الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، أَنَّهُ «سَمِعَ كُبَرَاءَهُمْ يَذْكُرُونَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَخَاصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَالسَّيْلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا يَحْبِسُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ»
وَلِأَنَّ مَنْ أَرْضُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ أَسْبَقُ إلَى الْمَاءِ، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، كَمَنْ سَبَقَ إلَى الْمُشَرَّعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مُخْتَلِفَةً، مِنْهَا مُسْتَعْلِيَةٌ وَمِنْهَا مُسْتَفِلَةٌ، سَقَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهَا، وَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا، إنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا، سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيه فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَسْفَلِ حَقٌّ إلَّا فِيمَا فَضَلَ عَنْ الْأَعْلَى
فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ، قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ الْمَاءِ، كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ. وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ رَسْمُ شُرْبٍ، مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، أَوْ سَيْلٍ، وَجَاءَ إنْسَانٌ لِيُحْيِيَ مَوَاتًا أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ إلَى النَّهْرِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ إبْطَالَ حُقُوقِهَا، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهَا. وَهَلْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوَاتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي النَّهْرِ لَا فِي الْمَوَاتِ. وَالثَّانِي لَهُمْ مَنْعُهُ، لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ السَّقْيِ، لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْبِ إذَا طَالَ الزَّمَانُ وَجُهِلَ الْحَالُ
فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ. فَسَبَقَ إنْسَانٌ إلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَأَحْيَا فِي أَسْفَلِهِ مَوَاتًا، ثُمَّ أَحْيَا آخَرُ فَوْقَهُ، ثُمَّ أَحْيَا ثَالِثٌ فَوْقَ الثَّانِي، كَانَ لِلْأَسْفَلِ السَّقْيُ أَوَّلًا، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثِ، وَيُقَدَّمُ السَّبْقُ إلَى الْإِحْيَاءِ عَلَى السَّبْقِ إلَى أَوَّلِ النَّهْرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
[فَصْلٌ الْمَاءُ الْجَارِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ]
(4354)
فَصْلٌ: الضَّرْبُ الثَّانِي الْمَاءُ الْجَارِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ، وَهُوَ أَيْضًا قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُبَاحَ الْأَصْلِ، مِثْلَ أَنْ يَحْفِرَ إنْسَانٌ نَهْرًا صَغِيرًا، يَتَّصِلُ بِنَهْرٍ كَبِيرٍ مُبَاحٍ، فَمَا لَمْ يَتَّصِلْ الْحَفْرُ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحَجُّرٌ وَشُرُوعٌ فِي الْإِحْيَاءِ، فَإِذَا اتَّصَلَ الْحَفْرُ، كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَمَلَكَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِمَارَةُ إلَى قَصْدِهَا، بِحَيْثُ يَتَكَرَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى صُورَتِهَا، وَهَذَا كَذَلِكَ.
وَسَوَاءٌ أَجْرَى فِيهِ الْمَاءَ أَوْ لَمْ يُجْرِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُهَيِّئَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ دُونَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِقَرَارِ النَّهْرِ وَحَافَّتَيْهِ، وَهَوَاؤُهُ حَقٌّ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُهُ، وَهُوَ مُلْقَى الطِّينِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
وَعِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا لَمْ تُمْلَكْ، فَهِيَ لَهُ» . وَإِحْيَاؤُهَا أَنْ يُحَوِّطَ عَلَيْهَا حَائِطًا، أَوْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا، فَيَكُونَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا حَوَالَيْهَا، وَحَرِيمُ النَّهْرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَانَ النَّهْرُ لِجَمَاعَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مُلِكَ بِالْعِمَارَةِ، وَالْعِمَارَةُ بِالنَّفَقَةِ، فَإِنْ كَفَى جَمِيعَهُمْ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ، وَتَرَاضَوْا عَلَى قِسْمَتِهِ بِالْمُهَايَأَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ. وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ، قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنْ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فَتُؤْخَذُ خَشَبَةٌ صُلْبَةٌ، أَوْ حَجَرٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعٍ مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ، فِي مُقَدَّمِ الْمَاءِ، فِيهِ حُزُوزٌ، أَوْ ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي السَّعَةِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ أَوْ ثُقْبٍ إلَى سَاقِيَةٍ مُفْرَدَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَاءُ فِي سَاقِيَتِهِ انْفَرَدَ بِهِ
فَإِنْ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قُسِّمَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهُ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ، وَلِلْآخَرِ سُدُسُهُ، جُعِلَ فِيهِ سِتَّةُ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ لَوَاحِدٍ الْخُمْسَانِ، وَالْبَاقِي لِاثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جُعِلَ عَشَرَةُ ثُقُوبٍ لِصَاحِبِ الْخُمْسَيْنِ أَرْبَعَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ فِي سَاقِيَةٍ لَهُ
فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ، جُعِلَ لِأَصْحَابِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةُ ثُقُوبٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجُعِلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةٌ، تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي سَاقِيَةِ غَيْرِهِ، لِيُقَاسِمَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي سَاقِيَتِهِ، وَيُخَرِّبُ حَافَّتَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَخْلِطُ حَقَّهُ بِحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا " إنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ " أَنَّ حُكْمَ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ حُكْمُهُ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَأَنَّ الْأَسْبَقَ أَحَقُّ بِالسَّقْيِ مِنْهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَكَانَ الْأَسْبَقُ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا.