المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[كتاب الأقضية] القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى: {وَأَنِ - الكافي في فقه الإمام أحمد - جـ ٤

[ابن قدامة]

فهرس الكتاب

- ‌[كتاب الديات]

- ‌[باب مقادير الديات]

- ‌[باب ديات الجروح]

- ‌[باب دية الأعضاء والمنافع]

- ‌[باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله]

- ‌[باب القسامة]

- ‌[باب اختلاف الجاني والمجني عليه]

- ‌[باب كفارة القتل]

- ‌[كتاب قتل أهل البغي]

- ‌[باب أحكام المرتد]

- ‌[باب الحكم في الساحر]

- ‌[كتاب الحدود]

- ‌[باب المحارب]

- ‌[باب حد السرقة]

- ‌[باب حد الزنا]

- ‌[باب حد القذف]

- ‌[باب الأشربة]

- ‌[باب إقامة الحد]

- ‌[باب التعزير]

- ‌[باب دفع الصائل]

- ‌[كتاب الجهاد]

- ‌[باب ما يلزم الإمام وما يجوز له]

- ‌[ما يلزم الجيش من طاعة الإمام]

- ‌[باب الأنفال والأسلاب]

- ‌[باب قسمة الغنائم]

- ‌[باب قسمة الخمس]

- ‌[باب قسمة الفيء]

- ‌[باب حكم الأرضين المغنومة]

- ‌[باب الأمان]

- ‌[باب الهدنة]

- ‌[باب عقد الذمة]

- ‌[باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة]

- ‌[باب العشور]

- ‌[باب ما ينتقض به عهد الذمة]

- ‌[كتاب الأيمان]

- ‌[باب كفارة اليمين]

- ‌[باب جامع الأيمان]

- ‌[باب النذر]

- ‌[كتاب الأقضية]

- ‌[باب ما على القاضي في الخصوم]

- ‌[باب صفة القضاء]

- ‌[باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي]

- ‌[باب القسمة]

- ‌[باب الدعاوى]

- ‌[باب اليمين في الدعاوى]

- ‌[كتاب الشهادات]

- ‌[باب من تقبل شهادته ومن ترد]

- ‌[باب عدد الشهود]

- ‌[باب تحمل الشهادة وأدائها]

- ‌[باب الشهادة على الشهادة]

- ‌[باب اختلاف الشهود]

- ‌[باب الرجوع عن الشهادة]

- ‌[كتاب الإقرار]

- ‌[باب الاستثناء في الإقرار]

- ‌[باب الرجوع عن الإقرار]

- ‌[باب الإقرار بالمجمل]

- ‌[باب الإقرار بالنسب]

الفصل: ‌ ‌[كتاب الأقضية] القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى: {وَأَنِ

[كتاب الأقضية]

القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس، وبعث علياً إلى اليمن للقضاء، وحكم الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار؛ ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم، فوجب نصبه، فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحداً، تعين عليه، فإن امتنع أجبر عليه؛ لأن الكفاية لا تحصل إلا به، وعن أحمد: أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وهذا يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه؛ لأن عليه في التولي خطراً وغرراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من جُعل قاضياً، فقد ذبح بغير سكين» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. فلم يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، فعلى هذا القول يكره له طلبه، لما فيه من الخطر؛ ولأن السلف رضي الله عنهم كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه. وإن طلب فالأولى أن لا يدخل فيه؛ لأنه أسلم له. وقال ابن حامد: إن كان خاملاً، إذا ولي نشر علمه، فالأفضل الدخول فيه، لما يحصل من نشر العلم. وإن كان ينشر علمه بغير ولاية، فالأفضل أن لا يدخل فيه؛ لأن الاشتغال بنشر العلم مع السلامة أفضل. فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء، فلا يجب عليه الدخول فيه، ويكره له طلبه، لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وإن طُلِبَ، فالأفضل له الامتناع إلا على قول ابن حامد على التفصيل الماضي. وأما من لا يُحسن القضاء، فيحرم عليه الدخول فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة:

ص: 221

واحد في الجنة، واثنان في النار، إلى قوله: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه

فصل:

ويجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة، لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه، لما ولي الخلافة، أخذ الذراع، وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم، ففرضوا له كل يوم درهمين. وبعث عمر رضي الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً، وابن مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان. وكتب إلى معاذ، وأبي عبيدة في الشام: أن انظروا رجالاً من صالحي مَن قبلكم، فاستعلموهم على القضاء، وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله. فأما مع عدم الحاجة. ففيه وجهان:

أحدهما: الجواز، لما ذكرنا؛ ولأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى، فكذلك القضاء.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليه؛ كالصلاة. قال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً، وإن كان فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم. وإذا قلنا: يجوز أخذ الرزق، فلم يجعل له شيء، فقال: لا أقضي بينكما إلا بجُعْل، جاز.

فصل:

ويشترط للقضاة عشرة أشياء: أن يكون مسلماً، عدلاً، بالغاً، عاقلاً؛ لأن هذه شروط الشهادة، فأولى أن تشترط للقضاء.

الخامس: الذكورية، فلا يصح تولية المرأة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري؛ ولأن المرأة ناقصة العقل، غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم. ولا يصح تولية الخنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ذكراً.

السادس: الحرية. فلا يصح تولية العبد؛ لأنه منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده، لا تقبل شهادته في جميع الأشياء، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة.

السابع: أن يكون متكلماً، لينطق بالفصل بين الخصوم.

ص: 222

الثامن: أن يكون سميعاً ليسمع الدعوى، والإنكار، والبينة، والإقرار.

التاسع: أن يكون بصيراً، ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه.

العاشر: أن يكون مجتهداً، وهو العالم بطرق الأحكام، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة. ورجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه؛ ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهو لا يلزمهم الحكم، فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى. ولا يشترط كونه كاتباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكام، وهو أمي. وقيل: يشترط؛ ليعلم ما يكتبه كاتبه، فيأمن تحريفه.

فصل:

ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، لئلا يطمع فيه الظالم، فينبسط عليه. ليناً من غير ضعف، لئلا يهابه صاحب الحق، فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه. حليماً ذا أناة وفطنة ويقظة، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة. ذا ورع وعفة، ونزاهة، وصدق. قال علي رضي الله عنه: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.

فصل:

ولا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام، أو من فوض إليه الإمام؛ لأنه من المصالح العظام، فلم يصح إلا من جهة الإمام، كعقد الذمة. ومن شرط صحة التولية، معرفة المولي للمولى، وأنه على صفة تصلح للقضاء. فإن كان يعرفه، وإلا سأل عنه، فإذا علم ذلك ولاه.

وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح وكناية، فصريحها سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك، واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك الحكم، وفوضت إليك، وجعلت إليك، فإذا أتى بواحدة منها واتصل بها القبول، انعقدت الولاية.

وأما الكناية، فهي أربعة: اعتمدت عليك في الحكم، وعولت عليك، ووكلت

ص: 223

إليك وأسندت إليك الحكم، فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم فيما وكلت إليك، وانظر فيما أسندت إليك وتول فيما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة.

فصل:

فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء، فحكماه ليحكم بينهما، جاز، لما روى أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً رضي الله عنهما، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.

فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى. وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان:

أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.

والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك. واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود.

فصل:

ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر، على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الآخر في حق آخر، أو إلى أحدهما في زمن، وإلى الآخر في زمن آخر؛ لأنه نيابة عن الإمام، فكان على حسب الاستنابة. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد وزمن واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان:

ص: 224

أحدهما: يجوز؛ لأنه نيابة، فجاز جعلها إلى اثنين، كالوكالة.

والثاني: لا يجوز، فقد يختلفان، فتقف الحكومة.

فصل:

ولا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين، لقول الله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] . وإنما يظهر له الحق بالدليل، فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه. فإن قلد على هذا الشرط، بطل الشرط. وفي فساد التولية وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع.

فصل:

إذا ولاه قاضياً في غير بلده، كتب إليه العهد بما ولاه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن.

وروى حارثة بن مضرب، أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله قاضياً وأميراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقد آثرتكم بهما. فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً، أشهد على التولية شاهدين لتثبت التولية بهما. وإن كان قريباً، فإن شاء أشهد، وإن شاء اكتفى بالاستفاضة؛ لأنها تثبت الولاية. ويستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي وليه، ومن فيه من العلماء والأمناء؛ لأنه لا بد له منهم، فاستحب تقدم العلم بهم.

ويستحب أن يدخل البلد يوم الخميس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. فإذا دخل قصد الجامع، فصلى فيه ركعتين، وأمر بجمع الناس، فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية، وما فوض إليه، ويعد الناس يوماً لجلوسه، ثم يصير إلى منزله، ويجعل منزله في وسط البلد إن أمكن ليتساووا في قربه.

فصل:

وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف، لم يكن له ذلك؛ لأنه نائب فيتبع قول من استنابه. وإن لم ينهه، جاز له الاستخلاف؛ لأن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه، فجاز أن يليه بنفسه وبغيره. فإذا استخلف القاضي خليفة، انعزل بموته وعزله؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وإن ولى الإمام قاضياً، فهل ينعزل بموته وعزله؟ فيه وجهان:

ص: 225

أحدهما: ينعزل كذلك، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لأعزلن أبا مريم - يعنى عن قضاه البصرة - وأولي رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه، فعزله وولى كعب بن سوار. وولى علي أبا الأسود، ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.

والثاني: لا ينعزل؛ لأنه عقده لمصلحة المسلمين، فلم يملك عزله مع سداد حاله، كما لو عقد الولي النكاح على موليته، لم يملك فسخه. وإن اختل أحد الشروط، بأن يفسق، أو يختل عقله، أو بصره، انعزل بذلك؛ لأنه فات الشرط، فانتفى المشروط كالصلاة.

فصل:

وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة، ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله، ولا يعتد بذلك إن فعله؛ لأنه لا ولاية له في غير عمله، أشبه سائر الرعية.

فصل:

ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها، ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر. ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه؛ لأن عمر حاكم أبياً إلى زيد. وحاكم عثمان طلحة إلى جبير. ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. وقال أبو بكر: يجوز حكمه لهما؛ لأنهما من رعيته، فجاز حكمه لهما، كالأجانب، وإن اتفقت حكومة بين والديه، أو ولديه، أو والده وولده، فالحكم فيهما، كما لو انفرد أحدهما؛ لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيا، منع منه إذا ساواه خصمه، كالشهادة. ويجوز له استخلاف والده وولده في أعماله؛ لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه.

فصل:

ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم، لما روى عبد الله بن عمرو قال:«لعن رسول صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأنه أخذ مال على حرام، فكان حراماً، كمهر البغي.

ولا يجوز له قبول الهدية ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية، لما روى أبو حميد قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: ما بال العامل نبعثه فيقول:

ص: 226

هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . متفق عليه. فدل على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سبباً له محرم عليه.

فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية، فجائز قبولها؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا» . يدل على تعليل تحريم الهدية، لكون الولاية سببها، وهذه لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له، فلا يجوز قبولها؛ لأنه يتهم، فهي كالرشوة. والأولى الورع عنها في غير حال الحكومة؛ لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة.

فصل:

ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما عدل وال اتجر في رعيته» .

وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء: أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أرشي، ولا أقضي وأنا غضبان؛ ولأنه يعرف، فيحابى، فيجري مجرى الهدية.

ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله. فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى، فإن لم يمكنه الاستنابة، تولاه بنفسه؛ لأن أبا بكر الصديق أخذ الذراع وقصد السوق ليتجر فيه؛ ولأنه لا بد له منه. فإن كان لمن بايعه حكومة، استخلف من يحكم بينه وبين خصمه، كيلا يميل إليه.

فصل:

ويجوز للقاضي حضور الولائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الداعي. ولا يخص بإجابته قوماً دون قوم؛ لأنه جور. فإن كثرت عليه وشغلته، ترك الجميع؛ لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها. وله عيادة المرضى، وشهود الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لأنه قربة وطاعة. وله أن يخص بذلك قوماً دون قوم؛ لأن هذه الأمور لحق نفسه طلباً لثواب الله تعالى، فكان له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن. وحضور الوليمة لحق الداعي. فإذا خص بعضهم بها، حصل مراعياً لبعضهم دون بعض، فكان ذلك ميلاً.

فصل:

ولا يقضي في حال الغضب، ولا الجوع، والعطش، والحزن، والفرح المفرط،

ص: 227

والنعاس الشديد، والمرض المقلق، ومدافعة الأخبثين، والحر المزعج، والبرد المؤلم، لما روى أبو بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» . متفق عليه. فثبت النص في الغضب، وقسنا عليه سائر المذكور؛ لأنه في معناه؛ ولأن هذه الأمور تشغل قلبه، فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وتأمل الحادثة. فإن حكم في هذه الأحوال، ففيه وجهان:

أحدهما: ينفذ حكمه، لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» . متفق عليه. فحكم في غضبه.

