الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ الْإِقْرَارُ لِمَوْلَاهُ، يَلْزَمُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَبْطُلُ بِرَدِّهِ. وَإِنْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهَا، وَكَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْمَالَ مُطْلَقًا، وَلَا يَدَ لَهَا. وَإِنْ قَالَ: عَلَيَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ. لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لَأَحَدٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِمَنْ هِيَ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ ذِكْرُ الْمُقَرِّ لَهُ. وَإِنْ قَالَ: لِمَالِكِهَا أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ بِسَبَبِهَا أَلْفٌ. صَحَّ الْإِقْرَارُ.
وَإِنْ قَالَ: بِسَبَبِ حَمْلِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ. لَمْ يَصِحَّ، إذْ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ بِسَبَبِ الْحَمْلِ.
[فَصْلٌ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالِ وَعَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ]
(3817)
فَصْلٌ: وَإِنْ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ، وَعَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، صَحَّ، وَكَانَ لِلْحَمْلِ. وَإِنْ أَطْلَقَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ يَصِحُّ. وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ، فَصَحَّ لَهُ الْإِقْرَارُ الْمُطْلَقُ، كَالطِّفْلِ. فَعَلَى هَذَا، إنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَإِنْ عَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا لِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ: لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا أَنْ يَعْزِيَهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِغَيْرِهِمَا. فَإِنْ وَلَدَتْ الْوَلَدَ مَيِّتًا، وَكَانَ قَدْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، عَادَتْ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَمَوْرُوثِ الطِّفْلِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ، كُلِّفَ ذِكْرَ السَّبَبِ، فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّفْسِيرُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِهِ، بَطَلَ إقْرَارُهُ، كَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ لَا يَعْرِفُ مَنْ أَرَادَ بِإِقْرَارِهِ. وَإِنْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى جِهَةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، فَقَالَ: لِهَذَا الْحَمْلُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَقْرَضَنِيهَا، أَوْ وَدِيعَةٌ أَخَذْتهَا مِنْهُ. فَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ، الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ، فَيَسْقُطُ مَا وَصَلَهُ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا تَلْزَمُنِي.
وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ جَعَلْتهَا لَهُ. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهِيَ عِدَّةٌ لَا يُؤْخَذُ بِهَا. وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَحَمْلٍ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْإِقْرَارِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَصْنَعٍ أَوْ طَرِيقٍ، وَعَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، مِثْلِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ غَلَّةِ وَقْفِهِ. صَحَّ. وَإِنْ أَطْلَقَ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
[مَسْأَلَة أَقَرَّ بِشَيْءِ وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ]
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلًا، إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ: (3819) أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَبِهَذَا قَالَ زُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ اسْتَثْنَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، جَازَ، وَإِنْ اسْتَثْنَى عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا - إِلا قِيلا سَلامًا} [الواقعة: 25 - 26] . وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
…
إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
وَقَالَ آخَرُ:
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إلَّا أُوَارِي لَأَيًّا مَا أُبَيِّنُهَا
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيه لَوْلَاهُ.
وَقِيلَ: هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ ثَنَيْت فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ. إذَا صَرَفْته عَنْ رَأْيٍ كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ. وَثَنَيْت عِنَانَ دَابَّتِي. إذَا صَرَفْتهَا بِهِ عَنْ وِجْهَتِهَا الَّتِي كَانَتْ تَذْهَبُ إلَيْهَا. وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ، فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ. " وَإِلَّا " هَاهُنَا بِمَعْنَى " لَكِنْ ". هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ؛ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَحَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يَأْتِي إلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ إلَّا بَعْدَ النَّفْيِ، وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ الْإِثْبَاتُ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا مَدْخَلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْمُقِرِّ بِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ جُمْلَةٍ كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ. فَيَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ مُدَّعِيًا لَشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى:{فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} [الكهف: 50] فَإِنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّجُودِ غَيْرَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ، وَلَا عَاصِيًا بِتَرْكِهِ، وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ:{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . وَلَا قَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا فَلِمَ أَنْكَسَهُ اللَّهُ وَأَهْبَطَهُ وَدَحَرَهُ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّجُودِ إلَّا الْمَلَائِكَةَ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ تَنَاوَلَ الْأَمْرُ الْمَلَائِكَةَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَدَخَلَ إبْلِيسُ فِي الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ مَعَهُمْ.
قُلْنَا: قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُكُمْ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ إبْلِيسُ دَاخِلًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ، فَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجِنْسِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا، مَتَى قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا. لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَكِنْ لِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ.