المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب حد القذف] - الكافي في فقه الإمام أحمد - جـ ٤

[ابن قدامة]

فهرس الكتاب

- ‌[كتاب الديات]

- ‌[باب مقادير الديات]

- ‌[باب ديات الجروح]

- ‌[باب دية الأعضاء والمنافع]

- ‌[باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله]

- ‌[باب القسامة]

- ‌[باب اختلاف الجاني والمجني عليه]

- ‌[باب كفارة القتل]

- ‌[كتاب قتل أهل البغي]

- ‌[باب أحكام المرتد]

- ‌[باب الحكم في الساحر]

- ‌[كتاب الحدود]

- ‌[باب المحارب]

- ‌[باب حد السرقة]

- ‌[باب حد الزنا]

- ‌[باب حد القذف]

- ‌[باب الأشربة]

- ‌[باب إقامة الحد]

- ‌[باب التعزير]

- ‌[باب دفع الصائل]

- ‌[كتاب الجهاد]

- ‌[باب ما يلزم الإمام وما يجوز له]

- ‌[ما يلزم الجيش من طاعة الإمام]

- ‌[باب الأنفال والأسلاب]

- ‌[باب قسمة الغنائم]

- ‌[باب قسمة الخمس]

- ‌[باب قسمة الفيء]

- ‌[باب حكم الأرضين المغنومة]

- ‌[باب الأمان]

- ‌[باب الهدنة]

- ‌[باب عقد الذمة]

- ‌[باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة]

- ‌[باب العشور]

- ‌[باب ما ينتقض به عهد الذمة]

- ‌[كتاب الأيمان]

- ‌[باب كفارة اليمين]

- ‌[باب جامع الأيمان]

- ‌[باب النذر]

- ‌[كتاب الأقضية]

- ‌[باب ما على القاضي في الخصوم]

- ‌[باب صفة القضاء]

- ‌[باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي]

- ‌[باب القسمة]

- ‌[باب الدعاوى]

- ‌[باب اليمين في الدعاوى]

- ‌[كتاب الشهادات]

- ‌[باب من تقبل شهادته ومن ترد]

- ‌[باب عدد الشهود]

- ‌[باب تحمل الشهادة وأدائها]

- ‌[باب الشهادة على الشهادة]

- ‌[باب اختلاف الشهود]

- ‌[باب الرجوع عن الشهادة]

- ‌[كتاب الإقرار]

- ‌[باب الاستثناء في الإقرار]

- ‌[باب الرجوع عن الإقرار]

- ‌[باب الإقرار بالمجمل]

- ‌[باب الإقرار بالنسب]

الفصل: ‌[باب حد القذف]

فصل

ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وقال أصحابنا: أقل ذلك واحد مع الذي يقيم الحد؛ لأن اسم الطائفة يقع على واحد، بدليل قول الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات: 9] إلى قَوْله تَعَالَى: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقد فسره ابن عباس بذلك. والمستحب أن يحضر أربعة؛ لأن بهم يثبت الحد، والله أعلم.

[باب حد القذف]

باب حكم القذف وهو الرمي بالزنا، وهو محرم وكبيرة؛ لقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» متفق عليه.

فصل

ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة:

أحدها: أن يكون مكلفاً لما تقدم.

والثاني: أن يكون المقذوف محصناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . مفهومه أنه لا يجلد بقذف غير المحصن. والمحصن: هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله، فلا يجب الحد على قاذف الكافر، والمملوك، والفاجر؛ لأن حرمتهم ناقصة، فلم تنتهض لإيجاب الحد، ولا يجب على قاذف الجنون؛ لأن زناه لا يوجب الحد عليه، فلم يجب الحد بالقذف به، كالوطء دون الفرج، ولا يجب الحد على قاذف الصغير الذي لا يجامع مثله كذلك، ولأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به، دون المقذوف. وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان:

ص: 96

إحداهما: يشترط؛ لما ذكرنا في المجنون.

والثانية: لا يشترط، بل متى قذف من يجامع مثله، فعليه الحد؛ لأنه عاقل حر عفيف، يتعير بالقذف، أشبه البالغ. وإن قذف مجبوباً، أو رتقاء، فعليه الحد، لعموم الآية؛ ولأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به، فلا ينتفي العار عنه.

فصل

الثالث: أن يكون القاذف والداً، فإن قذف والد ولده وإن سفل، فلا حد عليه، أباً كان أو أماً؛ لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب لولد على والده، كالقصاص. ولو قذف زوجته، فماتت وله منها ولد، أو قذفت زوجها ولها منه ولد، سقط الحد؛ لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه، فلم يثبت له عليه بالإرث. وإن كان للميت ولد آخر من غيره، ثبت الحد؛ لأنه يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد.

فصل

الرابع: أن يقذف بالزنا الموجب للحد، فإن قذف بالوطء دون الفرج والقبلة، لم يجب الحد به، لما تقدم.

والقذف صريح وكناية؛ فالصريح أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو زنى فرجك، أو دبرك أو ذكرك، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف، فهذا يجب به الحد، ولا يقبل تفسيره بما يحيله؛ لأنه صريح فيه، أشبه التصريح بالطلاق. وإن قال: يا لوطي، فقال أكثر أصحابنا: هو صريح، وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فلا حد عليه، وهذا بعيد؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد. وإن قال: زنى فلان، وأنت أزنى منه، فهو قاذف لهما؛ لأنه وصف هذا بالزنى على وجه المبالغة؛ لأن لفظة أفعل للتفضيل. وإن قال: أنت أزنى من فلان، أو أزنى الناس، فهو قاذف للمخاطب كذلك، وليس بقاذف لفلان؛ لأن لفظة أفعل يستعمل للمنفرد بالفعل، كقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: 35] وإخباره عن قوم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] وقال القاضي: هو قذف لهما؛ لأن لفظة أفعل يقتضي اشتراكهما في الفعل، وانفراد أحدهما بمزية. وإن قال: زنأت بالهمزة، فهو قذف في قول أبي بكر وأبي الخطاب؛ لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف. وقال ابن حامد: إن كان القاذف عامياً فهو قاذف، وإن كان يعلم العربية، فليس بقاذف؛ لأن معناه طلعت، كما قال الشاعر:

ص: 97

وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

وسواء قال في الجبل، أو لم يقل؛ لأن معناها لا يختلف بذلك وعدمه. وإن قال لرجل: يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فهو قاذف لهما؛ لأن اللفظ صريح في الزنا وزيادة هاء التأنيث في المذكر، وحذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى، فلم يمنع الحد كاللحن، هذا قول أبي بكر. وقال ابن حامد: ليس بقذف يوجب الحد؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا، كالراوية والحفظة. وإن قال لامرأة: زنيت بفتح التاء، ولرجل زنيت بكسرها، فهو قاذف لهما؛ لأنه خاطبهما بنسبة الزنا إليهما، فأشبه ما لو لم يلحن. وإن قذف رجلاً. فقال آخر: صدقت، ففي المصدق وجهان:

أحدهما: يكون قاذفاً؛ لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله، كما لو قال: لي عليك ألف. قال: صدقت. والثاني: لا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل بتصديقه في غير هذا. وإن قال: أخبرني فلان أنك تزني، فكذبه الآخر، فليس بقاذف؛ لأنه إنما أخبر عن غيره، فأشبه ما لو صدقه الآخر، ويحتمل أنه قاذف، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه نسب إليه الزنا. وإن قال رجل لامرأة: زنيت، فقالت: بك، فلا حد عليهما؛ لأنها صدقته، فسقط الحد عنه، ولا حد عليها؛ لأنها لم تقذفه؛ لأنه يتصور زناها به من غير أن يكون زانياً، بأن تكون عالمة بأنه أجنبي، وهو يظنها زوجته، أو نائماً، استدخلت ذكره ونحو ذلك. وإن قال: زنت يداك، أو رجلاك، لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب، وهو قول ابن حامد؛ لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه» . ويحتمل أن يكون قاذفاً؛ لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه، فأشبه ما لو قال: زنى فرجك. وإن قال: زنى بدنك، ففيه وجهان:

أحدهما: هو كقوله: زنت يداك؛ لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة، فلم يكن قذفاً.

والثاني: عليه الحد؛ لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن والفرج منه.