والثاني: لا ينفذ حكمه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة؛ لأنه يشغله عن استيضاح الحق. أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم، لم يمنع حكمه فيها، كقصة الزبير.

فصل:

ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب من غير عذر، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم، احتجب الله دون حاجته وفقره» رواه الترمذي

ويكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة؛ لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى: إياك والقلق والضجر. وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة، ولا بأس بالقضاء في المساجد، لما روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا يقضون في المسجد. وقال مالك: هو من أمر الناس القديم. فإن اتفق لأحد الخصمين مانع من دخول المسجد، كالحيض، والكفر، وكل له وكيلاً أو انتظره حتى يخرج، فيحاكم إليه.

فصل:

وإن احتاج إلى أعوان لإحضار الخصوم، اتخذ أمناء كهولاً أو شيوخاً من أهل الدين،

ص: 228

ويوصيهم بالرفق بالخصوم. وإن دعت الحاجة إلى اتخاذ حاجب اتخذه أميناً بعيداً من الطمع، ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق.

فصل:

ويتخذ حبساً؛ لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف اتخذها سجناً. واتخذ علي سجناً؛ ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء الحق من المماطل، والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد، حتى يستوفى.

فصل:

وينبغي أن يتخذ كاتباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيداً وغيره؛ ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة. فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه، جاز. ومن شرط الكاتب أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام. وما يكتبه من المحاضر، والسجلات؛ لأنه إذا لم يعرفه، أفسد ما يكتبه بجهله. وأن يكون عدلاً لأن الكتابة موضع أمانة، ولا تؤمن خيانة الفاسق. وأن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام من شروط العدالة، ويستحب أن يكون ورعاً نزهاً، لئلا يستمال بالطمع. جيد الحفظ، ليكون أكمل. حراً، ليخرج من الخلاف. فإن كان عبداً، جاز؛ لأنه من أهل الشهادة.

فصل:

ولا يتخذ شهودا معينين، لا يقبل غيرهم؛ لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول شهادته، فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم.

فصل:

ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود. ويجب أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء، بعداء من العصبية في نسب أو مذهب، كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق، أو جرح عدل. وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى المطلوب. ولا يسألوا عدواً ولا صديقاً؛ لأن الصديق يظهر الجميل ويستر القبيح. والعدو بخلاف ذلك. فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة، قبل شهادته. وإن علم فسقه لم يقبلها، ويعمل بعلمه في العدالة والفسق. وإن جهل إسلامه سأل عنه، ولم يعمل بظاهر الدار؛ لأن أعرابياً شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال، فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن إسلامه؛ ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره، فلم يعمل بظاهر الدار. ويقبل قوله في إسلام نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الأعرابي في ذلك؛ ولأنه بقوله يصير مسلماً. وإن لم تعرف عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته.

ص: 229

وعنه: يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل المشهود عليه: هو فاسق، لقول عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال، لم يسأل عن عدالته؛ ولأن العدالة تخفى ويدل عليها الإسلام، فاكتفى به. والأول: المذهب لقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وروى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر رضي الله عنه، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك، فائتني برجل يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: بأي شيء تعرفه. قال: بالعدالة. قال: فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك؛ ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً. فإذا أراد أن يعرف عدالته، كتب اسمه، ونسبه، وكنيته، وحليته، وصنعته، ومسكنه، حتى لا ينسبه، ومن شهد له وعليه، لئلا يكون ممن لا تقبل شهادته للمشهود له، من والد أو ولد، ولا تقبل شهادته على المشهود عليه من عدو، وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير. ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له، ولا المشهود عليه، لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم، ولا المسؤولون، لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم، وأصدقاؤهم في تعديلهم. ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض، كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل. ويأمرهم القاضي: أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه، ومسجده، وجيرانه. فإذا عاد أهل المسائل بجرح أو تعديل، ففيه وجهان:

أحدهما: يكتفي بقولهم؛ لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم، فعلى هذا: يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة، ويعتبر عدولهم كما في سائر المعدلين.

والثاني: لا يكتفي بهم؛ لأنهم شهود فرع، فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود الأصل. لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة، ليستحضر الحاكم اثنين منهم، فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد، فعلى هذا: لا يعتبر العدد في أصحاب المسائل، بل يجوز أن يكون واحداً؛ لأنه مخبر عن شاهد، ليس بشاهد.

ص: 230

فصل:

ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين؛ لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم على صفته، فأشبه الإحصان. وعنه: يكتفى بواحد. اختارها أبو بكر؛ لأنه إخبار عن حال من لا حق له، فأشبه أخبار الديانات؛ ولأنه يكتفى في تعديل راوي الحديث وجرحه بقول واحد، فكذلك في غيره. والأول: المذهب، لما ذكرنا. وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد؛ لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد، بخلاف الشهادة، ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة؛ لأنه شهادة إلا على الرواية التي قلنا: هو خبر، فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة، ويكفي في التعديل قوله: أشهد أنه عدل. وإن لم يقل: علي ولي؛ لأنه لا يكون عدلاً، إلا له وعليه. ولا يكفي أن يقول: لا أعلم فيه إلا الخير؛ لأنه لم يصرح بالتعديل. وإن شهد بالجرح واحد، وبالتعديل اثنان، ثبتت العدالة؛ لأن بينة الجرح لم تكمل. وإن شهد بالجرح اثنان، قدم الجرح على التعديل؛ لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر، فقدم من يخبر عن الباطن؛ ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات. وإن شهد بالجرح اثنان، وبالعدالة أربعة، قدم الجرح؛ لأن بينته كملت، ولا يقبل الجرح إلا مفسراً بأن يذكر السبب الذي به جرح، ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق، أنه ليس بعدل، وعنه: يكتفى بذلك، كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل. والأول: المذهب؛ لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان، فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما لا يعتقده الحاكم فسقاً. والجرح والتعديل إلى الحاكم، فوجب بيانه، لينظر فيه. ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال، كالسرقة، وشرب الخمر. أو بالسماع في الأقوال، كالقذف، والبدعة، أو بالاستفاضة بالخبر؛ لأنه شهادة عن علم. فإن قال: بلغني كذا، أو قيل لي، لم يجز أن يشهد به، لقول الله تعالى:{إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته، وطالت صحبته، لحديث عمر رضي الله عنه. وأن المقصود علم عدالته في الباطن، ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء؛ لأنه شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود.

فصل:

وإذ لم تثبت عدالته، فقال المشهود عليه: هو عدل، حكم بشهادته؛ لأن البحث

ص: 231

عن عدالته لحق المشهود عليه، وإنه ممن يثبت بالحق بقوله، فوجب الحكم به. وفيه وجه آخر: إنه لا يثبت؛ لأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى، ولهذا لو رضي المشهود عليه، أن يحكم عليه بشهادة فاسق، لم يحكم عليه بها.

فصل:

ومن ثبتت عدالته، ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب، حكم بشهادته. وإن كان بعده بزمن طويل، ففيه وجهان:

الوجه الأول: يحكم بشهادته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها.

والثاني: يعيد السؤال؛ لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال. وإن شهد عنده عدول، فارتاب بشهادتهم، استحب له تفريقهم، وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفه التحمل، ومكانه، وزمانه. فإن اختلفوا سقطت شهادتهم. وإن اتفقوا، وعظهم، لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال: كنت عند محارب بن دثار، وهو قاضي الكوفة، فجاءه رجل، فادعى على رجل حقاً، فأنكره، فأحضر المدعي شاهدين، فشهدا له، فقال المشهود عليه: والذى تقوم به السماوات والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمى بما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» . فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما، فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا.

فصل:

ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب، يشاورهم فيما يشكل عليه، لقول الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنياً، ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام. وروى عبد الرحمن بن القاسم: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر، فكان يدعو هؤلاء النفر رضي الله عنهم، فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم. فإن اتضح له الحق، حكم به. وإن لم يتضح له أخره، ولم يقلد غيره، ضاق الوقت أو اتسع؛ لأنه مجتهد فلم يقلد غيره، كما لو اتسع الوقت. وإن فوض الحكم في

ص: 232

الحادثة إلى من اتضح له الحق، فحكم فيها، جاز. وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع، نقضه، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة. وكتب إلى أبي موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم راجعت نفسك، فهديت لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل؛ ولأنه مفرط في حكمه، غير معذور فيه، فوجب نقضه. وإن تغير اجتهاده، ولم يخالف نصاً، ولا إجماعاً، لم ينقض حكمه، لما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين، ثم شرك بينهم بعد، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا. وقضى في الحد بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى؛ ولأنه لو نقض الحكم بمثله، لأدى إلى نقض النقض، والى أن لا تثبت قضية.

