الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
في أن القياس، هل هو جار في اللغات، أم لا
؟
اختلف العلماء فيه، فذهب القاضي أبو بكر، وابن سريج، وكثير من فقهائنا، وأهل العربية، كالمازني، وأبي علي الفارسي، وابن
جني. إلا أنه جار فيها، واختاره الإمام أيضا.
وذهب المعظم من أصحابنا: كإمام الحرمين، والغزالي، ومعظم الحنفية، وجماعة من أهل العربية إلى امتناعه.
وقبل الخوض في الحجاج لابد من تلخيص محل النزاع.
فنقول: لا خلاف في امتناعه في أسماء الأعلام، لأنها غير معقولة المعاني ولا في دائرة بدوران وصف في محالها، والقياس فرعهما، إذ لا يمكن إلحاق الفرع بالأصل إلا بعد أن يعقل في الأصل معنى هو على التسمية أو يعرف فيه صفة يدور الاسم معه وجودا وعدما فهي كالأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها.
فإن قلت: قد ساغ في العرف العام، أن يقال للشخص البالغ في علم الأحكام شافعي الوقت، ونعمان الثاني، والبالغ في علم العربية سيبويه الزمان، وليس ذلك إلا بطريق القياس وإلا لم يحصل مقصودهم، وهو المدح يذلك النوع من العلم.
قلت: لا نسلم أنه بطريق القياس. ولم لا يجوز أن يكون ذلك بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير أنه حافظ كتاب سيبويه، وعارف علم الشافعي، وأبي حنيفة رحمهما الله.
سلمنا: أنه ليس بهذا الطريق، لكن لا نسلم أنه طريق له إلا القياس.
قوله: إن لم يكن بطريق القياس، لم يحصل المقصود من المدح.
قلنا: لا نسلم. ولم لا يجوز أن يقال؟: إنهم توهموا فيه أنه إنما أطلق على الشخص المعين/ (26/ب) بإزاء ذلك العلم المخصوص، فحيث توهموا وجوده أو أرادوا أن يمدحوا الشخص المعين بوجوده أطلقوا ذلك الاسم عليه، فعلى هذا التقدير يصير اللفظ من أسماء الصفات بالعرف الطارئ، وإن كان حكما في أصله، والمراد أسماء الصفات حيث يوجد معانيها ليس من القياس في شيء على ما سيأتي.
ولا يجرى القياس أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين، وأسماء الصفات كالعالم والقادر، لأن القياس لابد فيه من أصل وفرع وهو غير متحقق فيها. إذ ليس جعل البعض أصلا والبعض الآخر فرعا أولى من العكس.
ولا يجرى فيها القياس، فاطرادها ليس مستفادا منه بل هو معلوم بالضرورة وطريق الوضع. لا يقال: لم ينقل عن العرب أنهم وضعوا العالم والقادر والمريد بإزاء كل من قام به العلم والقدرة والإرادة، بل غاية ما يعلم منهم أنهم استعملوا هذه الأسامي في ذوات موجودة في زمانهم متصفة بتلك الصفات فإلحاق الغائب بها في كونه كذلك يكون بطريق القياس، وبهذا ظهر أيضا ضعف قولهم: ليس جعل البعض أصلا والبعض الآخر فرعا أولى من العكس، فإن الذي كانت موجودة في زمانهم أولى بذلك من غيرها، ويكون ما عداها أولى بالفرعية.
لأنا نقول: فعلى هذا تناول الإنسان والحيوان للأفراد التي حدثت بعدهم، يكون بطريق القياس أيضا، إذ لم ينقل عنهم بصراحته أنهم وضعوا الإنسان بإزاء كل حيوان ناطق، ولا الحيوان بإزاء كل جسم حساس متحرك الإرادة، بل غايته أنهم استعملوا في الأفراد التي كانت موجودة في زمانهم من ذلك الجنس، وحينئذ يلزم أن يكون كل اللغات قياسيا ولا قائل به، فإن منعهم "عدم" النقل بصراحته هنا، منعنا نحن أيضا في أسماء الفاعلين والمفعولين وأسماء الصفات بطريق القياس؟ فإنه مختلف فيه، واطرادها متفق عليه، والمتفق عليه غير مستفاد من المختلف، ولئن سلم: أنه غير مختلف فيه على ما زعم بعضهم أنه غير مختلف فيه، بين أهل العربية، أذا اتفقوا على صحة تعليم الأحكام الإعرابية وإلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه بالعلة التي فيه، وذلك يدل على اتفاقهم على جريان القياس في اللغات، لكن الحكم المستفاد منه ظني، لأن الطرق الدالة على علية الوصوف/ (27/أ) فيها نحو الدوران والمناسبة "ظنية"، واطراد أسماء الصفات والفاعلين والمفعولين قطعي معلوم بالضرورة من كلامهم فلا يجوز أن يكون مستفادا من القياس. وبهذا ظهر أيضا: ضعف ما استدل به المازني على جريانه في اللغات: وهو أنه لا خلاف بين أهل العربية، أن كل فاعل رفع وكل مفعول منصوب، ولم يثبت ذلك إلا بالقياس، لأنهم رفعوا بعض الفاعلين ونصبوا بعض المفعولين واستمروا عليه في كلامهم، ولم تختلف عاداتهم في ذلك. علم أنهم إنما رفعوا لكونه فاعلا ونصبوا لكونه مفعولا، فإلحاق غيره
به بطريق القياس، لأن اطراد ذلك كاطراد أسماء الصفات، وقد ظهر أنه ليس بطريق القياس.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن النزاع إنما هو في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجودا وعدما، كالخمر فإنها اسم للمسكر المعتصر من العنب، وهذا الاسم يدور مع وصف الإسكار، فإن المعتصر من العنب لما لم يكن في الأول مسكر لم يسم خمرا بل يسمى عصيرا، فإذا حدث فيه وصف الإسكار سمي بالخمر ثم إذا زال ذلك الوصف عنه زال عنه ذلك الاسم ويسمى باسم آخر وهو الخل.
فهل يجوز أن يقاس عليها النبيذ في كونه مسمى بذلك الوصف لمشاركته إياه في وصف الإسكار أم لا؟.
فمن جوز القياس في اللغات جوزها، ومن لا فلا.
وكذلك السرقة اسم لأخذ مال الغير على سبيل الخفية، وهذا الاسم يدور مع وصف الخفية وجودا وعدما، أما وجودا فظاهر، وأما عدما فلأنه
إذا لم يكن مع الخفية يسمى اختلاسا إن كان مع الصون وغصبا إن لم يكن معه، فهذا يجوز أن يقاس النبش عليها في كونه مسمى بذلك الاسم لمشاركته إياها في الوصف المذكور فعلى الخلاف السابق.
واحتج من قال به بوجوه:-
أحدها: "أن الاسم" يدور مع الوصف وجودا وعدما، كما سبق، والدوران يفيد ظن العلية لما سيأتي إن شاء الله تعالى في القياس، فيحصل ظن أن العلة لتلك التسمية هو ذلك الوصف فإنما حصل ذلك الوصف حصل ظن كونه مسمى بذلك الاسم وحينئذ يلزم أن يثبت لتلك المحال الأحكام المرتبة
على ذلك الاسم.
وجوابه: أن الدوران إنما يفيد ظن العلية بمعنى الأمارة والعلامة لا بمعنى الداعي، لأنه لا مناسبة بين الاسم والمسمى وحينئذ لا يكون الدوران خاليا عن المزاحم، لأنه كما/ (27/ب) دار مع ما ذكرتم من الوصف فكذا مع خصوصية إسكار المعتصر من العنب والدوران إنما يفيد ظن العلية عند خلوه عن المزاحم المعارض، وهو غير خال عنه هنا على هذا التقدير.
فإن قلت: لو اعتبر في كون الدوران يفيد ظن العلية خلوه عن مثل هذا المزاحم لوجب أن لا يفيده في الشرعيات أيضا لعدم خلوه عنه.
