الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معارضة، فأشبه غير الأسير. وإن كان مكروها لم يصح، فإن أكرهوه على قبضه، لم يلزمه ضمانه وإن تلف، وعليه رده إن كان باقيا؛ لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد، وإن قبضه باختياره، فعليه ضمانه كذلك، والله أعلم.
[باب الهدنة]
ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين، وتحصيل المصلحة لهم، لقول الله تعالى:{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ؛ ولأن هدنتهم من غير حاجة، ترك للجهاد الواجب لغير فائدة، فإن رأى الإمام المصلحة فيها، جازت، لقول الله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وقَوْله تَعَالَى:{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وروى مروان ومسور بن مخرمة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين» ، ووادع النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من المشركين، وقريظة، والنضير؛ ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم، أو طمع في إسلامهم، أو التزامهم الجزية، أو غير ذلك. ولا يجوز عقدها إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين، فلم يجز لغيرهما، كعقد الذمة.
فصل:
ولا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد، فيفضي إلى ترك الجهاد أبدا. ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير. وقال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر؛ لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص منه مدة العشر بصلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على عشر، ففيما زاد يبقى على العموم.
ووجه الأول: أنه عقد يجوز في العشر، فجاز فيما زاد عليها، كالإجارة. فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة، بطل في الزائد، وهل يبطل في قدر الحاجة على
وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وكذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة، وفي مدة العشر وجهان. فإن قال هادنتكم ما شئتم، لم يصح؛ لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وإن قال: هادنتكم ما شئنا، أو ما شاء فلان، أو شرط أن له نقضها متى شاء، لم يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد؛ ولأنه عقد مؤقت، فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما، كالإجارة. وقال القاضي: يصح لأنه جعل التحكم إليه. وإن قال: إلى أن يشاء الله، أو نقركم ما أقركم الله، لم يجز؛ لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله.
فصل:
وتجوز الهدنة على غير مال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الحديبية، وغيرهم بغير مال. وتجوز على مال يأخذه منهم؛ لأنه إذا جازت بغير مال، فعلى مال أولى، فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم، فقد أطلق أحمد المنع منه؛ لأن فيه صغارا على المسلمين. وهذا محمول على غير حال الضرورة. فأما عند الحاجة، مثل أن يخاف على المسلمين قتلا، أو أسرا، أو تعذيب من عندهم من الأسارى، فيجوز، لما روى الزهري قال:«أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان: أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر، فعلت.» فلولا أنه جائز، لما جعله له النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال. فجاز دفع أعلاهما بأدناهما.
فصل:
ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية. ولا يجوز شرط رد النساء المسلمات، لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . ولما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح في الحديبية، جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها يطلبانها، فأنزل الله تعالى:{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله منع الصلح في النساء» ؛ ولأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك، فيصيبها، أو تفتن في دينها.
ولا يجوز رد الصبيان العقلاء؛ لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم، وقلة معرفتهم، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم. وإن شرط رد الرجال بها، لزم الوفاء لهم،
بمعنى أنهم إن جاءوا في طلب من جاء منهم، لم يمنعوا من أخذه ولا يجبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سرا بالفرار منهم وقتالهم؛ لأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فجاء الكفار في طلبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا» ، فرجع معهم، فقتل أحدهم، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يلمه، ولم ينكر عليه.
وإن جاءت امرأة مسلمة، لم يجز ردها، ولا يجب رد مهرها؛ لأن بضعها لا يدخل في الأمان. وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم المهر؛ لأنه شرط رد النساء، فكان شرطا صحيحا، فلما نسخ ذلك، وجب رد البدل، لصحة الشرط، بخلاف حكم من بعده.
فصل:
وإن شرط في الهدنة شرطا فاسدا، كرد المرأة أو مهرها، أو السلاح، أو إدخالهم الحرم، أو شرط لهم مالا، فهل يبطل عقد الهدنة؟ على وجهين؛ بناء على الشروط الفاسدة. ومتى وقع العقد باطلا، فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا للأمان، كان آمنا؛ لأنه دخل بناء على العقد. ويرد إلى دار الحرب. ولا يقر في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح.
فصل:
وإن عقدت الهدنة على مدة، وجب الوفاء بها، لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم، لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا، فيذهب معنى الصلح. وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره، لزمه إمضاؤه؛ لأنه عقد لازم، فلم يجز نقضه بموت عاقده، كعقد الذمة. وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين، وأهل ذمتهم؛ لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم. ولا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب، ولا منع بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة لم تعقد على ذلك. فإن سباهم قوم، لم يكن للمسلمين شراؤهم؛ لأنهم في عهدهم، فلم يملكوهم، كأهل الذمة. وإن أتلف عليهم المسلمون شيئا، لزمهم ضمانه؛ لأنهم في عهد، فأشبه أهل الذمة. وإن جاءنا منهم عبد أو أمة، مسلما، لم يرد إليهم؛ لأنه صار حرا بقهره سيده، وإزالة يده بدخوله دار الإسلام.
فصل:
ومن أتلف منهم شيئا على مسلم، لزمه ضمانه، وإن قتله، فعليه القصاص. وإن قذفه فعليه الحد؛ لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم، وأمانهم من المسلمين، في النفس، والمال، والعرض، فلزمهم ما يجب في ذلك. ومن شرب منهم خمرا أو زنى،
لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة. وإن سرق مال مسلم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه حق خالص لله تعالى، أشبه حد الزنا.
والثاني: يقطع؛ لأنه يجب لصيانة حق الآدمي، فأشبه حد القذف.
فصل:
وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]
…
الآية، والتي بعدها، وقَوْله تَعَالَى:{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وقوله سبحانه:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ؛ ولأن الهدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه، ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام؛ لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل، وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد. وإن نقض بعضهم، وسكت سائرهم، انتقضت الهدنة في الجميع؛ لأن ناقة صالح عقرها واحد، فلم ينكر عليه قومه، فعذبهم الله سبحانه جميعا. ولما هادن النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر مع قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة، وأعانهم نفر من قريش، وأمسك سائر قريش، فكان ذلك نقض عهدهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة. فإن أنكر الممسك على الناقض، أو اعتزلهم، أو راسل الإمام به، لم ينتقض عهده؛ لأنه لم ينقض، ولا رضي بالنقض. ويؤمر بتسليم الناقض، أو التميز عنه. فإن لم يفعل مع القدرة عليه، انتقضت هدنته أيضا؛ لأنه صار مظاهرا للناقض. وإن لم يقدر على ذلك، فحكمه حكم الأسير. فإذا أسر الإمام منهم قوما، فادعوا أنهم ممن لم ينقض، وأشكل، قبل قولهم؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.
فصل:
وإن خاف الإمام نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم، لقول الله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، يعني: أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم، ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض. ولا يفعل ذلك إلا الإمام؛ لأن نقضها لخوف الخيانة، يحتاج إلى نظر واجتهاد