فأتوه، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فَارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنما نشط من عقال، فأعطوه شيئًا، فأتى النبي عليه السلام فذكر له، فقال رسول الله عليه السلام: كُلْ، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق".

وأخرجه أيضًا (2) في الطب في باب "كيف الرقى": حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن جابر بن الصلت التميمي، عن عمه قال:"أقبلنا من عند رسول الله عليه السلام فأتينا على حي من العرب، فقالوا: إنا أنبئنا أنكم قد جئتم من عند هذا الرجل بخير، فهل عندكم من دواء أو رقية، فإن عندنا معتوهًا في القيود؟ قال: فقلنا: نعم، قال: فجاءوا بالمعتوه في القيود، فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي ثم أتفل، قال: فكأنما نشط من عقال، فأعطوني جعلًا، فقلت: لا، حتى أسأل رسول الله عليه السلام، فقال: كُلْ، فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق".

وقال أبو داود (3) أيضًا: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: حدثني عامر، عن خارجة بن يزيد بن الصلت التميمي، عن عمه: "أنه أتى رسول الله عليه السلام فأسلم، ثم أقبل راجعًا من عنده، فمر على قوم عندهم مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: إنا حُدِّثْنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير، فهل عندكم شيء نداويه به؟ فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطوني مائة شاة، فأتيت رسول الله عليه السلام فأخبرته،

(1)"سنن أبي داود"(3/ 266 رقم 3420).

(2)

"سنن أبي داود"(4/ 14 رقم 3901).

(3)

"سنن أبي داود"(4/ 13 رقم 3896).

ص: 355

فقال: هل إلا هذا؟ -وقال مسدد في موضع آخر: هل قلت غير هذا؟ - قلت: لا، قال: خذها، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق".

وأخرجه النسائي (1) في "اليوم والليلة": عن عمرو بن علي، عن غندر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه.

قوله: "على حي"، وهي الجماعة النازلون على موضع.

قوله: "من عند هذا الحَبْر" بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة، أي العالم، وفي رواية أبي داود:"من عند هذا الرجل".

قوله: "أو رقية" بضم الراء، وهي العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات.

قوله: "معتوهًا" المعتوه: المجنون المصاب بغفلة، وقد عُتِهَ فهو مَعْتُوه، وفي الحديث:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي، والنائم، والمعتوه"(2).

قوله: "ثم أتفل" من تَفَلَ يَتْفُلُ ويَتْفِلُ من باب ضَرَبَ يَضْرِب ونَصَرَ يَنْصُر، وهو بالتاء المثناة من فوق، من التَّفْل وهو البزق، وهو أقل من البزق، أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ، قال الجوهري: ومنه تفل الراقي.

قوله: "فكأنما نشط من عقال" قال ابن الأثير: وكثير ما يجيء في الرواية كأنما نشط من عقال، وليس بصحيح، والصحيح كأنما أنشط أي حل من عقال، يقال: نَشَطْتُ العقدة إذا عقدتها، وأنشطتها وانتشطتها: إذا حللتها، و"العقال" بكسر العين وهو الحبل الذي يعقل به البعير، أي: يربط ويقيد.

قوله: "جُعْلًا" بضم الجيم وسكون العين، وهو الأجرة على الشيء فعلًا أو قولًا، وكذلك الجعالة.

(1)"السنن الكبرى"(4/ 365 رقم 7534).

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(2/ 545 رقم 4402)، والترمذي في "جامعه"(4/ 32 رقم 1423)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 323 رقم 7345)، وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 356

قوله: "فقال: كل" أي كل الجعل الذي أُعطيتَه.

قوله: "فَلَعَمْري" قسم، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والمعنى: لعمري قسمي، يعني أحلف ببقائي ودوامي، وأحلف بحياتي و"اللام" فيه للتأكيد، والعين فيه مفتوحة.

قوله: "لقد أكلت برقية حق" جواب القسم.

وقوله: "لمن أكل برقية باطل" جملة معترضة بين القسم وجوابه، كذا قيل، والصواب أن جواب القسم هو قوله:"لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق" فالجميع هو جواب القسم.

وقوله: "من أكل" كلمة "من" فيه تتضمن معنى الشرط، وجوابه قوله:"لقد أكلت برقية حق" كما جاء في حديث آخر: "من أخذ برقية باطل، فقد أخذت برقية حق".

ويستنبط منه أحكام: جواز أخذ الأجرة على القرآن، وهو مسألة الباب كما يجيء تفصيلًا إن شاء الله تعالى، وإباحة الرقية بذكر الله وأسمائه.

فإن قلت: ثبت في "الصحيح"(1): "لا يسترقون ولا يكتوون".