قلت: إن فسرت لعلة ثمة بالداعي والباعث اندفع هذا النقص، وإن فسرت بالعرف والعلامة فكذلك، لأن القاطع الذي دل على جواز القياس في الشرعيات دال على أن تلك الخصوصيات لا مدخل لها في إثبات تلك الأحكام وإلا لم يصح القياس فلا يصلح أن "يقال" الخصوصية مزاحمة ثمة فيكون الدوران عريا عن المزاحم ولا قاطع في اللغات يدل على جريان القياس فيها فلا يكون الدوران خاليا عن المزاحم، كيف؟ والاستقراء يدل على أن للخصوصيات مدخلا في الأكثر في إطلاق اللفظ دون الشرعيات،
فإن الفرس المتلون بلونين يسمى أبلق وغيره المتصف به لا يسمى به، والأسود منه يسمى أدهم ولا يسمى غيره به، ومنه ما يلغب بياضه سواده أسهل وغيره لا يسمى به، والقارورة مختصة بالوعاء المخصوص وغيرها لا يسمى بها، إن كان فيه معنى القرار والنخلة تطلق على الطويل من الإنسان ولا تطلق على كل طويل يشاركها فيه، وأمثاله كثيرة غير عديدة بخلاف الشرعيات، فإن كل حكم عقل معناه فإنه قل ما يختص بمحله.
سلمنا: أنه يفيد ظن العلية لكن إنما يلزم من علية ذلك الوصف جواز إطلاق ذلك الاسم حيث ثبت ذلك الوصف إن ثبت أن علية ذلك الوصف بجعل الشارع، فإن بتقدير أن يكون عليته بجعل العبد لم يلزم ذلك، فإن الحكم لا يطرد باطراد ما يجعله العبد [علة] ألا ترى أنه لو قال: لوكيله اعتق غانما لسواده، والعلة فيه هو السواد لا غير، وقس عليه غيره فإنه لا يجوز له أن يعتق غيره للسواد لكن لم يثبت أن اللغات توقيفية على ما تقدم فلا يلزم جواز الإطلاق.
وثانيها: ما ذكرناه عن المازني وقد عرفت ضعفه أيضا.
وثالثها: قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} فإنه يتناول كل الأقيسة بعمومه.
وجوابه: منع عمومه وفيه كلام ستعرفه- إن شاء الله تعالى- في القياس ولئن سلمنا: عمومه لكنه خص عنه بعض الأقيسة وفاقا، والعام بعد التخصيص لا يكون حجة لما سيأتي.
سلمنا: ذلك لكنه يقتضى ما لا يقولون به، وما يقولون به لا/ (28/أ) يقتضيه، لأنه يقتضى وجوب القياس في اللغات ولا قائل به، فإن منهم من أنكر جوازه، ومنهم من أثبت جوازه، فأما الوجوب فلم يقل به أحد، وأما الجواز الذي يقولون به فلم يدل عليه.
سلمنا: ذلك لكنه مخصوص بالنسبة إلى اللغات لما يذكر من الأدلة المانعة من جواز القياس في اللغات.
ورابعها: وهو الوجه الإلزامي على من أنكره من الشافعية خاصة أن إنكار القياس مناقض لمذهبكم، فإنكم سميتم النبيذ خمرا وأدرجتموه تحت الأدلة الدالة على تحريمها وحد شاربها فحرمتموه وأوجبتم على شاربه الحد،
وكذلك سميتم اللائط زانيا وأدرجتموه تحت عموم قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فأوجبتم عليه الحد، وكذلك سميتم النباش سارقا وأدرجتموه تحت قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} فأوجبتم عليه القطع.
وجوابه: أنا لا نثبت تلك الأحكام في تلك الصور بالطريق الذي ذكرتموه، وإنما أثبته كذلك بعض أصحابنا القائلون: بالقياس في اللغة كابن سريج وغيره. وأما نحن نثبتها إلا بالقياس الشرعي وذلك بأن نبين أن الموجب للحكم في الأصل هو الوصف الفلاني وذلك الوصف بعينه حاصل في المتنازع فيه فيلزم منه ثبوت الحكم فيه.
وأما المانعون احتجوا بوجوه:-
أحدها: الوجوه التي تدل على أن اللغات بأسرها توقيفية، وقد سبق ذكرها، وحينئذ يمتنع أن يكون شيء منها بالقياس. وقد عرفت ضعف تلك الوجوه.
ولئن سلمنا: صحة دلالتها على التوقيف لكن لا نسلم أنها تنافى القياس فيها، وهذا لأنه يجوز أن يكون للكل بوضع الله تعالى: لكن علمنا البعض بالتنصيص والبعض الآخر بالقياس كما في الأحكام الشرعية.
