الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِيهَا ذَلِكَ، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعِنَانِ، فَإِنَّ فِي ضِمْنِهِمَا تَوْكِيلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا، كَذَا هَاهُنَا. فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اشْتَرَيْت الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ.
أَوْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ، فَقَالَ: نَعَمْ. أَوْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْت أَنَا مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ. جَازَ، وَكَانَتْ شَرِكَةً صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَيَكُونُ تَوْكِيلًا لَهُ فِي شِرَاءِ نِصْفِ الْمَتَاعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِهِ الْحَاصِلِ فِي الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ خَصَّ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَتَاعِ أَوْ أَطْلَقَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَا: مَا اشْتَرَيْنَاهُ أَوْ مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُنَا مِنْ تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا. فَهُوَ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ، وَهُمَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمَا، وَمَا يَجِبُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَفِي إقْرَارِهِمَا، وَخُصُومَتِهِمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِي الْعِنَانِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَيُّهُمَا عَزَلَ صَاحِبَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، انْعَزَلَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَشْتَرِيَانِ بِجَاهِهِمَا، وَالْجَاهُ وَالْوَجْهُ وَاحِدُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَجِيهٌ. إذَا كَانَ ذَا جَاهٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُوسَى عليه السلام:{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَنَّ مُوسَى عليه السلام، قَالَ يَا رَبِّ، إنْ كَانَ قَدْ خَلِقَ جَاهِي عِنْدَك، فَأَسْأَلُك بِحَقِّ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي تَبْعَثُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: مَا خَلِقَ جَاهُك عِنْدِي، وَإِنَّك عِنْدِي لَوَجِيهٌ.
[فَصْلٌ شَرِكَةُ الْعِنَانِ]
(3627)
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَالَيْهِمَا. وَهَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةُ، وَهِيَ شَرِكَةُ الْعِنَانِ. وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ بِمَالَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهِمَا، بِأَبْدَانِهِمَا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا. وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ تَسْمِيَتِهَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ، فَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ، كَالْفَارِسَيْنِ إذَا سَوَّيَا بَيْنَ فَرَسَيْهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِي السَّيْرِ، فَإِنَّ عِنَانَيْهِمَا يَكُونَانِ سَوَاءً.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَنَّ الشَّيْءُ إذَا عَرَضَ، يُقَالُ: عَنَّتْ لِي حَاجَةٌ. إذَا عَرَضَتْ، فَسُمِّيت الشَّرِكَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنَّ لَهُ أَنْ يُشَارِكْ صَاحِبَهُ. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُعَانَنَةِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ، يُقَالُ: عَانَنْت فُلَانًا. إذَا عَارَضْته بِمِثْلِ مَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُعَارِضٌ لِصَاحِبِهِ بِمَالِهِ وَفِعَالِهِ.
وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ.
(3628)
فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُ رَأْسِ الْمَالِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنَّهُمَا قِيَمُ الْأَمْوَالِ وَأَثْمَانُ الْبَيَّاعَات،
وَالنَّاسُ يَشْتَرِكُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى زَمَنِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. فَأَمَّا الْعُرُوض، فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهَا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَحَرْبٍ. وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى أَعْيَانِ الْعُرُوضِ أَوْ قِيمَتِهَا أَوْ أَثْمَانِهَا، لَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِمِثْلِهِ، وَهَذِهِ لَا مِثْلَ لَهَا، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ، وَقَدْ تَزِيدُ قِيمَةُ جِنْسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَسْتَوْعِبُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرِّبْحِ أَوْ جَمِيعَ الْمَالِ، وَقَدْ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يُشَارِكَهُ الْآخَرُ فِي ثَمَنِ مِلْكِهِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبْحٍ، وَلَا عَلَى قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةِ الْقَدْرِ، فَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، وَقَدْ يُقَوَّمُ الشَّيْءُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ بَيْعِهِ، فَيُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَثْمَانِهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَالَ الْعَقْدِ وَلَا يَمْلِكَانِهَا، وَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَتُجْعَلُ قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ رَأْسَ الْمَالِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ، يُقَسَّمُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّه يُسْأَلُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَتَاعِ؟ فَقَالَ: جَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بِهَا.
اخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَبِهِ قَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ طَاوُسٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَوْنُ رِبْحِ الْمَالَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْعُرُوضِ كَحُصُولِهِ فِي الْأَثْمَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا، كَالْأَثْمَانِ. وَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِقِيمَةِ مَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّنَا جَعَلْنَا نِصَابَ زَكَاتِهَا قِيمَتَهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعُرُوض مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، جَازَتْ الشَّرِكَةُ بِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَشْبَهَتْ النُّقُودَ، وَيَرْجِعُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِمِثْلِهَا.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، لَمْ يَجُزْ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بِمِثْلِهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ، فَاسْتَوَى فِيهَا مَالُهُ مِثْلٌ مِنْ الْعُرُوضِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ سَلَّمَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَجُوزُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَقْدٍ، فَلَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ بِهَا، كَاَلَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ.
(3629)
فَصْلٌ: وَالْحُكْمُ فِي النُّقْرَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، فَهِيَ كَالْعُرُوضِ.