الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في البحث عن مبدأ اللغات
اعلم أن دلالة اللفظ على المعنى: إما لمناسبة طبيعية بينه وبين معناه، وإما بالوضع: والأول مذهب عباد بن سليمان من المعتزلة ومن وافقه من غيرهم.
وهو يحتمل وجهين:-
أحدهما: أن تلك المناسبة الطبيعة حاملة للواضع على أن يضع ذلك اللفظ، لذلك المعنى سواء كان الواضع هو الله تعالى أو غيره. وهذا قريب لكن لا يمكن ادعاؤه في كل الألفاظ واللغات، لأنا نعلم بالضرورة أن ما يذكرونه من المناسبة بين حروف الألفاظ وبين معانيها غير مرعية في كل الألفاظ واللغات، ولأنه لو كان كذلك لما وقع المشترك بين الضدين كالقرء والجون، لأن الشيء الواحد لا يناسب الضدين مناسبة طبيعية، ولأنه لو كان كذلك لما اختلف دلالة الألفاظ على معانيها باختلاف الأمم والأزمنة، لأن المناسبة الطبيعة لا تختلف باختلافهما، فعلى هذا استدلال من استدل من أصحابنا على فساد قوله بما أنا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع لو وضع لفظ الوجود للعدم، أو بالعكس لما كان ممتنعا غير مستقيم، إذ الخصم لا يقول أن ذلك ممتنع على هذا التقدير، بل غايته أنه يلزم الترك بالمناسبة الطبيعية وهو غير ممتنع.
وثانيهما: أن تلك المناسبة الطبيعة وحدها كافية في كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني من غير حاجة إلى الوضع. وهذا معلوم الفساد بالضرورة.
واحتج العباد على صحة ما ذهب إليه: بأن دلالة الألفاظ على معانيها لو لم تكن لمناسبة طبيعية لكان اختصاص اللفظ المعين للمعنى دون غيره ترجيحا لحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو باطل.
وجوابه: النقض بالإعلام، فإن المناسبة الطبيعة غير حاصلة فيها بالاتفاق.
سلمنا سلامته عن النقض لكن نقول: الواضع إن كان هو الله تعالى فله أن يرجح أحد الاختصاصين على الآخر من غير مرجح لكونه فاعلا مختارا.
ولئن سلم أنه ليس له ذلك فلم لا يجوز أن يكون المرجح مصلحة يعلمها الله تعالى في ذلك / (11/ب) الاختصاص دون غيره، وإن كنا لا نعلمها. وإن كان هو العبد فله أيضا: أن يرجح أحد الاختصاصين على الآخر من غير مرجح لكونه فاعلا مختارا، وهذا على رأي المعتزلة غير أبي الحسين منهم.
وأما على رأي أصحابنا: فلا يستقيم هذا الجواب. بل جوابه: أن يقال لم لا يجوز أن يكون هو حضور ذلك اللفظ في البال دون غيره؟ وهذا كما قيل: في الإعلام. وهو أيضا: جواب المعتزلة.
وأما الثاني: هو أن يكون دلالة اللفظ على معناه بالوضع من غير مناسبة طبيعية. فالواضع إن كان هو الله فهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري والفقهاء، وأهل الظاهر، وهو المسمى بالتوقيف، لكونه متوقفا على إعلام الله تعالى إيانا بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني، إما بطريق الإيحاء والإلهام، أو بخلق العلم الضروري فينا بذلك. وإن كان هو العبد: فهو مذهب جمهور المعتزلة وهو المسمى بالاصطلاح. وإن كان فيهما
فإن كان ابتداء الوضع من الله تعالى، والباقي من العبد، فهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق. وإن كان بالعكس فهو مذهب بعضهم.
وأما جمهور المحققين: كالقاضي أبي بكر، إمام الحرمين. فقد توقفوا في الكل ولم يقطعوا بشيء من هذه الاحتمالات الأربعة، وقالوا: إن كل هذه الاحتمالات ممكنة.
أما الأول: فلأنه لا امتناع في أن يضع الله تعالى اللفظ لمعنى ثم يخلق فينا علما ضروريا بذلك ويلهمنا به.
وأما الثاني: فلأنه لا امتناع أيضا: في أن يضع الواحد منا لفظاً بمعنى،
ثم يعرف ذلك غيره بإيماء أو إشارة، وهذا كما يعرف كل واحد من المصاحبين لغته لصاحبه إذا لم يعرف لسانه، وكما يتكلم الولد لغة والديه، وإذا ثبت إمكان تقدير الاحتمالين ثبت إمكان الاحتمالين الباقيين.
واعلم: أن الحق في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور المحققين إذ لا قاطع يدل على أحد الاحتمالات المذكورة على ما سيظهر ذلك عند القدح في أدلتهم، وليست المسألة عملية ولا آيلة إلى العمل حتى يكتفي فيها بالأدلة الظنية، وقد ثبت إمكان الكل فوجب التوقف.
