الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدكم يتقي على دينه، كما يتقي على نعله.
يا غاديًا في غفلة ورائحًا
…
إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفًا
…
يستنطق الله به الجوارحا
واعجبًا منك وأنت مبصر
…
كيف تجنبت الطريق الواضحا
وكيف ترضى أن تكون خاسرًا
…
يوم يفوز من كان رابحًا
أخي الحبيب:
إن رب الأرباب ومسبب الأسباب جعل الآخرة: دار الثواب والعقاب، والدنيا: دار التحمل والاضطراب والتشمر والاكتساب، وليس التشمر في الدنيا مقصورًا على المعاد دون المعاش، بل المعاش ذريعة إلى المعاد ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة ومدرجة إليها (1).
قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له بها، والدنيا -أخي- قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها، فاعقل شأنك (2).
وقد فصل رحمه الله في طلب الدنيا وتركها، فقال: ترك الدنيا شديد، وترك الجنة أشد منها، وإن مهر الجنة ترك الدنيا (3).
(1) الإحياء: 2/ 69.
(2)
صفة الصفوة: 4/ 93.
(3)
تنبيه الغافلين: 1/ 85.
فهل قدمنا -أخي- هذا المهر؟ ! بل نحن لاهون ساهون في هذه الدنيا؛ ونحن نعلم أن وراء كل فرح حزنًا، ووراء كل نعيم كدرًا.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا (1).
وكان مسعر بن كدام يكثر أن يتمثل بهذه الأبيات في جنازة:
ويحدث روعات لدي كل فزعة
…
ونسرع نسيانًا ولم يأتنا أمن
فإنا ولا كفران لله ربنا
…
كما البدن لا تدري مني يومها البدن (2)
قال بعض السلف: ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة، فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظامًا (3).
وكيف يلذ العيش من هو عالم
…
بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه ظلمة لعباده
…
ويجزيه بالخير الذي هو فاعله (4)
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن الدنيا: دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم إليها عقوبة،
(1) تسلية أهل المصائب: 15.
(2)
حلية الأولياء: 7/ 221.
(3)
فضائل الذكر: لابن الجوزي، 19.
(4)
شرح الصدور: 295.
فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزّها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن كالمداوي جراحته، يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الحيالة الخداعة، التي زينت بخدعها وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشرفت لخطابها، فأصبحت كالروس المجلية، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبر عنها مدكر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته، فاغتبر، وطغى، ونسي المعاد، فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسر ما تكون فيها؛ احذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور، أشخصه إلى مكروه، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، لا يرجع منها ما ولى فأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختبارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، وجاءت الرواية أنه تبارك وتعالى قال لموسى عليه