الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
عوامل النهضة العلمية في عهد الحفصيين
أ - رعاية خلفاء بني حفص للحركة العلمية:
يبتدئ العصر الحفصي بإمارة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي -صاحب الإمام المهدي- على البلاد التونسية، عام 603 هـ، وينتهي بعد ذلك سنة 981 هـ، وقد تقلبت السلطنة في هذا المجال الزمني بين دَعَةٍ وأمن، واختلالٍ وفسادِ حال؛ وليس وكْدُنا تقرير ما أطنب المؤرخون فيه؛ وإنما القصد أن نبرز بعض ما أحاط به ملوك بني حفص العلم من عناية ورعاية.
شهد هذا العصر احتفالا بالعلم وأهله، واستطاع النشاط العلمي أن يغدوَ ميْسما لازباً لتونس، تُذكر فيُذكر، ويُعرف فلا يُنكر، حتى إن الرحالةَ العبْدري، وهو النَّقادة الذي "ما رأيناه مَدح بلدةً ولا سكانهَا إلا مدينة تونس" -حسبما أفاد ابن عبد السلام الناصري فى الرحلة الحجازية- يعطف على هذه البلدة سنة 688 هـ، فيُلْفى فيها أخْدَانه سَدَنَةَ العلم وأضرابَه في الطلب، ويُسَرِّح طرْفه وفكره فيما تلذّه الأنفس وتقرّ الأعين من الأنظار العقلية والأبحاث العلمية الجارية بين علماء الحضرة، فلا تمنعه محاققتُه الفذّةُ من أن يقول عن تونس: إنه "لا تنْشُدُ بها ضالةً من العلم إلا وجدتها ولا تلتمسُ فيها بغيةً معْوِزة إلا استفدتَها؛ أهلُها ما بين عالم كالعَلَم رافع بين أهله للعِلم، ومعطِّل حدَّ الظُبى بالقلم".
بل إن العبدري يُثبت أنه قد أقفر ما بين المغرب وتونس من العلم، ولم يجد له رسما إلا عندما دخلها، وذلك حَادِيهِ للقول: "ولولا أني دخلتُها لحكمت بأنَّ العلم في أفق
الغرب قد مُحِيَ رسمه، وضاع حظُّه وقَسْمُه، ولكنْ قضى الله بأنّ الأرض لا تخلو من قائم له بحجة يرى سبيل الحق ويوضّح المحجة، وما مِن فنّ من فنون العلم إلا وجدت بتونس به قائما، وبها من أهل الرواية والدراية عدد وافر، يجلُو الفخارُ بهم عن محيّاً سافر، وينير علمهم، وقد ألقت ذُكاء يمينها في يد كافر". وهُو لا يجيء في حكمه شيئا إدًّا، إذا عُلم أن عِدةَ رجالِ العلم والأدب التونسيين المذكورين طَيَّ رحلتِه يُربي على غيرهم ممن لقيه في حجازيته كلِّها، فيذكر منهم ستة عشر عَلَماً ما منهم إلا شهيرُ الذكر، خطير القدر. ولو لم تكن تونس على ما ذكر العبدري، لما أطال بها ابن رشيد السبتي الورود والصدور، حيث ضمّن "ملء العيبة" أسماء الكثير من علمائها.
ويعرِّج أبو البقاء البلوي على تونس في رحلته، فيُقيم بها من (يوم السبت فاتح شعبان عام 736 هـ، إلىٍ يوم السبت 17 ربيع الثاني عام 737 هـ)، فَلا يقَصِّر وصفُه عن وصف قرينَيْه، ويراها جنة حُفتْ من طرقها بالمكاره، وعقيلةً عقَلت قلب الطائع والكاره، فهي الدمية الغراء، والقبة اللعْساء، والخريدة العيناء، تزهى بها المحافل، ويحتقبها الطالع والآفل
…
؛ وينشد في مدحها:
لَتُونُسُ تُونِسُ مَن جاءها
…
وتُودِعُهُ لوعةً حيث سَارْ
فيغْدُو ولوْ حَلَّ أرضَ العراق
…
يحِنّ إليها حنين الحُوَارْ
ويأمُلُ عَوْدا ويشتاقُه
…
اشتياقَ الفرزدق عَوْدَ النّوار
ولعل السبب في ابتهاجه بحلول تونس هو ما سيذكرُه بعدُ، وهو أنه ظلّ يلقى أكابر الأولياء، والعلماء الأتقياء، وسيذكر منهم لفيفا مهما.
