الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: المقارنة بين تقييدين عن ابن عرفة:
تفسير البسيلي وتفسير أبي القاسم الشريف السلاوي (بين تقييدي البسيلي والسلاوي)
يظهر بالمقارنة البسيطة تهافت القول بأن واحدا من مقيدات البسيلي والأبي والسلاوي قد جمع تفسير ابن عرفة، دليله أنك تجد في بعضها ما لا تجده في الآخر، فعند قوله تعالى:(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)، نجد السلاوي يبحث في عدد السماوت، وهل تقوم الآية دليلا على المشهَّر منْ أنها سبع، ثم يحكي عقيبه الخلاف، مستشهدا بقيل الفلاسفة وبطليموس، ثم يسوق الحكاية التالية:"ويحكى عن شيخ يقال له ابن عبد القادر، كان قرأ على الشيخ ابن الدراس الطبيب، أنه اجتمع مع الفقهاء عند السلطان المستنصر، فبحثوا ثم في التشاؤم بعدد السبع، وأنه مستقبح مرجوح، فبحث هو على أنه مستحسن، وألف فيه كتابا وقال في جملة احتجاجه أن السموات سبع"؛ ثم ينقل السلاوي عن ابن عرفة أنه أعدل الأقوال.
وقد أضرب البسيلي صفحا عن ذكر كل هذا، وأوجز ما أورد فيه عن ابن عرفة بقوله:"وفي كتب الهيئة في عدد الأفلاك خلاف". ولعل هذا الاقتضاب مئنة فقه البسيلي
وإدراكه أن الخوض في مثل ما ذكر، ليس من التفسير في شيء، ويعفيه من عدم ذكره أنه لم يلتزم بنقل كلام ابن عرفة برمته، ولا أخلى نفسه من عهدة التصرف فيه، والزيادة عليه.
وقد يدع البسيلي التنكيت على آية ما، فيما أن السلاوي يثبت ما لابن عرفة عليها من الكلام، مثاله ما أورده أبو القاسم على قوله تعالى:(وأنزلنا من السماء ماء بقدر)،: "قال [ابن عرفة]: فيه حجة للقول بأن المياه كلها من السماء، وقال الإمام فخر الدين: قال بعضهم: المراد السحاب، وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار، ومن البحار إلى السماء، حتى صارت عذبة بسبب ذلك التصعيد، فائتلفت وتكاثفت، ثم أنزلها الله على قدر الحاجة إليها. قال الفخر ابن الخطيب: واعلم أن هذا إنما ينتحله من ينكر الفاعل المختار؛ قال ابن عرفة: يريد به الفلاسفة. قال: وهذا لا يصح نسبته للفلاسفة، فإن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في تفسيره هذا القول بعينه؛ قال: إن جميع فضلات الأرض يخرج إلى البحر، وتجتمع فيه وتصعد بخارا
…
إلى آخره. وسكت عنه ولم يعزه للفلاسفة، وظاهره أنه عنده صواب، وهو من عادته التشنيع عليهم. وحكى ابن رشد في كتاب السواد والأنهار في سماع أشهب، في ذلك ثلاثة أقوال. وأما الأنهار التي في الجنة، فسيحان بالهند، وجيحان، ويقال: سيحون وجيحون، والدجلة والنيل والفرات، فسيحان بالهند، وجيحان ببلخ، والدجلة والفرات بالعراق، والنيل بمصر".
وما سقناه لا ذكر له عند البسيلي لا في "التقييد الكبير" ولا في اختصاره.
وقد يذكر البسيلي والسلاوي عند إيراد الآية ما لا يذكره كل منهما منفردا، فيزيد أحدهما على الآخر بتفصيل أو زيادة.
فعند قوله تعالى: (وإنا على ذهاب به لقادرون)، يرى البسيلي أن "الآية دالة على تعلق القدرة بالعدم الإضافي"؛ وهذ كل كلامه على الآية، فيما أن السلاوي يأتى بكلام أئمة التفسير على الآية -ابن العربي والزمخشري-، مطرزا له بانتقادات ابن عرفة، مردفا له بحكاية عن أحمد بن حنبل، لصيقة الدلالة بالآية.
