الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمل قليلاً، وأخذ زاده منها للجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده إلى النار (1).
أخي الحبيب
…
أين نحن من هؤلاء
؟ !
عن أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له غدًا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة (2).
نحن في دنيا: أعمارها قصيرة، وفرحها مكدر .. ونعيمها زائل .. ! ! وقد وصفها أبو حازم سلمة بن دينار بقوله: ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني.
يا من تمتع بالدنيا وزينتها
…
ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما ليس تدركه
…
تقول لله ماذا حين تلقاه (3)
(قال الحكيم): أربعة طلبناها فأخطأنا طرقها: طلبنا الغنى في المال؛ فإذا هو في القناعة، وطلبنا الراحة في الكثرة؛ فإذا هي في القلة، وطلبنا الكرامة في الخلق، فإذا هي في التقوى، وطلبنا النعمة في الطعام واللباس، فإذا هي في الستر والإسلام (4).
أخي .. انظر أين مطلبك من هذه؟ وعلى ماذا تقع عيناك .. وأين تذهب بك المذاهب؟ !
ولعل لنا نصيبًا من قول عطاء الخرساني: إني لا أوصيكم
(1) تزكية النفوس: 128.
(2)
صفة الصفوة: 2/ 153.
(3)
مكاشفة القلوب: 293.
(4)
تنبيه الغافلين: 128.
بدنياكم، أنتم بها مستوصون، وأنتم عليها حراص، وإنما أوصيكم بآخرتكم، فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الدنيا كشيء فارقتموه، فوالله لتفارقنها، واجعلوا الموت كشيء ذقتموه، فوالله لتذوقنه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه، فوالله لتنزلنها (1).
ننافس في الدنيا ونحن نعيبها
…
وقد حذرتناها لعمري خطوبها
وما نحسب الأيام تنقضي مدة
…
على أنها فينا سريع دبيبها
كأني برهط يحملون جنازتي
…
إلى حفرة يحثى عليَّ كثيبها
وكم ثم من مسترجع متوجع
…
ونائحة يعلو على نحيبها
وباكية تبكي عليَّ وإنني
…
لفي غفلة من صوتها ما أجيبها
أيا هادم اللذات ما منك مهرب
…
تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
وإني لمن يكره الموت والبلا
…
ويعجبه روح الحياة وطيبها
رأيت المنايا قسمت بين أنفس
…
ونفسي سيأتي بعدهن نصيبها (2)
ذكر عن شفيق البلخي أنه قال: الناس يقولون ثلاثة أقوال وقد تألفوها في أعمالهم: يقولون: نحن عبيد الله وهم يعملون عمل الأحرار، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها، وهذا أيضًا خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت وهم يعملون أعمال من لا يموت، وهذا أيضًا خلاف قولهم (3).
(1) صفة الصفوة: 4/ 151.
(2)
حلية الأولياء: 10/ 141.
(3)
مكاشفة القلوب: 35.
وقال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي:
أف للدنيا فليست لي بدار
…
إنما الراحة في دار القرار
أبت الساعات إلا سرعة
…
في بلى جسمي بليل ونهار (1)
خطب علي رضي الله عنه فقال: ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع، ألا وإن المضمار اليوم، والسباق غدًا، ألا وإن السبقة الجنة، والغاية الموت، ألا وإنكم في أيام مهل، ومن ورائه أجل يرثه عجل، فمن عمل في أيام مهلة قبل حضور أجله، نفعه عمله، ولم يضره أمله، ومن لم يعمل في أيام مهلة قبل حضور أجله ضره أمله وساءه عمله (2).
لا تطمئن إلى الدنيا وزخرفها
…
وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا؟
…
أين الذين هم كانوا لنا سكنا؟
سقاهم الدهر كأسًا غير صافية
…
فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا (3)
وصف حال الإنسان في هذه الدنيا وما بعدها يحيى بن معاذ فقال: من الدنيا لا ندرك آمالنا، وللآخرة لا نقدم أعمالنا، وفي
(1) صفة الصفوة: 2/ 517.
(2)
العاقبة: 64.
(3)
السير: 17/ 189.
القيامة لا ندري ما حالنا (1).
ونحن أخي المسلم نفرح بالدنيا، تقبل من كل جانب، وتدخل علينا من كل باب
…
لا نلقي بالاً لما أتى، ولا نبالي كيف أتي. لنرى قول أبي حازم سلمة بن دينار في هذه الإقبال من الدنيا.
يقول: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا، أعظم من نعمته علي فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها قومًا فهلكوا (2).
أترانا نخاف مثله من إقبال الدنيا بأبيضها وأصفرها نحونا، أم ترانا نفرح ولا ندري ما أعد لنا؟ !
قال ذو النون المصري: سقم الجسم في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسم لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
أخي .. هب أن الدنيا أقبلت عليك .. في كل مكان لك نصيب .. وفي كل استثمار لك سهم. كيف سيكون خشوعك في الصلاة؟ ! وكيف ستؤدي السنن الرواتب؟ ! وهل سيكون لسانك رطبًا من ذكر الله؟ !
وانظر حال من زويت عنهم الدنيا، وكانت حياتهم كفافًا، لترى نعم الله في قلة الهم والغم والتفرغ للعبادة والطاعة.
قال مضاء بن عيسى: من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من
(1) حلية الأولياء: 10/ 56.
(2)
حلية الأولياء: 3/ 233.
شيء هرب منه، ومن أحب شيئًا آثره على غيره.
أخي الكريم .. من موعظة لأبي بن كعب رضي الله عنه قال: لا تغبط الحي إلا بما تغبط به الميت (1).
وبماذا نغبط الميت؟ ! إنه العمل الصالح، وحسن الذكر، وطول العبادة.
أخي:
هب الدنيا تساق إليك عفوًا
…
أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء
…
أظلك ثم آذن بالزوال
قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني. قال: وهل أنت مطيعي؟ قال: إني على طاعتك حريص، قال: صم وأفطر وصل، ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم (2).
إذا المرء صام عن الدنايا
…
فكل شهوره شهر الصيام (3)
قال بشر بن الحارث: ليس أحد يحب الدنيا إلا لم يحب الموت، ومن زهد فيها أحب لقاء مولاه (4).
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني، وثلاث أحزنتني حتى أبكتني، أما الثلاث الأول: فمؤمل
(1) بستان العارفين: 111.
(2)
صفة الصفوة: 1/ 496.
(3)
البركة في فضل السعي والحركة: 111.
(4)
السير: 10/ 476.
دنيا، والموت يطلبه. وغافل وليس بمغفول عنه. وضاحك ملء فيه، ولا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض عنه.
أما الثلاث التي أحزنتني حتى أبكتني: ففراق محمد صلى الله عليه وسلم وفراق الأحبة، والوقوف بين يدي الله تعالى، ولا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار (1).
دنياك غرارة فذرها
…
فإنها مركب جموح (2)
قيل لهرم بن حيان أوصي، قال: قد صدقتني نفسي، ومالي ما أوصي به، ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النمل (3).
وقال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير. قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك؟ من رضي بالدنيا كلها عوضًا عن الآخرة (4).
أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟ !
قال أبو داود السجستاني: ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.
نامت عيون الآمنين عن الردى
…
وعيونه من حرصه تتوقد
فاستأمنوا مكر الإله وإنه
…
مكر يسل على الدوام ويغمد
حتى إذا هتف الهلاك تنبهت
…
نفس الضعيف وهالها ما توعد
(1) العاقبة: 64.
(2)
صفة الصفوة: 4/ 352.
(3)
السير: 4/ 48.
(4)
صفة الصفوة: 3/ 141.
والموت في كفن الهوى يتوعد
يا ويحهم إن الهوى يلهو بهم
لقد ضربت الدنيا في نفوسنا بسهم، ونصبت في قلوبنا رايات .. ليلنا ونهارنا في حديث عن الدنيا .. جل تفكيرنا كيف نفعل؟ ! وأكثر حيلنا كم نربح! ! إن ضرب موعد للدنيا ذهبنا إليه مبكرين، وأقمنا عند بابه فرحين .. ولا نبقي للآخرة في قلوبنا ركنًا ولا زاوية .. وانظر إذا رفع الأذان، كم ترى من المبكرين المسرعين .. والتفت إلى الشوارع والطرقات ترى الكثرة تسير بعجلة للدنيا .. مولية عن الآخرة مقبلة على الدنيا ..
قال سعيد بن عبد العزيز: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزًا بغير حق أورثه ذلاً بحق، ومن جمع مالاً بظلم أورثه الله فقرًا بغير ظلم.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
…
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع (1)
قال الحسن البصري: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم (2).
الدنيا إن قلت أو كثرت ليست مقياسًا للسعادة ولا مدخلاً للنعيم .. إنما هو قياس نسبي .. فهناك من إذا كثير ماله كثر غمه وهمه، والبعض هادئ البال مطمئن الفؤاد .. لديه ما يكفيه لدفع
(1) حلية الأولياء: 8/ 10.
(2)
مختصر منهاج القاصدين: 21.
حاجات الدنيا، فلا يبذل وجهه لأحد، ولا هو يشكو من قلة أو حاجة.
وفي حياتنا نرى الأمثلة محسوسة والشواهد قائمة، وأذكر أن شخصًا يملك من الثروة ما تكفي زكاة ماله لألوف الأسر المحتاجة .. ويشكو لي بين حين وآخر: كدر الدنيا، وقلة سعادتها، وكثرة همومها ومشاغلها ..
وعاشرت مؤذن مسجد فترة من الزمن، فما رأيته يشكو ولا يتذمر، بل رأيته يسعد بأيامه، ويفرح بأبنائه، ويعدد نعم الله عليه .. رغم أنه يسكن في بيت المسجد، وحالته المادية يعلم الله بها فلديه من الأبناء الكثير .. ولكن سبحان من يعطى القناعة والرضا، ويستعمله في طاعته ويقربه من رحمته ..
أقل من الدهر ما أتاك به
…
واصبر لريب الزمان إن عثرا
ما لامرئٍ فوق ما يجري القضاء به
…
فاللهم فضل وخير الناس من صبرا
يا رب ساع في سعيه أمل
…
يفنى ولم يقض من تأميله وطرا
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له
…
ولن ترى قنعا ما عاش مفتقرا
والعرف من يأته يحمد عواقبه
…
ما ضاع عرف وإن وليته حجرا (1)
قال بعض الحكماء: عجبت لمن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على نقصان عمره، وعجبت لمن الدنيا مدبرة عنه، والآخرة مقبلة عليه، كيف يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة.
(1) حلية الأولياء: 7/ 220.