فصل

وأما الكناية، فنحو قوله: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول للرجل: يا مخنث، أو يا نبطي يا فارسي وليس هو كذلك، أو يقول لزوجة رجل: قد فضحتيه،

ص: 98

وجعلت له قروناً، ونكست رأسه، أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا، ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فهذا ليس صريح في القذف؛ لأنه يحتمل الفجور، والخبث بغير الزنا. والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله، والمخنث المتطبع بطباع التأنيث، وسائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا، فلم يجب به الحد مع الاحتمال.

وعنه: أن الحد يجب بذلك كله؛ لما روى سالم عن أبيه: أن رجلاً قال: ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فجلده عمر الحد. وروى الأثرم: أن عثمان جلد رجلاً قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض بزنا أمه؛ ولأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عرفاً فجرت مجرى الصريح، ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة الحكم، بدليل الطلاق والعتاق، كذا هاهنا. وفيما إذا قال: يا نبطي قد نفاه عن نسبه، فيكون قاذفاً لأمه أو لإحدى جداته. وإن قال لثابت النسب: لست بابن فلان، فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا حد إلا في اثنين، قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه؛ ولأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنا أمه. ويحتمل ألا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه وأخلاقه.

وإن كان الولد منفياً باللعان، فليس بقذف؛ لأن الشرع نفاه. وإن قال لابنه: لست بابني، فقال القاضي: ليس بقذف؛ لأن الإنسان يغلظ لولده في القول تأديباً.

فصل

ومن قال لامرأة: أكرهت على الزنا، فلا حد عليه؛ لأنه لم يقذفها بالزنا وعليه التعزير؛ لأنه ألحق بها العار. وكل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا، يوجب التعزير؛ لأنه أذى لمن لا يحل أذاه. وإذا تقاصر عن الحد، أوجب التعزير، كالزنا فيما دون الفرج.

فصل

وحد القذف ثمانون جلدة إن كان القاذف حراً؛ لقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان عبداً، فأربعون؛ لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين، فبلغ عبد الله بن عامر بن ربيعة، فقال: أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم، فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو؛ ولأنه حد يتبعض. فكان المملوك على النصف من الحر، كحد الزنا. وإن كان القاذف بعضه حر، فعليه بالحساب لما ذكرنا.

ص: 99

فصل

والحد في القذف والتعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف، يستوفى إذا طالب، ويسقط إذا عفا عنه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج يقول: تصدقت بعرضي» والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له، ولأنه جزاء جناية عليه لا يستوفى إلا بمطالبته، فكان له، كالقصاص. وعنه: أنه حق لله تعالى؛ لأنه حد فكان حقاً لله كسائر الحدود. فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي، ولا يسقط بعد وجوبه بالعفو، كالقطع في السرقة. ولو قال لغيره: اقذفني، فقذفه، لم يجب الحد؛ لأنه إذن في سبه، فلم يوجب الحد كالقصاص، والقطع في السرقة.

فصل

وإن جن من له الحد، لم يكن لوليه المطالبة به؛ لأنه يجب للتشفي، ودرك الغيظ، فأخر إلى الإفاقة، كالقصاص. وإن قذف مملوكاً، فالطلب بالتعزير والعفو عنه له، دون سيده؛ لأنه ليس بمال، ولا بدل مال، فأشبه فسخ النكاح للمعتقة تحت العبد. وإن مات العبد، سقط؛ لأنه لو ملكه السيد بحق الملك، لملكه في حياته، والعبد لا يورث. وإن سمع الإمام رجلاً يقذف آخر في حضرته، أو غيبته، لم يلزمه أن يسأله عن ذلك ويحققه؛ لأن القذف لا يوجب حداً حتى يطالب به صاحبه، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها.

فصل

ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم، كأهل البلدة الكبيرة، فلا حد عليه؛ لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطع بكذب القاذف، وإن قذف جماعة يمكن زناهم بكلمات، فعليه لكل واحد حد. وإن قذفهم بكلمة واحدة. ففيه ثلاث روايات:

إحداهن: عليه حد واحد؛ لأن كلمة القذف واحدة، فلم يجب بها أكثر من حد واحد، كما لو كان المقذوف واحداً، ولأنه بالحد الواحد يظهر كذبه، ويزول عار القذف عن جميعهم، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم، وإن طلبه واحد، أقيم له، أيضاً، ولا مطالبة لغيره. وإن أسقط أحدهم حقه، لم يسقط حق غيره؛ لأنه ثابت لهم على سبيل البدل، فأشبه ولاية النكاح.

