الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومتى تكررت منه السرقة ولم يقطع، أجزأ قطع يده عن جميعها. وذكر القاضي فيما إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى: أنها لا تتداخل، والصحيح الأول ويقطع للثانية؛ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزئ حد واحد، كسائر الحدود. فأما إن قُطع بسرقة، ثم عاد فسرق، قُطع ثانية، سواء سرق العين التي قطع بها، أو لا أو غيرها، من المسروق منه الأول أو من غيره؛ لأنه حد يجب بفعل في عين، فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان، كالزنا.
فصل
ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» رواه أبو داود. وفعل ذلك علي رضي الله عنه بالذي قطعه؛ ولأنه أبلغ في الزجر. ولو قال السارق: أنا أقطع نفسي، لم يُمَكَّن؛ لأنه حق عليه، فلم يُمَكَّن من استيفائه من نفسه، كالقصاص.
فصل
وإذا قطع، فإن كان المسروق قائماً، رد إلى مالكه؛ لأنه ملكه، فرد إليه، كما قبل القطع. وإن كان تالفاً، فعلى السارق ضمانه؛ لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية، فوجب ضمانه، كالذي تلف في يد الغاصب، ولأن الضمان يجب للآدمي، والحد لحق الله تعالى، فوجبا جميعاً، كالدية، والكفارة في قتل الآدمي.
[باب حد الزنا]
الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام، بدليل قول الله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . «وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» . متفق عليه.
فصل
والزنا: هو الوطء في الفرج لا يملكه، ولا يجب الحد بغير ذلك، لما روى ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لماعز: «لعلك قبلت، أو غمزت قال: لا. قال: أفنكتها لا يكني. قال: نعم. قال: فعند ذلك رجمه» . رواه البخاري. وفي رواية عن أبي هريرة قال: «أنكتها. قال: نعم، قال: حتى غاب ذاك منك في ذاك منها قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم» . رواه أبو داود.
وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج؛ للخبر، ولأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، لا بما دونه، وسواء كان الفرج قبلاً، أو دبراً؛ لأن الدبر فرج مقصود، فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل، ولأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل وهو مما يستباح، فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى، ولو تلوط بغلام، لزمه الحد كذلك، وفي حده روايتان:
إحداهما: يجب عليه حد الزنا، يرجم إن كان ثيباً، ويجلد إن كان بكراً؛ لأنه زان، بدليل ما روى أبو موسى:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى الرجلُ الرجلَ، فهما زانيان. وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب، كالزنا بالمرأة.
والثانية: حده القتل، بكراً كان أو ثيباً؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود. وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه أنه كان يرى رجمه؛ ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك. وإن وطئ الرجل امرأة ميتة، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه، أشبه الحية.
والثاني: لا يجب؛ لأنه لا يقصد، فلا حاجة إلى الزجر عنه.
وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان:
إحداهما: يُحَدّ؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه أبو داود. ولما ذكرنا فيما تقدم.
والثانية: لا يحد، ولكن يعزر؛ لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس، وهذا مما تعافه وتنفر عنه.
فإن قلنا: يحد، ففي حده وجهان:
أحدهما: القتل للخبر.
والثاني: كحد الزنا؛ لما ذكرنا في اللائط. وإن تدالكت المرأتان، فهما زانيتان، للخبر، ولا حد عليهما؛ لأنه لا إيلاج فيه، فأشبه المباشرة فيما دون الفرج، وعليهما التعزير؛ لأنها فاحشة لا حد فيها، أشبهت المباشرة دون الفرج.
فصل
ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يكون الزاني مكلفاً، كما ذكرنا في السرقة، فإن كان أحد الزانيين غير مكلف، أو مكرهاً، أو جاهلاً بالتحريم، وشريكه بخلاف ذلك، وجب الحد على من هو أهل للحد، دون الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر بما يسقطه، فثبت في كل واحد منهما حكمه، دون صاحبه كما لو كان شريكه فذاً. وإن كان أحدهما محصناً، والآخر بكراً. فعلى المحصن حد المحصنين، وعلى البكر حد الأبكار كذلك. وإن أقر أحدهما بالزنا، دون الآخر، حُدّ المقر وحده؛ لما روى سهل بن سعد «عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه قد زنى بامرأة، فسماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون قد زنت، فجلده الحد، وتركها.» رواه أبو داود؛ ولأن عدم الإقرار من صاحبه لا يبطل إقراره، كما لو سكت.
فصل
الشرط الثاني: أن يكون مختاراً، فإن أكرهت المرأة، فلا حد عليها، سواء أكرهت بالإلجاء أو بغيره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت، قالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي، فخلى سبيلها ولم يضربها. وروي: أنه أتي بامرأة قد استسقت راعياً، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها. فقال لعلي: ما ترى فيها؟ فقال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئاً وتركها. فأما الرجل إذا أكره بالتهديد، فقال أصحابنا: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة،
والاختيار، بخلاف المرأة، ويحتمل أن لا يجب عليه حد، لعموم الخبر، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها. فأما إن استدخلت امرأة ذكره وهو نائم، فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف، ولم يفعل الزنا.
فصل
والثالث: أن يكون عالماً بالتحريم، ولا حد على من جهل التحريم؛ لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما قالا: لا حد إلا على من علمه. وروى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة، قالوا: ما تقول؟ قال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بها إلى عمر رضي الله عنه، فكتب: إن كان يعلم أن الله حرمه، فحدوه، وإن لم يكن علم، فأعلموه، فإن عاد فارجموه. وسواء جهل تحريم الزنا، أو تحريم عين المرأة، مثل أن تزف إليه غير زوجته، فيظنها زوجته، أو يدفع إليه غير جاريته، فيظنها جاريته، أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته، فيطأها، فلا حد عليه؛ لأنه غير قاصد لفعل المحرم. ومن ادعى الجهل بتحريم الزنا، ممن نشأ بين المسلمين، لم يصدق؛ لأننا نعلم كذبه. وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو بإفاقة من جنون، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين، صدق؛ لأنه يحتمل الصدق، فلم يجب الحد مع الشك في الشرط. وإن ادعى الجهل بتحريم شيء من الأنكحة الباطلة، كنكاح المعتدة، أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى الجهل بالتحريم قُبِلَ؛ لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه، ويحتمل أن لا يقبل، إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا؛ لأنه زنا، والأول أصح؛ لما روي عن عبيد بن نضلة قال: رفع إلى عمر رضي الله عنه امرأة تزوجت في عدتها، فقال: هل علمتما؟ فقالا: لا. قال: لو علمتما لرجمتكما، فجلده أسواطاً، ثم فرق بينهما. وإن ادعى الجهل بانقضاء العدة، قبل إذا كان يحتمل ذلك؛ لأنه مما يخفى.
فصل
الرابع: انتفاء الشبهة، فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه وبين غيره، أو وطء مكاتبته، أو جاريته المرهونة، أو المزوجة، أو جارية ابنه، أو وطء زوجته أو جاريته في دبرها، ولا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته، كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود، ونكاح الشغار، والمتعة، وأشباه ذلك؛ لأن الحد مبني على الدرء والإسقاط بالشبهات، وهذه شبهات فيسقط بها.
فصل
فأما الأنكحة المجمع على بطلانها، كنكاح الخامسة، والمعتدة، والمزوجة،
ومطلقته ثلاثاً، وذوات محارمه من نسب، أو رضاع، فلا يمنع وجوب الحد، لما ذكرنا من حديث عمر رضي الله عنه. وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي رضي الله عنه: أنه رفع إليه امرأة تزوجت ولها زوج، فكتمته، فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة، ولأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه وطأها قبل العقد. وفي حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد، روايتان:
إحداهما: حده حد الزنا؛ لعموم الآية والخبر فيه.
والثانية: يقتل بكل حال، لما «روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية، قال: فقلت: إلى أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى ابن ماجه بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه» .
فصل
فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع، كأمه، وأخته، فوطئها، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الحد؛ لأنها لا تستباح بحال، فأشبهت المحرمة بالنسب.
والثاني: لا حد عليه؛ لأنها مملوكته، فأشبهت مكاتبته. بخلاف ذات محرمه من النسب. فإنه لا يثبت ملكه عليها، ولا يصح عقد تزويجها.
