المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

ش: أي هذا باب في بيان ما يجوز فيه الوصية من الأموال، وبيان ما يوصي المريض في مرض موته من الهبة والصدقة والعتق.

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال:"مرضت عام الفتح مرضًا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله عليه السلام يعودني، فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال الثلث، والثلث كثير".

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال ثنا الحسين بن علي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال:"عادني رسول الله عليه السلام فقلت: أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالنصف؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال سعد. . . . ثم ذكر نحوه.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه الجماعة، فالبخاري (1): عن أبي نعيم، نا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص قال: "جاء النبي عليه السلام

(1)"صحيح البخاري"(3/ 1006 رقم 2591).

ص: 172

يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويُضَرُّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة".

وأخرجه أيضًا (1): عن محمد بن عبد الرحيم، عن زكرياء بن عدي، عن مروان، عن هاشم بن هاشم، عن عامر بن سعد، عن أبيه.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، قال: أنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال:"عادني رسول الله عليه السلام في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، قلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث والثلث كثير. . . ." الحديث.

وأبو داود (3): عن عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عامر، به نحوه.

والترمذي (4): عن ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن الزهري به.

وقال: حسن صحيح.

والنسائي (5): عن عمرو بن عثمان، عن سفيان، عن الزهري.

(1)"صحيح البخاري"(3/ 1007 رقم 2593).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1250 رقم 1628).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 112 رقم 2864).

(4)

"جامع الترمذي"(4/ 430 رقم 2116).

(5)

"المجتبى"(6/ 241 رقم 3626).

ص: 173

وابن ماجه (1): عن هشام بن عمار والحسين بن الحسن المروزي وسهل بن أبي سهل الرازي، عن سفيان، عن الزهري به.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي شيبة، عن الحسين ابن علي بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد التجيبي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص.

وأخرجه مسلم (2): عن القاسم بن زكرياء، عن حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال:"عادني النبي عليه السلام فقلت: أوصي. . . ." إلى آخره نحوه.

الثالث: عن فهد أيضًا، عن أبي بكر بن أبي شيبة أيضًا، عن محمد بن فضيل ابن غزوان الضبي، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي، عن سعد بن أبي وقاص.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3).

قوله: "مرضت عام الفتح" أراد به فتح مكة شرفها الله، وهذا انفرد به ابن عيينة، عن ابن شهاب حيث قال:"عام الفتح" وغيره كلهم قالوا فيه: عن ابن شهاب "عام حجة الوداع" قالوا: هو الأصوب، ذكره يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني.

قال أبو عمر (4): روى عفان بن مسلم، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عمرو القاري، عن أبيه، عن جده عمرو القاري: "أن رسول الله عليه السلام قدم مكة فخلَّف سعدًا مريضًا حين خرج إلى حنين،

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 903 رقم 2708).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1252 رقم 1628).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 227 رقم 30929).

(4)

"التمهيد"(8/ 277).

ص: 174

فلما قدم ومن الجعرانة دخل عليه وهو وجع مغلوب، فقال سعد: يا رسول الله، إن لي مالًا وإنني أورث كلالة؛ أفأوصي بمالي كله أو أتصدق به، قال: لا. . . ." وذكر الحديث.

فهذا يعضد ما قال ابن عيينة وفيه: "أفأوصي بمالي كله أو أتصدق" على الشك.

وأما حديث ابن شهاب فلم يختلف عنه أصحابه لا ابن عيينة ولا غيره أنه قال فيه: "أفأتصدق" ولم يقل: "أفأوصي".

فإن قلت: هذه اللفظة: "أفأتصدق" كان في ذلك حجة قاطعة لما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم في هبات المريض وصدقاته وعتقه، أن ذلك كله من ثلثه لا من جميع ماله ماله.

قوله: "أشفيت منه" أي أشرفت من أجله على الموت، من الإشفاء وهو الإشراف على الشيء.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فتكلم الناس في الرجل هل يسعه أن يوصي بثلث ماله أو ينبغي أن يقصر عن ذلك؟ فقال قوم: له أن يوصي بالثلث كاملًا فيما أحب مما يجوز فيه الوصايا، واحتجوا في ذلك بإجازة النبي عليه السلام لسعد رضي الله عنه أن يوصي بثلث ماله بعد منعه إياه أن يوصي بما هو أكثر من ذلك على ما ذكرنا في هذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: شريحًا القاضي، ومحمد بن سيرين، والثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: للرجل أن يوصي بثلث ماله كله لا فيما أحب مما يجوز فيه الوصايا. واحتجوا فيه ذلك بحديث سعد بن أبي وقاص.

ص: وبما حدثنا يونس بن عبد الأعلى وبحر بن نصر، قالا: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم من آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم".

ص: 175

ش: أي واحتجوا أيضًا بما حدثنا يونس. . . . إلى آخره، وهؤلاء كلهم ثقات غير أن طلحة بن عمرو الحضرمي المكي فيه مقال، فعن البخاري: ليس بشيء. وعن النسائي: متروك الحديث. وعن أبي داود: ضعيف.

والحديث أخرجه ابن ماجه (1): ثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادةً لكم في أعمالكم".

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(2): من طريق ابن وهب، نحوه.

فإن قيل: هذا حديث ضعيف لا يصح الاستدلال به.

وقال أبو عمر: استحبت جماعة الوصية بالثلث، واحتجوا بحديث ضعيف عن النبي عليه السلام أنه قال:"جعل الله في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهو حديث انفرد به طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة، وطلحة ضعيف، روى عنه هذا الخبر وكيع وابن وهب وغيرهما.

قلت: الاستدلال بحديث سعد المذكور الذي اتفق على صحته كاف. والحديث الضعيف إذا قرن بالصحيح يزداد قوةً ويرتفع اعتضادًا.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي للموصي أن يقتصر في وصيته عن ثلث ماله؛ لقول رسول الله عليه السلام: "الثلث والثلث كثير".

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ومطرفًا، والضحاك، وطاوسًا، ومالكًا، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: ينبغي للرجل أن يقتصر في وصيته عن ثلث ماله؛ لأن قوله عليه السلام: "الثلث والثلث كثير" دليل على أنه الغاية التي تنتهي إليها الوصية، فالتقصير عنها أفضل لقوله:"والثلث كثير".

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 904 رقم 2709).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 269 رقم 12351).

ص: 176

ص: فمما روي في ذلك عن مَن ذهب إليه من المتقدمين ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن عروة قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "استقصروا عن قول رسول الله عليه السلام إنه لكثير".

ش: أي فمن الذي روي في اقتصار الوصية عن الثلث ما روي عن عبد الله ابن عباس.

أخرجه بإسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله عليه السلام قال: الثلث كثير".

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حميد، عن بكر بن عبد الله قال:"أوصيت إلى حميد بن عبد الرحمن الحميري فقال: ما كنت لأقبل وصية رجل له ولد يوصي بالثلث".

ش: إسناده صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن علية، عن حميد، عن بكر، قال حميد بن عبد الرحمن:"ما كنت لأقبل وصية رجل يوصي بالثلث وله ولد".

ص: من الحجة لأهل المقالة الأولى على أهل هذه المقالة: أن الوصية بالثلث لو كان جورًا إذًا لأنكر رسول الله عليه السلام ذلك على سعد، ولقال له: قصِّر عن ذلك، فلما ترك ذلك كان قد أباحه إياه، وفي ذلك ثبوت ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى.

وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي فمن الدليل والبرهان لأهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، وأراد بهذا: الجواب عما قاله أهل المقالة الثانية.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 226 رقم 30914).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 226 رقم 30920).

ص: 177

واعلم أن هذا فيما إذا كان له وارث، وأما إذا لم يكن له وارث فله أن يوصي بجميع ماله إن شاء. صح ذلك عن ابن مسعود وغيره. وهو قول الحسن البصري، وأبي حنيفة وأصحابه، وشريك القاضي، وإسحاق، وعبيدة السلماني، ومسروق.

واختلف في ذلك قول أحمد وهو المشهور عنه.

وقال مالك وابن شبرمة، والأوزاعي، والحسن بن حي، والشافعي، وأبو سليمان: له أن يوصي بأكثر من الثلث كان له وارث أو لم يكن. قاله ابن حزم في "المحلى".

وقال أبو عمر: أجمع فقهاء الأمصار: أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت، وإن لم يجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث. وقال أهل الظاهر: الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز؛ أجازها الورثة أو لم تجزها. وهو قول عبد الله بن كيسان، وإليه ذهب المزني.

وقال الجصاص في "أحكامه"(1): قد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة قبل الموت؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح، وعبيد الله بن الحسن: إذا أجازوه في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت، وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود وشريح وإبراهيم.

وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي: ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت، وهي جائزة عليهم.

وقال مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه، والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله؛ فإنهم ليس لهم أن يرجعوا.

وأما امرأته وبناته اللاتي لم يَبِنَّ منه وكل مَن في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا، وكذلك العم وابن العم. وبه قال الليث بن سعد.

(1)"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 208).

ص: 178

ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه، وروي عن طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم.

ص: ثم تكلم الناس بعد هذا في هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه ذلك. فقال قوم -وهم أكثر العلماء-: هي من الثلث كسائر الوصايا.

وممن ذهب إلى ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: جمهور العلماء من التابعين وبعدهم منهم: الليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، وأصحابهم، وعامة أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: هبات المريض وصدقاته وعتقه من ثلث ماله لا من جميع ماله.

ص: وقالت فرقة: هو من جميع المال كأفعاله وهو صحيح.

وهذا قول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله.

ش: أراد بهؤلاء الفرقة: داود الظاهري ومن تبعه، قيل: وعطاء أيضًا؛ فإنهم قالوا: كل ذلك يعتبر من جميع المال. وهؤلاء شذوا عن أقوال السلف، وخالفوا الجمهور، فلا يقبل منهم.

ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "نحلني أبو بكر رضي الله عنه جداد عشرين وسقًا من ماله بالعالية فلما مرض قال: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي بالعالية فلو كنت جددته وحزته كان لكِ وإنما هو اليوم مال وارث، فاقسموه بينكم على كتاب الله تعالى".

فأخبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنها لو قبضت ذلك في الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض قبضًا يتم لها به ملكه، وجعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها، ولم تُنكر ذلك عائشة على أبي بكر رضي الله عنهما، ولا سائر أصحاب النبي عليه السلام، فدل ذلك أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، فلو لم يكن لمن ذهب إلى ما ذكرنا من الحجة لقوله الذي ذهب إليه إلا ما في هذا الحديث، وما ترك

ص: 179

أصحاب رسول الله عليه السلام من الإنكار في ذلك على أبي بكر، لكان فيه أعظم الحجة، فكيف وقد روي عن رسول الله عليه السلام ما يدل على ذلك؟!

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين:"أن رجلًا أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله عليه السلام بينهم فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين.

وقتادة وحميد وسماك بن حرب، عن الحسن، عن عمران بن حصين. . . . فذكر مثله.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد وسليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن رسول الله عليه السلام مثله.

فهذا رسول الله عليه السلام قد جعل العتاق في المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات.

ش: ذكر حديث عائشة المذكور في باب: "الرجل ينحل بعض بنيه دون بعض" مسندًا عن يونس، عن ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت:"إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحلها جَدّ عشرين وسقًا من ماله بالعالية. . . ." الحديث. وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. قوله: "جداد عشرين" أي قطعها من الجد وهو القطع.

ص: 180

قوله: "بالعالية" أي في العالية، وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. وتجمع على عوالي.

قوله: فكيف وقد روي عن رسول الله عليه السلام ما يدل على ذلك" أي على ما ذكرنا من أن العتاق والهبات والصدقات في المرض تكون من الثلث، وهو حديث عمران بن حصين فإنه عليه السلام قد جعل هذه الأشياء في المرض من الثلث.

وأخرجه من ست طرق صحاح:

الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن الحسن البصري، عن عمران بن الحصين.

وأخرجه النسائي (1): عن علي بن حجر، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران، نحوه.

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين:"أن رجلًا من الأنصار أعتق رؤسًا ستة عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله عليه السلام فأغلظ له، فدعى بهم رسول الله عليه السلام فأقرع بينهم فأعتق اثنين وردَّ أربعةً في الرق".

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، عن عمران بن حصين.

(1)"المجتبى"(4/ 64 رقم 19658).

(2)

"مسند أحمد"(4/ 428 رقم 19858).

ص: 181

وأخرجه أحمد (1): عن عفان، عن حماد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، عن عمران، نحوه.

الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن أيوب، عن محمد ابن سيرين، عن عمران.

الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد، عن قتادة وحميد الطويل وسماك بن حرب، عن الحسن، عن عمران.

وأخرجه أحمد (1): عن عفان، عن حماد، عن حبيب ويونس وقتادة وسماك ابن حرب، عن الحسن، عن عمران، عن النبي عليه السلام:"أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، ليس له مال غيرهم؛ فأقرع النبي عليه السلام بينهم، فرد أربعة في الرق وأعتق اثنين".

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: عن ابن بشار، عن حجاج بن منهال، عن حماد، عن قتادة وحميد وسماك، عن الحسن، عن عمران.

السادس: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد وسليمان بن حرب -شيخي البخاري- كلاهما عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي المهلب الجرمي عم أبي قلابة -قيل: اسمه عمرو بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو.

وأخرجه مسلم (3): ثنا إسحاق بن راهويه وابن أبي عمر، قالا: عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين: "أن رجلًا أوصى

(1)"مسند أحمد"(4/ 445 رقم 20015).

(2)

"السنن الكبرى"(3/ 187 رقم 4977).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1288 رقم 1668).

ص: 182

عند موته فأعتق ستة مملوكين لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله عليه السلام فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة وقال له قولًا شديدًا".

وأخرجه أبو داود (1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب به.

وأخرجه الترمذي (2): عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب به.

وقال: حسن صحيح.

وأخرجه النسائي (3): عن قتيبة، عن حماد بن زيد. . . . إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (4): عن نصر بن علي ومحمد بن المثنى، عن عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، نحوه.

ص: وقد احتج بعض من ذهب إلى هذه المقالة أيضًا بحديث الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام عاده في مرضه، فقال: أتصدق بمالي كله؟ فقال: لا، حتى رده إلى الثلث".

على ما قد ذكرنا في أول هذا الباب.

قال: ففي هذا الحديث أنه جعل صدقته في مرضه من الثلث كوصاياه بعد موته، فيدخل مخالفه عليه أن مصعب بن سعد روى هذا الحديث عن أبيه أن سؤاله رسول الله عليه السلام عن ذلك إنما كان على الوصية بالصدقة بعد الموت، على ما ذكرنا عنه في أول هذا الباب أيضًا، فليس ما احتج به هو من حديث عامرٍ بأولى مما احتج به عليه مخالفه من حديث مصعب.

(1)"سنن أبي داود"(4/ 28 رقم 3958).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 645 رقم 1364).

(3)

"السنن الكبرى"(3/ 187 رقم 4974).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 786 رقم 2345).

ص: 183

ش: أي استدل بعض العلماء ممن ذهبوا إلى المقالة الثانية بحديث محمد بن مسلم الزهري الذي رواه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو المذكور في أول الباب، وقد ذكرنا أن هذا الحديث روي على ثلاثة أوجه.

الأول: ما رواه الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. وفيه:"أتصدق بمالي كله".

الثاني: ما رواه مصعب بن سعد، عن أبيه. وفيه:"أوصي بمالي كله".

الثالث: ما رواه عمرو القاري. وفيه: "أفأوصي بمالي كله أو أتصدق به" على الشك، ورد الطحاوي على هذا المُسْتَدِل بقوله: فيدخل مخالفه عليه. . . . إلى آخره. وهو ظاهر.

ص: ثم تكلم الناس بعد هذا فيمن أعتق ستة أعبد له عند موته ولا مال له غيرهم فأبى الورثة أن يجيزوا، فقال قوم: يعتق منهم ثلثهم ويسعون فيما بقي من قيمتهم. وممن قال ذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: الواو في قوله: "ولا مال له" للحال، أي: والحال أنه لا مال لهذا المعتق غير هؤلاء العبيد الستة.

وأراد بالقوم هؤلاء: سفيان الثوري، وإبراهيم النخعي، وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا في هذه الصورة: يعتق من كل واحد من العبيد ثلثه ويجب عليه السعي في الباقي.

ص: وقال آخرون: يعتق منهم ثلثهم ويكون ما بقي منهم رقيقًا لورثة المعتق.

ش: أي وقال قوم آخرون، وأراد بهم: مالكًا، وأحمد في رواية، وطائفة من الشافعية، فإنهم قالوا: يعتق من العبيد ثلثهم ويكون الباقي على الرقبة.

ص: 184

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): قال مالك: من أوصى بعتق جزء من عبده لم يعتق منه إلا ما وصى بعتقه ورق باقيه، سواء حمله الثلث كله أو قصر عنه، فإن لم يحمل الثلث ما وصى بعتقه منه لم يعتق منه إلا ما حمل الثلث مما أوصى بعتقه منه ورق سائره، فإن أوصى بعتق عبيده أو دبرهم فإنه يعتق من كل واحد منهم ما حمله الثلث فقط ويرق سائره، فلو دبَّر في صحته أو في مرضه؛ بدئ بالأول فالأول على رتبته في تدبيره لهم، فإذا تم الثلث رقَّ الباقون ورقَّ ما بقي ممن لم يحمل الثلث جميعه.

ص: وقال آخرون: يقرع بينهم فيعتق منهم من قرع من الثلث، ويرق من بقي.

ش: أي: وقال قوم آخرون، وأراد بهم: الشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا في الصورة المذكورة: يقرع بينهم، فيعتق منهم من قرع -يعني من خرجت له القرعة- من الثلث، ويرق الباقون.

ص: واحتجوا في ذلك بما ذكرنا عن رسول الله عليه السلام في حديث عمران رضي الله عنه.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون وهم أهل المقالة الثالثة فيما ذهبوا إليه بما روي عن عمران بن الحصين المذكور في هذا الباب، وهو ما رواه الحسن البصري عنه:"أن رجلًا أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعةً".

ص: فكان من الحجة لأهل المقالتين الأوليين على أهل هذه المقالة: أن ما ذكروا من القرعة المذكورة في حديث عمران منسوخ؛ لأن القرعة قد كانت في بدء الإِسلام تستعمل في أشياء فيحكم بها فيها، ويجعل ما قرع منها وهو الشيء الذي كانت القرعة من أجله لعينه.

(1)"المحلى"(9/ 345).

ص: 185

ش: أي فكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الأولى والثانية على أهل المقالة الثالثة وهم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وأراد بهذا: الجواب عن حديث عمران الذي احتجوا به فيما ذهبوا إليه من الاقتراع، وبيانه أنه منسوخ؛ لأن القرعة قد كانت في ابتداء الإِسلام وكانوا يحكمون بها في أشياء، ثم نسخ ذلك وردت الأشياء إلى المقادير المعلومة التي فيها التعديل.

ص: من ذلك ما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه حكم به في زمن رسول الله عليه السلام باليمن، فإنه حدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي، قال: ثنا جعفر بن عون أو يعلى بن عبيد -أنا أشك- عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبيد الله بن الخليل الحضرمي، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال:"بينا أنا عند رسول الله عليه السلام؛ إذ أتاه رجل من اليمن وعليّ رضي الله عنه يومئذٍ بها، فقال: يا رسول الله أتى عليًّا ثلاثة نفر يختصمون في ولد قد وقعوا على امرأة في طهرٍ واحد، فأقرع بينهم، فقرع أحدهم فدفع إليه الولد، فضحك رسول الله عليه السلام حتى بدت نواجذه أو قال: أضراسه".

فهذا رسول الله عليه السلام لم ينكر على علي رضي الله عنه ما حكم به بالقرعة في دعوى النفر بالولد، فدل ذلك أن الحكم كان حينئذ كذلك، ثم نسخ ذلك بعد باتفاقنا واتفاق هذا المخالف لنا، ودل على نسخه ما قد رويناه في باب القافة من حكم علي رضي الله عنه في مثل هذا بأن جعل الولد بين المدعيين جميعًا يرثهما ويرثانه. فدل ذلك أن الحكم كان يوم حكم علي رضي الله عنه بما حكم في كل شيء، مثل النسب الذي يدعيه النفر، أو المال الذي يوصي به للنفر بعد أن يكون قد أوصى به لكل واحد على حدة، أو العتاق الذي يعتق به العبيد في مرض معتقهم أن يقرع بينهم؛ فأيهم قرع استحق ما ادعى وما كان وجب بالوصية والعتاق، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا، إذ رُدَّت الأشياء إلى المقادير المعلومة التي فيها التعديل الذي لا زيادة فيه ولا نقصان.

ش: أشار بهذا إلى أن القرعة كان يعمل بها في ابتداء الإسلام، ثم نسخ لما

ص: 186

نسخ حكم الربا، وبيَّن ذلك بقوله:"من ذلك ما كان علي بن أبي طالب حكم به" أي بالاقتراع لما كان في اليمن، وكان عليه السلام أرسله حاكمًا.

أخرج ذلك عن إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الكوفي المعروف بترنجة، عن جعفر بن عون الكوفي أو يعلى بن عبيد الإيادي الكوفي، والشك فيه من الطحاوي، عن الأجلح بن عبد الله الكوفي، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل الحضرمي الكوفي، عن زيد بن أرقم.

وهؤلاء ثقات غير أن ابن الخليل قد قال البخاري فيه: لا يتابع على حديثه. قال أحمد: حديث القافة أحب إليَّ من هذا الحديث، وقد تكلم بعضهم فيه.

وقال البيهقي: الأجلح قد روى عنه أئمة لكن ما احتج به الشيخان، وعبد الله ابن الخليل ينفرد به، قال البخاري: عبد الله بن الخليل عن زيد في القرعة لم يتابع عليه.