واحتج القائلون بالتوقف بوجوه:
أحدهما: قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} الآية. دلت الآية
على أن الأسماء معلمة من جهته تعالى، بمعنى أنه تعالى اوجد العلم بها فيه عليه السلام، إذ التعلم حقيقة في تحصيل العلم واستعماله في فعل يصلح أن يترتب العلم عليه في مثل قولهم: علمته فلم يتعلم بطريق التجويز، بدليل احتياجه إلى القرينة وهو قوله: فلم يتعلم، إذ لو اقتصر على قوله: علمته، لم يفهم منه هذا المعنى، وإذا / (12/أ) كانت الأسماء معلمة من جهته تعالى وجب أن تكون الأفعال أو الحروف كذلك، ضرورة أنه لا قائل بالفرق، ولأن تعليمها إما لحاجته إليها أو لتكرمته عليه السلام وهما موجودان في الأفعال والحروف، إذ يتعذر التعبير عن كل ما تمس الحاجة إليه بالجملة الإسمية، فيثبت الحكم وهو التعليم لثبوت علته.
فإن قيل: هب أن التعليم حقيقة في إيجاد العلم، لكن العلم الحاصل بعد الاصطلاح عندنا من خلق الله تعالى فلم يكن تعليم الأسماء بمعنى إيجاد العلم بها دالا على التوقيف.
سلمنا: أن العلم الحاصل بعد الاصطلاح ليس من خلقه تعالى. لكن لا نسلم دلالة الآية على صورة النزاع، لجواز أن يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات، مثل ما يقال: أن الله تعالى علم آدم، أن الخيل تصبح للكر والفر، والجمل للحمل، والثور للحرث، وهذا وإن كان على خلاف العرف لكن الاشتقاق يشهد له، لأن الاسم مشتق من السمو أو السمة، وعلى
التقديرين مما يكشف عن الشيء يكون اسما وحينئذ لا تكون الآية دالة على أن اللغات توقيفية.
لا يقال: ما المراد من قولك: يجوز أن يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات.
أي: أنها من جملة المراد أو أنها المراد فقط، وهذا الاحتمال وإن كان خلاف ما أشعر به كلامكم، وهو التمسك بشهادة الاشتقاق، لكن لا يمتنع إرادته منه، فإن أردتم به الأول فمسلم، وإن كان على خلاف العرف لكن لا ينافى المقصود بل يحصله، لأن الآية حينئذ تكون دالة على أن كل ما يكشف عن الشيء معلم من جهته تعالى لكونها عامة، ومن جملة الألفاظ الدالة على معاينها، فتكون الآية دالة على أنها معلمة من جهته تعالى.
وإن أردتم به الثاني. فنقول: إنه غير جائز لكونه على خلاف العرف والاشتقاق والعموم.
قلنا: أردنا به الثاني وتمسكنا بالاشتقاق لبيان صحة كونها مرادة من الأسماء على وجه تخصيص العام ببعض مسمياته.
قوله: إنه غير جائز لكونه على خلاف الأصل.
قلنا: التمسك بمثله لا يفيد إلا الظن، وقد ذكرنا أن المسألة علمية فلا يجوز التمسك به عليها.
سلمنا: أن المراد من الأسماء الألفاظ المخصوصة لكن لا نسلم دلالة الآية على التوقيف، وهذا لأنه يجوز أن تكون تلك الألفاظ موضوعة خلق خلقه الله تعالى قبل آدم من الملائكة والجن ثم أنه تعالى علمها لآدم
سلمنا. دلالة الآية عليه لكن بالنسبة إلى كل اللغات أو بعضها / (12/ب).
والأول: ممنوع وهذا لأنا لا نسلم أن الجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم، ولئن سلمنا إفادته لذلك في الجملة، لكن لا نسلم أنه يفيده هاهنا، وهذا لأنا نعلم بالضرورة حدوث بعض اللغات بعده عليه السلام، بل في كل زمان كالألفاظ العرفية وأسامي الحروف والصناعات والآلات الحادثة فيستحيل أن تكون تلك الألفاظ مرادة من الآية فلم يكن العموم مرادا منها.
والثاني: مسلم لكن لا يحصل مطلوبكم.
سلمنا ذلك لكن لا يلزم منه توقيف هذه اللغات التي نتكلم بها بالنسبة إلينا لجواز أن يقال: إنه عليه السلام نسى هذه اللغات، أو لم يوقف عليها غيره ثم اصطلح عليها من بعده.
سلمنا ذلك لكن لم قلت: إن الأفعال والحروف كذلك.
قوله: أو لأنه لا قائل بالفصل.