قلت: ورد أيضًا: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة"(2) أي اطلبوا لها من يرقيها، ووجه الجمع بينهما: أن الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يعتقد أن الرقيا نافعة لا محالة فيتكل عليها، وإياها أراد بقوله:"ما توكل من استرقى"(3)، ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى، والرقى المروية.

(1)"صحيح البخاري"(5/ 2170 رقم 5420)، و"صحيح مسلم"(1/ 198 رقم 218) من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(5/ 2176 رقم 5407) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه الترمذي (4/ 393 رقم 2055)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 378 رقم 7605).

ص: 357

وفيه إباحة الطب والعلاج؛ وذلك أن الرقية والقراءة والتفل فعل من الأفعال المباحة، وقد أباح له أخذ الأجرة عليها، فكذلك ما يفعله الطبيب من قول ووصف فعل لا فرق بينهما.

وفيه فضيلة فاتحة الكتاب، وجواز الرقية بها، وجواز الحلف على تأكيد القول والفعل، والله أعلم.

ص: حدثنا أبو العوام محمد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: أنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل فيكم من راقٍ، فإن سيد الحي قد لدغ، أو قد عُرِضَ له؟ قال: فرقاه رجل بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطي قطيعًا من الغنم فأبى أن يقبله، فسأل عن ذلك رسول الله عليه السلام، فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب، قال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال رسول الله عليه السلام: خذوها، واضربوا لي معكم بسهم فيها".

ش: إسناده صحيح، ويحيى بن حسان بن حيان التنيسي أحد مشايخ الشافعي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، وهشيم هو ابن بشير، وأبو بشر هو جعفر بن إياس اليشكري، وأبو المتوكل الناجي اسمه علي بن داود أو دؤاد روى له الجماعة، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك.

والحديث أخرجه الجماعة:

فالبخاري (1): عن محمد بن الفضل، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن أبي بشر. . . . إلى آخره.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 795 رقم 2156).

(2)

"صحيح مسلم"(4/ 1727 رقم 2201).

ص: 358

وأبو داود (1): عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل.

والترمذي (2): عن ابن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت أبا المتوكل. . . . فذكر نحوه.

والنسائي (3) في "اليوم والليلة": عن زياد بن أيوب، عن هشيم.

وعن بندار (4)، عن غندر، عن شعبة، جميعًا عن أبي بشر.

وابن ماجه (5): عن أبي كريب، عن هشيم، عن أبي بشر بمعناه، وأوله:"بعثنا في ثلاثين راكبًا. . . .".

ص: فاحتج قوم بهذه الآثار، فقالوا: لا بأس بالجعل على تعليم القرآن.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا قلابة، وطاوس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا بأس بأخذ الأجرة على تعليم القرآن.

وقال البيهقي: روينا عن عطاء وأبي قلابة: "كانا لا يريان بتعليم القرآن بالأجر بأسًا"، وعن الحسن:"إذا قاطع المعلم ولم يعدل كتب من الظلمة".

وقال ابن حزم في "المحلى"(6): والإجارة جائزة على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلم مشاهرة، وعلى الرقى، وكل ذلك جائز، وعلى نسخ المصاحف، ونسخ كتب العلم، وهو قول مالك والشافعي وابن سليمان.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 286 رقم 3418).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 399 رقم 2064).

(3)

"عمل اليوم والليلة"(1/ 562 رقم 1029).

(4)

"عمل اليوم والليلة"(1/ 561 رقم 1028).

(5)

"سنن ابن ماجه"(2/ 729 رقم 2156).

(6)

"المحلى"(8/ 193).

ص: 359

ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فكرهوا الجعل على تعليم القرآن كما يكره الجعل على تعليم الصلاة.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن شقيق، والأسود بن ثعلبة، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن يزيد، وشريح بن الحارث القاضي، والحسن بن حي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يكره أخذ الأجرة على تعليم القرآن، كما يكره على تعليم الصلاة، والجامع أن كلًّا منهما عبادة يتعين على الناس إقامتها.

ص: وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى: أن الآثار الأول لم يكن الجعل المذكور فيها على تعليم القرآن، وإنما كان على الرقى التي لم يقصد بالاستئجار عليها إلى القرآن، فكذلك نقول نحن أيضًا: لا بأس بالاستئجار على الرقى والعلاجات كلها، وإن كنا نعلم أن المستأجر على ذلك قد يدخل فيما يرقي به بعض القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا، فإذا استؤجروا على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعملوه جاز ذلك، وتعليم القرآن على الناس واجب أن يعلمه بعضهم بعضًا؛ لأن في ذلك التبليغ عن الله عز وجل، إلا أن مَنْ علمه منهم فقد أجزأ ذلك عن بقيتهم كالصلاة على الجنائز هي فرض على الناس جميعًا إلا أن من فعل ذلك منهم فقد أجزأ عن بقيتهم، ولو أن رجلًا استأجر رجلًا ليصلي على ولي له مات لم يجز ذلك؛ لأنه إنما استأجره على أن يفعل ما عليه أن يفعله، فلذلك تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا هو عليهم فرض، إلا أن من فعله منهم أجزأ فعله ذلك عن بقيتهم، فإذا استأجر بعضهم بعضًا على تعليم ذلك كانت إجارته تلك واستئجاره إياه باطلًا؛ لأنه إنما استأجره على أن يؤدي فرضًا هو عليه لله تعالى وفيما يفعله لنفسه؛ لأنه يسقط عنه الفرض بفعله إياه، والإجارات إنما تجوز وتملك بها الأبدال فيما يفعله المستأجرون للمستأجرين.

ص: 360

ش: أي وكان لهؤلاء الآخرين من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وخلاصة هذا: أن استدلالهم بالحديثين المذكورين على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ليس بصحيح؛ لأن الجُعْل المذكور فيهما ليس على تعليم القرآن، وإنما كان على الرقية من غير قصد إلى الإجارة عليها إلى القرآن، ونحن أيضًا نقول به، وكلامنا في عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والباقي من الكلام ظاهر.

ص: فإن قال قائل: فهل روي عن النبي عليه السلام في ذلك شيء يدل على ما ذكرت في المنع من الاستعجال على تعليم القرآن؟

قيل له: نعم، قد روي عن النبي عليه السلام في ذلك أنه قال:"لا تأكلوا بالقرآن".

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "قد كنت أقرئ أناسًا من أهل الصفة القرآن فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا على أن أقبلها في سبيل الله، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال: إن أردت أن يطوقك الله بها طوقًا من نار فاقبلها".

وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا في باب: "التزويج على سورة من القرآن في كتاب النكاح".

ش: الاستجعال: طلب الجُعْل.

قوله: "لا تأكلوا بالقرآن" هذا حديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) مسندًا: حدثنا عفان بن مسلم، نا أبان بن يزيد العطار، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن زيد هو ابن أبي سلام ممطور الحبشي، عن أبي راشد الحراني، عن عبد الرحمن بن شبل، سمعت رسول الله عليه السلام يقول:"تعلموا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 168 رقم 7742) ولكن عن وكيع، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن شبل، به.

ص: 361

وأخرجه الطحاوي أيضًا في باب التزويج على سورة من القرآن: عن إبراهيم ابن مرزوق، عن أبي عامر العقدي، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير. . . . إلى آخره نحوه.

قوله: "ولا تغلوا" من الغلو -بالغين المعجمة- وهو التشدّد والمجاوزة عن الحد.

قوله: "ولا تجفوا عنه" أي تَعَاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته، وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء.

قوله: "ولا تأكلوا به" أي بمقابلة القرآن، أراد: لا تجعلوا له عوضًا من سحت الدنيا.

قوله: "وعن عبادة بن الصامت. . . . إلى آخره" أخرجه الطحاوي هناك أيضًا: عن أبي أمية، عن أبي عاصم، عن المغيرة بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة.

وأخرجه أبو داود (1) أيضًا والحاكم في "مستدركه"(2) وصححه.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في ذلك أيضًا ما قد حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه المطرف بن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص أنه قال:"قال لي رسول الله عليه السلام: اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".

فكره رسول الله عليه السلام الأذان بالأجر.

ش: أي قد روي عن النبي عليه السلام في أخذ الأجرة عن العبادة القولية مثل الأذان وقراءة القرآن.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 285 رقم 3416).

(2)

"المستدرك"(2/ 48 رقم 2277).

ص: 362

أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، والجريري -بضم الجيم وفتح الراء الأولى- نسبة إلى جُرير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

و"الشِّخِّير" بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة.

وأخرجه أبو داود (1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سعيد الجريري عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال:"قلت يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه أيضًا (3).

قوله: "اتخذ مؤذنًا" يعني اجعل مؤذنًا لا يأخذ على الأذان أجرة، وكلمة:"على" هاهنا للتعليل كاللام، والمعنى لا يأخذ لأجل أذانه أجرًا، نحو قوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (4) أي لهدايته إياكم، وهذا قول أكثر العلماء.

وكان مالك يقول: لا بأس به، وترخص فيه، وقال الأوزاعي: الإجارة مكروهة ولا بأس بالجعل. ومنع منه إسحاق بن راهويه، وقال الحسن: أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله، وكرهه الشافعي، وقال: لا يَرزُق الإمامُ المؤذنَ إلا من خمس الخمس سهم النبي عليه السلام؛ فإنه مرصد لمصالح الدين، ولا يرزقه من غيره، وكذلك عندنا أخذ الأجرة على الحج والإمامة وتعليم القرآن والفقه، ولكن المتأخرين جوزوا على التعليم والإمامة في زماننا لحاجة الناس إليه، وظهور التواني في الأمور الدينية، وكسل الناس في الاحتساب، وعليه الفتوى.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 201 رقم 531).

