الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَتَّى إنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ بِالصَّنَائِعِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغَرَرِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ وُجُودِهَا، لِأَنَّهَا تَتْلَفُ بِمُضِيِّ السَّاعَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، كَالسَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ.
[فَصْلٌ اشْتِقَاقُ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ الْعِوَضُ]
(4152)
فَصْلٌ: وَاشْتِقَاقُ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَجْرِ، وَهُوَ الْعِوَضُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] . وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّوَابُ أَجْرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْعَبْدَ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، أَوْ صَبْرِهِ عَلَى مُصِيبَتِهِ. (4153) فَصْلٌ: وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُضْمَنُ بِالْيَدِ وَالْإِتْلَافِ، وَيَكُونُ عِوَضُهَا عَيْنًا وَدَيْنًا
وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ كَمَا اخْتَصَّ بَعْضُ الْبُيُوعِ بِاسْمٍ، كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لَهَا. وَهَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، تَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ فَانْعَقَدَتْ بِلَفْظِهِ، كَالصَّرْفِ. وَالثَّانِي لَا تَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنًى خَاصًّا، فَافْتَقَرَتْ إلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُضَافُ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الْبَيْعُ إضَافَةً وَاحِدَةً، فَاحْتِيجَ إلَى لَفْظٍ يُعْرَفُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، كَالْعُقُودِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُخَالِفُ الْبَيْعَ فِي الْحُكْمِ وَالِاسْمِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ.
(4154)
فَصْلٌ: وَلَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
[مَسْأَلَة إذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِأُجْرَةِ مَعْلُومَةٍ]
(4155)
مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ، وَمُلِّكَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ كَامِلَةً، فِي وَقْتِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَجَلًا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ سِتَّةٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَةُ، وَالْعَقْدُ يُضَافُ إلَيْهَا، فَيَقُولُ: أَجَرْتُك دَارِي كَمَا يَقُولُ: بِعْتُكَهَا
وَلَنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُسْتَوْفَى بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا تُضْمَنُ دُونَ الْعَيْنِ، وَمَا كَانَ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ وَمَنْشَؤُهَا، كَمَا يُضَافُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْبُسْتَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ. وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك مَنْفَعَةَ دَارِي. جَازَ.
الثَّانِي أَنَّ الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْمُدَّةَ هِيَ الضَّابِطَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، الْمُعَرِّفَةُ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، كَعَدَدِ الْمَكِيلَاتِ فِيمَا بِيعَ بِالْكَيْلِ. فَإِنْ قَدَّرَ الْمُدَّةَ بِسَنَةٍ مُطْلَقَةٍ، حُمِلَ عَلَى سَنَةِ الْأَهِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ
فَإِنْ شَرَطَ هِلَالِيَّةً كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ قَالَ: عَدَدِيَّةً، أَوْ سَنَةً بِالْأَيَّامِ كَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْعَدَدِيَّ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَإِنْ اسْتَأْجَرَ سَنَةً هِلَالِيَّةً أَوَّلَ الْهِلَالِ، عَدَّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْهِلَالِيَّ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، يَنْقُصُ مَرَّةً وَيَزِيدُ أُخْرَى. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي أَثْنَاء شَهْرٍ، عَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَعَدَّ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ، ثُمَّ كَمَّلَ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إتْمَامُهُ بِالْهِلَالِ، فَتَمَّمْنَاهُ بِالْعَدَدِ، وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ مَا عَدَاهُ بِالْهِلَالِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْجَمِيعَ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُسْتَوْفَى بَعْضُهَا بِالْعَدَدِ، فَوَجَبَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ شَهْرًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَمَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَحْصُلُ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي أَثْنَائِهِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ يَأْتِي بَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَشْهُرٍ دُونَ السَّنَةِ وَإِنْ جَعَلَا الْمُدَّةَ سَنَةً رُومِيَّةً أَوْ شَمْسِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً أَوْ قِبْطِيَّةً، وَكَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ، جَازَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، فَإِنَّ الشُّهُورَ الرُّومِيَّةَ مِنْهَا سَبْعَةٌ أَحَدَ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَأَرْبَعَةٌ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَشُهُورُ الْقِبْطِ كُلُّهَا ثَلَاثُونَ ثَلَاثُونَ، وَزَادُوهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ لِتُسَاوِيَ سَنَتُهُمْ السَّنَةَ الرُّومِيَّةَ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجْهَلُ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَجْهُولَةٌ فِي حَقِّهِ
وَإِنْ أَجَرَهُ إلَى الْعِيدِ، انْصَرَفَ إلَى الَّذِي يَلِيهِ، وَتَعَلَّقَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ غَايَةً، فَتَنْتَهِي مُدَّةُ الْإِجَارَةِ بِأَوَّلِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْعِيدِ فِطْرًا أَوْ أَضْحَى، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ سَنَةِ كَذَا. وَكَذَلِكَ