الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلدوا فيه الحد، وفي قدره روايتان:
إحداهما: أربعون؛ لما روى حصين بن المنذر أن علياً رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة. وهذا أحب إلي. رواه مسلم.
والثانية: ثمانون؛ لما روى أنس، أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود، فضرب عمر ثمانين. متفق عليه. وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فاتفقوا عليه، فكان إجماعاً.
وحد العبد نصف حد الحر؛ لأنه حد يتبعض، فأشبه الحد في الزنا والقذف. ويجلد بالسوط، ولأن عمر وعلياً رضي الله عنهما جلدا بالسياط، ولأنه حد فيه ضرب، فكان بالسوط، كحد الزنا.
فصل
ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فالبينة شاهدان عدلان. ويقبل فيه إقرار مرة؛ لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال، فأشبه حد القذف، ولا يحد بوجود الرائحة منه؛ لأنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها لا تسكر، والحد يدرأ بالشبهات. عنه: أنه يحد؛ لأن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما حدا بالرائحة، وإن وجد سكران، أو تيقنا المسكر، فعن أحمد: أنه لا يحد؛ لأنه يحتمل أن يكون مكرهاً، أو ظن أنها لا تسكر، وعلى الرواية التي يحد بالرائحة، يجب أن يحد هاهنا؛ لأن حصيناً قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، ففعل. وقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة.
[باب إقامة الحد]
لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام، أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى. ويفتقر إلى الاجتهاد. ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته، ثم خلفاؤه بعده. ولا يلزم الإمام حضور إقامته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت
فارجمها» وأمر برجم ماعز ولم يحضر. وأتي بسارق، فقال:«اذهبوا فاقطعوه» . وجميع الحدود في هذا سواء، حد القذف وغيره؛ لأنه لا يؤمن فيه الحيف، والزيادة على الواجب. ويفتقر إلى الاجتهاد، فأشبه سائر الحدود، إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد» . وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفاً، عالماً بالحدود وكيفية إقامتها؛ لأنه إذا لم يعلم، لا يمكنه الإتيان به على وجهه. وهل تشترط عدالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تشترط؛ لأنه ولاية، فنافاها الفسق، كولاية التزويج؛ ولأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص.
والثاني: لا يشترط؛ لأنها ولاية ثبتت بالملك، أشبهت ولاية التأديب. وفي اشتراط الذكورية وجهان، كما ذكرنا في العدالة. فإن قلنا: تشترط، ففي أمة المرأة وجهان:
أحدهما: يفوض حدها إلى وليها، كتزويجها.
والثاني: يفوض إلى الإمام، كأمة الصغير. وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان. ووجههما ما تقدم. فإن قلنا: تشترط، لم يثبت لمكاتب؛ لأنه ليس من أهل الولاية، ويفوض إلى الإمام.
الشرط الثاني: أن يختص بالمملوك، فأما المشترك، والأمة المزوجة، والمكاتبة، فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام؛ لأن ابن عمر قال ذلك، ولا مخالف له في الصحابة، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم، فأشبهوا من بعضه حر.
الشرط الثالث: أن يكون الحد جلداً، كحد الزنا والشرب والقذف. فأما القطع والقتل في الردة، فلا يملكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالجلد، فلا يثبت في غيره؛ ولأن الجلد تأديب، فيملكه السيد، كتأديبه على حقوقه. وفي تفويضه إليه ستر على عبده، كيلا يفتضح بإقامة الإمام له، فتنقص قيمته. وهذا منتف في القطع والقتل؛ ولأن فيهما إتلافاً فيحتاج إلى مزيد احتياط. قال القاضي: وكلام أحمد يقتضي رواية أخرى: أنه يقيمهما؛ لعموم قوله عليه السلام: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولأن ابن عمر قطع عبداً سرق. وحفصة قتلت أمة سحرتها.
الشرط الرابع: أن يثبت عنده سببه بإقرار، أو بينة. فإن ثبت بإقرار، فللسيد أن يسمعه، ويقيم الحد به إذا كان عالماً بشروط الإقرار وكيفيته. وإن ثبت ببينة، اعتبر ثبوتها عند الحاكم؛ لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة، والاجتهاد فيها، ومعرفة شروطها، بخلاف غيره. وذكر القاضي: أن السيد إن عرف شروطها، وأحسن استماعها، ملك سماعها، وإقامة الحد بها، كالإقرار. ولا يقيم الحد بعلمه ورؤيته؛ لأن الإمام لا يقيمه بعلمه، فالسيد أولى. وعن أحمد: أنه يقيمه بعلمه؛ لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده.
فصل
ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد. وقد روى بريدة:«أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي حتى تلدي فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه. فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي، فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت.» رواه أبو داود. فإن كان الحد قتلاً، فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل. وإن كان جلداً، وكانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها، أقيم عليها الحد، وإن كانت ضعيفة أو في نفاسها، فقال أبو بكر: يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها، ولا تؤخر، كالمريض.
وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي، تأخيرها حتى تطهر من نفاسها، ويؤمن معه تلفها؛ لما روي عن علي قال:«فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي انطلق فأقم عليها الحد فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فأخبرته، فقال: دعها حتى ينقطع عنها الدم، ثم أقم عليها.» رواه مسلم بنحو هذا المعنى.
ولا يجلد السكران حتى يصحو؛ لأن المقصود زجره وتنكيله، ولا يحصل في حال سكره.
فصل
ولا يقام الحد في المسجد، جلداً كان أو غيره؛ لما روى حكيم بن حزام، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» ؛ ولأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء، فيتلوث به المسجد، فإن أقيم به سقط الفرض؛ لأن المقصود حاصل. والمرتكب للنهي غير المحدود، فلم يمنع
ذلك سقوط الفرض عنه، كما لو اقتص في غير المسجد.
فصل
ومن أقيم عليه الحد، فمات منه، فالحق قتله، ولا شيء على من حده جلداً كان أو غيره؛ لأنه حد وجب لله، فلم يود من مات به، كالقطع في السرقة. وإن زاد على الحد، فمات، وجب ضمانه؛ لأنه تعدى تعدياً أعان على تلفه، فوجب عليه ضمانه، كما لو ضربه أجنبي. وفي قدره روايتان:
إحداهما: الدية كلها؛ لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله، وعدوان، فكان الضمان على العادي الدية، كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله.
والثانية: نصف الدية؛ لأنه مات بفعل مضمون وغيره، فكان على العادي، نصف الدية، كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر، فمات. وسواء زاد سوطاً، أو أكثر، وسواء زاد خطأ، أو عمداً؛ لأن الخطأ يضمن، كالعمد. ومتى كانت الزيادة من قبل الجلاد، فالضمان على عاقلته في الخطأ، وشبه العمد. وإن كان له من يعد عليه، إما الإمام، أو غيره، فلم يخبره بانتهاء العدد، فالضمان على من يعد؛ لأن الخطأ منه. وإن أمره الإمام بالزيادة، فزاد جاهلاً بتحريم الزيادة، فالضمان على الإمام، كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله. وإن علم تحريم ذلك، فالضمان عليه. وقال القاضي: هو على الإمام، كما لو جهل الحال، ومتى كانت الزيادة من الإمام عمداً، فالضمان على عاقلته؛ لأنه عمد الخطأ، إلا أن يكون مما يقتل غالباً، فعليه في ماله؛ لأنه عمد. وإن كان خطأ، ففيه روايتان:
إحداهما: الضمان على عاقلته؛ لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة، فكانت على عاقلته، كما لو أخطأ في غير الحكم.
والثانية: هي في بيت المال؛ لأنه نائب الله تعالى، فيتعلق الحكم بمال الله، ولأن خطأه يكثر، فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم.
فصل
وإذا اجتمع عليه حدود من جنس، مثل أن زنى مرات، أو شرب الخمر مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها طهرة سببها واحد، فتداخلت، كالطهارة. وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها، أقيمت كلها؛ لأن أسبابها مختلفة، فلم تتداخل، كالطهارات المختلفة، ويبدأ بالأخف فالأخف؛ لأننا إذا بدأنا بالأغلظ، لم نأمن أن يموت فيفوت به سائرها، وأخفها حد الشرب إن قلنا: هو أربعون، فيبدأ به، ثم بحد
القذف. وإن قلنا: هو ثمانون، بدئ بحد القذف؛ لأنه كحد الشرب في عدده، ويرجح لكونه حق آدمي، ثم بحد الشرب، ثم بحد للزنا، ثم بقطع للسرقة، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله. وإن اجتمع قطع السرقة، وقطع المحاربة، قطعت يده لهما؛ لأن محلهما واحد، ثم تقطع رجله في الحال؛ لأن قطعهما حد واحد، فتجب الموالاة فيه، كالجلدات في الزنا، فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل، كالرجم في الزنا، أو القتل للمحاربة، قتل، وسقط سائرها؛ لأن ذلك يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل، فاجتزئ به عنها، كما لو قطع في المحاربة، وأخذ المال، ولأن زجره يحصل بالقتل، فلا حاجة إلى غيره.
فصل
وإن اجتمعت حدود للآدميين، استوفيت كلها، سواء كان فيها قتل، أو لم يكن. ويبدأ بأخفها، لما ذكرنا. وإن اجتمعت حدود لله تعالى، وللآدمي، ولا قتل فيها استوفيت كلها، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد، كالقطع للقصاص والسرقة، فإنه يقدم القصاص؛ لأنه حق آدمي، ويسقط الحد لفوات محله. وإن كان فيها قطع، سقط ما سواه من حدود الله، وتستوفى حقوق الآدميين، ثم يقتل، لما ذكرناه.
فصل
والضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود؛ لأن الله تعالى، خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى:{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ولأن الفاحشة به أعظم، فكانت عقوبته أشد، ثم بعده الضرب في حد القذف؛ لأنه يليه في العدد، وهو حق آدمي، ثم الضرب في الشرب؛ لأنه أخف الحدود، وهو محض حق الله تعالى، ثم التعزير؛ لأنه لا يبلغ به الحد. وذكر الخرقي: أن العبد يضرب بدون سوط الحر؛ لأن حده أقل عدداً، فيكون أخف سوطاً، كالشرب مع الزنا. ويحتمل التسوية بينهما في السوط؛ لأن الله تعالى قال:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . ولا يتحقق النصف إذا نصفنا العدد، إلا مع تساوي السوطين.
فصل
ويضرب في جميع الحدود بسوط وسط، لا جديد، ولا خلق، لما روي «أن رجلاً اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور،