الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم .. طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها .. فاعقل شأنك.
أخي الحبيب:
من العجب كل العجب أن العبد يصدق بدار الخلود، وهو يسعى لدار الغرور، فمن أحبه الله حماه عن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه عن الماء، وقد ورد في الحديث مرفوعًا:«إن الله لم يخلق خلقًا أبغض إليه من الدنيا، وإنه منذ خلقها لم ينظر إليها» .
وقيل لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا؟
قال: وما أصف لكم من دار: من صح فيها أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها النار.
وقد وصف الدنيا يونس بن عبيد فقال: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك إذ انتبه (1).
وكان شميط بن عجلان يقول: إنسانان معذبان في الدنيا: غني أعطي دنيا فهو بها مشغول، وفقير زويت عنه فهو يتبعها نفسه، فنفسه تقطع عليها حسرات (2).
(1) عدة الصابرين: 355.
(2)
صفة الصفوة: 3/ 347.
وحين ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب قال: الدنيا دار صدق لمن صادقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها (1).
وكثير يذم الدنيا وأنها السبب في الطغيان والبعد عن الطاعة .. وما علم أنها دار للاستزادة .. بها الطريق إلى الجنة يبنى .. وبها التزود من الدرجات العلا .. ولكن:
يعيب الناس كلهم الزمان
…
وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا
…
فلو نطق الزمان به رمانا (2)
قال الأوزاعي يعظ الناس: تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة؛ التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء (الإقامة) فيها قليل، وأنتم فيها مؤجلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجساما، وأعظم آثارًا، فجرودا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد مؤثرين ببطش شديد: وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طويت مدتهم، وعفت آثارهم، وأخوت منازلهم، وأنست ذكراهم، فما تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزًا (3). كانوا بلهو الأمل آمنين، لبيان قوم غافلين ولصباح قوم
(1) أدب الدنيا والدين: 134.
(2)
الزهد للبيهقي: 157.
(3)
الركز: الصوت الخفي.