وهذه النهضة العلمية التي يشيد بها هؤلاء العلماء الرُّحْلة، هي في بعض منها، من ثمار الحظوة التي حازها حملة العلم عند بني حفص، هؤلاء الذين "حرصوا على تشجيع العلماء وتنشيطهم والمساعدة لهم، فأقاموا بذلك على أيديهم دولة باهرة، وحضارة زاهرة". وقد درأت هذه العناية ابن حريز، لينشئ ديوانا في مدح الحفصيين، سماه "مهبّ نواسم المدائح ومصب غمائم المنائح في مدح الخلافة الحفصية"، وصفات الرجل التي خلعها عليه البلوى تمنع مظنة التزلف والانتجاع، فقد كان الرجل كريما يُقصد ولا يقصد، فمدْحُه يصادف محلا:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا
…
ما لم يجدوا عنده آثار إحسان
وقد أدرك الفقهاء سطوة لدى الحفصيين، بَلَغَ من قدرها في العهد الحفصي الأول أن كان للفقهاء دورٌ حتى في خلْعِ أو تعْيين الخليفة، "فقد كان لرجال الدولة الحفصية الحظّ الأوفر من نصرة الحق وإعانة القضاة على إجرائه، فوسَّعوا للقاضي في السلطة والنفوذ، وأعانوه على المباشَرة، ومكَّنوه حتى من أنفسهم وبنيهم"؛ مِن ذلك ما حُكي عن أبي محمد المرجاني (ت 699 هـ)، وذلك أنه لما مرض أبو حفص عمر، عُهد بالملك لولده عبد الله، فتحدث الموحدون والفقهاء والقاضي مع المرجاني المذكور، تحدثوا معه في أن الولد صغير، واتفق رأيهم على أبي عبد الله المعروف بأبي عصيدة، ابن الواثق بالله بن المستنصر.
ولم يكن يمتنع عن الفقهاء والقضاة في إجراء الأحكام الأمراءُ فمَنْ دونَهم، فمن ذلك أن أبا عبد الله المعروف بأبي ضربة، لما فَرَّ والدُه وبويع هو إنما أُخْرج من السجن بعد أن كان مثقَّفاً على يد قاضى الوقت أبي إسحق بن عبد الرفيع (ت 733 هـ)، بسبب جناية.
وأكبرُ أولاد أبي بكر الأمير الحفصي، حدثَتْه نفسه بأن يطلب الملك لنفسه، فحال بينه وبين ذلك القاضي أبو علي عمر بن عبد الرفيع (ت 766 هـ).
وفيما يتلو عروجٌ على مساهمات أعلام السلطنة الحفصية في الأنشطة العلمية وإقامتهم لصروح العلم، وبعثهم للمنتديات البحثية الرصينة.
- أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي (603 - 618):
كان عالما فاضلا خَيِّرًا فطنا؛ فمِن إدراكه ما حكاه كاتبه ابنُ نَخِيل عنه، قال: دخل عليه الفقيه أبو محمد عبد السلام البُرْجِيني من تلامذة الإمام المازري، وكان تحت جَفْوَةٍ منه، فقال الشيخ: كيف حالك يا فقيه أبا محمد عبد السلام؟ فقال: في عبادة. فقال له الشيخ: نُعَوِّضُ صبرَك إن شاء الله بالشكر. قال ابن نخيل: فسألت الشيخَ عن المراد: فقال: أراد قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انتِظَارُ الفَرَجِ بِالصبْرِ عِبَادَة".
- أبو زكرياء يحيى الأول، بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص (خلافته:625 هـ - 647 هـ):
وهو الباني للمدرسة الشَّمَّاعية، وزوجته عَطْف، هي مُنشئة المدرسة التوفيقية، سنة 639 هـ وهي المسمّاة اليوم، بمدرسة جامع الهواء، وقد أحدثتْ معها جامع التوفيق، ونظمت بها دروسا، وجعلتْ لإقامةِ ذلك أوقافاً واسعة.
وقد كان مجلس أبي زكريا قبلة للعلماء والأدباء، بل لقد كان هو نفسُه معدودا في العلماء والأدباء والشعراء والنبلاء؛ يجالسُهم ويشاركهم، وله شعر؛ فمِنه ما كان سببُه أن الأمير استدعى جماعة من خواصِّه وشعرائه لنزهة في رِياضه المسمى بأبي فِهْر، فنظموا في وصفه قصائدَ رفعوها إلى الأمير، فأجابهم بأبيات تتضمن تفضيل شعر أبي عمرو ابن عربية على شعر جميع من حضرها وفيهم ابن الأبار وغيره، وأبيات أبي زكرياء:[طويل]
ألا إنّ مضمارَ القريض لَمُمْتدُّ
…
بِهِ شُعَرَاءُ السبْقِ أربعةٌ لُدُّ
فأما المجلِّي فهْو شاعرُ جَمّة
…
أتى أولا والناس كلَهمُ بعدُ
وأما المصلى فهو حبْر قضاعة
…
بآدابه تزهو الإمارة والمجد
في أبيات أخر.
وقد أَخَذَ عن الشيخ الفقيه المقرئ أبي عبد الله محمد بن عبد الجبار الرُّعَيْني السّوسي (ت 662 هـ)، ختم عليه المستصفى للغزالي وغيره. وتتلمذ أيضا لأبي الحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري البَيَّاسِي (ت 653 هـ)، حيث جَمَعَ له أحاديث "المستصفى" واستخرجها من الأمهات ونَبَّهَ على الصحيح منها والسقيم؛ وبرسمه ألّف كتاب "الإعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام".
وقد كان يستدعى إليه العلماء، كما فعل مع أبي العباس الْمَلْتَاني (ت 644 هـ)؛ وهذا الأمير هو الذي هرع إليه ابن الأبار -الذي سَيَلِي له العلامةَ فيما بعد- سفيرًا لابن مرْدَنِيش، يستفْتِحُ به ويستصْرخُه، لرتق ما انخرق من حُلَّة الوجود الإسلامي بالأندلس، إذْ أنشد بين يديه سينيته المبكية التي ولع بها المتأدبون -والتي لا تضارعها إلا نونية الرندي-:
أَدْرِكْ بخَيْلِك خيل الله أَنْدَلُسا
…
إنَّ السبيلَ إلى مَنْجَاتِهَا دَرَسَا
ويجمُل ذِكرُ أنه قد استُصرخ بقصيد آخر لم ينسبْه المقري -مرعىً ولا كالسعدان! - طالِعَته:
نادتْك أندلسٌ فلب نداءَها
…
واجْعَلْ طواغيتَ الصَّلِيبِ فِدَاءَها
وناهيك برجلٍ يهْتَبِلُ بالأصول العلمية، فيفتشُ عنها ويتطلّبُها تطلب الصادي للماء القراح، حتى لقد سمع بنسخة من "فصيح" ثعلب بخط اللغوي أبي إسحق إبراهيم بن الأجدابي بيعت بطرابلس، فَبَرَدَ بريدا إليها في البحث عنه، فبُحث عنه ووجِّه به إليه؛ وسمع كرةً أخرى بوجود نسخة من "أمثلة الغريب" لأبي الحسن الهنائي المعروف بكُرَاعِ النمل بخط الأجدابي المذكور، فوجه إليها بطرابلس. وقد خلَّف من الكتب ستة وثلاثين ألف مجلّد.
