الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إسْقَاطَ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِلْزَامَ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَقَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَالشَّفِيعُ يَمْلِكُ أَخْذَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ قَبْلَ لُزُومِهِ أَوْلَى، وَعَامَّةُ مَا يُقَدَّرُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مَبِيعٌ فِيهِ الْخِيَارُ، فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُلْزِمُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَيُوجِبُ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ، وَيُفَوِّتُ حَقَّهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الثَّمَنِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَإِنَّنَا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ الشُّفْعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَتَفْوِيتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِمَا، وَهُمَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِاسْتِدْرَاكِ الظَّلَّامَةِ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ بَاعَ الشَّفِيعُ حِصَّتَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، عَالِمًا بِبَيْعِ الْأَوَّلِ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ، وَثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَاعَهُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ آخَرَ، أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ، بِنَاءً عَلَى الْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمَا. وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ قَبْلَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ.
وَيَتَوَجَّهُ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَسْقُطَ شُفْعَتُهُ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى هَذَا أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ الَّذِي بَاعَهُ الشَّفِيعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لِلشَّفِيعِ حِينَ بَيْعِهِ.
[فَصْلٌ بَيْعُ الْمَرِيضِ كَبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ]
(4018)
فَصْلٌ: وَبَيْعُ الْمَرِيضِ كَبَيْعِ الصَّحِيحِ، فِي الصِّحَّةِ، وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، إذَا بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِوَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَالصَّبِيِّ.
وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِي التَّبَرُّعِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ فِيمَا سِوَاهُ، كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالثُّلُثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِهِ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي ذِمَّتِهِ. فَأَمَّا بَيْعُهُ بِالْمُحَابَاةِ، فَلَا يَخْلُو؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لِوَارِثٍ، بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لَا تَجُوزُ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنْ الْمَبِيعِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَلَ الثَّمَنَ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي بَعْضِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ. فَقَالَ: قَبِلْت الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ. أَوْ قَالَ: قَبِلْته بِخَمْسَةٍ.
أَوْ قَالَ: قَبِلْت نِصْفَهُ بِخَمْسَةٍ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَوَاجَبَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
الثَّانِي، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَيَصِحُّ فِيمَا يُقَابِلُ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ الْمُحَابَاةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا قَابِلَهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَتَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَهُ، فَإِنْ أَجَازُوا الْمُحَابَاةَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ رَدُّوا، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَصَحَّ فِيمَا بَقِيَ.
وَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَوْ رَدِّهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَبِيعِ، فَلَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهُ، وَلَهُ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَاخْتَارَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ، قُدِّمَ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَجْرِي مَجْرَى الْمَعِيبِ إذَا رَضِيَهُ الشَّفِيعُ بِعَيْبِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي، إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا، وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيٌّ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حَصَلَ بِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ مُسْتَرْخِصًا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ أَصْلِ الْمُحَابَاةِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ.
وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ وَارِثًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَقَعَتْ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا تَمَكُّنُ الْوَارِثِ مِنْ أَخْذِهَا، كَمَا لَوْ وَهَبَ غَرِيمَ وَارِثِهِ مَالًا، فَأَخَذَهُ الْوَارِثُ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا جَعَلْنَا لِلْمَوْرُوثِ سَبِيلًا إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ لِوَارِثِهِ فِي الْمُحَابَاةِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ لِغَرِيمِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ الْأَخْذَ بِدَيْنِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ، وَهَذَا اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ مِنْ مَوْرُوثِهِ، فَافْتَرَقَا.
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ. وَالثَّالِثُ، أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى إيصَالِ الْمُحَابَاةِ إلَى الْوَارِثِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ لِلْبَيْعِ. وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِبُطْلَانِ فَرْعٍ لَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، مَا حَصَلَتْ لِلْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ، إنَّمَا حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ، وَوَصَلَتْ إلَيْهِ بِجِهَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ هِبَةَ غَرِيمِ الْوَارِثِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ، أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرٍ مَا عَدَا الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ، بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْمُقَابِلِ لِلْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالنِّصْفِ مَثَلًا هِبَةٌ لِلنِّصْفِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ النِّصْفِ، مَا كَانَ لِلشَّفِيعِ الْأَجْنَبِيِّ أَخْذُ الْكُلِّ، لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ.