الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقدم ولد الأبوين على ولد الأب؟ على وجهين بناء التقديم في الولاية، ومتى اتسع الأقربون لحمل العقل، لم يدخل معهم من بعدهم، وإن كثرت العاقلة في درجة، قسم الواجب بينهم بالسوية؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فيستوون فيه، كالميراث.
فصل
ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه، ولأنه حق لزمهم من غير جنايتهم على سبيل المواساة، فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة؛ لأنه وجب للتخفيف عن الجاني، ولا يزال الضرر بالضرر، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم في قدر الواجب، فيفرض على كل واحد منهم قدرًا يسهل ولا يؤذي؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، ولا توقيف هاهنا، فوجب المصير إلى الاجتهاد، وعنه: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال، وعلى المتوسط ربع مثقال، وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن أقل مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة، وأول مقدار يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال، فوجب على المتوسط، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهل يتكرر هذا الواجب في الأحوال الثلاثة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فيتكرر بالحول كالزكاة.
والثاني: لا يتكرر؛ لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة، فيكون مضرًا، ويعتبر الغنى والتوسط عند حلول الحول كالزكاة.
فصل
وإذا جنى العبد جناية توجب المال، تعلق أرشها برقبته؛ لأنه لا يجوز إيجابها على المولى؛ لعدم الجناية منه، وإلا إهدارها؛ لأنها جناية من آدمي، ولا تأخيرها إلى العتق؛ لإفضائه إلى إهدارها، فتعلقت برقبته، والمولى مخير بين فدائه وتسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم، وإن قتل عبدان رجلًا عمدًا، فقتل الولي أحدهما، وعفا عن الآخر، تعلق برقبته نصف ديته؛ لأنه قتل واحدًا بنصف، وبقي له النصف.
[باب القسامة]
إذا وجد قتيل، فادعى وليه على إنسان قتله، لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين؛ لأنها دعوى في حق، فاشترط لها تعيين المدعى عليه، كسائر الدعاوى، فإذا حرر الدعوى، ولم يكن بينهم لوث، فالقول قول المدعى عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو
يعطى الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم. ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله، كدعوى المال، وهل يستحلف؟ فيه روايتان:
إحداهما: يستحلف للخبر، ولأنه دعوى في حق آدمي، أشبهت دعوى المال.
والأخرى: لا يستحلف، ويخلى سبيله؛ لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله، فلم يستحلف فيها، كالحدود، وإذا قلنا: يستحلف، حلف يمينًا واحدة؛ لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل، فلم تغلظ بالعدد، كاليمن في المال.
وإن كان بينهما لوث، فادعى أنه قتله عمدًا، حلف المدعي خمسين يمينًا، واستحق القصاص؛ لما روى سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج:«أن محيصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم فقالوا: يا رسول الله، قوم كفار ضلال. قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله» متفق عليه.
ولأن اللوث يقوي جنبة المدعي، ويغلب على الظن صدقه، فسمعت يمينه أولًا، كالزوج في اللعان، وإذا حلف استحق القصاص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ولأنها حجة يثبت بها القتل العمد، فيجب بها القود كالبينة، وليس له القسامة على أكثر من واحد؛ لقوله:«يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته» ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه.
فصل
ويقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين في دعوى، فلم تشرع في حق غير المتداعيين، كسائر الأيمان.
والثانية: يقسم من العصبة الوارث وغيرهم خمسون رجلًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب، كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يمينًا واحدة، وعلى الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم، فإن كان له ابنان، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر وكملت يمينًا في حق كل واحد، فإذا كانوا
ثلاثة بنين، حلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وإن كان له أب وابن، حلف الأب تسعة أيمان، وحلف الابن اثنين وأربعين يمينًا؛ لأن اليمين لا تتبعض، فوجب أن تكمل.
فصل
وإن نكل المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، وعن أحمد رحمه الله: أنهم يحلفون ويغرمون الدية؛ لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه، والأول المذهب للخبر. وفي لفظ منه قال:«فيحلفون خمسين يمينًا، ويبرءون من دمه» ، ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فدى الأنصاري بمائة من الإبل، إذ لم يحلفوا ولم يرضوا بيمين اليهود، فإن تعذرت ديته، لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم، كسائر الدعاوى، وإن نكل المدعى عليهم، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يخلى سبيلهم؛ لأنها يمين في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها كسائر الأيمان، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال، كالتي قبلها.
والثانية: يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا؛ لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي، فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان.
والثالثة: تجب الدية على المدعى عليه؛ لأنه حكم يثبت بالنكول، فثبت بالنكول هاهنا، كما لو كانت الدعوى قتل خطأ.
فصل
ومن مات ممن عليه الأيمان، قام ورثته مقامه، ويقسم حصته من الأيمان بينهم، ويجبر كسرها عليهم، كورثة القتيل، فإن مات بعد حلفه البعض، بطل ما حلفه، وابتدءوا الأيمان؛ لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة، ولا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث، وإن جن ثم أفاق، بنى على ما حلفه؛ لأن الموالاة غير مشترطة في الأيمان.
فصل
وتشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص، سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا، أو حرًا أو عبدًا؛ لأنه قتل موجب للقصاص، أشبه قتل المسلم الحر، وظاهر كلام الخرقي: أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ، وشبه العمد، وقتل المسلم الكافر، والحر العبد، والوالد الولد؛ لأن الخبر يدل على وجوب القود بها، فلا
تشرع في غيره، ولأنها مشروطة باللوث، ولا تأثير له في الخطأ، فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء. وقال غيره: تجري القسامة في كل قتل؛ لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص، فيثبت بها غيرها كالبينة، فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص، وإذا ردت الأيمان عليهم، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، وقال بعض أصحابنا: تقسم الأيمان عليهم بالحصص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا» لم يزد عليها. والأول: أقيس؛ لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر الدعاوى، وإن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث، حلف المدعون على صاحب اللوث، وأخذوا حصته من الدية، وحلف المدعى عليه يمينًا واحدة وبرئ. ولا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح والأطراف؛ لأنها تثبت في النفس لحرمتها، فاختصت بها كالكفارة.
فصل
ويشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى، فإن ادعى بعضهم القتل، فكذبه البعض، لم يجب قسامة؛ لأن المكذب منكر لحق نفسه، فقبل كالإقرار. وإن قال بعضهم: قتله هذا، وقال بعضهم: قتله هو وآخر، فعلى قول الخرقي: لا قسامة، وعلى قول غيره: يقسمان على المتفق عليه، ويأخذان نصف الدية، ويحلف الآخر ويبرأ، وإن قال أحدهما: قتله زيد، وآخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو، وآخر لا أعرفه، فقال أبو بكر: ليس هاهنا تكذيب؛ لأنه يمكن أن يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه، ويحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينًا، وله ربع الدية، فإن عاد كل واحد منهما، فقال: الذي جهلته، هو الذي عينه أخي، حلف خمسًا وعشرين يمينًا، واستحق عليه ربع الدية، وإن قال: الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي، بطلت القسامة وعليه رد ما أخذ؛ لأن التكذيب يقدح في اللوث، وإن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت، ولزمه رد ما أخذ؛ لأنه يقر على نفسه، فقبل إقراره، وعليه رد ما أخذه.
فصل
وإن كان في ورثة القتيل صبي، أو غائب، وكانت الدعوى عمدًا لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي، ويقدم الغائب؛ لأن حلف أحدهما غير مفيد، وإن كانت موجبة للمال كالخطأ ونحوه، فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق حصته من الدية، وفي قدر أيمانه وجهان:
أحدهما: يحلف خمسين يمينًا، هذا قول أبي بكر: لأننا لا نحكم بوجوب الدية
إلا بالأيمان الكاملة، ولأن الخمسين في القسامة، كاليمين الواحدة في غيرها.
والآخر: يحلف خمسًا وعشرين يمينًا، هذا قول ابن حامد؛ لأنه لو كان أخوه كبيرًا حاضرًا، لم يحلف إلا خمسًا وعشرين، فكذلك إذا كان صغيرًا أو غائبًا، ولأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية، فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان، فإذا قدم الغائب، وبلغ الصغير، حلف نصف الأيمان وجهًا واحدًا؛ لأنه يبني على يمين غيره، ويستحق قسطه من الدية، فإن كانوا ثلاثة، فعلى قول ابن حامد: يحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وعلى قول أبي بكر: يحلف الأول خمسين. وإذا قدم الثاني حلف خمسًا وعشرين، فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينًا.
فصل
قال أصحابنا: ولا مدخل للنساء في القسامة؛ لأنه لا مدخل لهن في العقل، فإذا كان في الورثة رجال ونساء، أقسم الرجال دون النساء، فإن كانت المرأة مدعى عليها، فينبغي أن تقسم؛ لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه، ولو كان جميع ورثة القتيل نساء، احتمل أن يقسم المدعى عليهم؛ لتعذر الأيمان من المدعين، واحتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلًا، ويثبت الحق للنساء إذا قلنا: إن القسامة تشرع في حق غير الوارث، فإن لم يوجد من عصبته خمسون، قسمت على من وجد منهم.
فصل
واللوث المشترط في القسامة: هو العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل المتحاربين، وما بين أهل البغي والعدل، وما بين الشرطة واللصوص؛ لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار: عدي على صاحبنا فقتل، وليس لنا بخيبر عدو إلا يهود، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم باليمين، فوجب أن يعلل بذلك، ويعدى إلى مثله، ولا يلحق به ما يخالفه. وعنه: أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله؛ إما العداوة المذكورة، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم، أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم، أو يقتتل طائفتان، فيوجد في إحداهما قتيل، أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته من: النساء، والصبيان، والعبيد، والفساق، أو عدل واحد؛ لأن العداوة إنما كانت لوثًا، لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي، فنقيس عليها ما شاركها في ذلك، فأما قول القتيل: دمي عند فلان، فليس بلوث؛ لأن قوله غير مقبول على خصمه، ولو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل، لم يكن لوثًا؛ لأنهم لم يعينوا واحدًا، ومن شرط القسامة التعيين.