(2)

"المجتبى"(2/ 23 رقم 672).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 316 رقم 987).

(4)

سورة البقرة، آية:[185].

ص: 363

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما قد حدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي، قال: أنا حماد بن سلمة، عن يحيى البكاء:"أن رجلًا قال لابن عمر: إني أحبك في الله، فقال له ابن عمر: لكني أبغضك في الله؛ لأنك تبغي في أذانك أجرًا، وتأخذ على الأذان أجرًا".

ش: أي وقد روي في كراهة أخذ الأجرة على الأذان أيضًا عن عبد الله بن عمر.

أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، وعبيد الله بن محمد التيمي البصري المعروف بالعيشي وبابن عائشة شيخ أبي داود، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن مسلم البكاء البصري -فيه مقال-:"أن رجلًا قال لابن عمر. . . ." إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن عمارة ابن زاذان، عن يحيى البكاء قال:"كنت آخذ بيد ابن عمر وهو يطوف بالكعبة، فلقيه رجل من مؤذني الكعبة، فقال: إني لأحبك في الله، فقال ابن عمر: إني لأبغضك في الله؛ إنك تحسن صوتك لأخذ الدراهم".

ص: فثبت بما ذكرنا كراهة الاستجعال على الأذان، والاستجعال على تعليم القرآن كذلك أيضًا؛ لأن رسول الله عليه السلام قد أُمِرَ بالتبليغ عن الله عز وجل، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2)، وأوجب النبي عليه السلام على أمته التبليغ عنه.

ش: أي ثبت بما ذكرنا من الحديث المرفوع والحديث الموقوف كراهة طلب الجعل على الأذان، وأخذ الأجرة على تعليم القرآن ملحق به؛ لأنه عليه السلام أمرنا بالتبليغ عن الله، وأمر النبي عليه السلام أمته بالتبليغ عنه، فكان واجبًا عليهم، وأخذ الأجرة على الواجب لا يجوز، ومن جملة التبليغ: الأذان، وتعليم القرآن.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 207 رقم 2372).

(2)

سورة المائدة، آية:[67].

ص: 364

ص: وقد قال رسول الله عليه السلام في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق جميعًا، قالا: ثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".

فأوجب رسول الله عليه السلام على أمته التبليغ كما أوجب الله عز وجل التبليغ عنه، فكما لا يجوز للنبي عليه السلام أخذ الأجرة، فكذلك لا يجوز لأمته، ثم فرق رسول الله عليه السلام بين التبليغ عنه والحديث عن غيره، فقال:"وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، أي ولا حرج عليكم أن لا تحدثوا عنهم، فالاستجعال على ذلك استجعال على الفرض، لأن من استجعل جعلًا على عمل يعمله فيما قد افترض الله عمله عليه فذلك عليه حرام؛ لأنه إنما يعمل ذلك لنفسه ليؤدي بذلك فرضًا عليها، ومن استجعل جعلًا على عمل يعمله لغيره من رقية أو غيرها وإن كانت بالقرآن أو علاج أو ما أشبه ذلك فذلك جائز، والاستجعال عليه حلال، فيصح بما ذكرنا معاني ما قد روي عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب من النهي ومن الإباحة، ولا يتضاد ذلك فيتنافى، وهذا كله رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ش: أي وقد قال عليه السلام في وجوب التبليغ عنه ما حدثنا أبو بكرة بكار القاضي. . . . إلى آخره.

وأبو عاصم الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، وأبو كبشة السلولي الشامي لا يعرف له اسم.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه الترمذي (1): عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي كبشة، به.

(1)"جامع الترمذي"(5/ 40 رقم 2669).

ص: 365

وعن (1) ابن بشار، عن أبي عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان نحوه.

وقال: حديث صحيح.

قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل" هذا أمر إباحة أمرهم به ليعتبروا بما جرى لبني إسرائيل في أيامهم من العجائب والغرائب، وليقتدوا بما كان من ذلك من الخير، ويجتنبوا عما كان من الشر.

قوله: "ولا حرج" أي ولا إثم عليكم، وقد فسر الطحاوي معناه بقوله:"أي ولا حرج عليكم أن لا تحدثوا عنهم"، وذلك لأن التحديث عنهم ليس بواجب عليهم حتى يكون عليهم حرج بتركه.

قوله: "فليتبوأ" أي فليتخذ مقعده، أي: منزله من النار.

قوله: "فالاستجعال" أي طلب الجعل، وباقي الكلام ظاهر.

(1)"جامع الترمذي"(5/ 40 رقم 2669).

ص: 366