قلنا: لا نسلم أن الإجماع دليل قاطع حتى يجوز التمسك به في هذه المسألة.
سلمنا: أن الإجماع المطلق دليل قاطع، لكن لا نسلم أن هذا الإجماع وأمثاله كالسكوتي دليل قاطع، بل إما أن لا يكون حجة أو وإن كان حجة لكنه حجة ظنية.
قوله: ثانيا عليه التعليم للحاجة.
قلنا: مسمى الحاجة، أو الحاجة المخصوصة والأول ممنوع، والثاني مسلم، ولا يلزم منه كون الأفعال والحروف معلمة أيضا لعدم تلك الحاجة المخصوصة فيها.
واعلم أنه وإن أمكن الجواب عن بعض هذه الأسئلة لكن بأجوبة ظنية وقد عرفت أن المسألة عليمة فلا يجوز أن يعول عليها فلذلك تركنا ذكرها.
ثانيها: قوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم} الآية.
ووجه: التمسك بها هو أنه ليس المراد من اللسان الجارحة المخصوصة، لأنه ليس فيه كبير اختلاف، وبتقدير تحققه فإنه ليس بظاهر بخلاف غيره من الأعضاء كالوجه فإنه مع ظهوره واختصاصه بكثرة إبداع الصنع اختص بمزيد الجمال وهو داع للنظر إليه والتفكر فيه فكان ذكره أولى وأفضى إلى المقصود، فلم يكن في ذكره اللسان فائدة، بل المراد منه اختلاف اللغات، إما بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو بطريق إطلاق اسم العلة على المعلول أو اسم المحل على الحال واختلافها إنما يكون آية على وجوده تعالى أن لو كانت اللغات توقيفية.
وأجيب عنه: هب أنا نسلم أنه ليس المراد من اللسان الجارحة المخصوصة،
لكن على الحمل على ما ذكرنا من المجاز أولى من الحمل على مجاز آخر، هو الاقتدار على اختراع اللغات أو على تلفظها فلم يتعين ما ذكرتم.
ولقائل: / (13/أ) أن يقول: مجاز المستدل أولى.
أما إذا قلنا: إنه من باب إطلاق اسم العلة على المعلول أو إطلاق اسم المحل على الحال فظاهر، لأن مجازكم من قبيل الإضمار على ما يبين ومجازه على هذا التقدير ليس كذلك، وإذا وقع التعارض بين المجاز والإضمار فالمجاز أولى. لأنه أكثر والكثرة تدل على قلة المفسدة.
وأما إن قلنا: إنه بطريق الإضمار فكذلك لقلة الإضمار على هذا التقدير بخلاف مجازكم فإنه يلزم منه كثرة الإضمار أو المجاز والإضمار معا. بيانه أنا لو حملنا على مجازكم يصير تقدير الآية، واختلاف اقتدار ألسنتكم باللغات، واختلاف اقتداركم باللغات على أنه أطلق اللسان وأورد الاقتدار، كما في إطلاق اليد وإرادة القدرة.
فعلى الأول: يلزم كثرة الإضمار، وعلى الثاني: يلزمه المجاز والإضمار معا وعلى ما ذكرنا لا يلزمه إلا الإضمار الذي هو أقل من إضماركم، لأنه يصير تقدير الآية على ما ذكرنا، واختلاف لغات ألسنتكم وكان أولى.
"والأولى أن يجاب بمنع أن اختلاف اللغات إنما يكون آية لو كانت اللغات توقيفية". وهذا لأن واضعها، وإن كان هو العبد فهي مخلوقة لله تعالى على ما عرف عن مذهبنا أن أفعال العباد ونتائجها بخلق الله تعالى.
وثالثها: قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم} الآية.
ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف لقوله تعالى: {ما أنزل الله بها من سلطان} يدل عليه، فلو كان غيرها من الأسماء اصطلاحيا
أيضا: لم يكن لتقييد الذم بتلك الأسماء فائدة.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه ذمهم على مجرد التسمية، بل الذم للتسمية المخصوصة وهي تسمية الأصنام آلهة، مع اعتقاد الإلهية فيها لا مجرد التسمية.
سلمنا: أن المجموع ليس علة فلم لا يجوز أن تكون العلة هي التسمية المخصوصة لا مطلق التسمية حتى يلزم ما ذكرتم، وهو أنه لم يكن لتقييد الذم بتلك الأسماء فائدة.
سلمنا: أن الذم بمجرد التسمية وأنه يدل على أن ما عداها من الأسماء توقيفا لكن لا يدل على مطلوبكم، وهو أن اللغات بأسرها توقيفية، لأن من جملتها تلك الأسماء وهي ليست توقيفية، بل لو دل فإنما يدل على [أن] البعض منه كذلك كما هو مذهب قوم.
ورابعها: التمسك بالعمومات الدالة على أن علم المخلوقات كله بتعلم الله تعالى كقوله تعالى حكاية عن الملائكة: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} الآية. وقوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم} ، واللغات من جملتها.
وجوابه: يعرف مما تقدم.
وخامسها: / (13/ب) وهو الوجه المعقول: أنها لو كانت اصطلاحية لافتقر الواضع في تعريف ذلك الغير إلى طريق، لأن مجرد وضع اللفظ لمعنى غير كاف في كونه مصطلحا عليه ما لم يساعده عليه غيره، وذلك الطريق إن كان اصطلاحيا أيضا كان الكلام فيه كالكلام في الأول ولا يتسلسل
لبطلانه، بل ينتهي إلى التوقيف وهو المطلوب.
وجوابه: النقض بتعلم الولد لغة والديه من غير توقيف على التوقيف.
سلمنا: سلامته عن النقض لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الطريق هو الإشارة إلى المسمى مع ذكر اللفظ وتكرره، وليس تعريف دلالة هذه الطريقة على كون ذلك اللفظ موضوعا لذلك المعنى يحتاج إلى طريقة أخرى، فإن من رأي غيره مع مسيس حاجته إلى تعريف لغته أنه يشير إلى شيء وتكرر لفظا علم بالضرورة أنه قصد تعريف كون ذلك اللفظ موضوعا لذلك الشيء.
سلمنا: أنه لابد وأن ينتهي إلى توقيف لغة ما. فلم قلت: إن تلك اللغة هي هذه؟
هذا من جملة ما اعترض به بعض أصحابنا على الدلالة المذكورة. وهو يشعر بأن النزاع إنما هو في هذه اللغات، وفيه نظر، لأن الكلام في مبادئ اللغات لا في اللغة المخصوصة.
سلمنا: أن تلك اللغة هي هذه لكن ما ذكرتم من الدلالة لا يقتضي أن جميعها توقيفيا، الذي هو مطلوبكم بل بعضها، إذ يمكن تعريف ما هو بالاصطلاح بذلك البعض كما هو مذهب الأستاذ.
وأما القائلون بالاصطلاح فقد احتجوا بوجهين:-
أحدهما: قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} .
دلت الآية على تقديم اللغات على البعثة المتوقف عليها التوقيف، فلو كانت اللغات توقيفية لزم تقدمها على البعثة وتأخيرها عليها معا وهو محال.
وثانيهما: لو كانت اللغات توقيفية فطريق وصولها إلى الخلق، إما الإيحاء أو خلق العلم الضروري فيهم بأنه تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني أو غيرها، والأول باطل لما تقدم، والثاني أيضا كذلك، لأن خلق ذلك العلم، إما أن يكون في جميع الخلق المكلفين وغير المكلفين، أو في المكلفين فقط، أو في غيرهم فقط، والقسمان الأولان باطلان لاقتضائهما كون العلم بالله ضروريا، لأنه لما خلق فيهم علما ضروريا بأن واضع الألفاظ لمعانيها هو الله تعالى كان العلم بالله تعالى ضروريا قطعا لكنه باطل، لأنه يلزم منه أن يبطل التكليف بمعرفة الله تعالى. والثالث: باطل أيضا.
أما أولا فلأنه يجب أن لا يحصل العلم بتلك اللغات لغيرهم، لأنه لا يحصل العلم بها إلا بالتعلم منهم وهو غير حاصل منهم إذ / (14/أ) الثقة لا تحصل بقولهم وفعلهم.
وأما ثانيا: فلأن من البعيد أن يصير غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات البديعة وبمعانيها الغريبة.
والثالث أيضا: باطل وهو أن ذلك الطريق غيرهما، لأن الكلام فيه كالكلام في الأول ولا يتسلسل لبطلانه، بل ينتهي إلى الاصطلاح وهو المطلوب.
والجواب: عن الأول أنا لا نسلم توقف التوقيف على البعثة، لأنه يجوز أن يخلق الله فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني لا أنه تعالى وضع.
وبه خرج الجواب أيضا عن الثاني، لأنه لا يلزم حينئذ أن تكون معرفة الله ضرورية.
ثم نقول: ما ذكرتم معارض بما أن اللغات لو كانت اصطلاحية لما حصل القطع بشيء من مدلولات الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة لاحتمال أن يقال أنها كانت في العصر الأول تدل على معاني غير ما نعرفه الآن، ثم أن الناس اصطلحوا بعد ذلك العصر على دلالتها على هذه المعاني التي نعرفها الآن.
واعلم: أنه يمكنك أن تعرف مما سبق دليل المذهبين الباقيين وجوابه فلا حاجة إلى ذكره.
"الفصل الثالث"
في العلة الغائية لوضع الألفاظ للمعاني وسبب اختيارها على غيرها من الطرق