الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيمان البيعة أيمان رتبها الحجاج، تشتمل على اليمين بالله تعالى والعتاق، والطلاق، والحج، وصدقة المال، يستحلف بها الناس عند عقد البيعة.
فصل:
والحالف مخير في يمينه بين البر، وبين التكفير. ولا يحرم المحلوف عليه بها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» .
وإن فعل المحلوف عليه ناسياً، أو مكرهاً، لم يحنث، لقول الله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه والدارقطني؛ ولأنه غير قاصد للمخالفة، فلم يحنث، كالنائم.
وعنه: أنه يحنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه قاصداً لفعله، أشبه غير الناسي. وإن فعله جاهلاً، كرجل حلف لا يكلم فلاناً، فكلمه يظنه غيره، أو سلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم به، أو حلف لا يفارقه حتى يقضيه حقه. فأعطاه قدر حقه، ففارقه، فوجده رديئاً، ففيه روايتان، كالناسي؛ لأنه غير قاصد للمخالفة. ومن حلف على غيره، ألا يفعل وكان المحلوف عليه ممن يمتنع بيمينه، فهو في الجهل والنسيان، كالحالف. وإن كان ممن لا يمتنع بيمينه، كالسلطان، والحاج، استوى في الحنث العلم والجهل والنسيان؛ لأنه مما لا يؤثر اليمين في امتناعه، فأشبه تعليق الطلاق بطلوع الشمس.
[باب كفارة اليمين]
ومن حلف، فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده، سواء كانت الكفارة صوماً أو غيره، لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة، إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» متفق عليه. وفي لفظ: «ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود؛ لأنه كفر بعد سببه، فجاز ككفارة الظهار، والقتل بعد الجرح.
فصل:
وهو مخير في أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، لقول الله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وقد شرحنا العتق والإطعام في كفارة الظهار.
فأما الكسوة، فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين، للآية. وتقدر الكسوة بما يجزئ في الصلاة، وهو ثوب للرجل، وللمرأة درع وخمار يستر جميعها. ولا يجزئ السراويل، ولا إزار وحده؛ لأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة، فأشبهت الصلاة. وتجزئه كسوتهم من القطن والكتان والصوف، وسائر ما يسمى كسوة؛ لأن الله تعالى لم يعين جنسها، فوجب أن لا يتعين. وتجوز كسوتهم من الجديد واللبيس، إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس، فلا يجزئ؛ لأن ذلك معيب، فأشبه الحب المعيب. وإن كسا بعض المساكين من جنس وباقيهم من جنس آخر، أو أطعمهم من جنس، جاز؛ لأنه قد أطعم وكسا عشرة، فجاز، كما لو كان من جنس واحد. وإن أطعم بعضهم، وكسا باقيهم، جاز؛ لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب، فأجزأ، كما لو أخرجه من جنس واحد؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد، فقام مقامه في بعضه كالتيمم مع الماء. وإن أعتق نصف عبد. وأطعم خمسة مساكين، أو كساهم، لم يجزئه؛ لأن مقصودهما مختلف متباعد، فلم يكمل أحدهما بصاحبه، كالإطعام والصيام. ويشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة، وعنه: لا يشترط؛ لأن الأمر بها مطلق، فلم يجز تقييده بغير دليل، فظاهر المذهب الأول؛ لأن في قراءة أبي وابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون خبراً.
فصل:
وإن حلف العبد أجزأه الصيام؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن من العبد حالاً، وإذا أذن له سيده في التكفير بالمال، لم يلزمه؛ لأنه غير مالك له. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يجزئه غير الصيام. وقال غيره: فيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه إلا الصيام؛ لأنه لا يملك المال، فلم يجز له التكفير به، كالحر يكفر بمال غيره.
والثانية: له التكفير بالمال إذا أذن له سيده فيه. وملكه قدر ما يكفر به؛ لأنه قدر على التكفير بالمال، فصح تكفيره به، كالمعسر يملك ما يكفر به، فعلى هذا له التكفير بالإطعام. وهل له التكفير بالعتق؟ على روايتين:
إحداهما: له ذلك؛ لأنه من صح تكفيره بالإطعام، صح تكفيره بالعتق، كالحر.
والثانية: لا يجوز؛ لأن العتق يقتضي الولاية والإرث، وليس ذلك للعبد. فإن قلنا: يجوز، فأذن له في إعتاق نفسه عن كفارته، ففعل، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنها رقبة تجزئ عن غيره. فأجزأت عنه كغيره.
والثاني: لا تجزئه؛ لأنه لا يملك نفسه، فلا يجزئه التكفير بها، كما لو لم يؤذن له؛ ولأن الكفارة عنه، لم يجز صرفها إلى نفسه، كالحر. فأما إن أذن في العتق مطلقاً، لم يجز أن يعتق نفسه، كما لو وكل غريماً في إبراء بعض غرمائه، لم يملك إبراء نفسه. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أنه يجزئه. فإن حنث وهو عبد، فعتق، فقال الخرقي: لا يجزئه غير الصيام؛ لأنه حين الوجوب لا يجزئه غيره؛ ولأنه حكم تعلق بالعبد، فلم يتغير بحريته كالحد. ومن جعل للعبد التكفير بالمال في حال رقه، فهنا أولى. ومن اعتبر أغلظ الأحوال وكان موسراً، لم يجز له التكفير بغير المال.
فصل:
ومن حلف أيماناً كثيرة على شيء واحد، فحنث، لم يلزمه أكثر من كفارة؛ لأنها أسباب كفارات من جنس، فتداخلت، كالحدود. وإن حلف يميناً واحدة على أفعال مختلفة، فحنث في الجميع، أجزأه كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، فلم يحنث بها أكثر من كفارة، كما لو حلف على فعل واحد. وإن حنث بفعل واحد، انحلت يمينه في الباقي. وإن حلف أيماناً على أفعال فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه عن الجميع كفارة واحدة، اختارها أبو بكر والقاضي؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت، كالحدود.
والثانية: يجب في كل يمين كفارة، وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارتها، كالمختلفة الكفارة. قال أبو بكر: المذهب الأول، وقد رجع أحمد عن الرواية الأخرى. ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة، كالظهار واليمين بالله، لزمته في كل يمين كفارتها؛ لأنها أجناس، فلم تتداخل، كالحدود من أجناس.