المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة) - السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية - جـ ١

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقَدّمَة

- ‌منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام

- ‌ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي

- ‌ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام

- ‌مصادر السيرة النبوية

- ‌الفصل الأولالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

- ‌قبل البعثة

- ‌صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌النبي المختار:

- ‌حفر زمزم:

- ‌نذر عبد المطلب:

- ‌زواج عبد الله من آمنة:

- ‌وفاة عبد الله:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل:

- ‌صفة حمل آمنة به:

- ‌مرضعاته:

- ‌معجزة شق الصدر:

- ‌قصة بحيرى الراهب:

- ‌شهوده حلف المطيبين:

- ‌زواجه من خديجة:

- ‌صيانة الله له قبل البعثة (إرهاصات البعثة):

- ‌بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:

- ‌إرهاصات نبوته:

- ‌البعثة المحمدية:

- ‌الوحي:

- ‌مرحلة الدعوة السرية:

- ‌المسلمون الأوائل:

- ‌إسلام الجن:

- ‌بدء الدعوة الجهرية:

- ‌أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌اضطهاد قريش للمسلمين:

- ‌لجوء قريش إلى المفاوضات:

- ‌لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات لإثبات النبوة:

- ‌مجادلة قريش:

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌إسلام عمر بن الخطاب:

- ‌دخول المسلمين شعب أبي طالب:

- ‌وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها:

- ‌رحلته إلى الطائف:

- ‌أسانيد قصة عداس

- ‌الإسراء والمعراج:

- ‌الطواف على القبائل طلبا للنصرة:

- ‌الاتصال بالأنصار ودعوتهم:

- ‌بيعة العقبة الأولى:

- ‌ بيعة العقبة الثانية

- ‌الهجرة إلى المدينة المنورة:

- ‌أوائل المهاجرين:

- ‌الفَصْل الثَانيالرُّسُولُ صلى الله عليه وسلم في المَدِيْنَةِ خَصَائِصُ المُجْتَمع المَدَنِّي وَتَنْظِيمَاته الأوْلى وإجْلَاءُ اليَهُود

- ‌خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولىالمجتمع المدني قبل الهجرة:

- ‌أثر الإسلام في المجتمع المدني

- ‌الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:

- ‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة

- ‌آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس

- ‌الحب أساس بنية المجتمع المدني

- ‌الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد

- ‌أهل الصفةفقراء المهاجرين:

- ‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

- ‌نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها

- ‌تاريخ الغزوة:

- ‌الطريق إلى خيبر:

- ‌وصف فتح خيبر:

- ‌أثر فتح خيبر:

- ‌كيفية توزيع غنائم خيبر:

- ‌نماذج من المجاهدين:

الفصل: ‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

لقد نظم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة الدستور والوثيقة.

طرق ورود الوثيقة (الصحيفة):

وقد اعتمد الباحثون المعاصرون على الوثيقة في دراسة تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة (1) ولكن من الضروري جداً التأكد أولاً من مدى صحة الوثيقة قبل أن تبني عليها الدراسات، خاصة أن أحد الباحثين يرى أن الوثيقة موضوعة (2).

ونظراً لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التأريخية، فلابد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التأريخية الأخرى إن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملاً هو محمد بن إسحق (ت 151 هـ) لكنه أوردها دون إسناد (3). وقد صرح بنقلها عنه كل من ابن سيد الناس (4) وابن كثير (5) فوردت

(1) كتب في الوثيقة كل من الدكتور صالح أحمد العلي في بحثه "تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة" والدكتور عبد العزيز الدوري في كتابة النظم الإسلامية. و.

Sarjeant The Constitutin of Medina. In، Islamic QuarQuraterly. VIII/12.

وآخرون ذكرهم الأستاذ محمد حميد الله في كتابه مجموعة الوثائق السياسية ص 39 - 41.

(2)

ذهب إلى ذلك الأستاذ يوسف العش في إحدى حواشيه على كتاب الدولة العربية وسقوطها لفلهوزن ترجة العش (انظر منه ص 20 حاشية رقم 9).

(3)

ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 501 - 504.

(4)

ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 197 - 198.

(5)

ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 224 - 226.

ص: 272

عندهما دون إسناد أيضاً، وقد ذكر البيهقي (1) إسناد ابن إسحق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس هذه الطريق أيضاً. وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خثيمة (2) اورد الكتاب (الوثيقة) فأسنده بهذا الإسناد (حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه - أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحق) (3). ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خثيمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه. كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو (حدثني يحيي بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب

) (4) وسرده.

كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضاً (5).

هذه هى الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق كبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات أو اختلاف بعض المفردات أو زيادة بنود قليلة، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام.

(1) السنن الكبرى 8/ 106 "كتاب الديات".

(2)

هو الحافظ الحجة الإمام أحمد بن أبي خثيمة زهير بن حرب النسائي المتوفى سنة 279 هـ وقد وصل إلينا السفر الثالث من تأريخه (انظر أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 87 - 90).

(3)

ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 198.

(4)

أبو عبيد: الأموال 517.

(5)

يرويها حميد بن زنجوية (ت247 هـ) من طريق عبد الله بن صالح أيضاً بمثل إسناد أبي عبيد (انظر كتاب الأموال لابن زنجويه تحقيق د. شاكر ديب فياض رقم 750).

ص: 273

مدى صحة الوثيقة:

اعتمد عدد من الباحثين المعاصرين على الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة فهو يقول:"إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي: أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يخل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب"(1). ويرى العش أن ابن إسحق اعتمد على رواية كثير لكنه تعمد حذف الإسناد (2).

لقد ذهب الأستاذ العش إلى ذلك لأنه تصور أن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحق ولم يعثر على إسناد لها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني. لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهري وهى طريق مستقلة لا صلة لها بكثير المزني. ونظراً لكون ابن إسحق من أبرز تلاميذ الزهري، فإن ثمة احتمالا لأن يكون ذد أورد الوثيقة من طريقه، لولا أن البيهقي ذكر إسناد ابن إسحق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة بيهود ولا يمكن الجزم بأن ابن إسحق أخذ البنود المتعلقة بيهود من هذه الطريق أم من طريق أخرى. فقال البيهقي:"أخبرني أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد ابن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال حدثني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقروناً بكتابة الصدقة" والحديث بهذا الإسناذ ضعيف لأن عثمان تحملها

(1) انظر عبارة ابن حبان في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 8/ 422.

(2)

يوسف العش: حاشية رقم (9) ص 20 من كتاب الدولة العربية وسقوطها ترجمة العش.

ص: 274

وجادة وفي الإسناد فيهم ضعف مثل عثمان فهو صدوق له أوهام ويونس بن بكير يخطيء. والعطار ضعيف وتحمله للسيرة صحيح. فالرواية على ضعفها صالحة للإعتبار وقد توبعت، وإن هذا النص يهدم الأساس الذي بنى عليه الأستاذ العش رأيه. كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها مضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصها كاملاً!! فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة منها تغطي عدداً من بنودها كما سيرد خلال البحث.

وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، فابن إسحق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفة وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحق أيضاً بإسناد فيه سعد بن المنذر -وهو مقبول فقط-، وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني - وهو يروي الموضوعات - وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهري - وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله -.

ولكن نصوصاً من الوثيقة ورت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة، وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هى أحاديث صحيحة، وقد احتج بها الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند أحمد وسنن أبي داوود وابن ماجة والترمذي. وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة، وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للإحتجاج بها في أحكام الشريعة سوى ما ورد منها في كتب الحديث الصحيحة - فإها تصلح أساساً للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية خاصة أن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما أن الزهري علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية. ثم إن أهم كتب السيرة ومصادر

ص: 275

التاريخ ذكرت موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وكتابته بينه وبينهم كتاباً (1). كما ذكرت كتابته كتاباً بين المهاجرين والأنصار أيضاً.

كذلك فإن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها "فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة. وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطارء أو الذم لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة"(2). ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقاً آخر (3).

تاريخ كتابة الوثيقة:

الراجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان ثم جمع المؤرخون بينهما، إحداهما تتناول موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والثانية توضح إلتزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم.

ويترجح عندي أن وثيقة مواعدة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى (4) أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فكتبت بعد بدر، فقد صرحت المصادر بأن

(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1 - 286، 308، والطبري: تاريخ 2 - 479، والمقدسي: كتاب البدء والتاريخ 4 - 179، وابن حزم: جوامع السيرة ص 95، والمقريزي: إمتاع الأسماع 1 - 49، وابن كثير: البداية والنهاية 4 - 103 - 104 نقلاً عن موسى بن عقبة وفيه أن بني قريظة مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد، والأثر موقوف عليه بدون إسناد، ولكن مجموع الآثار تتقوى ببعضها وتصل إلى درجة الحسن لغيره.

(2)

صالح العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 4 - 5.

(3)

يراجع للمقارنة كتاب "مجموعة الوثائق السياسية".

(4)

ذهب الدكتور صالح العلي إلى أنها كتبت بعد بدر أيضاً (تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 6).

ص: 276

موادعة اليهود تمت أول قدوم للرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام إن الوثيقة "كتبت حدثان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل أن يظهر الإسلام ويقوي وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب" (1). وإنما ظهر الإسلام وقوى بعد معركة بدر الكبرى ويقول البلاذري: "قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة وادع يهودها وكتب بينه وبينهم كتاباً، واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه وأن ينصروه على من دهمه، وأن لا يقاتل أهل الذمة، فلم يحارب أحداً ولم يهجه، ولم يبعث سرية حتى أنزل الله عز وجل عليه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فكان أول لواء عقده لواء حمزة بن عبد المطلب (2).

وبذلك يوضح البلاذري أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل إرسال السرايا الأولى، ومن المعلوم أن سرية حمزة كانت في رمضان سنة 1 هـ أي قبل غزوة بدر بسنة وأيام (3). ويقول البلاذري في موضع آخر وهو يتحدث عن غزوة بن قينقاع "وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادعته يهود كلها وكتب بينه وبينها كتاباً، فلما أصاب صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقدم المدينة غانماً موفوراً بغت وقطعت العهد"(4).وهكذا جزم البلاذري بأن موادعة اليهود كانت قبل بدر.

ويقول الطبري: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على أن لا يعينوا عليه أحداً وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له

(1) الأموال رقم 518.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 268.

(3)

انظر الطبري: تاريخ 2/ 402 نقلاً عن الواقدي وأما ابن إسحق فيرى أن سرية عبيدة بن الحارث أسبق من سرية حمزة ويوضح تقارب وقت إرسالهما وأنه في ربيع الأول سنة اثنتين بعد الهجرة فيكونا قد اتفقا على خروج السرايا الأولى قبل بدر وهو المهم في هذا البحث. (انظر ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 595).

(4)

البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 308.

ص: 277

الحسد والبغي

وأظهروا نقض العهد" (1) وهكذا يؤيد نص الطبري أن وثيقة موادعة اليهود كانت عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة قبل غزوة بدر.

وأما ما ورد في سنن أبي داود (2) وهو قوله - بعد ذكر مقتل كعب بن الأشراف وشكوى يهود والمشركين ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم (ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة) ومن المعلوم أن قتل كعب بن الأشراف جرى بعد بدر الكبرى فإنه يلزمنا التوفيق بينها وبين الروايات التاريخية فإنها أقوى حسب شروط المحدثين من روايات المؤرخين التي سقتها ولكن مادام بإمكاننا التوفيق فلا داعي لإسقاط سائر الروايات التاريخية إذ لا مانع بعد مقتل كعب أن تُعاد كتابة الصحيفة تأكيداً أو تجديداً لتعود الطمأنينة إلى النفوس بعد هذه الحادثة التي أرعبت يهود والمشركين.

وقد خرَّج البيهقي هذه الرواية من غير طريق أبي داود وفيها زيادة هي: "كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت العذق الذي في دار بنت الحارث فكانت تلك الصحيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند علي بن أبي طالب"(3).

أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فقد كتبت بعد وثيقة موادعة اليهود في السنة الثانية من الهجرة. فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 2 هـ (وقيل إن في هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل. فكان معلقاً بسيفه)(4) واسم سيفه هذا ذو الفقار وكان قد غنمه في غزوة بدر (5).

وهذه المعاقل التي كانت معلقة بالسيف هى نصوص من الوثيقة بين

(1) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 479.

(2)

أبو داوود: سنن 3/ 402.

(3)

البيهقي: سنن 9/ 183.

(4)

الطبري: تاريخ 2/ 486. وانظر المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 107.

(5)

أحمد: المسند 1/ 271. وابن سعد الطبقات ج2 قسم 1/ 17. والطبري 2/ 478. والذهبي: تاريخ الإسلام: 1/ 290.

ص: 278

المهاجرين والأنصار كما تدل رواية ابن سعد: "أخبرنا عبد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: قرأت في جفن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذي الفقار: العقل على المؤمنين ولا يترك مفرح في الإسلام ولا يقتل مسلم بكافر) (1). وقد احتفظ علي (رض) فيما بعد بالسيف وفيه الصحيفة وقد سئل علي (رض) عما في الصحيفة مرة من قبل أبي جحيفة (2) وثانية من قبل الاشتر (3) فذكر بعض ما فيها لسائليه إما بالمعنى أو نصاً كما أنه ذكر محتواها مجملاً في إحدى خطبه (4).

ومن ذلك قوله: ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثاً وآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل" (5). كما ذكر أن في الصحيفة أيضاً الجراحات وأسنان الإبل (6) وأضاف مرة "ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" (7) كما ذكر أن فيها العقل وفكاك الأسير

(1) ابن سعد: الطبقات 1/ 172.

(2)

البخاري: الصحيح 9/ 14 والترمذي: صحيح 6/ 182 وابن ماجه: السنن 2/ 887. وأحمد: المسند 1/ 79.

(3)

أحمد: المسند 1/ 119، 122.

(4)

البخاري: الصحيح 2/ 296.

(5)

البخاري: (الصحيح (ط ليدن) 2/ 298 - 299 وانظر 2/ 296 منه أيضاً وأبو داود: السنن 2/ 488 وأحمد: المسند 1/ 119، 122، 3/ 242.

(6)

البخاري: الصحيح 2/ 296 وابن ماجه: السنن 2/ 887.

(7)

أحمد: المسند: 1/ 119 وأخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر (المسند 2/ 178) وانظر عن طرق أخرى للحديث ابن ماجة: السنن 2/ 887 والبخاري: الصحيح 9/ 14، 16 (ط مصطفى البابي الحلبي) وصحيح الترمذي شرح ابن العربي 6/ 182.

ص: 279

أيضاً (1). وقد قرأ أصحاب علي (رض) في الصحيفة المذكورة أن إبراهيم حرم مكة وأني أحرم المدينة ما بين حرتيها وحماها كله لا يختلي خلالها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال (2).

ومن الواضح أن هذه المقتطفات معظمها يطابق -نصاً- ما ورد في الوثيقة، كما أنها تغطي معظم بنود الوثيقة المتعلقة بإلتزامات المسلمين من المهاجرين والأنصار تجاه بعضهم، ولكن ليس فيها إشارة إلى البنود المتعلقة بمواعة اليهود، مما يرجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، وأن الصحيفة التي كانت معلقة بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صارت ند علي (رض) هى نفس الكتاب بين المهاجرين والأنصار.

ومن الجدير بالذكر أن ثمة نصوصاً تطابق ما في "الصحيفة بين المهاجرين والأنصار" لكنها منسوبة إلى كتب أخرى كتبها النبي صلى الله عليه وسلم. مثل رواية عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً، وكان في كتابه "إن من اعتبط مؤمناً قتلا عن بينة فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول"(3) وهذا الكتاب إنما أرسل متأخراً عن وقت كتابة الوثيقة.

كما صرحت بعض الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "لا يقتل

(1) البخاري: صحيح 9/ 14 (ط مصطفى البابي الحلبي) وأحمد: المسند 1/ 79. وانظر الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 10.

(2)

أحمد: المسند 1/ 119. وانظر 4/ 141 منه.

وفي صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 136 عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها

" وكان أهل المينة في صدر الدولة الأموية يحتفظون بكتاب من أديم خولي فيه ينص النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة المدينة (أحمد: المسند 4/ 141 والخطيب البغدادي: تقييد العلم ص 72).

(3)

الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 61 وانظر مجموعة الوثائق السياسية 186 فهى توضح أن النص من كتابه صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم عامله على اليمن.

ص: 280

مؤمن بكافر" (1) لكن هذه النصوص التي حددت أزمانها بوقت متأخر عن الوقت الذي كتبت فيه الوثيقة لا تصلح دليلاً على أن الوثيقة هي مجموعة من الكتب التي دونت في أوقات متباينة ثم دمجت في الوثيقة (2). إذ لا مانع من أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض بنود الوثيقة في كتبه اللاحقة، وينبغي الانتباه إلى عدم ورود نصوص متعلقة باليهود في الصحيفة التي تناولت المعاقل مما يرجح أن وثيقة موادعة اليهود مستقلة عن الوثيقة بين المهاجرين والأنصار التي تناولت المعاقل. ويؤيد ذلك أيضا حديث أنس بن مالك (رض) "حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك" (3) ولم يذكر أنس وجود اليهود في هذا الحلف.

وحديث ابن عباس (رض): "كتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين الناس"(4).

وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين"(5) ولم يذكر اليهود فيه. ولعل مما يؤيد ذلك أن البيهقي ساق البنود المتعلقة بالمهاجرين والأنصار مبيناً سند ابن إسحاق وليس فيه إشارة ليهود وهي مطابقة لما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق.

وهكذا فإن الروايات التي ذكرتها تجرح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان إحداهما تتعلق بموادعة اليهود كتبت قبل بدر أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، والثانية تتعلق بحلف المهاجرين والأنصار وتحديد التزاماتهم وكتبت بعد بدر، لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين.

(1) الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 10.

(2)

ذهب إلى هذا الرأي sarjcant في مقالة The constitution of medina

(3)

ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 224 وقال قد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود.

(4)

ابن حزم: مسائل من الإيصال (مطبوع آخر كتابه المحلي) 12/ 407.

(5)

أحمد: المسند 1/ 371 و 2/ 204 وعنه ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 224.

ص: 281

كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود

بسم الله الرحمن الرحيم

نص الوثيقة: (1):

1 -

هذا كتاب محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

2 -

إنهم أمة واحدة من دون الناس

3 -

المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

4 -

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بني المؤمنين.

5 -

وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف.

6 -

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

7 -

وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

8 -

وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

9 -

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

10 -

بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

(1) نقلتها من كتاب مجموعة الوثائق السياسية لأنه قارن بين سائر الروايات وأثبت الاختلافات في الحاشية انظر منه ص 41 - 47.

ص: 282

11 -

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

12 -

وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل (12ب) وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

13 -

وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.

14 -

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

15 -

وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

16 -

وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

17 -

وإن سلم المؤمنين بواحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.

18 -

وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.

19 -

وإن المؤمنين يبيء (1) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

20 -

وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. (21 ب) وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.

21 -

وإنه من اعتبط (2) مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

22 -

وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه، وإنه من نصره أو آواه. فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

(1) أي يمنع ويكف.

(2)

أي قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله كما في لسان العرب 7/ 348.

ص: 283

23 -

وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.

24 -

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

25 -

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

26 -

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

27 -

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

28 -

وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

29 -

وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

30 -

وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

31 -

وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

32 -

وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

33 -

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم.

34 -

وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

35 -

وإن بطانة يهود كأنفسهم.

36 -

وإنه لا يخرج منهم أحداً إلا بإذن محمد

(36 ب) - وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك بنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وإن الله على أبرِّ هذا.

37 -

وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

(37 ب) وإنه لا يأثم أمرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.

38 -

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

ص: 284

39 -

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

40 -

وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

41 -

وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

42 -

وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

43 -

وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

44 -

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.

45 -

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.

(45 ب) على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

46 -

وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

47 -

وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تحليل الوثيقة:

إن ما رجحته من تجزئة الوثيقة واعتبارها وثيقتين يجعل الكلام عنها وتحليلها يقوم على فصل المواد المتعلقة باليهود عن المواد التي تنظم علاقة المسلمين ببعضهم وتحدد واجباتهم وحقوقهم.

وسأبدأ بالكلام عن البنود المتعلقة باليهود لأنها أقدم - حسب ما رجحته - رغم أنها تتأخر بالنسبة لتسلسل البنود في الوثيقة حيث تتقدمها بنود الوثيقة الثانية المتعلقة بالمهاجرين والأنصار.

ص: 285

وثيقة موادعة اليهود:

تتضمن وثيقة موادعة اليهود البنود من رقم (24) إلى رقم (47) مما يدل على عدم حدوث التداخل بين بنود الوثيقتين، بل ذكرت بنود كل وثيقة مجتمعة ومتسلسلة ولا يتعارض مع هذا القول ورود البند رقم (16) خلال بنود وثيقة المهاجرين والأنصار مع أنه يتعلق باليهود إذ هو يؤكد على التزام المسلمين بالعدل تجاه حلفائهم اليهود، فلا يشترط أن يكون ضمن بنود وثيقة موادعة اليهود.

ويدل أحد بنود الوثيقة (رقم 24) على أن اليهود التزموا بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) وقد ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى أن التزامات اليهود المالية لا تقتصر على الحرب الدفاعية فهو يرى أن اليهود كانوا يغزون مع المسلمين أيضاً، قال أبو عبيد "ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة، ولوا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم"(1). وذكر أبو عبيد "حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن يزيد ابن يزيد بن جابر عن الزهري قال: كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم"(2). وهذا الحديث من مراسيل الزهري لا يحتج به، وقد رويت أحاديث أخرى في اشتراك اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وهي بالإضافة إلى ما تقدم:

1 -

حديث "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود قينقاع، الذي ورد من طريق الحسن بن عمارة، وقد خرجه أبو يوسف (3) والبيهقي، وذكر البيهقي أن الحسن بن عمارة متروك"(4) ورغم أن الحسن بن عمارة غير متفق على تضعيفه لكن أكثر جهابذة المحدثين يضعفونه حتى حكى السهيلي إجماعهم على ذلك (5).

(1) أبو عبيد: الأموال ص 296.

(2)

أبو عبيد: الأموال ص 296

(3)

أبو يوسف: الرد على سير الأوزاعي ص 40.

(4)

البيهقي: سنن 9/ 53.

(5)

العسقلاني: تهذيب التهذيب 2/ 304 - 308.

ص: 286

2 -

حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه" أخرجه الترمذي (1) من طريق الزهري مرسلاً وقال إنه حديث حسن غريب والقاعدة أن مراسيل الزهري لا يحتج بها.

3 -

حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود"(2) وهو من مراسيل الزهري لا يحتج به.

4 -

حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بناس من اليهود" أخرجه البيهقي (3). وقال هذا منقطع. وهو من مراسيل الزهري أيضاً.

5 -

حديث "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم خيبر" أورده الواقدي (4) وهو متروك وعنه البيهقي (5) والزيلعي (6).

6 -

حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فأسهم لهم مع المسلمين" خرجه الخطيب البغدادي (7) عن أبي هريرة (رض)، لكن إسناده ضعيف سقط منه بعض الرواة.

وهكذا يتبين أن سائر الأحاديث المروية عن اشتراك اليهود مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب ضعيفة. وقد وردت أحاديث تدل على منع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من الاشتراك مع المسلمين في الحروب وهي:

(1) الترمذي: سنن 7/ 49.

(2)

الزيلعي: نصب الراية 3/ 422.

(3)

البيهقي: سنن 9/ 53.

(4)

الوافدي: كتاب المغازي 2/ 684.

(5)

البيهقي: سنن 9/ 53 وقال هذا منقطع وإسناده ضعيف.

(6)

الزيلعي: نصب الراية 3/ 422

(7)

الخطيب: تاريخ بغداد 4/ 160 قال: "أخبرني الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ حدثنا أحد بن الفرج الوراق حدثنا أبو بكر أحمد بن (الردين) قال: قريء على رزق الله بن موسى وأنا أسمع قال حدثنا سفيان بن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن أبي هريرة. ومن الواضح أن يزيد بن يزيد بن جابر لم يلق أبا هريرة فقد ولد يزيد في حدود سنة 77 هـ في حين توفى أبو هريرة سنة 57 هـ".

ص: 287

1 -

أخرج أبو عبد الله الحاكم (1) حديثا عن أبي حميد الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع، وهو رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا؟ قالوا: لا بل هم على دينهم. قال: قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين.

وقد رواه الحاكم كشاهد لحديث آخر رواه، وفيه "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" وقال الحاكم عنه "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقد روى الحديث نفسه على أنه في غزوة أحد، في حين أن رواية الحاكم تذكر أنه في إحدى غزواته دون تحديد للغزوة (2). ولا شك أن التحديد بغزوة أحد خطأ لأن بني قينقاع أجلوا قبل أحد بسنة. وقد أخرجه البيهقي عن أبي حميد الساعدي من طريق الحاكم أيضاً (3). وروى الواقدي وابن سعد أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك"(4).

2 -

ذكر ابن إسحاق (5) والإمام سحنون (6) وابن القيم (7) كلهم من طريق الزهري "أن الأنصار قالت يوم أحد ألا نستعين بحلفائنا من يهود"؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا حاجة لنا فيهم".

(1) الحاكم المستدرك على الصحيحين 2/ 122.

(2)

الزيلعي: نصيب الراية 3/ 423.

(3)

البيهقي: سنن 9/ 37.

(4)

الواقدي: كتاب المغازي 1/ 215 - 216. وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 27.

(5)

سيرة ابن هشام 2/ 64.

(6)

مالك بن أنس: المدونة الكبرى 3/ 40.

(7)

ابن القيم: زاد المعاد 2/ 92.

ص: 288

إن الحديث الأول أصح إسناداً مما سواه، ولكن فيه سعد بن المنذر وهو مقبول عند الحافظ ابن حجر فلا يحتج به إلا مع المتابعة ولكن مما يرجح هذا الرأي أن ما ورد في نص الوثيقة عن اشتراك اليهود في نفقات الحرب إنما يقتصر على الحرب الدفاعية عن المدينة، ولعل البند رقم (44) يوضح ذلك "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب".

وقال كعب بن مالك الأنصاري (رض): "كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى نبيه بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وفيهم أنزلت الآية {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} (1).

فلماذا يخرج بعض اليهود لنصرة المسلمين كما في رواية الحاكم؟ إن ذلك يرجع إلى المحالفات التي كانت بين الأوس والخزرج واليهود قبل مجيء الإسلام، فلعل اليهود أرادوا التأكيد على تلك الأحلاف وتقوية ارتباطهم بحلفائهم القدامى للإفادة من هذه الصلة في الوقيعة بين المسلمين وتخذيلهم وغلغلة النفاق بين صفوفهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قطع عليم الطريق برفض معونتهم ما داموا على الكفر. إن استمرار أثر المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في أحد "ألا نستعين بحلفائنا من يهود"؟ كما يتضح من شفاعة عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت (وهو من بني عوف من الخزرج) من بني قينقاع حين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1) البقرة 109 والرواية في سنن أبي داؤد 3/ 401 والواحدي أسباب النزول 129 بسند صححه ابن حجر (العجاب ق 38 أ).

ص: 289

وقد تناولت البنود من رقم (25) إلى (35) تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال "أمة من المؤمنين" مما جعل أبا عبيد يقول:"فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"(1) أما ابن إسحاق فقد قال "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحف.

وقد بين ابن عباس سبب وجود رجال من الأوس والخزرج ضمن القبائل اليهودية فقال: "كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاه (2)، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} "(3).

وقد كفلت المادة رقم (25) لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبها (إلا من ظلم ،اثم فإنه لا يوتغ - أي لا يهلك - إلا نفسه وأهل بيته) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين (لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم).

وقد منع البند رقم (43) اليهود من إجارة قريش أو نصرها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلا بد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلى الخلاف بينهم وبين المسلمين. كما منع البند رقم 36 اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهدف بالدرجة الأولى منعهم من

(1) أبو عبيد: الأموال ص 296.

(2)

المقلاة: هي التي لا يعيش لها ولد (غريب الحديث للخطابي 3/ 81).

(3)

سنن أبي داؤد 3/ 132 وتفسير الطبري 3/ 10 وأسباب النزول للواحدي 77.

وإسناده صحيح

ص: 290

القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة (1) مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها، واليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية في المدينة يجب أن يخضعوا للنظام العام، كذلك فإن اليهود اعترفوا بموجب البند رقم (42) بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن اليهود لم يلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم. ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم {

فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2)

ولا شك أن احتكامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان متأخراً بعد ضعفهم، كما أن سورة المائدة متأخرة النزول.

ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، فنزلت الآية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3).

كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم (45) لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة

(1) ذهب إلى ذلك عبد المنعم خان: رسالات نبوية فيما نقله عنه الدكتور صالح العلي في محاضراته (خطية لم تنشر بعد). والدكتور صالح أحمد العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 16

(2)

سورة المائدة من الآية 42 وانظر عزة دروزة: سير الرسول 2/ 148.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (الفتح الرباني 18/ 130) بسند حسن.

والآية من سورة المائدة 45.

ص: 291

حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشاً "إلا من حارب في الدين" لأنهم كانوا في حالة حرب معهم.

وقد اعتبرت منطقة المدينة حرماً بموجب البند رقم (39)"وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة" والحرم هو ما لا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده ولا يقطع شجره، وحرم المدينة بين الحرة الشرقية والحرة الغربية وبين جبل (ثور) في الشمال وجبل عير في الجنوب، ويدخل وادي العقيق في الحرم (1) وبذلك أحلت هذه المادة الأمن داخل المدينة ومنعت الحروب الداخلية.

وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار:

تبدأ الوثيقة التي كتبت بين المهاجرين والأنصار ببيان الأطراف المتحالفة فهي بين "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، والتميز بين المؤمنين والمسلمين واضح لأن المعروف أن المؤمن هو من آمن إقراراً باللسان وتصديقاً بالقلب، والمسلم هو من خضع لأحكام الإسلام وأدى فرائضه، ويتميز الصنفان في أهل يثرب فقط لظهور النفاق فيهم بعد غزوة بدر الكبرى، أما المهاجرون فليس فيهم مسلم إلا وهو مؤمن مصدق بقلبه.

ويقرر البند رقم (2)"أنهم أمة واحدة من دون الناس" أمة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، ولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس "من دون الناس" فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء، ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً

(1) انظر محمد حميد الله: الوثائق السياسية ص 441 - 442 والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 136.

ص: 292

إلى بيت المقدس (1) وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود. من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رأسهم بالحناء والكتم. واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال:"من تشبه بقوم فهو منهم" وقال: "لا تشبهوا باليهود" والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا ريب أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار (2). ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يقبل (ايديولوجيته).

وقد ذكرت البنود من (3) إلى (11) الكيانات العشائرية ن واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم، وذكر العشائر لا يعني اعتبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية فقد حرم الإسلام ذلك:"ليس منا من دعا إلى عصبية"(3) وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هي الأصل الأول الذي يربط بين اتباعه لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين: أفراد الأسرة الواحدة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات على الآباء والأبناء والأمهات وأفراد العشيرة الواحدة وما يترتب عليهم من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم؛ وأفراد المحلة الواحدة: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى

(1) خليفة: التاريخ 23 - 24 وسيرة ابن هشام 1/ 550.

(2)

يعطي ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم فكرة واضحة عن هذا المعنى

(3)

سنن أبي داود 5121.

ص: 293

ظننت أنه سيورثه" وأفراد القرية الواحدة:"أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى" وأبناء المدينة الواحدة فلا تخرج زكاة أموالهم من مدينتهم إلا بعد استيفاء حاجات أبنائها .. وهكذا رتب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة القيام بمهام التكافل الاجتماعي وبذلك سد ثغرات كبيرة، وتأتي الدولة في نهاية المطاف فتسد ما تبقى من ثغرات مما عجز عنه الأفراد

ولا شك أن ذلك يرفع عبئًا كبيراً عن كاهل الدولة تنوء به الدولة الحديثة.

وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية وبذلك حول الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا.

إن التكافل الاجتماعي يحتم على العشيرة أن تعين أفرادها، ومن ذلك إذا قتل فرد منها أحدا خطأ، فإنها تدفع دية القتل بالتضامن بين أفرادها، وقد كان ذلك متعارفا عليه في الجاهلية فأقرته الوثيقة لما فيه من التعاون:"على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي على شأنهم وعادتهم من أحكام الديات (1). وكذلك تعين العشيرة الأسرى من أفرادها بمفاداتهم بالمال:"وهم يفدون عانيهم - أي الأسير - بالمعروف".

كما أكدت الوثيقة على المسئولية الجماعية، واعتبرت سائر المؤمنين مسئولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة. إن أهمية ذلك كبيرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة ومعاقبتهم.

ونظراً لكون الحدود على الجرائم مصدرها الله تعالى لذلك فإن السعي إلى تطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ويعطيها قوة

(1) أبو عبيد: الأموال ص 294. وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 279.

وانظر شرح الزرقاني المالكي على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168. وابن منظور: لسان العرب مادة (عقل).