فصل:

وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله؛ لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من يصلح، والظاهر إصابته الحق. وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء، نقض من أحكامه ما خالف الحق، وإن لم يخالف نصاً ولا إجماعاً؛ لأنه ممن لا يجوز قضاؤه، أشبه حكم بعض الرعية، ويبقي ما وافق الحق؛ لأن الحق وصل إلى مستحقه، فلا حاجة إلى نقضه. وقال أبو الخطاب: ينقضه أيضاً ليحكم به. وإن كان يصلح للقضاء، لم يجز أن ينقض من قضاياه، إلا ما خالف نصاً أو إجماعاً، لما ذكرنا في حكم نفسه. وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره، لم يحضره حتى يسأله عما بينهما؛ لأنه ربما قصد تبديله. فإن قال: لي عليه مال من معاملة، أو غصب، أو رشوة، أحضره، وإن قال: حكم علي بشهادة فاسقين، أو عدوين، أو جار علي في الحكم، وله بينة، أحضره، أو وكيله، وحكم له بها. وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان:

أحدهما: يحضره، كما لو ادعى عليه مالاً.

والثاني: لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه. فإن أحضره فاعترف، حكم عليه، وإن أنكر، قبل قوله بغير يمين؛ لأن قوله مقبول بحال ولايته.

فصل:

ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله، ويقول عند خروجه: بسم الله، آمنت بالله، واعتصمت بالله وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خرج من بيته قال:«اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن

ص: 233

صحيح، ويسأله أن يعصمه، ويعينه.

ويجلس مستقبل القبلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خير المجالس ما استقبل به القبلة» ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه، ويبسط تحته شيئاً يجلس عليه، ليكون أوقر له، ويترك القمطر مختوماً بين يديه، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر، والسجلات، ويجلس الكاتب قريباً منه، ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه.

فصل:

ويبدأ في نظره بالمحبوسين؛ لأن الحبس عقوبة، وربما كان فيهم من يجب إطلاقه، فاستحب البداءة بهم، فيكتب أسماء المحبوسين، وينادي في البلدان: القاضي ينظر في أمرهم يوم كذا، فليحضر من له محبوس، فإذا حضروا، أخرج رقعة، فأخرج صاحبها فنظر بينه وبين خصمه، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعيد. فإن قال: حبست بدين أنا معسر به، فصدقه خصمه، أو ثبت إعساره ببينة، أطلقه، وإن كذبه ولم يثبت إعساره، أعيد إلى الحبس. فإن ادعى خصمه أن له داراً، وأقام بها بينة، فقال المحبوس: هي لزيد، فكذبه زيد، بيعت الدار، وقضي الدين؛ لأن إقراره سقط بإكذابه، وإن صدقه زيد وله بينة، فهي له؛ لأن بينته قويت بإقرار صاحب اليد.

وإن قال: حبست في ثمن كلب، أو خمر أرقته لذمي. فقال القاضي: يطلقه لأن غرمه ليس بواجب. وفيه وجه آخر: أن الثاني ينفذ حكم الأول؛ لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده، ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء؛ لأنه لا يمكنه فعل الأمرين المتقدمين. وإن قال: حبست ظلماً، ولا حق علي، نادى الحاكم بذلك. فإن لم يظهر له خصم، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه لا خصم له، ولا حق عليه، ويخلي سبيله، والله أعلم.

فصل:

ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله. فإن ادعى رجل أنه وصي ميت، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم الوصية. فإن أقام بينة، وكان عدلاً قوياً، أقره على الوصية، وإن كان فاسقاً أو ضعيفاً، ضم إليه أميناً يتقوى به، أو أبدله إن رأى إبداله. وإن أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية، أنفذها، ولم يسأل عن عدالته؛ لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل. وإن كان وصياً في تفرقة ثلثه، ففرقه وهو عدل، فلا شيء عليه. وإن كان فاسقاً والوصية لمعينين، فلا شيء عليه أيضاً؛ لأنه دفعه إلى مستحقه، وإن كان لغير معين، ففيه وجهان:

ص: 234