الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: صفاته الخلقية والأعمال التي تولاها
أ - صفاته الخُلقية:
مما يشهدُ له الشرِع، وتؤيِّدُه العادة، أنَّ مَن نشأ في حِجْر نقيٍّ طاهر، وأُرْضع حُبَّ القرآنِ على صِغر، وتَنَقَّلَ في أطوار الحياة، يُسْلِمُه طوْرٌ لطور، وهو يعُبّ من حياض العلم، ويتفيؤ ظلالَ مجالسه، لا يمكن ولا ينبغي له إلا أن يكون شخصا متخلِّقا أُشْرِبَ حب الدين، وبدا ذلك في سلوكه، وصار سمة لازبة له؛ والبسيليُّ لم يعدم الأصل الطيّب، فقُعْدُدُ نسبه يزدان بصدور العلم، ورجال المحاريب، وهو نفسُه قد فتح مغاليق عينيْه وهو في المكتب يحفظ القرآن ويجوده، وقد أنفق بعْدُ شطرا من عمره يلزم ابنَ عرفة -يقرأ ويقرئ-، فلا بِدْعَ أن يكون صاحبُنا كما وصفه تلميذه وأعرف الناس به، أبو عبد الله الرصاع، حيث قال: "وكان شيخنا هذا عالما
…
عليه وقار
…
كثير الصمت، قليل الخوض فيما لا يعني؛ عليه آداب العلم من وقار وسكينة".
صفةٌ أخرى، لا تخطئُها العين في تلافيف كتاب البسيلي، وهي إنصافُه البالغ، وذلك داعيه -مثلا- إلى أن يخلع صفة الحذق على قرين له في الطلب، حين أنشدَه تخميسا لأبيات للأبي في ابن عرفة. وحاديه إلى أن ينقل عن تآليف مخالفي ابنِ عرفة، دون أن يكون لما شَجَرَ بينهما دخلٌ في الاستفادة العلمية، كنقْلِهِ عن الضرير المراكشي، وابن خلدون.
وليس يخفى على القارئ اللبيب نزوعُ صاحبنا إلى التصوف، وتبجيلُه الجلي للقوم، فهو يحكي عن أبي محمد المرجاني، وأبي الحسن المنتصر، بلفظ سيدي. ويصِفُ المتصوفَ أبا محمد عبد العزيز المهدوي بالشيخ الصالح العالم، وهي أوصاف لم يُحَلِّ بها غيرَ شيخِه وعمِّه. بل إنه لَيَعتقد فيهم اعتقادا لا يخامره ريب، وينقل حكاياتهم من غير توقف؛ فقد قال عند قوله تعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقيَةٍ} :
"فإنْ قلت: قد قيل إن هذه الهيئة العادية، التي عند قرطاجنة، من بناءاتهم؛ وقد أَخْبَرَ سيدي محرز في "كتاب كراماته" أنه التقى عند المعلقة بالخضر عليه السلام فأخبره بذلك، وبأشياءَ من أمورها غير واحدة". قلت: ليس على الله بمستكثر أن يخص من يشاء أنى شاء بما يشاء من مواهب الفيوضات، وفتوحات الغيب، ولكن حكايات الصالحين وكرامات الأولياء رضوان الله عليهم، لا تصلح دليلا على كلام الله، ولا حجة يستنصر بها المتأول لمعاني الذِّكر.
ْوهو بعدُ ينقل عن أصولٍ للتصوف، كرسالة القشيري وحلية أبي نعيم، وإحياء الغزالي؛ بل إنه لينقل نصا طويلا عن أبي مدين شعيب الأندلسي -أحد القائلين بوحدة الوجود-، وينشد أبياتا تنسب للشوذي المتصوف الغالي، صاحب النحلة.
ولكن البسيلي متصوف على طريقة الزهادة والأخذ بالرقائق، ولذلك نأى عن شطحات بعض المتصوفة، ولم يُحْجِمْ أن يرد عليهم، فعندما نَقَلَ عن أبي عمرو عثمان الصقلي قولَ ابنِ عربي الطائي في قوله تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، أن المراد به طلوع شمس الحياة من مغرب الأبدان!، تدخّل وقال:"قلت: هذا لا ينبغي اعتقاده". وحين عَرَضَ لحديث "من رآني فقد رآني حقا"، ذَكَرَ مذاهب أهل العلم في تأويله دون أن يحمله على مقتضى ظاهِرِه، كما يفعل بعضُ غلاة المتصوفة، ثم قرَّرَ أنه لا يثبتُ حكمٌ بالمرائي النومية.
ب - الأعمال التي تولاها:
نذر البسيلي نفسه للعلم، فلم يُنقل عنه أنه تولى منصبا سياسيا أو إداريا أو رسميا، بل اقتصر على التدريس بالمدرسة الحكيمية أو الإقراء بسقيفة داره، حيث كانت تقصده الطلبة تسأله عن المسائل المشكلة.