الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحترزنا بقولنا: "من حيث هما كذلك". عن "المتواطئ".
وبقولنا. من غير نقل- عن "المجاز" و "المنقول".
المسألة الثانية
حكم اللفظ المشترك
اختلف الناس في أن اللفظ المشترك، هل هو واجب أم لا؟
وبتقدير أن لا يكون واجبا. فهل هو ممتنع أو ممكن؟
وبتقدير أنه ممكن. فهل هو واقع أم لا؟
فهذه احتمالات أربعة بحسب الانقسام العقلي، وقد ذهب إلى كل واحدة منها طائفة منهم.
واحتج من قال: بالوجوب بوجهين:-
أحدهما: أن المعاني غير متناهية، لأن من جملتها الأعداد وهي غير متناهية، والألفاظ متناهية، لأنها مركبة من الحروف الهجائية وهي متناهية، والمركب من المتناهي متناه، فتكون الألفاظ متناهية، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك بالضرورة.
وثانيهما: أنه لابد وأن يكون في/ (31/ب) اللغات لفظ دال على مسمى الوجود لمسيس الحاجة إلى التعبير عنه والمانع زائل ظاهرا، كما هو بالنسبة إلى سائر الألفاظ، وثبت في علم الكلام أن وجد كل شيء عين ناهيته، فتكون وجودات الأشياء المختلفة بالماهية متخالفة بالماهية، فيكون اللفظ الدال عليهما مشتركا.
الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن المعاني غير متناهية، وهذا لأن حصول ما لا نهاية له في الوجود محال عندنا.
وأما قوله: الأعداد غير متناهية، فمسلم، لكن بمعنى أنه لا مرتبة من مراتبه إلا وأمكن أن يوجد بعده مرتبة أخرى، مع أن المراتب الداخلة في الوجود منه أبدا يكون متناهيا لا بمعنى أن الحاصل منه في الوجود غير متناهي فلا يلزم من كون الأعداد غير متناهية بالمعنى الذي تقدم ذكره أن تكون المعاني الموجودة غير متناهية.
سلمنا: أن المعاني غير متناهية، لكن لا نسلم أن المعاني المتضادة أو المختلفة
التي بحسبها يكون اللفظ مشتركا غير متناهية، وحينئذ لا يلزم الاشتراك، لأن أفراد النوع الواحد وإن كانت غير متناهية في الوجود الخارجي لكن يمكن أن يعبر عنها بأسرها بلفظ واحد كالعام.
سلمنا: أنها غير متناهية أيضا: لكن إنما يلزم الاشتراك إن لو يوضع اللفظ لكل واحد منها على سبيل الخصوصية، فإن تقدير أن يوضع له باعتبار قدر مشترك لا يلزم ذلك، لكن ذلك محال، لأن وضع اللفظ لما لا يتناهى على سبيل الخصوصية يستدعي تعقله على سبيل التفصيل لكن ذلك محال منا.
سلمنا: عدم إحالته، لكن لا نسلم أن الألفاظ متناهية.
قوله: لأنها مركبة من الحروف المتناهية، والمركب من المتناهي متناه.
قلنا: متى إذا كانت وجوه التركيبات متناهية، أم على الإطلاق؟
والأول: مسلم، والثاني: ممنوع.
لكن لما قلت: أن وجوه التركيبات أيضا متناهية حتى يلزم التناهي؟
سلمنا: المقدمتين، وأن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك، لكن إنما يجب وجود الاشتراك أن لو يجب أن يكون لكل معنى لفظ وهو ممنوع.
ونحن وإنما سلمنا: في هذا المقام عدم إحالة تعقل ما لا يتناهى على سبيل التفصيل، لكن لا يلزم منه وجوب أن يكون لكل معنى لفظ، بل جوازه، وهو غير مستلزم لوجوب الاشتراك.
ثم الذي يدل على أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ، هو أنا لا نجد لكثير من المعاني كأنواع الروائح والاعتمادات وكثير من الصفات أسماء/ (32/أ) مستقلة لا مشتركة ولا مفردة بعد الاستقراء والبحث التام.
وعن الثاني: أنا لا نسلم أن وجود كل شيء عين ماهيته، ودلائل مثبتيه معارض بدلائل نفاته.
سلمنا: ذلك لكن يجوز اشتراك تلك الوجودات المتخالفة في أمر واحد ويكون لفظ الوجود وما يجري مجراه دالا على تلك الوجودات باعتبار ذلك المشترك لا باعتبار خصوصياتها، وحينئذ لا يلزم الاشتراك.
وأما القائلون بامتناعه فقد احتجوا أيضا بوجهين:-
أحدهما: أن المخاطبة به إذا كانت بدون القرينة. فهو إما عبث، أو تكليفي ما لا يطاق لأنه إن لم يقصد الإفهام لزم الأول: وإن قصد لزم الثاني: وإن كانت معها قرينة فهو تطويل من غير فائدة.
ولئن سلمنا: أنه ليس تطويلا من غير فائدة، لكن القرينة قد تخفى وتظهر، وبتقدير الظهور قد تخفى وجه جلالتها على المقصود، وحينئذ يلزم المحذور المذكور وما يكون كذلك وجب أن لا يكون.
وثانيهما: أن المشترك وإن تعلق به غرض لكن مفسدته راجحة عليه
وهي الإخلال بالفهم التام وغيره مما سيأتي [و] ذلك المقصود حاصل أيضا من المفرد بإدخال كلمة الترادد عليه، وما كان منشأ للمفسدة الراجحة مع عدم مسيس الحاجة إليه وجب أن لا يصدر من الحكيم.
الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أنه إن قصد به الإفهام بدون القرينة يلزم تكليف ما لا يطاق، وإنما يلزم ذلك أن لو يكون المقصود منه إفهام واحد منهما عينا "أما إذا لم يكن المقصود ذلك بل إفهام أحدهما لا عينا" لم يلزم ذلك، بل المقصود حاصل وهو معرفة أحدهما لا بعينه، إذ المشترك يفيد ذلك بدون القرينة.
سلمان: لزوم تكليف ما لا يطاق على هذا التقدير، فلم لا يجوز أن يكون مع القرينة؟
قوله: " لأنه تطويل من غير فائدة". قلنا: لا نسلم أن يكون تطويلا، وإنما يكون كذلك لو كانت القرينة لفظية وهو غير لازم.
سلمنا: أن يكون تطويل لكن لا نسلم أنه من غير فائدة، فلعل فيه فائدة لا نطلع عليها وعدم الاطلاع على الشيء لا يدل على عدمه، على أن فيه فائدة لا تخفى عليك.
وعن الثاني: أن تلك المفسدة لا توجب العدم، بل المرجوحية فغن الإخلال بالفهم التام حصل في أسماء الأجناس والمشتقات مع أنها حاصلة.
أما لقائلون بالإمكان فقد احتجوا عليه بوجوه:-
أحدهما: أنه ممكن في نفسه، إذ لا يلزم للفرد/ (32/ب) وقوعه محال ولا من فرد عدمه، والأصل عدم لا يوجب امتناعه أو وجوبه فوجب أن يبقى ممكنا.
وثانيها: أن الوضع يتبع الغرض والتعريف على سبيل الإجمال قد يكون غرض المتكلم، إما لمضرة في التعريف التفصيلي، كما في قول أبي بكر رضي الله عنه حين سئل عن النبي عليه السلام وقت ذهابهما إلى الغار "هو رجل يهديني السبيل".
وأما لكونه مترددا بين الشيئين غير واثق بأحدهما على التعين فلا يخبر عن أحدهما بما يدل عليه على التعين لئلا يكذب ويكذب ويظهر جهله، بل يخبر عنه بما له صلاحية كل واحد منهما ليكون صادقا أيهما كان واقعا.
وأما لأن في التعريف الإجمال نوع لذة ليس في التعريف التفصيلي.
وبيانه: أن الإنسان إذا كان غافلا عن الشيء وليس له به شعور ألبته فإنه لا يتألم بسبب فقده، وإذا حصل له العلم به دفعة واحدة لم يتلذذ به أيضا: كمال اللذة، لأنه يحص له عقيب الشوق والألم، أما إذا عرفه من وجه
حصل هناك ما يوجب اللذة والألم، فإذا حصل بعد ذلك له العلم به على سبيل التفصيل حصل له كمال اللذة، إذا حصل بعد الاشتياق إليه. فثبت بهذه الوجوه أن التعريف على سبيل الإجمال قد يكون غرض المتكلم، وثبت أن الوضع يتبع الغرض فجاز أن يوضع له اللفظ.
وثالثها: أنه يجوز أن تضع إحدى القبيلتين اللفظ بمعنى، والأخرى تضع ذلك اللفظ بعينه بمعنى آخر، من غير أن نعلم الوضع الأول، ثم يشتهر الوضعان، فيكون الاشتراك واقعا بالداعية الأصلية للوضع.
ثم منهم من زعم أنه غير واقع، وأن كل ما يظن أنه مشترك فهو، إما متواطئ وحقيقة في أحدهما مجاز في الآخر. وهذا لأنه لم ينقل من العرب بالصراحة في لفظ معين أنه مشترك، بل غاية ما يعلم منهم أنهم استعملوه في معنيين مختلفين أو متضادين، لكن يمكن جعله حقيقة في القدر المشترك كما في لفظ العين، أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، كما في القرء
والجون، فوجب المصير إليه لما يأتي: أن التواطؤ والمجاز خير من الاشتراك.
ومنهم من قال: بوقوعه وهم الجماهير. واحتجوا عليه بأنا إذا سمعنا لفظ القرء والجون لم يتبادر فهمنا إلى أحد المعنيين، بل يبقى الذهن مترددا فيه إلى وجود القرينة، ولو كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، أو كان حقيقة في القدر المشترك لما كان كذلك، لأن الذهن لا يبقى مترددا/ (33/أ) عند سماع اللفظ بين الحقيقة والمجاز وإلا لما حصل الفهم من شيء من الألفاظ إلا عند وجود قرينة معينة، أما للحقيقة أو للمجاز.
وما يقال: لعل التردد حصل بسبب عرف طارئ لكثرة الاستعمال في المجاز، فهو وإن كان محتملا له "لكنه" خلاف الأصل، إذ الأصل عدم التعبير، ولأن التردد حاصل في مفهومات ألفاظ قلما يستعملها أهل العرف كما في عسعس الليل فإنا لا نفهم منه الإقبال والإدبار على التعيين إلا بقرينة فلا يجوز إحالته إلى استعمال أهل العرف.