الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيثُ قولُه إِن العبدَ يخلُق أفعالَه، فلذلك قال "إلا بإرادته"، ولم يقلْ:"إلا بقدرته"".
هـ - عنايته بالمنطق وتطبيقاته على الآي القرآنية:
لم يعزب عن ذهن الرصاع وهو يأخذ عن البسيلي تضلعه في فنون منها المنطق، ولعل هذا الأمر هو الداعي لقوله "لازمته شهورا في قراءة المنطق وغيره". وهو يقول في موضع آخر من "فهرسته" "ينبغي في حق الطالب أن يأخذ العلم من أصله، وصاحب حقيق العلم المشتهر به هو الأحق بالأخذ عنه، لأنه أقعد به، لأن رب الدابة أولى بمقدمها، وصاحب الدار أولى بالإمامة فيها، وسمعت بعض مشايخنا يذكر في مثل ذلك مثلا عاميا أن ألذ ما تاكل الهريسة في حانوت السفاج، وقد كان أهل الطلب والرواية يرحلون لمن اختص بالعلم للقراءة عليه لأنه أقعد بذلك. وقد كانت الأوائل من العلماء رحمهم الله كل عالم في علم لا يخلط معه غيره تحقيقا لأصول ذلك العلم وبيانا لاصطلاحهم
…
".
وعلو كعب البسيلي يجد تفسيره في أخذه عن ابن عرفة، الذي "لو لم يكن ضليعا في المنطق، متمرسا بأساليب الجدل بين الفرق، لما ألف فيه مختصره الوجيز المحكم، وأنتم تعلمون أن المنطق في الفلسفة القديمة، هو قطبها الهادي وفلكها الدائرة حوله كواكبها".
وأظن أن البسيلي، على ما تشهد له ترجمته به من إخلاص للنهج العلمي لشيخه ابن عرفة، وعكوفه على كتبه بالتلخيص والشرح والتقييد، لم يخرم هذه القاعدة إلا مرة واحدة، حين عن له أن يشرح "جمل الخونجي" في المنطق، متجاهلا كتاب شيخه، فيؤلف كتابا مستقلا، لا يحاذي كتاب شيخه، ولا يشرحه، ولا يختصره، فكأنه استشعر في هذا الفن استقلاله العلمي التام، وسلم له ذلك طلبة العلم، فقصدوه لدراسته عليه.
ولئن كان لي رأي في إدارة مصطلحات المنطق وفروضاته في تفسير كتاب الله جل وعز، يجعلني أذهب مذهب من يرى أن نحو العرب منطق كاف يغني عن التلمظ
بعبارات تحصيل حاصلها يقع لذوي الأفهام السليمة والأذواق النقية والشفوف الروحاني الإيماني، من دون كد في طلب مفاهيم أكثرها يمجه الطبع، ويوقر به السمع. مع ذلك فإني أرى أن البسيلي كان جريئا في عرض المقولات المنطقية على آي الكتاب، وما ساقه منها أشبه بتطبيقات عملية لا يقدم عليها إلا من أوتي بسطة في هذا العلم. وهذه أمثلة لتطبيقاته المنطقية:
- المثال الأول: عند قوله تعالى: (وَإِن تُومِنُوْا وَتَتَقُوا يُوتِكُم أجُورَكمْ وَلَا يَسْألْكُمُ أَمْوَالَكُمُ)؛ حيث استعرض ما في الآية على اصطلاح المناطقة، فقال:"هنا شرطيتان لما تتقرر في علم المنطق، من أن الشرطيةَ تتعدد بتعدد أجزاء تاليها، ومفهوم الأولى من الشرطيتين معمل؛ لأنهم إذا لم يومنوا ويتقوا لا أجر لهم؛ والثانية لا مفهوم لها، لأنهم إذا لم يومنوا لا يسألون أموالهم".
- المثال الثاني: قوله عند قوله جل وعز: (وَمَنْ يَتَوَل الله): "هو قياس شرطي اقتراني، إحدى مقدماته مضمرة؛ التقدير: ومن يتول الله ورسوله فهو من حزب الله، وكل من هو من حزب الله غالب، فمن يتول الله ورسوله غالب، وعلى هذا التقدير لا إشكال، فإن المرتب على هذا الشرط ثابت في نفس الأمر".
- المثال الثالث: ما قرره على قوله تعالى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله)؛ حيث قال: "هذا من قياس الضمير، وهو مركب من مقدمتين: إحداهما مذكورة، والأخرى مضمرة. التقدير: القرآن ليس من عند غير الله، وكل ما ليس من عند غير الله، هو من عند الله. بيان الصغرى بما ذكر في الآية، وبيان الكبرى بأنه لا ثالث".
- المثال الرابع: وقع له عند قوله تعالى: (قل لوْ كَنتُمْ في بُيُوتِكُمْ)؛ وذلك قوله: "الآيةُ إمَّا تكذيبٌ للقضية المتقدمة، بِصِدْق نقيضِها، وإمّا إبطالٌ لإحدى مقدِّمَتَي
القياس، وهي الكبرى. فالمعنى على الأول أنهم قالوا: لوْ كان لنا من الأمر شيءٌ لَمَا خرجْنا، ولو لم نخرجْ ما قُتِلْنا. فأُبْطِل ذلك كلُّه بأَنْ قيل لهم: بل لو كان لكم من الأمر شيء لخرجتم. والمعنى على الثاني -وهو منعُ الكبرى وإبطالُها- وهي: "كلما لم نخرُجْ لم نُقتَلْ"، فصدق الأخص من نقيضها؛ لأن كونَهم في بيوتهم، أخصُّ مِن قولهم (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ)، فإذا رُتِّبَ الموتُ على كونهم في بيوتهم، فأحْرَى أن يترتَّبَ على عدمِ خروجهم".
وقد يستطرد عند التفسير إلى عرض مبادئ علم المنطق، كما وقع له في مواضع متعددة؛ منها عند قوله تعالى:(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ)، حيث استفاد من الآية فائدة أصلية، وهي إفادة التعريف بالخاصة، ثم قال:"وهو الصحيحُ في علم المنطق عندهم -خلافا لنصير الدين السمرقندي- فإنه مَنَع التعريفَ بالمفردِ الجنس وحدَه أو الخاصَّةِ وحدها، قائلا: "لم يُعرِّف المتقدمون بذلك، بل من المركَّب من الجنس والخاصة"، واختاره الشيرازي في شرحِه "أصْلِي بنِ الحاجب". وجميعُ المناطقة على خلافه، لذِكْرِهم في المعرفات: الرّسم الناقصُ ما كان بالخاصَّة فقط، أو بها وبالجنس".
والبسيلي عند عرضه معنى الآي على مقتضى قواعد المنطق، يصادف إشكالات لم يُخْل كتابه من ذكرها، فمنها عند تنكيته على قوله تعالى:(إِنْ يُّعْفَ عَن طَآئفَة)؛ حيث قال: "في فهمِها على قاعدةِ المنطق إشْكالٌ، وهو أن القضيةَ الشرطيةَ المتصلةَ يلزمُهَا منفصلةٌ مانعةُ الجمع، مِنْ عينِ مُقَدَّمِها ونقيضِ تالِيهَا، ومنفصلةٌ مانعةُ الخلُوِّ من نقيض مقدَّمِها وعينِ تاليها متعاكستين عليها، وتقريرُ ذلك هنا أن اللازم: "إما أن يُعْفى عن طائفةٍ منكم، وإمّا ألا تعذبَ طائفةٌ"، ولا عِنَادَ بين هذين، فليست مانعةَ جمع". ثم نقل عن ابن عرفة قوله: "وأجابني الآبلي وبعض طلبته، بأن ذلك إنما يلزم في القضايا العقلية، وأما الشرعية الجُعْلية فلا. ويكون اللزومُ هنا اتفاقيا، مثل: "كلما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا".
ويحتاج البسيلي في تقريره للتطبيقات المنطقية، إلى تذكير القارئ بين الفينة والأخرى بمقولات هذا العلم، وما قرره أهله، فتتناثر طي كتابه مصطلحات المنطق وقواعده، من دون أن تخطئها العين، لكثرتها ووضوحها؛ فمن ذلك، قوله في مواضع مختلفة:
- "تقرر في علم المنطق في العكوسات أن هذا من باب استلزام الأعم أمرا لا من باب نفي الأعم، فهو نفي لاستلزام الأعم أمرا، ولا يلزم من عدم استلزامه إياه عدم استلزامه الأخص".
- "
…
يرد بأنَّ المنطقيين ذكروا الفرق بين الحكم على الموضوع من حيث ذاته، والحكم عليه من حيث صفته".
- "وأَوْرَدَ على ذلك قولَ المنطقيين أن السالبة الدائمة تنعكس كنفسها".
- "كقول المنطقيين في الضرورة إنها تشمل الأزلية والزمانية".
- "خلاف قول المنطقيين أن التعجب لازم للإنسان بغير وسط، فلا يقال: تعجب لأجل كذا".
- "يؤخذُ من الآية أيضاً إفادةُ الرسمِ التعريفَ -كما يقولُه المناطقة-".
- "في جملةِ أَحكام القَضايا عندَ المنَاطقَةِ، مِنْ ضرورةٍ وإِمكانٍ وإِطْلاقٍ ودوامٍ وغيرِهَا".