ص: 294

كبيرة ، ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحديها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية. إن اهتمام الوثيقة بإبراز دور المؤمنين يتضح من البند رقم (13) والبند رقم (21) حيث ينص البند رقم (13):"وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم" فهي تعتمد على المؤمنين في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين والمرتشين، ومعنى (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق (1). وتخصيص المتقين بتحمل المسئولية لأنهم أحرص من سواهم على تنفيذ الشريعة لكمال إيمانهم ولأن من اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام فيبغي ويخالف الحدود فيمنع ذلك (2).

أما البند رقم (21) فنصه: "ومن أعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به" أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو" (3)، وسواء اختار أهله القتل أو الدية فإن المؤمنين كافة - بضمنهم أهل القاتل - يتعاونون في تطبيق الحكم عليه وعدم حمايته مهما بلغت درجة قرابته لهم إذ:"لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وإن من نصره، أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل". والمحدث من أتى حداً من حدود الله عز وجل،

(1) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 117. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 4/ 168 وابن منظور: لسان العرب مادة (دسع).

(2)

شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168.

(3)

ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 424. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168 - 169 والشوكاني: نيل الأوطار 7/ 61.

ص: 295

فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه، ومن آواه فإن الله يلعنه ويغضب عليه ولا يقبل منه التوبة عن فعلته في نصرة المجرمين ولا يقبل منه فدية لذلك (1).

ويقتضي التكافل الاجتماعي بين المؤمنين أن يعينوا المفرح منهم (أي الذي أثقله الدين)(2) إن كان أسيرا بفدائه وإن كان جنى جناية عن خطأ دفعوا الدية عنه كما ينص البند رقم (12) وقد ذهب ابن سعد إلى أن المفرح هو من يكون في القوم لا يعرف له مولى (3). ومن الواضح أن صلة الولاء يترتب عليها العون والمساعدة في الديات وغيرها. فمن لم يكن له عشيرة ينتسب إليها صلبية أو ولاء فإن المؤمنين جميعا أولياؤه وعليهم مساعدته، فإذا جنى جناية كانت جنايته على بيت المال لأنه لا عاقلة له (4).

لقد أقر البنت (12 ب) فكرة الحلف ولكنه لم يسمح بالتجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، فلا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم، ويتضح من حديث شريف أن الإسلام إنما أقر استمرار الأحلاف القديمة لكنه منع استحداث أحلاف جديدة ونص الحديث:"لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام في الناس خطيباً فقال: يا أيها الناس إنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام"(5).

ويبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين: "لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن" فهذا دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن؛ وتأكيد على الترابط بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم، وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكفار.

(1) أبو عبيد: الأموال ص 296.

(2)

ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 502.وأبو عبيد: الأموال ص294. وابن الأثير النهاية 3/ 424. وابن منظور: لسان العرب مادة (فرح).

(3)

ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/ 486.

(4)

ابن منظور: لسان العرب مادة (فرح).

(5)

رواه أحمد: المسند 1/ 180 و 2/ 215 ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) انظر صحيح الترمذي بشرح أبي العربي المالكي 7/ 83.

ص: 296

ويقرر البند رقم (17):"إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم" فمسئولية إعلان الحرب والسلم لا يقررها الأفراد بل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين (1). كما أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون أخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات (2)"وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا" بند رقم (18).

وقد أقر البند رقم (15) مبدأ الجوار الذي كان معروفا قبل الإسلام، وجعل من حق كل مسلم أن يجير، وأن لا يخفر جواره، كما حصر الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافراً:"والمؤمنون بعضهم أولياء بعض" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ

} (3). {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ

} (4).

لكن البند رقم (21) يمنع من بقي على الشرك من الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أمام تصدي المسلمين لها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مصمما على المضي في سياسة التعرض لتجارة قريش، ولا شك أن المسلمين من الأوس والخزرج وهم الأكثرية الغالبة في عشائرهم هم الذين سيتكفلون بتطبيق هذه المادة بالنسبة للمشركين من أفراد عشائرهم. إن هذا الالتزام سبق أن أخذ تعهد اليهود به أيضا عند موادعتهم وإن تكرر النص في الوثيقة يؤيد اعتبار الوثيقة تأليفا بين وثيقتين منفصلتين كما سبق.

(1) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168.

(2)

ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/ 267. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168 وابن منظور: لسان العرب مادة (عقب).

(3)

سورة المائدة من الآية 51.

(4)

سورة آل عمران: من الآية 28.

ص: 297

ولا مانع من أن ينص في وثيقة الحلف بني المهاجرين والأنصار على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين بالمعروف والعدل وعدم التحريض عليهم وإيذائهم، رغم عدم وجود اليهود عند صياغة النصوص، بل إن ذلك يعبر عن ثبات القيم الأخلاقية في السياسة الإسلامية وأنها لا تعرف المخاتلة ولا الطعن من الخلف (بند رقم 16).

وفي ختام بنود الوثيقة المتعلقة بالتحالف بين المهاجرين والأنصار يقرر البند رقم (23) أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة: "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم".

ص: 298