وهو من الحفصيين الذين شجعوا العلماء على التصنيف في مختلف مجالات العلم حتى الطب، فهذا أحمد بن محمد، ابن الحشَّا، الطبيب التونسي (من رجال ق 7 هـ)
ألّف بطلب من أبى زكريا معجما في الطب سماه "مفيد العلوم ومبيد الهموم".
ويرفِّع ابن سعيد في "المغرب" بتونس في عهده فيقول: "ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش بسلطان إفريقية الآن أبي زكرياء يحيى بن أبى محمد
…
وعُرَفَاءِ صنَّاعه من الأندلس
…
ووجوهُ صنائع دولته لا تجدُهم إلا من الأندلس".
ويبدو أن وَلَدَهُ كان لاحقا لشأوه، فقد حاز مِدَحَ ابن عربية، وله ألف "الروضة الريَّا في امتداح الأمير أبي يحيى".
- أبو عبد الله المستنصر (خلافته: 647 هـ - 675 هـ):
عالم متمكن عظيمُ الشأن في ملوك بني حفص، لِما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على أبيه، وخصوصا الأندلس، من شاعر مُفْلِقٍ، وكاتب بليغ، وعالم نِحْرير، وملك أرْوَع، وشجاع أهْيَس، متفيّئين ظلَّ ملكه، مُتَنَاغين في اللياذ به لِطُمُوسِ معالم الخلافة شرقا وغربا على عهده، وخُفُوتِ صوت الملك إلا في إيوانه. ومن تقديره للعلماء وزكانته في انتقائهم لِمَا أهمَّه أنه عهد إلى أبي موسى عمران ابن مَعْمَر المتضلع في المذهب بمنصب قاضي تونس، وقرَّب أبا العباس اللُّلِيَاني -وهو ممن عكف على دراسة المدونة-، ووجَّه ممن حاضرة تونس إلى أبي محمد عبد الحميد ابن أبي الدُّنْيا الطرابلسي، الذي شَيَّدَ بعدُ -باسمه- مدرسةً بطرابلس
سماها المدرسة المستنصرية، ثم ولى له قضاء الجماعة والأنكحة والخطابة بالجامع الأعظم.
وقد عُرف عنه تقريبُه للعلماء والأدباء، يجالس طلبة العلم ويشاركهم أحسن مشاركة من غير مُمَارَاة، ولا إظهارِ إِيَّالة على أحدٍ منهم؛ فمِمَّن حظي عنده ونفقت سوقُه لديه: أبو المطرف ابن عميرة المخزومي (ت 658 هـ)؛ وأبو العباس أحمد بن إبراهيم الغساني (ت 668 هـ)، الذي جَلَّ عنده حتى بلغ الغاية لأنه كان من ظرفاء الأدباء. وابن الأبار القضاعي الذي استدعاه المستنصر فكان أول إنشاده لما مَثُلَ بين يديه:
بُشْرَايَ بَاشَرْتُ الهدَى وَالنُّورَا
…
فِي قَصْدِيَ المسْتَنْصِرَ المنصُورَا
وإذا أميرُ المومنين لقيته
…
لم ألق إلا نضْرة وسرورا
واستدعى إليه أبا بكر ابن سيّد الناس لما اشتهر حاله، ونقل الناقلون ذَكاءه وفهمَه؛ ولم يكن ينمي إلى خبره جوازُ عالم لبلدِه إلا استدعاه، كما فعل مع أبي على الحسن بن موسى بن معمر الهواري الطرابلسي وأبي العباس الجدلي الشريف
الأصبهاني الرُّحْلة. واختص بأبي القاسم ابن البراء التنوخي اختصاصا كليا. وأما ابن عصفور فكان أحد خواص مجلس المستنصر، وقبل انتقال الإمارة إليه كان يقرأ عليه، لكنه قَلَبَ له ظهر المجن عقيب ذلك وعفَّى على سوالف المنن بكبائر المحن. أما حازم القرطاجني، فقد أشاد بتشجيع المستنصر للعلم وحملته، وأدار مقصورته على مدحه، حتى أثار ذلك المكودي ليعارضه ولكن بمدح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال حازم:
وقد رفعتَ عِمادا للعُلا فَغَدَا
…
يعلُو قياما ويعلُو قدرُه قِيَمَا
أقمتمُ وزنَ شمس العدل فاعتدلت
…
فلم يدَعْ نورُها ظُلْما ولا ظُلُما
فتونسُ تؤنِس الَأبصار رؤيتُها
…
وتمنع الأُمم الآلاء والأَمَما
كأنما الصبح فيها ثغر مبتسم
…
وحوة الليل فيها حوَّةٌ وَلَمَى
فأقبلتْ نحوها للناس أفئدةٌ
…
تَرْتَادُ غَيْثاً من الإحْسَانِ مُنْسَجِمَا
فكلُّهم حضروا في ظلِّ حضْرتكم
…
فأصبحت لهمُ الدنيا بها حُلُما
وقد مدحه مِدَحا باقيات صالحات؛ فمما ارتجله منها، وهذا طالعها:[الكامل]
بَلَغْتَ فِي الأعداءِ كلِّ مُرَاد
…
وَغَدَا لَكَ التأييدُ ذَا إِسْعَاد
ولم يكن المستنصر بحاثَّةً فحسب، بل كان نقَّادة يهتم بتقويم التآليف، فقد دفع بكتاب "وشي الحلل في شرح الجمل" لما رفعه إليه أبو جعفر اللَّبْلِي، إلى أبي الحسن
القرطاجني، وأمره أن يتعقب ما فيه من خلل وَجَدَه، فسعى اللبلي لتعرُّفِ مواضع التعقب فَبَشَرَها بمعرفة حازم.
ومن المفيد أنه قد حفظت لنا كتب الأدب نماذج مما كان يجوس خلال مجالس المستنصر من أبحاث ومساجلات؛ ذكر صاحب "التذييل والتكميل" أن من غريب الحكايات ما حدثه به بعض أدباء تونس، والعهدة عليه: "أن الفقيه المحدث أبا القاسم ابن البَرَاء، كان يحرِّض شيخنا الأديب الحافظ أبا الحسن حازم بن محمد ابن حازم، على أن يشتغل بالفقه ويكُفَّ عن الأدب، فحضر حازم وجماعة عند المستنصر ملك إفريقية، وذكروا قراءة ابن كثير (وَكائِن)، واستغربوها، وقالوا: لم يجئ منها في كلام العرب إلا قول الشاعر:
وَكائِنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ
فقال لهم حازم: قد ورد منها ما لا يُحصى، فطلبوا ذلك منه، فأنشدهم من هذه اللغة ألف بيت!، فدفع له المستنصر ألف دينار من الذهب، فجاء بها إلى ابن البراء فقال له: هذه مسألةٌ من الأدب أخذْتُ منها ألف دينار، فأَرني أنتَ مسألة من الفقه حصل بها المختبر ألف دينار. -زاد الإفرانى-: والذي أقوله، أَن هذه المسألة كانت مُبَيَّتة، طُولع فيها دواوين أياما كثيرة؛ على أن حازما كان من الحفظ في غاية لا يُشارك فيها.
وقد كانت المساجلات الدائرة بحضرة المستنصر تتطور فتثمر تأليفا ينصر أو يرُدُّ بعض ما اعتوره العلماء بالنقاش، ففي تفسير أبي القاسم السلاوي -عند تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِق} -: "ع: ويُحكى عن شيخ يقال له ابن عبد القادر، كان قرأ عليه الشيخ ابن الدَّراس الطبيب، أنه اجتمع مع الفقهاء عند السلطان المستنصر، فبحثوا ثَمَّ في التشاؤم بعدد التسع وأنه مستَقْبَحٌ مرجوح، فبحث هو على أنه مستحسن؛ وألف فيه كتابا".
- أبو زكريا يحيى الملقب بالواثق بالله (خلافته: 675 - 678 هـ):
وهو على قِصَرِ آمَد خلافته، جدد بناء ما اختل من جامع الزيتونة وسائر المساجد، وقد كانت مجالا للمطارحات العلمية والتدريس.
- الأمير أبو زكرياء يَحْيَى بن السلطان أبي إسحق إبراهيم الحفصي:
وهو الذي أسس مدرسة المعْرِض، ويبقى أن تعرف أن وَلَعَ الرجل بالعلم دعاه إلى أن يحدث كُوَّةً في منزله ليسمع منها ما يقرأ بالمدرسة التي بناها بإزاء داره وزودها بالكتب النفيسة من كل فنون العلم. وكان يحضر مجلس الوعظ يومي الإثنين والجمعة، فيطلق العنبر والعود ما دام المجلس.
- زكريا ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ اللحياني محمد بن يَحْيَى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، أبو يَحْيَى الحفصي (خلافته: 711 - 717 هـ):
العالم المحدث، الكاتب الشاعر، أمه أم ولد اسمها محرم أصلها رومية. قرأ علي جماعة بتونس، ورحل إلى المشرق، ولقي جماعة، سماه ابن عمه السلطان الواثق بالله الملقب بأبي عصيدة، شيخاً للموحِّدين، عندما تولى المملكة سنة 694 هـ.
من مؤلفاته: ديوان شعر، جمعه مدة إقامته بمصر. و "روضات الجنات" وهي خطب جمعية طبعت طبعة حجرية بالهند.
- أبو العباس أحمد الحفصي (خلافته: 772 - 796 هـ):
وهذا أول خليفة أرجِّح أن البسيلي عاصره، فضلا عن أبي فارس كما سيأتي.
وقد طرَّزَ أبو العباس حاضرةَ تونس ببدور علمية بادِيَةِ الوَضاءة، كالإمام ابن عرفة، وابن خلدون المؤرخ، الذي أكرم الأمير وفادَتَه، وآوى من عنايته إلى ظل ظليل، وهو الذي كلَّفه -لما لمْ يَخْلُ له وقت لمذاكرة العلماء- بالإكباب على تأليف تاريخه "العبر"،
لتشوفه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل، فلما أتمه ابن خلدون رفع منه نسخة إلى الخزنة الأميرية، وشفع ذلك بقصيدة يقول فيها:
هَذَا أبُو العبَّاس خيرُ خليفةٍ
…
شَهِدَتْ لهُ الشِّيَمُ التي لا تُجْهَل
إلى أن يقول:
وَإليكَ من سِيَر الزمانِ وأهلِه
…
"عِبَرا" يَدِينُ بفضْلِهَا مَنْ يعدِل
صحُفا تُتَرْجِمُ عن أَحَاديث الأُليَ
…
غَبَرُوا فتُجْمِلُ عنهمُ وتفصِّل
ثم قال:
أَهْدَيْتُ منه إلى عُلَاكَ جَواهِرا
…
مكنونةً وكواكباً لا تَأفُلُ
وجعلتُهُ لِصِوَانِ مُلْكِكَ مَفْخَرا
…
يَبْأى النَّدِيُّ به ويزهو المحفل
ويحس ابن خلدون، أنه قد ينازعه في مديحه مَن يسِمه -كابن عرفة- بالمبالغة وتزويق الخلان وإطراء المنتجع، فيؤكد على صفة الصدق فيما قاله، ويستظهر عليه بأن الأمير عالم كريم التحيتة، نافذ النظر:
وَلأنتَ أرْسَخُ في المعارف رُتْبَة
…
مِنْ أن يُمِّوهَ عنده متطفِّل
والله ما أسرفْتُ فيما قلتُه
…
شيئا ولا الإسرافُ مما يجمُل
ويلاحظ أن خلافةَ أبي العباس هذا أنفقها في تمهيد البلاد وقمع المخالفين، وتجهيز الحركات لاستتباب الأمن، ولو وافق رخاء وأمنا لكانت له في إنعاش العلوم الشرعية والأدبية اليد الطولى؛ ويؤيد هذا الظن قولُ ابن الشماع إنه "وجد نظام الملك بإفريقية قد اختل، والعرب قد ملكوا من الجبال الجل"، وفي أيامه نزل النصارى بالمهدية فأجلاهم.
- عبد العزيز الحفصي (796 - 837 هـ):
لم يكد يفرغ من تمهيد البلاد حتى هرع إلى قضاء حق العلم، ويرسم ابن القنفذ صورة عن مجلسه العلمي فيقول:"وفي سنة 782 حضرت مجلسه -نصره الله- في العلم، بقصبتهم السعيدة في الحضرة العلية في التفسير والحديث والفقه، والقائمُ حينئذ بِرَسْمِ العلم في مجلس الأمير قاضي الجماعة بالحضرة العلية الشيخ الحافظ أبو مهدي عيسى بن أبي العباس أحمد الغبريني؛ وهو شيخٌ نَالَ من المعارف ما اشتهى، وحازَ من العلوم الغايةَ والمنتهى، وهو في درسه حَسَنُ العبارة، لَيِّنُ القول قريبُ الإشارة، شاهدت المفيد درسه، وحضر جماعة من الطلبة مجلسه، وكان الشيخ الفقيه المدرس الخطيب المفيد أبو زكرياء يحيى بن منصور الأصبحي يحضر هذا الدرس، ولا يختص الخليفة فيه بطِنْفِسَةٍ ولا بغيرِها، بل جلوسُهُ على البساط الذي يجلس عليه الطلبة؛ وكان الخليفةُ يقرأ على القاضي المذكور دولته في "الرسالة" بعد افتراقِ المجلس؛ ورأيتُ في أيام حضوري بمرْفَعِ الكتب بالقُبَّة شَرْحِي لرسالة ابن أبي زيد في أربعة أسفار، رَفَعَهُ للخليفة من نَسْخِهِ".
ويُظاهر ما سُقْناه عن ابن قنفذ ما ذكره ابن الشماع عنه: "ومن فضائله ملازمتُه لقراءة العلم بمجلسه سَفَراً وحَضَرا وتواضعُه وجلوسُه على الحصير حين قراءتِه للحديث النبوي، وشاهدتُ ذلك منه رحمه الله أيام حضوري مع الوالد؛ وكانت تصدُرُ عنه حين القراءة نكتٌ تدل على جودة فهمِه وقوةِ ذهنِه، وكان هو الذي يستدعي الوالد في كثير الأوقات للقراءة، ولاسيما حين يَرد عليه من يَرِدُ من فحول العلم من الأندلس والمغرب، وكان مولعا بتمييز الرجال، وكان يعترف للوالد بأنه أحرز قصب السبق". ووالد ابن الشماع المذكور هو القاضي أبو العباس أحمد الشماع الهنتاتي (ت 833 هـ)، وقد ألف كتاب "مطالع التمام ونصائح الأنام ومنجاة الخواص والعوام" بناء على مسألة أحيلت للنظر بين يدي أبي فارس في مجلسه، وهي مسألة العقوبة بالمال. وخاطبه في الكتاب بقصيدة طويلة تخلص فيها بعد المدح إلى القول: