الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إننا أمام عمل في التفسير في فترة تاريخية حرجة، ومنعرج حضاري كبير، عمل يجمع بين أمور مميزة: فرادته من حيث زهد العلماء وقصر باع أغلبهم في التفسير، ثم مَيْزُهُ على المستوى الأفقي، حيث إن مادته غنية تمثل لونا آخر من ألوان المنهج العقلي اللغوي في التفسير، يعالج مشكله ونكته ويبرز انفتاح البسيلي على فنون كثيرة من علوم القرآن والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة والأدب والتصوف والمنطق والرياضيات والتاريخ مما يصب في خدمة المعنى، مع ظهور للمنطق المدرسي بشكل لافت.
وفوق ذلك كله، فالكتاب أثر إفريقي مغاربي في التفسير، طبعته ملامح مدرسة علمية كبرى هاجسها التفقه، تتسلسل بابن زيتون وابن عبد السلام وابن عرفة.
التعريف بمراحل العمل وماهيته
من فصل الخطاب، الإقرار أنه من العسير تلخيص الأعمال التي تتصل بالتراث، وتقوم على التحقيق العلمي لنصوصه، ومن ثَمَّ فلست هنا بصدد التلخيص بما يعنيه المصطلح، بقدر ما أنا واصف لمراحله وأهم مضامينه
…
، وعليه فقد جعلت مقدمة التحقيق فصولا ثلاثة، أهم أولها أن يقدم إلماعة حول الحركة العلمية في عصر السلطنة الحفصية، من خلال مبحثين: أولهما عوامل النهضة العلمية في عهد الحفصيين. والثاني: نشاط الدراسات القرآنية في العصر الحفصي، تتبعنا فيه النتاج الإفريقي في علوم القرآن، مما هو منسوب أو مخطوط أو مطبوع.
أما الفصل الثاني فخصصته لحياة أبي العباس البسيلي وآثاره، من حيث مصادر ترجمته والأوهام الكثيرة التي عَلقتْ بها وما ادَّارأ فيه المترجمون، ثم بما أثير حول نسبه وأصالة تونسيته وما إلى ذلك، مما درج المترجمون على إيراده من قبيل ذكر الإسم والنسب، والمولد والوفاة، والشيوخ والتلاميذ والمؤلفات؛ إلا أن الذي وسم هذه الترجمة أنها لم تعول على الترجمة المكرورة القصيرة التي نقلها المترجمون أولهم فى إثر آخرهم آخذين بإخذ واحد، وإنما استقينا أكثر مادتها من خلال تلقف الإشارات والإلماعات والفوائد الموضوعية التي تناثرت بشكل متباعد خلال كتب المؤلف، مستعينين في ذلك الترميم، بالاستنتاج والمقارنة وجمع القرائن والمعطيات، مما أغنى هذه الترجمة، بالتعريف بكثير من أعلام أسرة البسيلي وبالتوسع في تراجم شيوخه
وتلاميذه، والاهتمام بعلاقته بهم، ومبلغ تأثيره فيهم أو تأثرهم به؛ وساقنا كل ذلك إلى الوقوف على مؤلفاته وتقديمها. وأتبع الترجمة ذكر علاقة المؤلف بالحفصيين، وذكر صفاته الخلقية والخلقية، وما أثنى به العلماء عليه، فجاءت هذه الترجمة ضرورية لفقر المعلومات عن صاحبنا.
ثم ثنيت العنان في الفصل الثالث إلى أن أفردته للإفاضة في الحديث عن الكتاب ودراسته، من حيث عنوانه وتوثيقه وتحقيق نسبته إلى البسيلي وما احتف بتأليفه من حكاية ذكرها المؤرخون، مع تقدير تاريخ التأليف، ثم أفضت في تِبيان ملامح المنهج ْالعقلي في التفسير عند المؤلف متخلصا إلى سرد مصادره في "النكت والتنبيهات" مع المقارنة بين هذا وتقييد آخر عن ابن عرفة، هو تفسير أبي القاسم الشريف السلاوي، وجر ذلك الإلماع إلى جملة فضايا وثيقة الوشيجة بتجلية الكتاب للقارئ كمبحث عناية العلماء بتفسير البسيلي والنقل عنه، والوقوف عند بعض مآخذ على المؤلف لم تمنعنا إمامته من زبرها مقرونة بالبينات عليها، ولم يعزب عنا ما اشتكاه ابن غازي عند تكملته من رداءة نسخته من التقييد الكبير، فأفردنا لعمله في الاختصار قرصا من العرس، ثم عرجنا على ما طبع من التقييد الكبير، فقومنا ميله وسناده حين بدا لنا أنه اتخذ ظهريا قواعد التحقيق، وتجانف عن الصواب وسبيل التدقيق. وقادنا ذلك كله إلى أن يقدُمَ النص المحقق ذَرْوٌ من الكلام هو منه بسبيل مقيم، عدّا للنسخ ووصفا لها، فلا ريب أن سلكت في خطة التحقيق جَدَدَ المحققين الجلة، أمنا للعثار، ولم أحد عن نهجهم إلا بمقدار يفرضه حال النص، فكان أن قدمت بين يدي الغرض التنقيبَ في فهارس المخطوطات وذخائر الكتب، فلم أعثر مع مزيد البحث الجاد والعَنَتِ اللاحق، إلا على ثلاث نسخ، تبين أنه لا يُعرف غيرُها لحينِه، بعد سؤال العارفين بالمخطوطات والمهتمين بها؛ وأما ما بقي من النسخ، فهي نسخ من التقييد الكبير، عدنا إليها للمقابلة باطراد، وللاحتكام إليها -أحيانا- فيما أشكل علينا، إلا أنه قد عنانا الحصول عليها، فلم نفِد منها إلا بعد لأي. وقد قابلت بين النسخ لأول الأمر، واصطلحت كالمعهودِ على رموز واختصارات غير يسيرة صدَّرت النص المحقق بها، وجعلت ما زادت به نسخة الأصل على غيرها بين مُعكَّفين، وما ربت به النسختان الأخريان عليه بين زاويتين متقابلتبن، وما خلت منه النسخ من سقط لازم أو تتمة مُثْلى بين قوسين، ونبهت على أنه زيادة لدنية اقتضاها النص واستقام بها، ولم أفعل هذا إلا لماما. وأثبت أرقام مخطوط الأصل في صلب النص بين معكفين، وأرقام الباقيتين بالحاشية بحسب الورود. ورسمت الحروف القرآنية موضع التنبيهات بالرسم التوقيفي على ما اقتضت قراءة نافع
من رواية ورش، إلا مواطن لم تسعفني مميزات الطبع، فأثبتها على حالها ريثما أصوبها يدويا، وأخرى تركتها بياضا سودته باليد بعد الطبع؛ فمن الأول القاف والفاء عند المغاربة، ومن الثاني الألفات المحذوفات والياءات الموقوصات، وعلامة الصلة والإقلاب وما سوى ذلك. وجعلت ناصية كل آية منبَّه عليها رقمَها، تيسير على القارئ ومنعا للتشغيب عليه بالعَوْد المطّرِد إلى الحواشي عند كل آية. وضبطت الآيات والأحاديث والشواهد والأغربة ضبطا تاما وصوبت الأوهامَ والهناتِ الواردةَ بالنص، وأشرت إلى مصادر التصحيح وخرجت آيات الاستشهاد بالحاشية، لأني رأيت فعل ذلك في النص مع كثرة الآي مذهبا لطلاوته، كما خرجت القراءات متواترَها وشاذَّها ونصصتُ على القرَأَة بها، ومثلَها الأحاديثُ النبوية الشريفة، ناقلا عن علماء الحديث أحكامهم عليها بالتصحيح أو التضعيف، وصدّرْت التخريج بها. معرفا في أطواء الكتاب بمصطلحات الفقه والأصول والمنطق، وبعض أسماء الأماكن والكتب مخطوطها ومطبوعها. ثم عرضت ما أشكل من نص الكتاب على أصله "التقييد الكبير"، حين لا تكون النكتة من الزوائد.
وقد خرّجت شواهد الشعر والرجز بالعوْد إلى دواوين أصحابها، وإلى كتب الأدب والنحو واللغة والتفسير، كما شرحت الأمثال والأقوال ووثقت الحكايات وضريبَ ذلك كله، وترجمت للأعلام كل بحسب طبقته. ثم انتقلت بعد ذلك إلى عرض محمولات النص على كتب التفسير والنحو واللغة والحديث والأصلين، باعتبار موضوع كل نكتة، ولم أخْلِ مع ذلك نفسي من عهدة عرضي لمادة الكتاب برمتها على التفاسير المعتبرة المشهورة، محترزا أن أصيد الحوت في غير بحره، إلا حين يَنْضُبُ معينُ المظان، فلم أبغ بدلا عن توثيق مسائل الأصول مثلا من كتب الأصول، ومسائل المنطق من كتب المنطق، وقضايا الكلام من كتب الكلام
…
وهكذا دواليك إلا فيما ندر؛ تعِرَّة أن أكون حاطب ليل.
ولم تكن نقول البسيلي خالصةً للاستظهار ليس إلا، بل أوردها على أحوال شتى، فتارة تكون نصا في الموضوع، وتارة لتكون مادة للتعقب، وقد ألزمت نفسي فرددت غالب النقول الكثيرة بالنص على أصولها، ليستبين وجه الحق في نقلها، فتكشَّف لي أحيانا ما في النقل منِ العَسْف أو الاختصار المخل، على ما في ربط النقول بمصادرها المخطوطة من نصَبٍ ووصَب يخبره العارفون، سيما حين يكون توثيق النقول من كتاب مخطوط أو نادر لا يخضع لترتيب، ويعرى عن فهرسة، وبقدر