الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ، وَجَبَ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يُقْصَدُ قَصْدًا صَحِيحًا، فَأَشْبَهَ الصِّنَاعَةَ الْمُحَرَّمَةَ. وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَصَ فِي الْقِيمَةِ بِتَغَيُّرِ صِفَتِهِ، فَيَضْمَنُهُ، كَبَقِيَّةِ الصُّوَرِ.
[فَصْلٌ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ نَقْصًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَطَعَامِ ابْتَلَّ وَخِيفَ فَسَادُهُ]
(3949)
فَصْلٌ: وَإِنْ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ نَقْصًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، كَطَعَامٍ ابْتَلَّ. وَخِيفَ فَسَادُهُ، أَوْ عَفِنَ وَخُشِيَ تَلَفُهُ. فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ؛ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَقْصَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ نَقْصِهِ، وَكُلَّمَا نَقَصَ شَيْئًا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى السَّبَبِ الْمَوْجُودِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فِي يَدِهِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُهُ بَيْنَ أَخْذِ بَدَلِهِ، وَبَيْنِ تَرْكِهِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فَسَادُهُ، وَيَأْخُذَ أَرْشَ نَقْصِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْغَاصِب وَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ النَّقْصَ لَحَصَلَ لَهُ مِثْلُ كَيْلِهِ وَزِيَادَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا جَيِّدًا بِقَفِيزٍ رَدِيءٍ وَدِرْهَمٍ. وَلَنَا، أَنَّ عَيْنَ مَالِهِ بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ فِيهِ نَقْصٌ، فَوَجَبَ فِيهِ مَا نَقَصَ، كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا فَمَرِضَ. وَقَدْ وَافَقَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا فِي الْعَفَنِ. وَقَالَ: يَضْمَنُ مَا نَقَصَ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ.
وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْبَلَلَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعَفَنُ بِسَبَبٍ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ مَا وُجِدَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لِوُجُودِهِ فِي يَدِهِ، فَلَا فَرْقَ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّعَامَ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْهُ. وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ لَا بَأْسَ بِهِ.
[مَسْأَلَة زَرَعَ الْأَرْض الْمَغْصُوبَة فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ]
(3950)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ زَرَعَهَا، فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ، كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ أَخْذِ الْغَاصِبِ الزَّرْعَ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ) قَوْلُهُ: " فَأَدْرَكَهَا رَبُّهَا " يَعْنِي اسْتَرْجَعَهَا مِنْ الْغَاصِبِ، أَوْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" اُسْتُحِقَّتْ ". يَعْنِي أَخَذَهَا مُسْتَحِقُّهَا. فَمَتَى كَانَ هَذَا بَعْدَ حَصَادِ الْغَاصِبِ الزَّرْعَ، فَإِنَّهُ لِلْغَاصِبِ.
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ وَضَمَانُ النَّقْصِ. وَلَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَنَقَصَتْ لِتَرْكِ الزِّرَاعَةِ، كَأَرَاضِي الْبَصْرَةِ، أَوْ نَقَصَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، ضَمِنَ نَقْصَهَا أَيْضًا؛ لِمَا قَدَّمْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. فَأَمَّا إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا، لَمْ يَمْلِكْ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ، وَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يُقِرُّ
الزَّرْع فِي الْأَرْضِ إلَى الْحَصَادِ، وَيَأْخُذَ مِنْ الْغَاصِبِ أَجْرَ الْأَرْضِ وَأَرْشَ نَقْصِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نَفَقَتَهُ وَيَكُونَ الزَّرْعُ لَهُ.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يَمْلِكُ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَى قَلْعِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْغَرْسِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:«لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» . وَلِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ظُلْمًا، أَشْبَهَ الْغِرَاسَ.
وَلَنَا، مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى زَرْعًا فِي أَرْضِ ظُهَيْرٍ، فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ. فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِظُهَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ لِفُلَانٍ. قَالَ: فَخُذُوا زَرْعَكُمْ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ. قَالَ رَافِعٌ: فَأَخَذْنَا زَرْعَنَا، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ» .
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ إلَى مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافِ مَالِ الْغَاصِبِ، عَلَى قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ، كَمَا لَوْ غَصَبَ سَفِينَةً، فَحَمَلَ فِيهَا مَالَهُ. وَأَدْخَلَهَا الْبَحْرَ، أَوْ غَصَبَ لَوْحًا. فَرَقَّعَ بِهِ سَفِينَةً، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ فِي اللُّجَّةِ، وَيُنْتَظَرُ حَتَّى تُرْسَى، صِيَانَةً لِلْمَالِ عَنْ التَّلَفِ. كَذَا هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ زَرْعٌ حَصَلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ. كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مُسْتَعَارَةً أَوْ مَشْفُوعَةً. وَفَارَقَ الشَّجَرَ وَالنَّخْلَ؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُ تَتَطَاوَلُ، وَلَا يُعْلَمُ مَتَى يَنْقَطِعُ مِنْ الْأَرْضِ، فَانْتِظَارُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ رَدِّ الْأَصْلِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَحَدِيثُهُمْ وَرَدَ فِي الْغَرْسِ، وَحَدِيثُنَا فِي الزَّرْعِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَيُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ. وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى رَضِيَ الْمَالِكُ بِتَرْكِ الزَّرْعِ لِلْغَاصِبِ. وَيَأْخُذُ مِنْهُ أَجْرَ الْأَرْضِ. فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ، فَمَلَكَ صَاحِبُهُ أَخْذَ أَجْرِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ فِي الدَّارِ طَعَامًا أَوْ أَحْجَارًا يَحْتَاجُ فِي نَقْلِهِ إلَى مُدَّةٍ.
وَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ الزَّرْعِ، فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَ شَجَرِ الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ. وَفِيمَا يُرَدُّ عَلَى الْغَاصِبِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، قِيمَةُ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الزَّرْعِ. فَيُقَدَّرُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ. وَلِأَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ إلَى حِينِ انْتِزَاعِ الْمَالِكِ لَهُ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ قَبْلَ انْتِزَاعِ الْمَالِكِ لَهُ، كَانَ مِلْكًا لَهُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ لَمَا مَلَكَهُ بِأَخْذِهِ. فَيَكُونُ أَخْذُ الْمَالِكِ لَهُ تَمَلُّكًا لَهُ، إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ. وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ الْأَرْضِ إلَى حِينِ تَسْلِيمِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ، وَقَدْ شَغَلَ بِهِ أَرْضَ غَيْرِهِ.