الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في الحكم الشرعي
والحكم في اللغة: قد جاء بمعنى المنع والصرف، يقال: حكمت الرجل عن إرادته إذا صرفته عنه، ومنه سمي الرجل حكيما، لأنه يمنع نفسه عن ما لا ينبغي، ومنه الحديدة التي في اللجام، لأنها تمنع الدابة عن العدو والجموح، وبمعنى الإحكام والإتقان، ومنه الحكيم في صفاته تعالى، وهو فعيل بمعنى مفعل. فيكون الفعل حكما يحتمل أن يكون مأخوذا من الأول، لأنه شرع زاجرا وصارفا عما لا ينبغي من الأفعال. قال الله تعالى:{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} . ويحتمل أن يكون مأخوذا من الثاني، لأنه يدل على إحكام وإتقان شارعه، حيث خص كل فعل بما ينبغي تخصيصه به.
[تعريف الحكم الشرعي في الاصطلاح]
واختلفوا فيه في العرف الشرعي. فقال بعضهم: إنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين.
وقيل: مكان المكلفين: العباد، وهما غير مانعين، لأن أخبار الشارع "غير" أفعال المكلفين بكونه خالقا لها كقوله تعالى:{والله خلقكم وما تعملون} ، أو كونها مخلوقة لهم، كما دلت عليه آيات القدر وغير ذلك من أوصاف الفعل، وكقوله عليه السلام:"صلة الرحم تزيد في العمر"،
و "صلاة الضحى تزيد في الرزق" خطاب منه متعلق بأفعالهم مع أنه ليس حكما شرعيا.
ويخص الثاني بأنه غير مانع من وجه آخر، وهو أنه يقتضى أن يكون الخطاب المتعلق بأفعال الصبيان والمجانين حكما وليس كذلك فإن فعل غير المكلف لا يوصف بحكم من أحكام الشرع كفعل البهيمة.
وقيل: إنه خطاب الشارع المفيد شرعية. وهو غير مانع أيضا، لأنه يقتضى أن ما ثبت من صفات الله تعالى بخطاب الشارع الذي لا يدل العقل عليه نحو السمع والبصر عند من يجعلهما عقليتين، ونحو الاستواء والنزول
وغيرهما من الصفات السمعية يكون حكما شرعيا وليس كذلك وفاقا
وقال الأكثرون من أصحابنا: إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء، أو التخيير، "أو الوضع".
ولابد من شرح قيوده"-
فالأول: / (8/أ) الخطاب، قيل: إنه عبارة عن الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئا.
واعترض عليه: بأنه غير مانع، إذ يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد المتكلم به إفهام المستمع مع أنه يفهم منه شيئا وهو ليس بخطاب.
ثم قال المعترض: والحق أن يقال: إنه لفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.
وقال: اللفظ المتواضع عليه: احتراز: ما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة، والمتواضع عليه: احتراز: عما ورد على الحد الأول.
وقولنا: المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه: احتراز: عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه، فقول: المعترض: المتواضع عليه: احتراز: عما ورد على الحد الأول: مؤذن منه بأنه أراد بقوله: في الاعتراض: الكلام الذي لم يقصد به المتكلم إفهام المستمع عدم القصد لعدم الوضع. وحينئذ يكون الاعتراض ساقطا. لأن الكلام مذكور في التعريف وهو يمنع من دخول المهمل فيه على اصطلاح النحويين والأصوليين جميعا، إذ المهمل ليس بكلام عند أحد منهم.
نعم يرد عليه الكلام الذي لم يقصد المتكلم به إفهام المستمع لا لعدم الوضع، بل إما لعدم قصده المتكلم به كالصادر من النائم والمغمى عليه، أو فإن وجد لكن لم يقصد به إفهام المستمع كما إذا شافه بكلامه جمادا أو حيوانا غير ناطق فإن السامع يفهم منه شيئا لو سمع مع أنه ليس بخطاب.
لا يقال: لا نسلم أنه ليس بخطاب في الصورة الثانية. ولهذا يقال: خطاب الجماد وخطاب العربي بالزنجية قبيح، فلولا أنه خطاب وإلا لما حسن ذلك. لأنا نقول: تسميته خطابا مجاز لمشابهته الخطاب صورة، بديل أن الخطاب يستدعى مخاطبا ويشترط فيه كونه فاهما وفاقا.
وأما التعريف الثاني: فيرد عليه أن التكلم بالمجاز لا يكون خطابا، إن أراد بالوضع ما يخص الحقيقة، وأن أراد به ما يعم الحقيقة والمجاز، فلا نسلم أن إطلاق لفظ الوضع عليها بالاشتراك المعنوي حتى يصح إرادتهما منه، بل بالاشتراك اللفظي. وحينئذ لا يصح إرادتهما منه، ولئن سلمنا ذلك: لكن يقتضى أن يكون التكلم به لا يكون خطابا عند من لا يعتبر الوضع فيه، لكنه باطل. إذ التكلم بالمجاز خطاب سواء اعتبر الوضع فيه أو لم يعتبر. وإذا كان في اعتبار الوضع هذا النوع/ (8/ب) من الأشكال فالأولى أن يحذف. ويقال: إنه الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئا مع قصد المتكلم به إفهامه، ولا يرد عليه شيء مما ورد على التعريفين المذكورين.
وقولنا: المتعلق بأفعال المكلفين: احترزنا به عن أفعال الصبيان والمجانين وسائر الحيوانات، إذ لا يتعلق بأفعالهما حكم شرعي، لا يقال: لا نسلم أنه لا يتعلق بأفعالهم حكم شرعي. إذا يتعلق بإتلاف الصبي والمجنون وسائر الحيوانات الضمان وهو حكم شرعي، وكذلك يتعلق بدلوك الشمس وجوب الصلاة، وأيضا: الصبي مأمور بالصوم والصلاة على طريق الاستحباب في سن التمييز لقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة لسبع"
الحديث والاستحباب حكم شرعي، وإذا كان كذلك كان الحد غير جامع فيكون باطلا.
لأنا نقول: الدليل على أنه لا يتعلق بأفعالهم حكم شرعي الإجماع، إذ جمعت الأمة على أن شرط التكليف العقل والبلوغ وإذا انتفى التكليف عنهم لفق شرطه انتفى الحكم الشرعي عن أفعالهم. والمعنى من تعلق الضمان بإتلاف الصبي، أن الولي مأمور بإخراج الضمان من ماله عند إتلافه. وهو الجواب عن تعلق الضمان بإتلاف المجنون والبهائم، والمعنى من وجوب الصلاة بالدلوك أن الرجل مكلف بالصلاة عند مشاهدته أو علمه أو ظنه به فيرجع إلى أنه يتعلق بفعل المكلف. ولا نسلم أن الصبي مأمور بالصوم والصلاة. وهذا لأن الأمر بالشيء لا يكون أمرا بذلك الشيء.
سلمنا ذلك: لكن ليس ذلك على حقيقته بل هو على وجه التأديب كي لا يصير الترك عادة له.
وإنما قلنا: بالاقتضاء أو التخيير: ليشمل الأحكام الخمسة. وهذا لأن الاقتضاء إن كان اقتضاء فعل مع المنع من النقيض فهو الوجوب. وإن لم يكن معه فهو الندب.
وإن كان الاقتضاء اقتضاء ترك، فإن كان مع المنع من النقيض فهو الحرمة. وإن لم يكن معه فهو الكراهة، وأما التخيير فهو الإباحة.
وإنما قلنا أو بالوضع يتناول الحكم بالسببية، والشرطية، والمانعية. فإنها أحكام شرعية غير داخلة تحت الاقتضاء والتخيير، فلو لم يذكره لم يكن الحد جامعا.
فإن قلت: تعريفكم يقتضي أن يكون الحكم حادثا، وهو نقيض مقصودكم من رد الحكم إلى الخطاب، فإنكم إنما رددتموه إليه ليلزم قدمه كقدم الخطاب.
وإنما قلنا: ذلك لأن الأفعال حادثة، وتعلف الخطاب بها/ (9/أ) يتوقف على وجودها ضرورة استدعاء النسبة وجود المنتسبين، والمتوقف على
الحادث حادث فيكون الخطاب متعلقا بها حادث فيكون الحكم حادثا.
قلت: تعلق الخطاب بالفعل لا يستدعى تحققه في الخارج، يدل عليه أن اقتضاء الفعل بالقول في الشاهد والغائب يكون قبل الفعل وإلا لكان تحصيلا للحاصل بل يكفى فيه تقدير وجوده، فحكم الله محل الفعل هو قوله رفعت الحرج عن فاعله. ولو فعله، وبوجوبه أن من فعله أثبته، ومن تركه عاقبته، ومعلوم أن هذا لا يستدعى وجود المخاطب فكيف فعله.
فإن قلت: سلمنا: أنه لا يقتضى الحدوث بل يقتضى القدم لكنه باطل لوجوه:
أحدهما: أن الفعل الحادث يوصف بالحل والحرمة فيقال: الغصب حرام
وإراقة دم المرتد حلال، وما يكون وصفا للحادث يستحيل أن يكون قديما.
وثانيها: أن الحكم الشرعي معلل بالسبب الحادث كحل الوطء بالبيع والهبة والنكاح ومعلول الحادث يستحيل أن يكون قديما.
وثالثها: لو كان الحكم قديما لما جاز التصريح بحدوثه، لكنه يجوز إذ يصح أن يقال: وجب هذا بعد أن لم يكن كذلك، وحلت المرأة بعد أن لم تحل فلم يكن قديما.
الجواب عن الأول: ما تقدم وهو أن المعنى من كون الفعل حلالا هو قوله: في الأول: رفعت الحرج عن فاعله، وإنما الفعل متعلقة، وإنما أطلق عليه الحال لكونه مقولا فيه ذلك.
وعن الثاني: أن المعنى من التعليل التعريف، ويجوز أن يكون الحادث معرفا للقديم.
وعن الثالث: أنا لا نسلم أن ذلك تصريح بحدوث الحكم، بل بحدوث التعلق نحو [تعلق] الإحلال بها أو حدوث متعلق الحكم "فإن الحكم" عندنا هو ذلك القول الإزلي.
وأما الحنفية من أهل السنة فقد عرف بعضهم الحكم، بأنه عبارة عن تكوين الله الفعل على وصف حكمي. وقال: أعني به كونه حسنا أو قبيحا أو واجبا أو ندبا، وهو باطل، لأنه لا يعرف الوصف الحكمي ما لم يعرف الحكم بتعريف الحكم به دور، ثم تفسيره الوصف الحكمي بالحسن والقبح والوجوب والندب لا تفيد لأنها أنواع الحكم فتتوقف معرفتها على معرفة الحكم، فلو عرف الحكم بها لزم المحذور المذكور.
سلمنا: أنه لا دور، لكنه تطويل من غير فائدة، فإنه يكفيه أن يقول: يكون الله الفعل على وصف الوجوب والندب والحسن والقبح من غير تعرض للحكم.
والأولى: أن يقال في ذلك على أصلهم: بأنه عبارة عن تكون الفعل على وجه يكون المكلف مأذونا في فعله وتركه على السواء، أو يكون أحدهما أرجح من الآخر في نظر الشارع أو على وجه الوضع.
واحترزنا بقولنا: / (9/ب) في نظر الشارع: عن جلب المنافع ودفع الآلام التي هي عقلية، فإنه وإن ترجح فيه أحد الجانبين على الآخر لكن ليس ذلك في نظر الشارع، بل بسبب اللذة ودفع المكروه عن النفس.
والأول: الإباحة. والثاني: يتناول الأحكام الأربعة الباقية. والثالث: الحكم بالسببية والشرطية والمانعية، فالحكم عندهم هو تكوين الله الفعل على الوجه المذكور. وكون الفعل على ذلك الوصف محكوم له تعالى لا حكمه، فعلى هذا يكونون موافقينا من وجه، وهو قدم الحكم، لأن التكوين والتخليق والإيجاد وما يجرى مجراها من صفات الأفعال كلها أزلي عندهم، ومخالفينا من وجه، وهو أن الحكم عندهم عبارة عن الفعل المخصوص، وعندنا عبارة عن الخطاب المخصوص.
فإن قلت: قد أدخلت "أو" في التحديد وهي لتعليق الحكم بأحد المذكورين وذلك يقتضى الإبهام والتحديد للتوضيح وبينهما منافاة فيكون غير جائز.
قلت: مرادنا منه: أن ما وقع تكوينه على أحد وجوه الثلاثة يكون حكما، وما لا فلا، ومعلوم أن هذا لا إبهام فيه.