فصل
وإن استأجر أمة ليزني بها، أو لغير ذلك، فزنى بها، فعليه الحد؛ لأنه لا تصح إجارتها للزنا، فوجوده كعدمه، ولا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم. ومن وطئ جارية غيره، أو زوجته بإذنه، فهو زان عليه الحد؛ لأنه لا يستباح بالبذل والإباحة، سواء كانت جارية أبيه، أو أمه، أو أخته، أو غيرهم، إلا جارية ابنه، لما ذكرنا، وذكر ابن أبي موسى قولاً في الابن يطأ جارية أبيه: لا حد عليه؛ لأنه لا يقطع بسرقة ماله، فلا يلزمه حد بوطء جاريته، كالأب، وجارية زوجته، إذا أذنت له في وطئها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم بكراً كان، أو ثيباً، ولا تغريب عليه؛ لما روى حبيب بن سالم أن عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إن كانت أحلتها لك، جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك، رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له،
فجلده مائة. رواه أبو داود.
فإن علقت منه. فهل يلحقه نسبه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يلحق به؛ لأنه وطء لا حد فيه، أشبه وطء الأمة المشتركة.
والثانية: لا يلحق به؛ لأنه وطء في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه ما لو لم تأذن له.
فصل
الخامس: ثبوت الزنا عند الحاكم؛ لما ذكرنا في السرقة، ولا يثبت إلا بأحد شيئين: إقرار، أو بينة؛ لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما، ويعتبر في الإقرار ثلاثة أمور:
أحدها: أن يقر أربع مرات، سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس؛ لما روى أبو هريرة قال:«أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجموه» متفق عليه. ولو وجب الحد بأول مرة، لم يعرض عنه. وفي حديث آخر:«حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك قد قلتها أربع مرار، فبمن؟ قال: بفلانة» . رواه أبو داود. وفي حديث، «فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه له عند النبي: إن أقررت أربعاً، رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
الأمر الثاني: أن يذكر حقيقة الفعل؛ لما روينا في أول الباب، ولأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد، فيجب بيانه. فإن لم يذكر حقيقته، استفصله الحاكم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بماعز.
الثالث: أن يكون ثابت العقل. فإن كان مجنوناً، أو سكراناً، لم يثبت بقوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز:«أبك جنون» وروي أنه استنكهه، ليعلم أبه سكر، أم لا، ولأنه إذا لم يكن عاقلاً، لا تحصل الثقة بقوله.
فصل
وإن ثبتت ببينة، اعتبر فيهم ستة شروط:
أحدها: أن يكونوا أربعة؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم؛ لأن في شهادة النساء شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
والثالث: أن يكونوا أحراراً؛ لأن شهادة العبيد مختلف فيها، فيكون ذلك شبهة فيما يدرأ بالشبهات.
الرابع: أن يكونوا عدولاً؛ لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق، ففي الحد أولى.
الخامس: أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة؛ لما ذكرنا في الإقرار.
السادس: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، سواء جاءوا جملة، أو سبق بعضهم بعضاً؛ لأن عمر رضي الله عنه لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة، حدهم حد القذف، ولو لم يشترط المجلس، لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس، لوجب أن يقبل.
فصل
وإن حبلت امرأة لا زوج لها، ولا سيد، لم يلزمها حد؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه: أتى بامرأة ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر رضي الله عنه، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، ووقع علي رجل، وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد؛ ولأنه يحتمل أن يكون من وطء شبهة، أو إكراه. والحد يدرأ بالشبهات. ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولأنه متهم في حكمه بعلمه، فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه.
فصل
ومن وجب عليه حد الزنا، لم يخل من أحوال أربعة:
أحدها: أن يكون محصناً، فحده الرجم حتى الموت؛ لما روي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى وقد أحصن من الرجال والنساء إذا قامت ببينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، متفق عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية، ورجم الخلفاء بعده. وهل يجب الجلد مع الرجم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجب؛ لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فلما وجب الرجم بالسنة، انضم إلى ما في كتاب الله تعالى، ولهذا قال علي رضي الله عنه في شراحة: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . رواه مسلم.
