الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
، فَالتَّسْلِيمُ فِي الشُّفْعَةِ مِثْلُهُ، وَكَوْنُ الْأَخْذِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الصِّحَّةِ، فَإِذَا أَجَّلْنَاهُ مُدَّةً، فَأَحْضَرَ الثَّمَنَ فِيهَا، وَإِلَّا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْأَخْذَ وَرَدَّهُ إلَى الْمُشْتَرِي.
وَهَكَذَا لَوْ هَرَبَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْأَخْذِ. وَالْأَوْلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الْأَخْذِ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْبَائِعِ الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ، كَغَيْرِ مَنْ أُخِذَتْ الشُّفْعَةُ مِنْهُ، وَكَمَا لَوْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَا يَقِفُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَا يَقِفُ فَسْخُ الْأَخْذِ بِهَا عَلَى الْحَاكِمِ، كَفَسْخِ غَيْرِهَا مِنْ الْبُيُوعِ، وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلِأَنَّ وَقْفَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ، وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهَا مَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الثَّمَنِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الضَّرَرِ.
وَإِنْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، كَالْبَائِعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي.
[فَصْل الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ]
(4059)
فَصْلٌ: لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَسْقُطْ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنْ يَخْدَعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: أَنَّهُمْ لَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ صَبِيًّا، لَوْ كَانُوا يَأْتُونَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، كَانَ أَسْهَلَ عَلَيَّ.
وَمَعْنَى الْحِيلَةِ أَنْ يُظْهِرُوا فِي الْبَيْعِ شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَهُ، وَيَتَوَاطَئُونَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ يَقْضِيَهُ عَنْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَقْضِيَهُ عَنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَبِيعَهُ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ، أَوْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ يُبْرِئَهُ الْبَائِعُ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ، أَوْ يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ بِمِائَةٍ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ بَاقِيَهُ، أَوْ يَهَبَ الشِّقْصَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَهَبَ الْمُشْتَرِي لَهُ الثَّمَنَ، أَوْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولِ الْمِقْدَارِ، كَحَفْنَةِ قُرَاضَةٍ، أَوْ جَوْهَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلُؤْلُؤَةٍ، وَأَشْبَاهِ هَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ تَحَيُّلٍ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ.
وَإِنْ تَحَيَّلَا بِهِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، لَمْ تَسْقُطْ، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ.
وَفِي الثَّانِيَةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتِهَا ذَهَبًا. وَفِي الثَّالِثَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ. وَفِي الرَّابِعَةِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَهُوَ الْمِائَةُ الْمَقْبُوضَةُ. وَفِي الْخَامِسَةِ يَأْخُذُ الْجُزْءَ الْمَبِيعَ مِنْ الشِّقْصِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ. وَفِي السَّادِسَةِ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمَوْهُوبِ.
وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ الْمَجْهُولِ ثَمَنُهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَيْنُهُ، دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ بِقِيمَتِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ، يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِمَا وَقَعَ الْبَيْعَ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةٌ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَإِنْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ، فَهُوَ قِمَارٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، فَجَعَلَ إدْخَالَ الْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ قِمَارًا، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ إبَاحَةَ إخْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ جَعْلًا، مَعَ عَدَمِ مَعْنَى الْمُحَلَّلِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ سَبَقَيْهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا إبَاحَةَ الْمُحَرَّمِ. مَعَ عَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ.» وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُخَادِعِينَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] . وَالْحِيلَةُ مُخَادَعَةٌ، وَقَدْ مَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ قِرَدَةً بِحِيلَتِهِمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَحْفِرُ جِبَابًا، وَيُرْسِلُ الْمَاءَ إلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَعَتْ فِي الشِّبَاكِ وَالْجِبَابِ، فَيَدَعُونَهَا إلَى لَيْلَةِ الْأَحَدِ، فَيَأْخُذُونَهَا، وَيَقُولُونَ: مَا اصْطَدْنَا يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِحِيَلِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] قِيلَ: يَعْنِي بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. أَيْ لِتَتَّعِظَ بِذَلِكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَجْتَنِبُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمُعْتَدُونَ.
وَلِأَنَّ الْحِيلَةَ خَدِيعَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَحِلُّ الْخَدِيعَةُ لِمُسْلِمٍ» . وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ سَقَطَتْ بِالتَّحَيُّلِ، لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَهَا الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ.
وَفَارَقَ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّحَيُّلُ، لِأَنَّهُ لَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا قُصِدَ بِهِ إبْطَالُ حَقٍّ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا هَلْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا حِيلَةً، أَوْ لَا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَحَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْغَرَرَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِشِرَائِهِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً بِمِائَةٍ، وَمَا يُسَاوِي