وثانيها: أن اللغات إن كانت اصطلاحية: فيمتنع فيها القياس لما ذكرنا أن ما يجعله العبد عليه فإنه لا يتكرر الحكم بتكرره، وإن صرح بالقياس فكيف فيما لم يوجد ذلك فيه؟
وإن كانت توقيفية: فيحتمل أن يجرى فيها القياس عند حصول أركانه وشرائطه نحو ورود الإذن به، وعدم المانع منه ويحتمل أن لا يجري فيها، إما لعدم العلة، أو وإن كانت موجودة لكنها قاصرة، أو وإن كانت متعدية لكن وجد المانع من التعدية، أو وإن لم تكن كذلك لكن لم يرد الإذن به، وما يحتمل وقوعه على الطرق الكثيرة يكون راجحا على ما يحتمل وقوعه على طريق واحد. فيكون المنع من القياس راجحا على الإذن فيه، فيكون العمل بالقياس/ (28/ب) مرجوحا فيكون غير جائز.
وثالثها: الوصف الذي جعل علة التسمية إن نقل من العرب فيه أن كل ما اتصف به فهو مسمى بذلك الاسم، فحينئذ تكون تسمية تلك الموصوفات تلك الأسامى بالنص لا بالقياس. وإن نقل فيه عنهم أن الذات الفلاني إذا اتصف به يسمى بكذا خاصة دون غيره فحينئذ يمتنع القياس عليه، لأنه خلاف النص، وإن لم ينقل لا هذا ولا ذاك ولم يوجد إلا استعمال بإزائه وجودا وعدما فيحتمل أن يكون الوصف علة متعدية، ويحتمل أن لا يكون كذلك لكن الاحتمال الثاني أظهر لاعتضاده بالأصل من وجهين فتمتنع التعدية عملا بالاحتمال الراجح.
مقتضى هذا الدليل والذي قبله أن لا يجوز القياس الشرعي أيضا، لكن ترك العمل به فيه لوجود القاطع الدال على جوازه فيبقى معمولا به فيما عداه.
ورابعها: أنا وجدنا الاسم معللا بوصف دائر معه وجودا وعدما. في محل مخصوص مع أنه لا يجوز إلحاق غيره به إجماعا. وذلك يدل على جريان القياس في اللغات. بيان الأول: بما تقدم من الصور، وزيد هنا صور ثلاثة:-
أحدها: أن الجن والجنين إنما سميا بذلك لاستتارهما عن العيون، ثم إن الملائكة والنفوس البشرية كذلك مع أنها تسمى بذلك.
وثانيها: أن الملك مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة، ثم إنها حاصلة للبشر مع أنه لا يسمى بذلك.
وثالثها: أن المصلى من الفرس إنما يسمى به، لكونه رأسه عند صلا
السابق، ثم إن الإنسان الذي يتلو الإنسان الآخر أو حيوانا غيره بحيث يكون رأسه عند صلاة لا يسمى به. بيان الثاني: أن اعتماد القياس على تعليل التسمية بالوصف الدائر معه الاسم وجودا وعدما فإذا لم يحصل تعديه العلة بهذا الطريق لم يصح القياس.
لا يقال: حاصل ما ذكرتم يرجع إلى أنه حصل في اللغات ألفاظ قليلة لا يجرى القياس فيها وذلك لا يقدح في صحة القياس فيها، كما أنه حصل في أحكام الشرع أحكام لا يجرى القياس فيها وهو غير قادح فيه وفاقا.
لأنا نقول: الأحكام التي لا يجرى القياس فيها في الشرع هي الأحكام التعبدية التي لا يعقل معناها. وتلك الأحكام غير دائرة مع شيء من الأوصاف، ولا يدل أيضا طريق من الطرق الدالة على علية الوصف على علية وصف هناك لتلك الأحكام، بخلاف ما نحن فإنه لا طريق إلى معرفة علية الوصف في اللغات إلا الدوران وإذ لا يناسب الاسم المسمى وظاهر أن
غيرها من الطرق سوى الدوران متعذر فيه/ (29/أ) وبتقدير أن تعرف عليته بطريق من الطرق، لكن لم تجر التعدية مع ذلك فلم يبق طريق معول عليه في صحة القياس في اللغات. فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذه المسألة.
"الفصل العاشر"
في الترادف والتوكيد