والثاني: عليه لكل واحد حد؛ لأنه قذفه، فلزمه الحد له، كما لو قذفه بكلمة مفردة.

والثالث: إن طلبوه جملة، فحد واحد؛ لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم. وإن طلبوه

ص: 100

متفرقاً، أقيم لكل مطالب مرة؛ لأن استيفاء المطالب الأول له خاصة، فلم يسقط به حق الباقين. وإن قال لامرأة: زنى بك فلان، فهي كالتي قبلها؛ لأنه قذفهما بكلمة واحدة ويحتمل ألا يجب إلا حد واحد، وجهاً واحداً؛ لأن القذف لهما بزنا واحد، يسقط حده ببينة واحدة، ولعان واحد إن كانت المرأة زوجته.

فصل

ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة، فأيهم طالب بحده، استوفي له، ثم إذا طالب غيره استوفي له، كالديون. فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقاً؛ لأن السابق أولى. فإن تساويا، أقرع بينهما إن تشاحا. ولو قال: يا زاني ابن الزانية، كان قاذفاً لهما بكلمتين. فأيهما طالب حد له. فإن اجتمعا وتشاحا، حد للابن أولاً؛ لأنه بدأ بقذفه، ثم يحد لأمه. ومتى حد مرة، لم يحد لآخر حتى يبرأ ظهره؛ لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف. فإن كان القاذف عبداً فكذلك؛ لأنهما حدان، فأشبها حدي الحر. ويحتمل أن لا يوالى بينهما، ولأنهما جميعاً كحد حر، فيوالى بينهما، كما يوالى بينه.

فصل

وإن قذف واحداً مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها من جنس واحد لمستحق واحد. فإذا كانت قبل الإقامة، تداخلت، كسائر الحدود، وإن حد مرة، ثم قذفه بذلك الزنا، عزر ولم يحد؛ لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا، فجلده عمر، ثم أعاد أبو بكرة القذف، فأراد عمر جلده، فقال علي: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبه، فترك عمر جلده. يعني: إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه، فقد كملت شهادة أربعة. فإن لم تجعله كشاهد آخر، فلا تحده، ولأنه قد حصل التكذيب بالحد، فاستغني عما سواه. وإن قذفه بزنا آخر عقيب الحد، ففيه روايتان:

إحداهما: يحد؛ لأنه قذف بعد الحد، لم يظهر كذبه فيه بحد، فلزمه الحد، كما لو قذفه بعد زمن طويل.

والثانية: لا حد عليه؛ لأنه قد حد له مرة، فلا يحد له ثانياً، كما لو قذفه بالزنا الأول. وإن قذفه بعد طول الفصل، حد؛ لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف بإقامة الحد له، وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها:

فصل

وإذا قال الرجل: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزانية، فهو قاذف لأمه. فإن كانت حية، فهو قاذف لها دونه؛ لأن الحق لها، ويعتبر فيها شروط الإحصان؛ لأنها المقذوفة. وإن كانت أمه ميتة، فالقذف له؛ لأنه قدح في نسبه. وعلى سياق هذا، لو قذف جدته، ملك

ص: 101

المطالبة بالحد؛ لما روى الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته» لقول ابن مسعود: لا حد إلا في قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه. فعلى هذا، يعتبر الإحصان في الرجل، دون أمه. فلو كانت أمه ميتة أو مشركة، أو أمة، وهو محصن، لوجب له. وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو بكر: لا حد على قاذف ميت؛ لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير الأم، ولا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه، لم يلزمه حد؛ لأنه لم يقدح في نسبه، بخلاف مسألتنا، ولو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد، لم يجب. وإن مات بعد المطالبة به، قام وارثه مقامه؛ لأنه حق له يجب بالمطالبة، فأشبه رجوع الأب فيما وهب لولده.