وليس يغضي من قيمة تفسير البسيلي الإقرار بأن كلام الشريف أقوم بالمعنى وأوعى في النقل، وأخلص في التوجيه؛ وهذا سياق كلامهما عن قوله تعالى:(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب)، ليتبدى لك ما أسلفته. قال البسيلي:"نسب الإنشاء إلى الماء، وإن شاركه التراب؛ لأن الماء هو الجزء المكمل". ويورد الشريف عن ابن عرفة ما يشفي الغلة ويوضح المعنى فيقول: "فإن قلت: إن السبب في خروج النبات التراب والأرض والماء، فلم أسند إنشاءه في جميع آيات القرآن إلى الماء خاصة دون ما عداه؟. فأجاب: بأنه إشارة إلى إبطال مذهب الطبائعية ومن تبعهم، وتنبيه على أن جميع الكائنات إنما هي بقدرة الله تعالى، لأنه لو أسند ظهور النباتات إلى التراب والأرض، لكان فيه إبهاما ودليلا للطبائعية، لأن الأراضي مختلفة بالجودة والرداءة والتوسط، والنبات لاختلف الطعم والروائح والألوان، فكأن يقول الطبائعي: هذا الاختلاف في النبات لاختلاف الأراضي، فأسند ظهور النبات إلى المطر المنزل من السماء، وهو متحد في اللون والطعم والريح، فدل أن ذلك الاختلاف في النبات لا لسبب ولا لطبع ولا طبيعة، بل بقدرة الله تعالى وإرادته، ولو يشاء أن ينبت تلك الأشياء بغير مطر لأنبتها، ولو شاء أن ينبتها في غير تراب لأنبتها ولكنه أجراها على الأمور العادية المألوفة، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وهذا ذكره الناس في كتبهم؛ قال الضرير في أرجوزته:
وَرُدَّ قولُ الطَّبَعِيِّ الجاحدِ
…
بقوله (تُسْقى بماء واحد)
وقد انفرد البسيلي في هذا الموضع ببيان أن الآية اشتملت على العلل الأربعة: المادية وهو الماء؛ والصورية، وهو اختلاف الأنواع؛ والغائية وهو الأكل؛ والفاعل وهو الله تعالى".
وسيظهر من خلال هذا الجدول الذي يبين الآيات التي تكلم عليها كل من المفسِّريْن في سورة المومنون، أن ما يورده السلاوي على الآية أغزر مادة وأوفى نقلا:
نتائج:
نستخلص بادي الرأي من هذا الجرد، أن السلاوي أكثر استيفاء للكلام على الآية، إذ قد يطول ما يورده عنها، ففي حين أن نكت البسيلي على مجمل سورة المومنون في صفحات كبيرة (552 - 557، بإدخال الغاية)، بلغت عند السلاوي 11 صفحة متوسطة بخط دقيق (مج 3: 1 - 12)، وهي تستوعب ثلث السورة فقط؛ إذ أول السورة وآخرها
مبتور، والقطعة المتضمنة لتفسير السورة تبتدئ بقوله تعالى:(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)، وتنتهي بقوله تعالى:(وأكثرهم للحق كارهون).
ثم إن تفسير السلاوي، صورة خالصة عن مجلس ابن عرفة، ينقل فيها الشريف كلامه ومناقشات تلاميذه، فإن كان الكلام للشيخ سماه، أو رمز له بحرف العين، وإن كان النقل سؤالا من لدن حاضر، أورده على شاكلة "قيل لابن عرفة"، فإن أجاب أثبت الجواب على طريقة الفنقلة. وقد يعتور النكتة أسئلة شتى، فيثبتها على الولاء، دون أن يتدخل بالزيادة أو الحذف، مثاله عند قوله تعالى:(وَنجِّنِي ومَن معي من المومنين): (قال ابن ع: في هذا إشارة إلى ما ورد في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: "أنهلك وفيما الصالحون؟. فقال: نعم؛ إذا كثر الخبث". فكأن نوحا عليه السلام استشعر هذا فاحترز منه بهذا الدعاء. قيل لابن ع: هلاّ قال: فنجني ومن اتبعني من المومنين؟، فيكون مقابلا لما تقدم، فقال: أعرض عن مقالتهم، ولم يلتفت إليها بالكلية وهو الأنسب في العدو مع عدوه الذي لا يأبه به".
ولا حضور لذاتيته خلال التفسير، فهو لا يسمي نفسه حتى، ولا يذكر شيئا من أمور دراسته أو أسرته، ولا ذكر عنده لحكايات موضوعية إلا ما ذكره الشيخ؛ وقد يقتصر تدخله في النص على تعقيب بسيط لا تجده إلا لماما، فمن هذه المواضع النادرة التي تدخل فيها بالزيادة قوله عند قوله تعالى:(قالوا أنومن لك واتبعك الأرذلون)، -على قول من قال إن المقصود الحاكة! -:"وحكى بعض الطلبة أنه رأى في تاريخ الأندلس أن القاضي ابن السليم، بلغه عن شاهد أنه حائك، فرد شهادته. قال ابن ع: ولا ينبغي هذا في زماننا، وهي عندنا الآن من أشرف الصنائع وأحسنها. قلت: وهذا نص على أن الحاكة هم الحريريون. قال الزمخشري: وقيل: الأرذلون غوغاء الناس. قال ابن ع: ولهذا قال بعضهم فيهم، هم الذين إذا اجتمعوا لم يمنعوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا. قلت: ونقل عن القاضي ابن عبد السلام، أنه أرسل إليه الأمير عمرو في تقديم أمين على الحجامين، فقرأ الآية، وقال: قيل: هم الحاكة والحجامون". وتعليقاته على عزتها
عند التصفح وجيزة لا تطغى على طبيعة النص التفسيري لابن عرفة، وهي مميزة غالبا بقوله "قلت"؛ مثال ذلك عند قوله تعالى:(فذرهم في غمرتهم)، وإليك سوق الكلام برمته:"قال ابن عطية" هذه موادعة منسوخة بآية السيف. قال ابن ع: انظر هذا فإن ابن عطية كثيرا ما يقوله وليس هو كذلك هنا، إذ لا يُحتاج إلى النسخ إلا عند الضرورة، ولنا أن نقول: معنى هذه الآية: "لا يهمك أمرهم". فيكون المراد بالترك، تركه التأسف عليهم والتحسر على كفرهم، لا أنه أمر بترك قتالهم. قلت: وعلى هذا يجيء من باب تعارض النسخ والتخصيص، فالتخصيص أولى".
ولم يقتصر الشريف السلاوي على نقل كلام ابن عرفة، بل إنه حكى سكوته أيضا، ولم أر أدق من هذا في نقل صورة مجالس الدرس، مثاله أنه قال:"قيل لابن ع: إن المعذبين في قبورهم أحياء. فسكت ولم يجب! ". وحين يناقش ابن عرفة طلبته على سبيل السجال، كان السلاوي يثبت ذلك أيضا؛ مثاله قوله: "قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين)، وقال قبله:(كذبت قوم نوح)؛ فأجيب بوجهين:
- الأول: قال ابن ع: عادتهم يجيبون بأن عادا صار علما على قومه بخلاف قوم نوح.
- الثاني: قال بعض أعرف الطلبة -طلبة ابن ع-: وذلك أن قوم نوح كانوا كثيرين متفرقين؛ لأنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض كافة، فلذلك قال قوم نوح، بخلاف غيره من الرسل. ولم يرضه ابن ع".
وحاصل الأمر أن السلاوي التزم بنقل صورة أمينة عن مجالس التفسير لدى الشيخ، ولو بقيت لنا مقدمة روايته، لربما كنا نجده أفصح عن هذا الأمر دون مواربة.
والبسيلي حين ينقل ابن عرفة لا يلتزم تسميته في كل حين، ولا التخليص في النقل عنه، فتراه يذكر قيله مرة يصدِّره بالنسبة (الإمام، ابن عرفة، شيخنا
…
)، وتراه أخرى
يذكر فحوى كلامه فحسب، كأن يقول: ورده ابن عرفة، أو تعقبه، وقد يسكت عن نسبة الكلام إليه، وتجده عند الأبي أو السلاوي معزوا إليه. أما السلاوي فلا يريم عن نهجه في الإتيان بكلام ابن عرفة بنصه عقيب الآية، ولا يتخلف عن هذا الصنيع إلا حين يورد أصل كلام مفسِّر سيتعقبه ابن عرفة، فيورده ثم يردفه بما قاله الشيخ في التنكيت عليه؛ فمما أخلص النقل فيه عن ابن عرفة، ما أورده عند قوله تعالى:(والشعراء يتبعهم الغاوون): "نقل ابن عرفة هنا كلام ابن العربي وقصة الشعراء مع عمر بن عبد العزيز، واستوفى جميع شعرهم، وما أجابهم به؛ ثم قال: الظاهر أن في الشعر قبيحا وحسنا. قال: واختلفوا فيمن قذف فيه أحدا، هل يُحد بذلك أم لا؛ بناء على أنه قال ما لا يفعل أو لم يقل. قيل له: قد قال بعضهم: الدليل على ذمه مقدمتان ونتيجة؛ وهو أن الشاعر يقول ما لا يفعل عملا بهذه الآية؛ وكل من يقول ما لا يفعل ممقوت، عملا بقوله تعالى: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، فالشاعر ممقوت. قال ابن عرفة: نمنع أن كل شاعر يقول ما لا يفعل؛ لأنهم نصوا على أن بعضهم لا يقول إلا ما يفعل. قال: وقال المبرد في أول "الكامل"، عن عمر رضى الله عنه أنه قال: تعلموا العوم، والرمي بالنبل، واحفظوا من الشعر ما يجمل، وخير خصال النساء المغزل. قال ابن ع: ولفظ الشعراء عندي عام لوجهين: الأول الألف واللام، والثاني الاستثناء منه، والعام إذا استثني منه كان ذلك دليلا على عمومه فيما بقي".
ومما قدم فيه السلاوى كلام المفسرين على كلام ابن عرفة، باعتبار هذا تحشية على ذاك ما أورده عند قوله تعالى:(ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون): "قال ابن الخطيب (الرازي): إن قلت: إذا جوزوا الكذب على المنزِل، فكذلك يجوزوه على الكتاب الذي تكتبه الحفظة وهي الصحف. وأجاب بجواب حسن حاصله أن قال: يفعل الله ما يشاء على أنه لا يبعد أن يكون ذلك الكتاب مصلحة للمكلفين من الملائكة. قال ابن عرفة: وحاصله أن الشيخ عز الدين ذكر أن الأحكام قسمان: منها ما علمنا تعليله، ومنها ما لم ندرك ذلك منه، وهي التعبدية، وهذه
التعبدية قال عز الدين: اختلفوا فيها فقيل: إنها لها تعاليل استأثر الله بعلمها لم ندركها نحن. وقيل: إنها لا تعليل لها، ولذلك كانت تعبدية، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال ابن عرفة: والصحيح عندي أن يقال في الجواب عن السؤال المذكور أن الصحف إذا ظهرت يوم القيامة، وخالفوا فيها، تقوم عليهم الشهادة على صحة مكتوبها وصدوره منهم؛ قال تعالى:(يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون). قال: وقوله: (ولدينا كتاب ينطق بالحق)، هو عندي من مجاز الإسناد".