الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان رسول الله في الثامنة من العمر (1). ولا شك أن محمدًا أحس بفقدان جده لما كان يَحبُوه به من العطف والرعاية (2).
وقد وردت روايات تفيد عطف أبي طالب عليه وتعلقه به (3)، ومما يدل على شدة محبة أبي طالب إياه صحبته له في رحلته إلى الشام. ويبدو أنه في فترة حضانة أبي طالب له ساعده محمد صلى الله عليه وسلم في رعي غنمه، وقد ثبت أنه عمل على رعيها لأهل مكة مقابل قراريط (4)، ولعل ضيق حال أبي طالب هو الذي دفعه إلى العمل لمساعدته، ورعي الغنم فيه دربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رعاية البشر فيما بعد، فقد ألف العمل والكفاح منذ طفولته، واعتاد أن يهتم بما حوله، ويبذل العون للآخرين، وربما يذكرنا رعيه للغنم بأحاديثه التي تحث على الإحسان للحيوان.
قصة بحيرى الراهب:
لقد اصطحب أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة تجارية له إلى الشام، وكان النبي في التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة من عمره على اختلاف الروايات (5) وقد دعا راهب يدعى بحيرى في مدينة بُصرى رجال القافلة القرشية إلى طعام،
(1) ابن إسحاق: السير والمغازي 65 - 66 بسند منقطع والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 21 - 22 والسيرة النبوية للذهبي 25 - 26 بإسناد ضعيف جدًا إلى ابن عباس، لضعف عبد الله بن شبيب الربعي (ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 238 - 239).
(2)
تشير إلى هذا المعنى روايات ضعيفة كما في طبقات ابن سعد 1/ 112 - 113 ومستدرك الحاكم 2/ 603 - 604 وصحح الرواية ووافقه الذهبي، لكن في الإسناد عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم مستور الحال (تقريب التهذيب 293).
(3)
ابن سعد: الطبقات 1/ 120 بأسانيد مرسلة صحيحة إلى مرسليها وهما عبد الله بن القبطية وعمرو بن سعيد القرشي. وأما ما ذكره ابن سعد من حلول البركة بطعام آل أبي طالب إذا حضره محمد فلم يثبت من طريق صحيح بل معظم الأسانيد من طريق الواقدي (راجع الاقتباسات عنه في تاريخ دمشق (السيرة) لابن عساكر 1/ 71 - 72 والخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 83.
(4)
صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 141 و6/ 438) وصحيح مسلم بشرح النووي 14/ 5 - 6.
(5)
ابن سيد الناس: عيون الأثر 40.
حيث تعرف على النبي من خلال صفاته وأحواله؛ فعرف أنه يتيم، وأنه يحمل خاتم النبوة بين كتفيه، ورأى الغمامة تظله من الشمس وفيء الشجرة يميل عليه عندما ينام إليها. وتختم الرواية القصة بتحذير الراهب لأبي طالب عم النبي من اليهود والروم.
إن أقوى طرق هذه القصة ورد عند الترمذي في جامعه (1) وقال عنه الترمذي:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وصححه الحاكم (2)، وتعقبه الذهبي قائلًا "أظنه موضوعًا وبعضه باطل"(3) وبيَّن اعتراضاته على سند الرواية ومتنها ووصفها بالنكارة، بل يفهم من كلامه شكه في الرواية كلها (4).
فأما انتقاده للسند فقد قال عن عبد الرحمن بن غزوان -راويها- "له مناكير" ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحق في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام" (5) وأما انتقاده للمتن فقد قال:"وهو حديث منكر جدًا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذ الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد، وأيضًا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن
(1) سنن الترمذي 5/ 590 - 591 بإسناده إلى قراد، ومن طريق قراد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 14/ 286 وابن أبي الدنيا في هواتف الجان 194 والحاكم: المستدرك 2/ 615 والطبري: تاريخ 2/ 277 - 278 والبيهقي: الدلائل 2/ 24 والخطيب: تاريخ بغداد 10/ 252.
وأخرجه من طرق معضلة ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 120، 153 كما ورد عند ابن إسحاق من مرسل عبد الله بن أبي بكر (تاريخ الطبري 2/ 278) وفي سيرة ابن إسحاق من دون إسناد (سيرة ابن هشام 1/ 180).
(2)
الحاكم: المستدرك 2/ 615 - 616.
(3)
الذهبي: تلخيص المستدرك 2/ 615 - 616.
(4)
الذهبي: السيرة /28.
(5)
الذهبي: ميزان الاعتدال 2/ 581.
يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يَعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نرَ النبي صلى الله عليه وسلم ذكَّر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توافر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم -حسٌّ من النبوَّة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولًا بغار حراء وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه (1) صلى الله عليه وسلم وأيضًا فلو أثَّر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟
وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقيَّة، مع أن ابن عائذ قد روى معناه في مغازيه دون قوله:
"وبعث معه أبو بكر بلالًا .. إلى آخره". فقال حدثنا الوليد بن مسلم أخبرني أبو داؤد سليمان بن موسى فذكره بمعناه (2).
وإنما سقت كلام الذهبي بتمامه لأنه أعلم من انتقد هذه الرواية، فضلًا عما يكشفه كلامه من عناية بالغة بنقد المتون وعدم الاقتصار على نقد الأسانيد -كما يتهم البعض المحدثين- وكان ابن سيد الناس (ت 734 هـ) قد تعقب رواية الترمذي ونبّه على ما في متنها من نكارة، لكنه حصر النكارة في إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا الذي ورد في آخر الرواية (3). ولعل الحافظ الذهبي (ت748 هـ) استفاد منه في نقده لمتن الرواية، وكذلك فإن ابن القيِّم (ت 751 هـ) أفاد منه فيما يبدو حين بيَّن أن ذكر بلال في الرواية خطأ فاحش (4). بل يمكن اعتبار ابن إسحاق أول من شكك بالرواية باستعماله صيغة التمريض (يزعمون) ثلاث مرات!!
(1) راجع هذه المسألة ص 118.
(2)
السيرة النبوية للذهبي 28.
(3)
عيون الأثر 1/ 43.
(4)
ابن القيم: زاد المعاد 1/ 17.
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل توثيق النقاد لقراد: "وله عند الترمذي حديث من رواية أبي موسى الأشعري فيه ألفاظ منكرة"(1).
وقال في التعقيب على ذكر أبي بكر وبلال "بأن هذه اللفظة مدرجة في هذا الحديث مقتطعة من حديث آخر .. وفي الجملة هي وهم من أحد رواته"(2).
ومن هذا العرض يتبين أن نقد الأئمة لهذه الرواية ينصب على المتن، وخاصة الفقرة الأخيرة من الرواية التي تذكر أبا بكر وبلالًا. وقد بين الألباني أن الجزري صحح الإِسناد وقال:"وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ" وعقب الألباني بذكر ما ورد في رواية البزار "وأرسل معه عمه رجلًا" مما جعل احتمال التصحيف في عبارة حديث الترمذي قويًا بين "رجلًا" و"بلال"(3). لكن تبقى صعوبةُ تصحيف "أبي بكر" إلى "عمه" وعلى أية حال فإن وجود النكارة في الفقرة الأخيرة لا يعني ضعف سائر الرواية. ما دام السند صحيحًا، وقول الذهبي في قراد "له مناكير" لا يؤثر في توثيقه لأن الثقة قد تقع في روايته المناكير، ويحتمل منه ذلك إذا لم يُكثر منها، وأما توسع الذهبي في رد سائر الرواية لمجرد احتمالات قابلة للنقاش، ولا تصلح أدلة للطعن في سائر الرواية فلا مبرر له.
ويمكن أن تطمئن النفس إلى إثبات سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى بُصرى، وتحذير الراهب بحيرا لعمه من يهود والروم بالاعتماد على رواية الترمذي، والاستئناس بالروايات الضعيفة الأخرى مثل رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (4)(ت135 هـ) وهو من التابعين المعنيين بالسيرة ولكن إسناد ابن إسحاق هذا معضل ضعيف رغم اعتماد معظم المؤلفين
(1) هدى الساري/ 418.
(2)
ابن حجر: الإصابة 1/ 177.
(3)
الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة ص 66 - 67.
(4)
الطبري: تاريخ 2/ 277 وانظر مغازي ابن إسحاق 52 بدون إسناد.
على هذه الرواية في قصة بحيرا (1). وكذلك رواية أبي مِجلز لاحق بن حميد (ت106 هـ) بإسناد صحيح إليه لكنه مرسل (2). وكذلك مرسل الزهري (3) وكذلك فإن ثمة روايتين من طريق الواقدي أوردهما ابن سعد وأبو نعيم الأصبهاني (4). ومثل الواقدي يُستأنس بمرواياته إذا لم يخالف وإن كانت مرواياته لا تنهض للاحتجاج، بل ولا يعتبر بها في تقوية الضعيف عند علماء الحديث.
وقد حاول بعض المستشرقين أن يبني على هذه القصة اتهامات فيها مجازفة علمية حيث زعموا أن النبي تلقى علم التوراة عن بحيرا (5) إذ كيف يعقل أن يتلقى النبي في سن الثانية عشرة علم التوراة في ساعة الطعام التي التقى خلالها ببحيرا، وهو أمي لا يحسن القراءة والكتابة؟! فضلًا عن حاجز اللغة إذ لم يكن قد وجد في ذلك الوقت توراة ولا إنجيل باللغة العربية (6). وإذا كان المقصود رد أصول الإسلام إلى التوراة، فأين أثر تعاليم التوراة تلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بين لقائه ببحيرا وبعثته ثمانية وعشرون سنة!!
أما بالنسبة لمعلوماتنا عن بحيرا فإن المصادر لا تكاد تتفق على شيء بشأنه، بل هي متضاربة في اسمه فمرة جرجيس وأخرى جرجس وثالثة سرجيس ورابعة سرجس (7). ومرة أنه مشتق من الآرمية معناه المنتخب، وأخرى من السريانية
(1) الطبري: تاريخ 2/ 278.
وابن كثير: البداية والنهاية 2/ 266.
وأبو نعيم: دلائل النبوة 126
والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 24.
وابن الأثير: الكامل 2/ 23.
(2)
الذهبي: السيرة النبوية 29.
(3)
أشار إليه الذهبي: السيرة النبوية 29.
(4)
طبقات ابن سعد 1/ 120 واعتمد عليه ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 22، 23.
والسيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 141.
(5)
غوستاف لوبون: حضارة العرب 102 ومنتكري واط: محمد في مكة 75.
(6)
دراز: مداخل إلى القرآن الكريم 135.
(7)
الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 1/ 194 والسهيلي: الروض الأنف 1/ 118 والمسعودي: مروج الذهب 2/ 75 ودائرة المعارف الإسلامية 2/ 397.