الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَاب الشُّفْعَة]
ِ وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُنْتَقِلَةِ عَنْهُ مِنْ يَدِ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ.
وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ:«قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ؛ رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ. فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» .
وَلِلْبُخَارِيِّ: «إنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ.» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ، فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضِ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ. وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِشَرِيكِهِ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْخَلَاصِ وَالِاسْتِخْلَاصِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيه حُسْنُ الْعِشْرَةِ، أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ، لِيَصِلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ، وَتَخْلِيصِ شَرِيكِهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا إلَّا الْأَصَمَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِأَرْبَابِ الْأَمْلَاكِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا ابْتَاعَهُ، لَمْ يَبْتَعْهُ، وَيَتَقَاعَدُ الشَّرِيكُ عَنْ الشِّرَاءِ، فَيَسْتَضِرُّ الْمَالِكُ.
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ قَبْلَهُ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّا نُشَاهِدُ الشُّرَكَاءَ يَبِيعُونَ، وَلَا يُعْدَمُ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُمْ غَيْرَ شُرَكَائِهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشِّرَاءِ. الثَّانِي، أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إذَا لَحِقَتْهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ أَنْ يُقَاسِمَ، فَيَسْقُطَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ، وَاشْتِقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشَّفْعِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ كَانَ نَصِيبُهُ مُنْفَرِدًا فِي مِلْكِهِ، فَبِالشُّفْعَةِ يَضُمُّ الْمَبِيعَ إلَى مِلْكِهِ فَيَشْفَعُهُ بِهِ.
وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَزِيدُ الْمَبِيعَ فِي مِلْكِهِ.
[مَسْأَلَة الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِشُرُوطٍ]
[مِنْ شُرُوط الشُّفْعَة أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ]
(4012)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (وَلَا يَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصَمُّ، لَكِنْ أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ
لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ
، فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ.
فَأَمَّا الْجَارُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ، ثُمَّ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ بِالْجِوَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا، كَدَرْبٍ لَا يَنْفُذُ، تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّرْبِ، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا، ثَبَتَتْ لِلْمُلَاصِقِ مِنْ دَرْبٍ آخَرَ خَاصَّةً.
وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ، وَسَوَّارٌ: تَثْبُتُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ، وَبِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِدَارِهِ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ إذَا كَانَ غَائِبًا، إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَلِأَنَّهُ اتِّصَالُ مِلْكٍ يَدُومُ وَيَتَأَبَّدُ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ بِهِ، كَالشَّرِكَةِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» . وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا قُسِّمَتْ الْأَرْضُ، وَحُدَّتْ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِمَعْنًى مَعْدُومٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ،
فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ، وَبَيَانُ انْتِفَاءِ الْمَعْنَى، هُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَرِيكٌ، فَيَتَأَذَّى بِهِ، فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مُقَاسَمَتِهِ أَوْ يَطْلُبُ الدَّاخِلُ الْمُقَاسَمَةَ، فَيَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الشَّرِيكِ بِنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَى إحْدَاثِهِ مِنْ الْمَرَافِقِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْسُومِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الصَّقَبَ الْقُرْبُ. يُقَالُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ مَحَلَّتَهَا
…
لَا أُمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِإِحْسَانِ جَارِهِ وَصِلَتِهِ وَعِيَادَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَبَرُنَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ، فَيُقَدَّمُ، وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ. فَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْوِيه عَنْهُ الْحَسَنُ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ. قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ جَابِرٍ، الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِيهَا مَقَالٌ. عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ؛ فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا، وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ جَارًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ
…
كَذَاك أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
قَالَهُ الْأَعْشَى.
وَتُسَمَّى الضَّرَّتَانِ جَارَتَيْنِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّوْجِ. قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا. وَهَذَا يُمْكِنُ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مُفْرَدَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ تَشْرَبُ هِيَ وَأَرْضُ غَيْرِهِ مِنْ نَهْرٍ وَاحِدٍ: وَلَا شُفْعَةَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الشُّرْبِ، إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ.
وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَمُثَنَّى، فِي مَنْ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ، وَقُدِّمَ إلَى الْحَاكِمِ فَأَنْكَرَ: لَمْ يَحْلِفْ إنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا هَذَا لِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ هَاهُنَا عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَظْنُونَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا عَلَى الْوَرَعِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ. وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الِامْتِنَاعُ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.