والثانية: لا جلد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما. وقال:«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . ولم يأمره بجلدها، ولو وجب لأمر به، ولأنه معصية توجب القتل، فلم توجب عقوبة أخرى، كالردة.
الثاني: الحر غير المحصن، فحده مائة جلدة وتغريب عام؛ للآية وخبر عُبادة.
الثالث: المملوك، فحده خمسون جلدة بكراً كان أو ثيباً، رجلاً أو امرأة، لقول الله تعالى:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . والعذاب المذكور في الكتاب مائة جلدة، فنصف ذلك خمسون، ولا تغريب عليه؛ لأن تغريبه إضرار بسيده دونه، ولأن «النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن. فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» متفق عليه. ولم يأمر بتغريبها.
الرابع: من بعضه حر، فحده بالحساب من حد حر وعبد. فالذي نصفه حر، حده خمس وسبعون جلدة، وتغريب نصف عام؛ لأنه يتبعض، فكان في حقه بالحساب، كالميراث.
والمكاتب، وأم الولد، والمدبر حكمهم حكم القن في الحد؛ لأنهم عبيد، ومن لزمه حد وهو رقيق، فعتق قبل إقامته، فعليه حد الرقيق؛ لأنه الذي وجب عليه. ولو زنى ذمي حر، ثم لحق بدار الحرب، فاسترق، حد حد الأحرار كذلك.
فصل
والمحصن: من كملت فيه أربعة أشياء:
أحدها: الإصابة في القبل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولا يكون ثيباً إلا بذلك.
الثاني: كون الوطء في نكاح. فلو وطئ بشبهة، أو زنا، أو تسرية، لم يصر محصناً، للإجماع، ولأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك. ولو وطئ في نكاح فاسد، لم يصر محصناً؛ لأنه ليس بنكاح في الشرع، ولذلك لا يحنث به الحالف على اجتناب النكاح.
الثالث: كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ، والعقل، والحرية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . فلو كان الوطء بدون الكمال إحصاناً، لما علق الرجم بالإحصان؛ لأنه من لم يكمل بهذه الأمور، لا يرجم، ولأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال الكمال.
الرابع: أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال؛ لأنه إذا كان ناقصاً لم يحصل الإحصان، فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة.
ولا يشترط الإسلام في الإحصان؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا فرجمهما» .
وإن تزوج مسلم ذمية، فأصابها، صارا محصنين؛ لكمال الشروط الأربعة فيهما.
فصل
ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط، حرمت مباشرته فيما دون الفرج لشهوة، وقبلته، والتلذذ بلمسه لشهوة، أو نظرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» . فإذا حرمت الخلوة بها، فمباشرتها أولى؛ لأنها أدعى إلى الزنا، ولا
حد في هذا؛ لما روى ابن مسعود «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت، فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .» متفق عليه، وعليه التعزير؛ لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فأشبهت ضرب الناس والتعدي عليهم.
فصل
ويحرم وطء امرأته وجاريته في دبرهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» رواه ابن ماجه، ولأنه ليس بمحل للولد أشبه دبر الغلام، ولا حد فيه؛ لأنه في زوجته وما ملكت يمينه، فيكون شبهة، ولكن يعزر، لما ذكرناه، ويحرم الاستمناء باليد؛ لأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل، فحرمت كاللواط، ولا حد فيه؛ لأنه لا إيلاج فيه، فإن خشي الزنا، أبيح له؛ لأنه يروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فصل
ومن أتى بهيمة، وقلنا: لا يحد، فعليه التعزير، ويجب قتل البهيمة؛ لحديث ابن عباس، فإن كانت مأكولة، ففيها وجهان:
أحدهما: تذبح، ويحل أكلها؛ لقول الله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] .
والثاني: تحرم؛ لأن ابن عباس قال: ما أرى أنه أمر بقتلها إلا لأنه كره أكلها، وقد عمل بها بذلك العمل؛ ولأنه حيوان أبيح قتله لحق الله تعالى، فحرم أكله، كالفواسق. فإن كانت البهيمة لغيره، وجب عليه ضمانها إن منعناه أكلها؛ لأنه سبب تلفها. إن أبيح أكلها، لزمه ضمان نقصها.
فصل
ولا يؤخر حد الزنا، لمرض ولا شدة حر، ولا برد؛ لأنه واجب فلا يجوز تأخيره لغير عذر، وقد روي عن عمر أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض؛ لأنه إن كان رجماً فالمقصود قتله، فلا معنى لتأخيره، وإن كان جلداً أمكن الإتيان به بسوط يؤمن معه التلف في حال المرض، فلا حاجة إلى التأخير. ويحتمل أن يؤخر الجلد عن
المريض المرجو زوال مرضه؛ لما «روى علي أن جارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: أحسنت» رواه مسلم.
فصل
ولا يحفر للمرجوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز، وسواء كان رجلاً أو امرأة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أنه لا يحفر للمرجوم. وقال القاضي: إن ثبت زنا المرأة بإقرارها، لم يحفر لها لتتمكن من الهرب إن أرادت، وإن ثبت ببينة، حفر لها إلى الصدر؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة.» رواه أبو داود.
ولأنه أستر لها، وعلى كل حال يشد على المرأة ثيابها، لئلا تتكشف، ويدور الناس حول المرجوم، ويرجمونه حتى يموت، فإن هرب المحدود والحد ببينة أتبع حتى يقتل؛ لأنه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بإقراره، ترك؛ لما روي «أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز عنه أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» رواه أبو داود؛ ولأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن الإقرار، ورجوعه مقبول. فإن لم يترك، وقتل، فلا ضمان فيه؛ لحديث ماعز، ولأن إباحة دمه متيقنة، فلا يجب ضمانه بالشك، وإن ترك، ثم أقام على الإقرار، أقيم عليه الحد.
فصل
وإن كان الحد جلداً، لم يمد المحدود، ولم يربط؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد، ويفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه، والرأس، والفرج، وموضع القتل؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد: اضرب، وأوجع، واتق الرأس والوجه والفرج. وقال: لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج؛ ولأن القصد الردع، لا القتل. ويضرب الرجل قائماً، ليتمكن من تفريق الضرب على أعضائه، والمرأة جالسة؛ لأنه أستر لها، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تتكشف.
فصل
فإن كان مريضاً، أو نضو الخلق. أو في شدة حر، أو برد، أقيم الحد بسوط
يؤمن التلف معه، فإن كان لا يطيق الضرب لضعفه وكثرة ضرره، ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، أو ضربتين، أو بسوط فيه خمسون شمراخاً؛ لما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف «عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ له مائة شمراخ، فيضربونه بها ضربة واحدة.» أخرجه أبو داود والنسائي.
فصل
ومن لزمه التغريب، غرب عاما إلى مسافة القصر؛ لأن أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه. وعنه في المرأة: إنها تغرب إلى ما دون مسافة القصر؛ لتقرب من أهلها، فيحفظونها، ويحتمل مثل ذلك في الرجل؛ لأنه يسمى نفيا وتغريبا، فيتناوله لفظ الخبر. وحيث رأى الإمام أن يغربه فله ذلك، وإن كان بعيدا؛ لأن عمر رضي الله عنه غرب إلى الشام والعراق. وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز؛ لأن مدة الحول منصوص عليها، فلم يدخلها الاجتهاد، والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد. ومتى عاد قبل الحول رد إلى التغريب حتى يكمل الحول. فإن زنى الغريب غرب إلى غير بلده، فإن زنى في البلد الآخر غرب إلى غيره؛ لأن الأمر بالنفي يتناوله حيث كان.
فصل
لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا مع ذي حرمة من أهلها» فإن أعوز المحرم، خرجت مع امرأة ثقة، فإن أعوز، استؤجر لها من مالها محرم لها، فإن أعوز، فمن بيت المال، فإن أعوز، نفيت، بغير محرم؛ لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره، فأشبه الهجرة. ويحتمل سقوط النفي هاهنا؛ لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور، وتعريضها للفتنة، ومخالفة خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر بغير محرم، ويخص عموم حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم، ويحتمل أن تنفى إلى دون مسافة القصر جمعاً بين الخبرين.