المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

ش: أي: هذا باب في بيان حكم إنشاد الشعر في المساجد، هل يجوز أم لا؟

والإنشاد من أنشد الشعر: إذا قاله، والنشيد: الشعر، والشعر: كلام موزون مقفى على طريق القصد.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثني الليث، قال: حدثني محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنشد الأشعار في المساجد، وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة".

ش: رجاله ثقات، وقد تقدم الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، والصحيح: أنه إذا كان رجال سنده ثقات فهو صحيح. والحديث أخرجه الأربعة.

فقال أبو داود (1): ثنا مسدد: نا يحيى، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة".

وقال الترمذي (2): ثنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله عليه السلام:"أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة".

وقال النسائي (3): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث. . . . إلى آخره نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 351 رقم 1079).

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 139 رقم 322).

(3)

"المجتبى"(2/ 48 رقم 715).

ص: 488

وأخرجه أيضًا (1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، وليس فيه إنشاد الشعر.

وقال ابن ماجه (2): ثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: ثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد".

قوله: "السِّلَع" بكسر السين وفتح اللام، جمع سلعة.

قوله: "وأن يتحلق فيه" أي: ونهى أيضًا عن التحلق في المسجد، وهو: اتخاذ الحلقة، وفي رواية:"ونهى عن الحَلَق" بفتح الحاء وفتح اللام، جمع الحَلْقة بسكون اللام، مثل هَضَبَة وهضب.

وفي "المحكم": الحلقة: كل شيء استدار كحلقة الحديد والذهب والفضة، وكذلك هو في الناس، والجمع حِلاق على الغالب، وحِلَق على النادر.

والحَلَق عند سيبويه: اسم للجمع، ليس يجمع؛ لأن فَعْلَة ليست مما يُكَسَّر على فَعَل، وقد حكى سيبويه في الحَلْقة: فتح اللام، وأنكرها ابن السكيت وغيره.

وقال اللحياني: حَلْقة الباب وحَلَقته، بإسكان اللام وفتحها، وقال كراع: حَلْقة القوم وحَلَقتهم.

وحكى يونس عن أبي عمرو: حَلَقَة في الواحد بالتحريك، والجمع حلقات.

وقال الجوهري: الجمع حَلَق، على غير قياس، وقال كراع: الجمع حَلق وحِلق وحِلَاق.

ويستفاد من الحديث:

النهي عن تناشد الأشعار في المساجد، وسيجيء مزيد الكلام فيه.

(1)"المجتبى"(2/ 47 رقم 714).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 247 رقم 749).

ص: 489

والنهي عن بيع السلع فيها؛ لأنها لم تبن لذلك، وقال الشيخ محيي الدين: ويتعلق به ما في معناه من نحو الإجارة، وعقد المضاربة، والمزارعة، ونحو ذلك من العقود.

والنهي عن التحلق فيها قبل الصلاة، وذلك حتى يتأهبوا للصلاة، وسواء كان التحلق للعلم والمذاكرة أو غير ذلك، ولا يكره التحلق بعد الفراغ من الصلاة، ومورد الحديث في التحليق قبل الصلاة يوم الجمعة، ولهذا بوب أبو داود رحمة الله عليه قال: باب: "التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة"، ثم روى الحديث المذكور.

وفيه النهي عن إنشاد الضالة، يقال: أنشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها.

وقد ثبت: "من سمع من ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا".

وكذا يكره رفع الصوت في المسجد، وقال القاضي: قال مالك وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.

وأجاز أبو حنيفة، ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولابد لهم منه.

ص: فذهب قوم إلى كراهة إنشاد الشعر في المساجد، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: مسروق بن الأجدع، والحسن البصري، وعمرو بن شعيب؛ فإنهم كرهوا إنشاد الشعر مطلقًا ولاسيما في المساجد.

قال القاضي: قوله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا" احتج به وشبهة من نهى عن الشعر ومنعه جملة، قليله وكثيره، وإليه ذهب الحسن، ومسروق، وعبد الله بن عمرو بن العاص في آخرين، والكافة على خلافه.

ص: 490

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بأسًا بإنشاد الشعر في المساجد إذا كان ذلك الشعر مما لا بأس بروايته، وإنشاده في غير المساجد.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون؛ وأراد بهم: جمهور الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: لا بأس بإنشاد الشعر في المساجد وغيرها إذا كان مما ليس فيه فحش، ولا هجو لمسلم، ولا تعريض لامرأة معينة، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، وقال ابن حزم: وإنشاد الشعر في المسجد مباح.

ص: واحتجوا في ذلك بما روينا عن رسول الله عليه السلام في غير هذا الموضع، أنه وضع لحسان رضي الله عنه منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر، ومما رويناه من ذلك من حديث حسان حين مر به عمر رضي الله عنه وهو ينشد الشعر في المسجد فزجره عمر، فقال: قد كنت أنشد فيه الشعر مع من هو خير منك، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام فلم ينكر عليه أحد منهم، ولا أنكره عليه أيضًا عمر رضي الله عنه.

ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بما رويناه عن رسول الله عليه السلام في غير هذا الموضع؟ أراد به: باب: "رواية الشعر؛ هل هي مكروهة أم لا؟ " فإنه روى فيه عن ابن أبي عمران، عن أبي إبراهيم الترجمان، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام وضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر".

وأخرجه أبو داود، والترمذي، وقد ذكرناه هناك.

قوله: "قد رويناه" أي: واحتجوا أيضًا بما قد رويناه مع ذلك من حديث حسان رضي الله عنه. . . . إلى آخره.

أخرج ذلك في باب "رواية الشعر": عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ على حسان وهو يُنشد في مسجد رسول الله عليه السلام-

ص: 491

فانتهره عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه حسان فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانطلق عنه عمر رضي الله عنه. . . ." الحديث.

وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) وقد ذكرناه هناك.

ص: وكان حديث يونس الذي قد بدأنا بذكره في أول هذا الباب قد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه أن ينشد في المسجد، هو الشعر الذي كانت قريش تهجوه به.

ويجوز أن يكون من الشعر الذي تؤبن فيه النساء وترزأ فيه الأموات، على ما قد ذكرناه في باب "رواية الشعر" من جواب الأنصاري من أصحاب رسول الله عليه السلام لابن الزبير بذلك حين أنكر عليهم إنشاد الشعر حول الكعبة.

وقد يجوز أن يكون أراد بذلك: الشعر الذي يغلب على المسجد حين يكون كل من فيه -أو كثر من فيه- متشاغلًا بذلك، كمثل ما تأول عليه ابن عائشة وأبو عبيد قول رسول الله عليه السلام:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا" على ما قد ذكرنا ذلك عنهما في غير هذا الموضع.

فيكون الشعر المنهي عنه في هذا الحديث هو خاص من الشعر، وهو الذي فيه معنى من هذه المعاني الثلاثة التي ذكرنا؛ حتى لا يضاد ذلك ما قد رويناه عن رسول الله عليه السلام من إباحة ذلك، وما عمل به أصحابه من بعده.

ش: أشار بذلك إلى وجه التوفيق بين الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وبين الحديث الذي احتجت به أهل المقالة الثانية لوجود التعارض بينهما ظاهرًا، وبَيَّنَ ذلك من ثلاثة أوجه:

(1)"صحيح البخاري"(3/ 1176 رقم 3040).

(2)

"صحيح مسلم"(4/ 1932 رقم 2485).

(3)

"سنن أبي داود"(4/ 303 رقم 5013).

(4)

"المجتبى"(2/ 48 رقم 716) و"السنن الكبرى"(1/ 262 رقم 795)، (6/ 51 رقم 9999).

ص: 492

الأول: هو قوله: "قد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه. . . ." إلى آخره.

والثاني: هو قوله: "ويجوز أن يكون من الشعر الذي تؤبن فيه النساء" من: أَبَنَهُ يأْبُنْهُ إذا رماه بخلة سوء.

قوله: "وترزأ" أي: تنتقص فيه الأموات ويعابون فيه، من الرزأ، والازدراء هو الاحتقار والانتقاص، ومادته زاي معجمة ثم راء ثم همزة، وفي بعض النسخ: وبذر فيه الأموال.

قوله: "من جواب الأنصاري من أصحاب رسول الله عليه السلام" أراد به ما ذكره في باب "رواية الشعر": عن سليمان بن شعيب، عن يحيى بن حسان، عن إبراهيم بن سليمان التيمي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال:"كنا جلوسًا بفناء الكعبة -أحسبه قال-: مع ناس من أصحاب رسول الله عليه السلام فكانوا يتناشدون الأشعار، فوقف بنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال: في حرم الله وحول كعبة الله تتناشدون الأشعار؟! فقال رجل منهم: يا ابن الزبير، إن رسول الله عليه السلام إنما نهى عن الشعر إذا أبنت فيه النساء وتزدرى فيه الأموات".

وأخرجه البيهقي (1) نحوه، وفي روايته:"وبذر فيه الأموال".

والثالث: هو قوله: "وقد يجوز أن يكون أراد بذلك الشعر الذي يغلب على المسجد. . . ." إلى آخره.

قوله: "كمثل ما تأول عليه ابن عائشة وأبو عبيد" أراد بابن عائشة عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي، شيخ أبي داود، وأراد بأبي عبيد: القاسم بن سلام [. . . .](2) صاحب التصانيف المشهورات، أنهما أوَّلا قوله عليه السلام:"لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ." الحديث، على [. . . .](2) من الشعر بحيث لا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره؛ فإن هذا هو الداخل في قوله عليه السلام، وأما ما [. . . .](2)

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 243 رقم 20930).

(2)

طمس في "الأصل، ك".

ص: 493

القرآن والشعر مع ذلك فليس ممن امتلئ جوفه شعرًا، فهو خارج من قوله عليه السلام:"لأن يمتلئ جوف. . . ." الحديث.

قال الطحاوي في باب "رواية الشعر": سمعت ابن أبي عمران أيضًا وعلي بن عبد العزيز يذكران ذلك عن أبي عبيد. والله أعلم.

ص: فإن قال قائل فإذا كان كما ذكرت فلم قصد إلى المسجد؟ والذي ذكرت من هجي النبي عليه السلام والذي أبنت فيه النساء ورزأت فيه الأموات مكروه في غير المسجد كما هو مكروه في المسجد، ولو كان كما ذكرت لم يكن لذكره المسجد معنى؟

قيل له: قد يجيء الكلام كثيرًا بذكر معنى فلا يكون ذلك المعنى بذلك الحكم الذي جرى في ذلك الذكر مخصوصًا، من ذلك: قول الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (1) فذكر الربيبة التي كانت في حجر ربيبها فلم تكن ذلك على خصوصيتها لأنها كانت في حجره بذلك الحكم، وأخرجها منه إذا لم تكن كانت في حجره، ألا ترى أنها لو كانت أكبر منه أنها عليه حرام كحرمتها لو كانت صغيرة في حجره؟

وقال عز وجل في الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (2) فأجمع العلماء -إلا من شذ منهم- أن قتله إياه ساهيًا كذلك في وجوب الجزاء، فلم تكن ذكره ما ذكرنا من هاتين الآيتين بموجب خصوص الحكم، فكذلك ما رويناه من ذكر المسجد في الشعر المنهي عن روايته ليس فيه دليل على خصوصية المسجد بذلك، وكذلك أيضًا ما نهى عنه من البيع في المسجد هو البيع الذي يعمه أو يغلب عليه حتى يكون كالسوق فذلك مكروه، فأما ما سوى ذلك فلا.

(1) سورة النساء، آية:[23].

(2)

سورة المائدة، آية:[95].

ص: 494

ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان المنهي عنه من الشعر ما فيه أبن النساء وانتقاص الأموات والفحش والخنى ونحو ذلك يستوي فيه المسجد وغيره، وكذلك ما أبيح منه مما ليس فيه ما ذكرنا يستوي فيه المسجد وغيره، فما الفائدة من ذكر المسجد وتخصيصه بالذكر في الحديث المذكور؟.

وتقرير الجواب أن يقال: إن ذكر المسجد هاهنا لا يتعلق به الحكم كما أن ذكر الجمهور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ. . . .} (1) الآية، لا يتعلق به تحريم الربائب، وكما لا يتعلق الحكم بقوله: متعمدًا في قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (2) فإن أكثر العلماء أن ربيبة الرجل تحرم عليه وإن لم تكن في حجره فلا يشترط كونها في الحجر كما لا يشترط تربيته إياها، ألا ترى أنها لو كانت أسن منه تحرم عليه كما لو كانت صغيرة، وهي في حجره.

فإن قيل: إذا لم يتعلق بذكر الحجر حكم، فما الفائدة في ذكره؟

قلت: هو كلام خرج على الأعم الأغلب من كون الربيبة في حجر الزوج، وهذا كما في قوله عليه السلام:"في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون"، وليس كون المخاض أو اللبن شرطًا في المأمور، وإنما ذكره لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كانت بأمها مخاض، وإذا دخلت في الثالثة كانت بأمها لبن وإنما أخرج الكلام على غالب الحال، كذلك قوله تعالى:{فِي حُجُورِكُمْ} (1) على هذا، وكذلك قيد العمدية في الآية ليس لكونها شرطا بل لكون الغالب الأعم في العمد أو يكون بأن ورد النص فيمن تعمد وألحق به الخطأ للتغليظ وكذلك ذكر المسجد ليس لأنهم كانوا في غالب الأحوال يتناشدون في المساجد بما فيه الفحش والخنى وأبن النساء ورزأ الأموات فغلب النهي لذلك، فافهم.

ص: وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على إباحة العمل الذي ليس من القرب في المسجد.

(1) سورة النساء، آية:[23].

(2)

سورة المائدة، آية:[95].

ص: 495

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن منصور، عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلًا امتحن الله به الإيمان، يضرب رقابكم على الدين، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: "لا" فقال عمر رضي الله عنه: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد، قال: وكان قد ألقى إلى علي رضي الله عنه نعله يخصفها".

أفلا ترى أن رسول الله عليه السلام لم ينه عليًّا عن خصف النعل في المسجد، وأن الناس لو اجتمعوا حتى يعموا المسجد بخصف النعال كان ذلك مكروهًا، فلما كان ما لا يعم المسجد من هذا غير مكروه، وما يعمه منه أو يغلب عليه مكروهًا كان كذلك البيع وإنشاد الشعر والتحلق فيه قبل الصلاة، ما عمه من ذلك فهو مكروه، وما لم يعمه منه ولم يغلب عليه فليس بمكروه.

ش: ذكر حديث علي رضي الله عنه شاهدًا لصحة قوله: "وكذلك أيضًا ما نهى عنه من البيع. . . ." إلى آخره.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وفي آخره شين معجمة.

وأخرجه الترمذي (1): نا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن منصور، عن ربعي بن حراش، قال: ثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالرحبة فقال: "لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله خرج إليك من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين [وإنما خرجوا فرارًا من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا. قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين](2) سنفقههم، فقال

(1)"جامع الترمذي"(5/ 634 رقم 3715).

(2)

سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "جامع الترمذي".

ص: 496

النبي عليه السلام: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل. وكان أعطى عليًّا رضي الله عنه نعله يخصفها، قال: ثم التفت إلينا عليّ رضي الله عنه فقال: إن رسول الله عليه السلام قال: من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي رضي الله عنه.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا صالح بن محمد وأحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو غسان، قال: ثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن منصور، عن ربعي، عن علي رضي الله عنه قال:"اجتمعت قريش إلى النبي عليه السلام فقالوا: إن أرقاءنا لجئوا إليك ودخل معك في هذا الأمر من ليس له بأهل؛ ارددهم إلينا، فغضب رسول الله عليه السلام حتى رؤي الغضب في وجهه ثم قال: لتنتهن يا معشر قريش أو ليبعثن الله رجلًا منكم امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على الدين، فقيل: يا رسول الله، أبو بكر؟ قال: لا. قيل: فعمر؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل الذي في الحجرة، قال علي رضي الله عنه: فكنت أنا خاصف النعل، قال علي: فاستفظع الناس ذلك من عليّ، فقال: أما إني سمعته يقول: لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ متعمدًا فليلج النار".

قوله: "امتحن الله عز وجل قلبه للإيمان" يعني صفى قلبه وهذبه للإيمان، ومنه ما جاء في الحديث:"فذلك الشهيد الممتحن" أي المصفى المهذب، من محنت الفضة إذا صفيتها وخلصتها بالنار.

قوله: "ولكنه خاصف النعل" من خصف النعل إذا خرزها، والخصف: الضم والجمع، ومن هذا سمي علي رضي الله عنه خاصف النعل، وهي نعل النبي عليه السلام.

(1)"مسند البزار"(3/ 118 رقم 905).

ص: 497

وفي الحديث من الدلالة البينة على فضيلة علي رضي الله عنه، وقد احتج به الشيعة على تفضيل علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وسائر الصحابة، [. . . .] (1) ومذهب أهل السنة: أن أفضل الناس بعد نبينا عليه السلام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنه، ومنهم من يفضل علي على غيره.

قوله: "أفلا ترى أن رسول الله عليه السلام. . . . إلى آخره" توضيح لما ذكره من المعنى؛ وباقي الكلام ظاهر، فافهم.

(1) طمس في "الأصل، ك".

ص: 498