قلت: لم يلزم من ترك الشيخين الاحتجاج بالأجلح تضعيفه؛ ولهذا أخرجه الحاكم هذا الحديث في "مستدركه"(1) وصححه.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم قال:"كنت جالسًا عند النبي عليه السلام، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال للاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا، فغليا، ثم قال للاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله عليه السلام حتى بدت أضراسه، أو قال: نواجذه".

(1)"المستدرك على الصحيحين"(2/ 225 رقم 2829).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 281 رقم 2269).

ص: 187

وأخرجه أيضًا (1): عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن سلمة، سمع الشعبي، عن الخليل أو ابن قال:"أتي علي رضي الله عنه في امرأة ولدت من ثلاثة. . . ." نحوه. ولم يذكر النبي عليه السلام ولا زيدًا فيه".

وأخرجه النسائي (2): عن علي بن حُجر، عن علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، عن ابن الخليل، عن زيد نحوه.

وأخرجه أيضًا (3): عن إسحاق بن شاهين، عن خالد، [عن الشيباني، عن الشعبي، عن رجل من حضرموت، عن زيد بن أرقم قال: "بعث رسول الله عليًّا إلى اليمن، فأُتي بغلام تنازع فيه ثلاثة. . . ." وساق الحديث](4).

وقال الخطابي: في هذا الحديث دليل على أن الولد لا يلحق بأكثر من أب واحد، وفيه إثبات القرعة في أمر الولد، وممن ذهب إلى ظاهر هذا الحديث: إسحاق بن راهويه وقال: هو السنة في دعوى الولد. وبه قال الشافعي في القديم.

قلت: حكم هذا الحديث منسوخ وبين ذلك الطحاوي بقوله: ودلَّ على نسخه ما قد رويناه في باب "القافة" من حكم علي رضي الله عنه. . . . إلى آخره. وهو ظاهر.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 281 رقم 2271).

(2)

في "الأصل، ك" أيضًا وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه ووقع في "تحفة الأشراف"(3/ 196 رقم 3669) كما أثبتناه، والحديث أخرجه النسائي في "المجتبى"(6/ 182 رقم 3489) من هذا الطريق والذي بعده.

(3)

"المجتبى"(6/ 183 رقم 3491).

(4)

كذا وقع في تحفة الأشراف (3/ 196 رقم 3669)، وكذا أخرجه النسائي في السنن الكبرى أيضًا (3/ 380 رقم 5685)، و (3/ 496 رقم 6037). ووقع في "الأصل، ك": سمعت الشعبي يحدث، عن أبي الخليل -أو ابن الخليل-:"ثلاثة نفر اشتركوا في طهر. . . ." فذكر نحوه ولم يذكر زيدًا ولا رفعه. اهـ

كذا وقع ولعله انتقال نظر من المؤلف حيث وقع هذا الجزء من الكلام في تحفة الأشراف تحت هذا الحديث المذكور، ولكن من طريق محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل أو ابن الخليل. . . . إلى آخره. والله أعلم

ص: 188

ص: وبعد هذا فليس يخلو ما حكم به رسول الله عليه السلام -من العتاق في المرض من القرعة وجعله إياه من الثلث- من أحد وجهين: إما أن يكون حكمًا دليلًا على سائر أفعال المريض في مرضه من عتاقه وهباته وصدقاته، أو يكون ذلك حكمًا في عتاق المريض خاصةً دون سائر أفعاله من هباته وصدقاته، فإن كان خاصًّا في العتاق دون ما سواه فينبغي أن لا يكون ما جعل النبي عليه السلام في هذا الحديث من العتاق في الثلث دليلًا على الهبات والصدقات أنها كذلك؛ فثبت قول الذي يقول: إنها من جميع المال إذْ كان النظر يشهد له، وإن كان هذا لا يدرك فيه خلاف ما قال إلا بالتقليد، ولا شيء في هذا الباب يقلده غير هذا الحديث، فإن كان جعل النبي عليه السلام ذلك العتاق في الثلث دليلًا لنا على هبات المريض وصدقاته كذلك، فكذلك هو دليل لنا على أن القرعة قد كانت في ذلك كله جارية محكومًا بها، ففي ارتفاعها عندنا وعند هذا المخالف لنا من الهبات والصدقات دليل على ارتفاعها أيضًا في العتاق؛ فبطل بذلك قول من ذهب إلى القرعة، وثبت أحد القولين الآخرين.

ش: هذا جواب آخر عن حكم حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه: السَّبْر والتقسيم، وهو ظاهر لا يحتاج إلى كثير الكلام.

ص: فقال مَن ذهب إلى تثبيت القرعة: وكيف تكون القرعة منسوخة وقد كان رسول الله عليه السلام يعمل بها فيما قد أجمع المسلمون على العمل بها فيه من بعده، فذكروا ما حدثنا يونس قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عروة وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله.

ص: 189

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة.

ويحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة مثله.

حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سعيد بن عيسى بن تليد، قال: ثنا المفضل بن فضالة القِتباني، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمه عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثتني خالتي عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة مثله.

قالوا: فهذا ما ينبغي للناس أن يفعلوه إلى اليوم وليس بمنسوخ، فما تُنكرون أن تكون القرعة في العتاق في المرض أيضًا كذلك؟.

ش: أراد بقوله: "من ذهب إلى تثبيت القرعة" أهل المقالة الثالثة، وهم: الشافعي وأحمد وإسحاق، حاصله أنهم ادعوا بقاء حكم القرعة، وأنكروا النسخ، وقالوا: إذا كانت القرعة ثابتةً في المسافرة بإحدى زوجاته، فلا يُنكر أن يكون الحكم كذلك في العتاق في المرض، وذكروا في ذلك حديث عائشة.

أخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله ابن عمرو الرقي، عن إسحاق بن راشد الجزري، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص العتواري المدني، أربعتهم عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه البخاري (1) مطولًا جدًّا في حديث الإفك: ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير

(1)"صحيح البخاري"(4/ 1517 رقم 3910).

ص: 190

وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة زوج النبي عليه السلام حين قال لها أهل الإفك ما قالوا. . . . الحديث.

وفيه قالت عائشة: "كان رسول الله عليه السلام إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله عليه السلام".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يونس بن زيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا مطولًا: ثنا حبان بن موسى، أنا عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة، وفيه قالت:"كان رسول الله عليه السلام إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله عليه السلام. . . ." الحديث.

الثالث: عن فهد أيضًا، عن يوسف بن بهلول التميمي الأنباري شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعن علقمة بن وقاص وسعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة.

وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة.

أما رواية الزهري عن عروة، عن عائشة فأخرجها أبو داود (2): عن ابن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"كان النبي عليه السلام إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه".

(1)"صحيح مسلم"(4/ 2129 - 2130 رقم 2770).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 243 رقم 2138).

ص: 191

وأما رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله، ثلاثتهم عن عائشة.

فأخرجها البخاري (1) ومسلم (1) وقد ذكرناها.

وأما رواية عمرة، عن عائشة فأخرجها أحمد في "مسنده" (2): عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن ما خرج سهمها خرج بها".

الرابع: عن محمد بن حميد بن هشام الرعيني، عن سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني المصري شيخ البخاري، عن المفضل بن فضالة القتباني المصري، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: قيل لهم: قد ذكرنا ذلك في موضعه ما يغني، ولكن نذكر هاهنا أيضًا ما فيه دليل أن لا حجة لكم في هذا إن شاء الله تعالى.

أجمع المسلمون أن للرجل أن يسافر إلى حيث أحب وإن طال سفره ذلك وليس معه أحد من نسائه، وأن حكم القسم مرتفع عنه بسفره، فلما كان ذلك كذلك كانت قرعة النبي عليه السلام بين نسائه في وقت احتياجه إلى الخروج بإحداهن ليُطَيِّب نفس من لا يخرج بها منهن، وليُعلم أنه لم يحاب التي خرج بها عليهن؛ لأنه لما كان له أن يخرج ويخلفهن جميعًا كان له أن يخرج ويخلف من شاء منهن.

فثبت بما ذكرنا أن القرعة إنما تستعمل فيما لمستعملها تركها، وفيما له أن يمضيه بغيرها.

(1)"تقدم ذكره".

(2)

"مسند أحمد"(6/ 269 رقم 26357).

ص: 192

ش: هذا جواب عما قاله من ذهب إلى تثبيت القرعة، وحاصله أن قرعة النبي عليه السلام في حديث عائشة إنما كانت لتطييب قلوب نسائه ولم تكن واجبةً عليه، ونحن أيضًا نقول بذلك على هذا الوجه.

قوله: "في موضعه" أراد به باب: "القافة" فإنه استوفى الكلام فيه هناك.

ص: ومن ذلك: الخصمان يحضران عند الحاكم فيدعي كل واحد منهما على صاحبه دعوى، فينبغي للقاضي أن يقرع بينهما، فأيهما قرع بدأ بالنظر في أمره، وله أن ينظر في أمر من شاء منهما بغير قرعة، فكان أحسن به لبعد الظن به، في هذا استعمال القرعة كما استعملها رسول الله عليه السلام في أمر نسائه.

ش: أي ومن القبيل المذكور -وهو استعمال القرعة لتطييب القلوب-: الخصمان يحضران عند القاضي ويتخاصمان في شيء، فإن القاضي له أن يقرع بينهما في البداءة بالنظر في أمرهما، فمن خرجت قرعته بدأ بالنظر في أمره، فإن ذلك أيضًا لتطييب قلبهما ومع هذا له أن ينظر في أمر من شاء منهما بغير قرعة، وهذا لا خلاف فيه.

فدل أن القرعة ليست بواجبة.

ص: وكذلك عَمِلَ المسلمون في أقسامهم بالقرعة بما عدلوه بين أهلهم، فيما لو أمضوه بينهم لا عن قرعة كان ذلك مستقيمًا، فأقرعوا بينهم لتطمئن به قلوبهم، وترتفع الظنة عمن تولى لهم قسمته، ولو أقرع بينهم على طوائف من المتاع الذي لهم قبل أن يعدل ويسوي قيمته على أملاكهم منه كان ذلك القسم باطلًا، فثبت بذلك أن القرعة إنما فعلت بعد أن تقدمها ما يجوز القسم به، وأنها إنما أريدت لانتفاء الظن لا بحكم يجب بها، فكذلك نقول: كل قرعة تكون كمثل هذا فهي حسنة، وكل قرعة يراد بها وجوب حكم وقطع حقوق متقدمة، فهي غير مستعملة.

ش: أي وكذلك -لتطييب القلوب- عمل المسلمون في أقسامهم بالقرعة وهو جمع قِسْم بكسر القاف.

ص: 193

وملخص هذا الكلام: أن القرعة إذا أريد بها تطييب القلوب ودفع التهمة كان ذلك حسنًا، ونحن نقول به أيضًا، وإذا أريد بها وجوب حكم أو قطع حق فلا نقول بها حينئذٍ؛ لأن هذا إنما كان ثم نسخ، فافهم.

ص: ثم رجعنا إلى القولين الآخرين، فرأينا رسول الله عليه السلام قد حكم في العبد إذا كان بين اثنين فأعتقه أحدهما أنه حر كله ويضمن إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا ففي ذلك من الاختلاف ما قد ذكرنا في كتاب العتاق، ثم وجدنا في حديث أبي المليح الهذلي عن أبيه:"أن رجلًا أعتق شقصًا له في مملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حر كله، ليس لله شريك".

فبيَّن رسول الله عليه السلام العلة التي لها عتق نصيب الشريك الذي لم يتولّ العتاق لما عُتق نصيب صاحبه، فدل ذلك أن العتاق متى وقع في بعض العبد انفش في كله.

وقد رأينا رسول الله عليه السلام أيضًا حكم في العبد بين اثنين إذا أعتقه أحدهما ولا مال له يحكم عليه فيه بالضمان بالسعاية على العبد في نصيبه الذي لم يعتق، فثبت بذلك أن حكم هؤلاء العبيد المعتقين في المرض كذلك وأنه لما استحال أن يجب على غيرهم ضمان ما جاوز الثلث الذي للميت أن يوصي به، ويُمَلِّكه في مرضه من أحب من قيمتهم، وجب عليه السعاية في ذلك للورثة. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أراد بالقولين الآخرين: قول أهل المقالة الأولى وهم: أبو حنيفة ومن معه، وقول أهل المقالة الثانية وهم: مالك ومَن معه.

وحديث أبي المليح الهذلي أخرجه الطحاوي في باب: "العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما" عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه.

ص: 194

وأخرجه أبو داود (1): عن أبي الوليد، عن همام، وعن محمد بن كثير، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه:"أن رجلًا أعتق شِقيصًا من غلام، فذكر ذلك للنبي عليه السلام، فقال: ليس لله شريك".

وأخرجه النسائي (2): عن ابن المثنى عن أبي الوليد وعن محمد بن معمر، عن حبان بن هلال، عن همام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه نحوه.

وأبو المليح اسمه عامر، وقيل: زيد، روى عن أبيه أسامة بن عمير الهذلي الصحابي البصري رضي الله عنه، والله أعلم.

(1)"سنن أبي داود"(4/ 23 رقم 3933).

(2)

"السنن الكبرى"(3/ 186 رقم 4970).

ص: 195