وقد صرح المؤلف بمصادره من كتب المنطق، ونقل عنها، وهي مصادر أصيلة طائرة الصيت عند أهل الفن؛ فمنها:
- "الجمل في المنطق" لأفضل الدين أبي عبد الله محمد الخونجي (ت 646 هـ)؛ قال فيه ابن خلدون: "على كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد، وله في هذه الصناعة
…
مختصر "الجمل"، في قدر أربعة أوراق، أخذ بمجامع الفن وأصوله، فتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به، وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن"؛ وقد نقل البسيلي عنه في مواضع.
- "شرح جمل الخونجي" لابن واصل: والمقصود محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم، ابن واصل الحموي، جمال الدين (ت 697 هـ)، واسم شرحه "شرح ما استغلق من ألفاظ كتاب الجمل في المنطق". نقل عنه الموً لف في "التقييد الكبير"، والكتاب مخطوط، منه نسخة مبتورة الأخير، بخط مغربي، في دار الكتب الناصرية، رقم 1570، أول مجموع.
- "المختصر المنطقي" لابن عرفة؛ تقدم التعريف به. نقل البسيلي عنه مرات.
…
وتوظيفه لمعطيات العلوم الطبيعية:
قديما استشعر الفخر الرازي أن استغراقه في الاهتمام بالآيات الكونية وذكرِ نُبَذٍ من علم الهيئة والحساب والفلك وغيرها، قد يدفع نقّاده إلى وصفه بالتزيد والإكثار من ذلك؛ فاعتذر في تفسيره بقوله: "وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد، فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه:
- الأول: أن الله تعالى ملأ من كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار
…
وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها.
- الثاني: أنه تعالى قال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)، فهو حثٌّ على التأمل في أنه كيف بناها، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها.
- الثالث: أنه تعالى قال: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم إنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله:(وفى أنفسكم أفلا تبصرون)، فما كان أعلى شأنا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها.
- الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض
…
ولو كان ذلك ممنوعا لما فعل.
- الخامس:
…
أن كل من كان وقوفه على دقائق كتابٍ ولطائفه أكثر، كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل".
وإذا علمنا أن تفسير الرازي كان من مآخذ البسيلي الأولى، فهمنا أنه يشاطر الفخر أن إيراد الفوائد العلمية واللطائف الحكمية، ليس على سبيل التكثر، وإنما هي ضرورة دعته إليها طبيعة تفسير كتاب الله. وقد أورد في تفسيره جملا من مبادئ العلوم الكونية، استعان بها على إصابة المعنى المراد، فاستفاد من الهندسة والرياضيات وعلم الفلك والتوقيت.
فمن استغلاله لمبادئ علم الهندسة، استدلاله عند قوله الله تعالى:(عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ)، على أن ما حل بهم من العذاب لا ينتهي؛ لأنه عبر بالدائرة، وهي كما تقرر في الهندسة لا طرف لها ولا آخر.
وقد يفزع للاستدلال على معنى من المعاني بمقولات رياضية، مثلما فعل عند قوله تعالى:(وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ)؛ حيث قرر أن الذي أَصَاب قومَ نوح الغَرَقُ، والذِي أَصَابَ قوْمَ هودٍ الصَّيْحَةُ، والذي أَصابَ قومَ صالح الهلَاكُ. ثم ساق قول أقليدس:"الأشياءُ المساوية لشيءٍ واحدٍ مُتساوية"، واستشكلً ذلك بأن هذه متَبَاينةٌ، فكيْفَ يُصيبُهم مثْلُها؟. ثم أجاب أَنَّ المُماثَلَةَ في القدْرِ المشتَرَكِ بيْنهما، وهو مُطْلَقُ الإِهلاكِ.
ومما يدل على إلمامه بالرياضيات، إحالته على كتاب في الفن شهير، وهو "رفع الحجاب عن أعمال الحساب" لأبي العباس ابن البناء العددي المراكشي؛ والذي وصفه ابن خلدون بأنه مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل؛ فقد قال البسيلي عند قوله جل وعز:(وما جعلنا عدتهم إلا فتنة): "وفرق ابن البناء في "رفع الحجاب" بين العدد والعدة بأوجه؛ فانظره".
وهو يستفيد من علم الفلك أيضا، مثاله قوله بمناسبة تفسير قوله تعالى:(تُولِجُ الليلَ في اِلنَّهارِ): "إن قلت: في الآية رد على قول من قال إن وسط الأرض يستوي ليله ونهاره دائما، وأن بعض المواضع يدوم نهاره، وبعضها يدوم ليلها، فالجواب من وجهين:
- الأول: أن الآية مطلقة لا عامة. ويرد عليه أن الإطلاق في الإيلاج لا في لفظ الليل والنهار لتعريفهما بـ "أل" فيعم.
- الثاني: أن المقصود من الآية ذكر حال المعمور من الأرض دون غيره، ويرد عليه أن وسط الأرض وهو موضع خط الاستواء معمور أيضا، وأما ما بعده من جهة الجنوب، فقال بطليموس:"المعمور منه قدر ست عشرة درجة من الفلك".