فصل

وإذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة، فعليهم الحد، لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ولأن أبا بكرة، ونافعاً وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بن شعبة، ولم يكمل زياد شهادته، فحد عمر رضي الله عنه الثلاثة بمحضر من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً، وكذلك إن لم يكمل الرابع شهادته، فعليهم الحد كذلك. وإن شهد ثلاثة، وزوج المرأة، حد الثلاثة؛ لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا، لإقراره على نفسه بعداوتها، لجنايتها عليه، بإفساد فراشه، وإلحاق العار به، وعلى الزوج الحد، إلا أن يسقطه عنه بلعانه. وإن شهد أربعة، فبانوا فساقاً، أو عبيداً، أو عمياناً، أو بعضهم، ففيهم ثلاث روايات:

إحداهن: عليهم الحد؛ لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو شهد ثلاثة.

والثانية: لا حد عليهم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وهؤلاء أربعة؛ ولأنه أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم، فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها، فشهد ثقات أنها عذراء.

والثالثة: إن كانوا عمياناً، فعليهم الحد، وإن كانوا فساقاً، أو عبيداً، فلا حد عليهم؛ لأن الأعمى يشهد بما لم يره يقيناً، فيكون شاهد زور يقيناً، وغيرهم بخلاف

ص: 102

ذلك. وإن كان فيهم صبي، أو مجنون، أو من لا تقبل شهادته، فكذلك، والأولى أصح؛ لأن من لا شهادة له، وجوده كعدمه، فأشبه نقص العدد. ولو شهد ثلاثة رجال وامرأتان، حد الجميع؛ لأن شهادة النساء في هذا الباب، كعدمها.

فصل

وإن شهد أربعة بالزنا، ثم رجع أحدهم، فعليهم الحد؛ لأنه نقص عدد الشهود، فلزمهم الحد، كما لو كانوا ثلاثة. وعنه: يحد الثلاثة دون الرابع، اختارها أبو بكر، وابن حامد؛ لأن رجوعه قبل الحد، كالتوبة قبل تنفيذ الحكم، فيسقط الحد عنه، وإن رجعوا كلهم، فعليهم الحد؛ لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة، ويحتمل أن لا يجب عليهم الحد، كالتي قبلها، وإن شهد أربعة، فلم تكمل شهادتهم، لاختلافهم في المكان أو الزمان. أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد، أو لم يصفوا الزنا، أو بعضهم، فهم قذفة، عليهم الحد؛ لأن شهادة الأربعة لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو نقص عددهم. وإن شهد أربعة بالزنا على امرأة، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد على واحد منهم؛ لأن ثبوت عذرة المرأة، دليل على براءتها، فينتفي الحد عنها. لظهور براءتها، وصدق الشهود محتمل، لجواز أن يطأها، ثم تعود عذرتها، فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم.

فصل

وإذا قذف امرأة، وقال: كنت زائل العقل حين قذفتها، ولم يعرف له زوال عقل قبل ذلك، فالقول قولها؛ لأن الظاهر عقله، فأشبه ما لو ضرب ملفوفاً، وادعى أنه كان ميتاً. وإن عرف له زوال عقل، بجنون، أو تبرسم، أو نحوه، فالقول قوله؛ لأن الأصل براءته من الحد، وصدقه محتمل، ولأن الحد يدرأ بالشبهات. وإن قال: زنيت إذ كنت مشركة، أو أمة، ولم تكن كذلك، حد؛ لأنه يعلم كذبه في وصفها بذلك. وإن كانت مشركة أو أمة، لم يحد؛ لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها غير محصنة. وعنه: يحد، حكاها أبو الخطاب؛ لأن القذف في حال لمحصنة. وإن قال: زنيت أنت مشركة، وقال: أردت أنك زنيت في تلك الحال، فقالت: بل قذفتني، ونسبتني إلى الشرك في هذه الحال، فقال القاضي: يحد؛ لأنه خاطبها بالقذف في الحال، فالظاهر إرادة القذف في الحال. واختار أبو الخطاب: أنه لا يحد؛ لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه، وهو أعلم بمراده، واللفظ محتمل لما ادعاه، بأن تكون الواو للحال. وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت غير محصنة، وقالت: أردت قذفي في الحال، حد؛ لأنه قذفها في الحال، فلا يقبل قوله فيما يحيله، وإن قال: إنما كان قذفي لك قبل إحصانك، وقالت: بل بعده. فإن ثبت أنها كانت غير محصنة، فالقول قوله؛ لأن الأصل

ص: 103