المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة - السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية - جـ ١

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقَدّمَة

- ‌منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام

- ‌ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي

- ‌ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام

- ‌مصادر السيرة النبوية

- ‌الفصل الأولالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

- ‌قبل البعثة

- ‌صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌النبي المختار:

- ‌حفر زمزم:

- ‌نذر عبد المطلب:

- ‌زواج عبد الله من آمنة:

- ‌وفاة عبد الله:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل:

- ‌صفة حمل آمنة به:

- ‌مرضعاته:

- ‌معجزة شق الصدر:

- ‌قصة بحيرى الراهب:

- ‌شهوده حلف المطيبين:

- ‌زواجه من خديجة:

- ‌صيانة الله له قبل البعثة (إرهاصات البعثة):

- ‌بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:

- ‌إرهاصات نبوته:

- ‌البعثة المحمدية:

- ‌الوحي:

- ‌مرحلة الدعوة السرية:

- ‌المسلمون الأوائل:

- ‌إسلام الجن:

- ‌بدء الدعوة الجهرية:

- ‌أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌اضطهاد قريش للمسلمين:

- ‌لجوء قريش إلى المفاوضات:

- ‌لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات لإثبات النبوة:

- ‌مجادلة قريش:

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌إسلام عمر بن الخطاب:

- ‌دخول المسلمين شعب أبي طالب:

- ‌وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها:

- ‌رحلته إلى الطائف:

- ‌أسانيد قصة عداس

- ‌الإسراء والمعراج:

- ‌الطواف على القبائل طلبا للنصرة:

- ‌الاتصال بالأنصار ودعوتهم:

- ‌بيعة العقبة الأولى:

- ‌ بيعة العقبة الثانية

- ‌الهجرة إلى المدينة المنورة:

- ‌أوائل المهاجرين:

- ‌الفَصْل الثَانيالرُّسُولُ صلى الله عليه وسلم في المَدِيْنَةِ خَصَائِصُ المُجْتَمع المَدَنِّي وَتَنْظِيمَاته الأوْلى وإجْلَاءُ اليَهُود

- ‌خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولىالمجتمع المدني قبل الهجرة:

- ‌أثر الإسلام في المجتمع المدني

- ‌الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:

- ‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة

- ‌آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس

- ‌الحب أساس بنية المجتمع المدني

- ‌الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد

- ‌أهل الصفةفقراء المهاجرين:

- ‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

- ‌نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها

- ‌تاريخ الغزوة:

- ‌الطريق إلى خيبر:

- ‌وصف فتح خيبر:

- ‌أثر فتح خيبر:

- ‌كيفية توزيع غنائم خيبر:

- ‌نماذج من المجاهدين:

الفصل: ‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة

‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة

اعتبر الإسلام المؤمنين كلهم أخوة فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم والتناصر في الحق بينهم، لكن موضوع هذا البحث هو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة.

ويشير البلاذري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة. فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد ابن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب (1).

ويعتبر البلاذري (ت 276 هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت 463 هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه (2)، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما (3). وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر:"آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان".

وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود)(4).

(1) البلاذري أنساب الأشراف 1/ 270.

(2)

الدرر في اختصار المغازي والسير 100.

(3)

عيون الأثر 1/ 199.

(4)

ابن حجر: فتح الباري 7/ 271.

ص: 240

ومال كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم:"وقد قيل إنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه، والثبت الأول (1) والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار"(2) أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم (3).

ومما يرجح ما ذهب إليه ابن القيم وابن كثير أن كتب السيرة الأولى المختصة لم تشر إلى وقوع المؤاخاة بمكة، كما أن البلاذري وهو المصدر الوحيد القديم الذي أشار إليها ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعفه النقاد. وعلى فرض صحة وقوع هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بني المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث.

المؤاخاة في المدينة:

وقد واجه المهاجرون من مكة إلى المدينة مشاكل متنوعة، اقتصادية واجتماعية وصحية، فمن المعروف أن المهاجرين تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، كما أن مهارتهم كانت في التجارة التي تمرست بها قريش، ولم تكن في الزراعة والصناعة وهما يشكلان أساسين مهمين في اقتصاديات المدينة، وبما أن

(1) يعني المؤاخاة في المدينة.

(2)

زاد المعاد 2/ 79 وقد سبقه شيخه ابن تيمية فنفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري (ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 4/ 96 - 97) وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيداً مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين (الفتح 7/ 271).

(3)

السيرة النبوية لابن كثر 2/ 324.

ص: 241

التجارة تحتاج إلى رأس المال فإن المهاجرين لم يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع الجديد بسهولة، وكانت مشكلة معيشتهم وسكناهم تواجه الدولة الناشئة، كما أن علائق المهاجرين بالمجتمع الجديد كانت حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة وأنبتت صلتهم بهم مما ولد إحساساً بالوحشة والحنين إلى بلدتهم "مكة". إضافة إلى اختلاف مناخ مكة عن المدينة وإصابة المهاجرين بالحمى وهكذا كان وضع المهاجرين بحاجة إلى علاج سريع وحل مؤقت واستثنائي، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون بل أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله العزيز {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً عندما اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين لأن النخل مصدر معيشة الكثيرين منهم، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها لأنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر (1). ولا نعرف إذا كانت الشركة في التمر محددة بنظام كالمناصفة أو المقصود قيام الأنصار بإعالة المهاجرين في تلك المرحلة، ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يشغل المهاجرين بالزراعة فهو يحتاجهم لمهام الدعوة والجهاد. كما أن المهاجرين (لا يعرفون العمل) كما عبر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي (2) الذي تحتاجه المدينة.

كما وهبت الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل فضل في خططها، وقالوا له: إن شئت فخذ منا منازلنا. فقال لهم خيراً، وابتنى لأصحابه في أراض وهبتها لهم الأنصار وأراض ليست ملكاً لأحد (3).

وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار .. عن أنس قال قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا

(1) البخاري: الصحيح 5/ 39.

(2)

المصدر السابق 2/ 329.

(3)

البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270.

ص: 242

عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً من كثيراً، لقد كفونا المئونة واشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال:"لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم"(1).

تشريع نظام المؤاخاة:

ورغم بذل الأنصار وكرمهم فإن الحاجة إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة ظلت قائمة خاصة أن أنفة "المهاجرين" ومكانتهم تقتضي معالجة أحوالهم بتشريع يبعد عنهم أي شعور بأنهم عالة على "الأنصار" فكان أن شرع نظام المؤاخاة، ولا تختلف الروايات في تاريخ تشريعه إلا اختلافاً يسيراً، فهي تجمع على أن المؤاخاة وقعت في السنة الأولى الهجرية، وتختلف إن كان ذلك بعد بناء المسجد في المدينة أو خلال بنائه (2). ويحدد ابن عبد البر تاريخ تشريعه بعد الهجرة بخمسة أشهر (3). أما ابن سعد فقد ذكر أن المؤاخاة بعد الهجرة وقبل غزوة بدر الكبرى (4) دون تحديد دقيق لتاريخ تشريعها.

وكان إعلان هذا التشريع في دار أنس بن مالك كما صرحت الروايات (5)، ووقعت المؤاخاة بين طرفين هما المهاجرون والأنصار، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين مهاجري وأنصاري اثنين اثنين.

(1) الترمذي: سنن 4/ 653 حديث رقم 2487 وقال: صحيح حسن غريب.

وأحمد: المسند 3/ 204،200.

ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 328.

(2)

ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير 96 وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200.

(3)

ابن عبد البر: الدرر 96.

(4)

ابن سعد الطبقات ج 1 قسم 2/ 9.

(5)

ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/ 9.

وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200 وابن كثير السيرة النبوية 2/ 324.

ص: 243

وقد شملت المؤاخاة تسعين رجلاً خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخي بينه وبين أنصاري (1). وتتفق المصادر على أن المؤاخاة التي جرت في المدينة كانت بين المهاجرين والأنصار، ولكن ابن سعد يذكر أن ثمة مؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم وقعت في المدينة إلى جانب المؤاخاة بينهم وبين الأنصار، ولم يذكر أية تفصيلات أخرى توضح هدف المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وما يترتب عليها، ولم تكترث بقية المصادر لهذه الإشارة أو تعقب عليها (2).

وقد ترتب على تشريع نظام المؤاخاة حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة بين الاثنين، والمواساة ليست محددة بأمور معينة بل مطلقة لتعني كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة سواء كان عوناً مادياً أو رعاية ونصيحة وتزاوراً ومحبة، كما ترتب على المؤاخاة أن يتوارث المتآخين دون ذوي أرحامهم، مما يرقي بالعلاقات بين المتآخين إلى مستوى أعمق وأعلى من أخوة الدم (3).

وقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم المهاجرين من عون وتصور بعض الروايات عمق التزامهم بنظام المؤاخاة وتفانيهم في تنفيذه، ومن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة ما حدث بين سعد بن الربيع "الأنصاري" وعبد الرحمن بن عوف "المهاجر"، حيث قال له سعد: إن لي مالا فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها فإذا حلت فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق. فلم يرجع حتى رجع

(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270، وابن سعد: الطبقات ج1 قسم 2/ 9.

(2)

ابن سعد: الطبقات ج1 قسم 2/ 9.

(3)

البخاري: الصحيح 3/ 119 و 6/ 55 - 56 و 8/ 190 - 191.

ومسلم: الصحيح 4/ 1960، وابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/ 9.

والبلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270. وابن عبد البر: الدرر 96.

وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200.

ص: 244

بسمن وأقط قد أفضله. قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ أثر صفرة فقال: مهيم؟ فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: أولم ولو بشاة (1).

ولا شك أن المرء يقف مبهوراً أمام هذه الصور الرائعة من الأخوة المتينة والإيثار المتبادل الذي لا نشهد له مثيلا من تواريخ الأمم الأخرى.

وليس موقف ابن عوف في أنفته وكرم خلقه وعدم استغلاله لأخيه بأقل روعة من إيثار ابن الربيع. فقد تمكن - وهو التاجر الماهر - من شق طريقه في الحياة الجديدة وبعد مدة يسيرة تمكن من الزواج ودفع المهر نواة من ذهب (2). ثم بورك له في عمله ونمت ثروته ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، فقد أبى إلا أن يكون صاحب اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ.

إلغاء التوارث بين المتآخين:

لا شك أن التوارث بين المتآخين كان لمعالجة ظروف استثنائية مرت بها الدولة الناشئة. فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى ما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين (3)، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: {

وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ..} (4).

(1) النسائي: سنن 6/ 137.

(2)

البخاري: الصحيح 5/ 39.

(3)

ابن سعد: الطبقات ج 1قسم 2/ 9.

والبلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270،271.

وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79.

وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200.

(4)

سورة الأنفال من الآية 75. وانظر تفسيرها في الشوكاني: فتح القدير 2/ 330 - 331 وعن سبب نزول هذه الآية انظر مسند الطيالسي 2/ 19 والهيثمي: مجمع الزوائد 7/ 28 وقال: رجاله رجال الصحيح.

ص: 245

فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة، ويرى ابن عباس أن آية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ

وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} نسخت التوارث بالمؤاخاة، فالموالي في رأيه هم الورثة بالرحم {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} هم المهاجرون الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة. وذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هو الإرث أما "النصر والرفادة والنصيحة" فباقية، ويمكن أن يوصي ببعض الميراث بين المتآخين (1)، ودون وصية لا يرث. وإلى هذا المعنى ذهب الإمام النووي فقال:"أما ما يتعلق بالإرث فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فباق لم ينسخ"(2).

وينفرد ابن سعد بنقل رواية بإسناده إلى عروة بن الزبير تذكر أن إلغاء التوارث بين المتآخين ونزول آية {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} كان بعد غزوة أحد (3) التي وقعت في شوال سنة 3 هـ.

ومن الغريب أن ابن حجر (4) ذكر المؤاخاة بين الحتات التميمي ومعاوية بن أبي سفيان وأن الحتات مات في خلافة معاوية فورثه بالأخوة مكتفيا في التعليق على الخبر بإبداء تعجبه لأن للحتات بنون يرثونه (5) دون أن يشير إلى إبطال التوارث بالمؤاخاة أصلاً منذ السنة الثانية الهجرية ولا يصح مثل هذا الخبر إلا أن يكون الحتات قد أوصى لمعاوية بشيء من ميراثه لا كله.

(1) البخاري: الصحيح 3/ 119 و 6/ 55 - 56 و 8/ 190 - 191.

(2)

صحيح مسلم 4/ 1960 الحاشية.

(3)

السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول ص 260 نقلاً عن ابن سعد، والشوكاني فتح القدير 2/ 330 - 331 وقال:"أخرجه ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه".

(4)

نقل ابن حجر ذلك عن ابن عبد البر الذي اعتمد بدوره على ابن إسحق وابن هشام وابن الكلبي.

(5)

ابن حجر: الإصابة قسم 2 ص30.

ص: 246

استمرار المؤاخاة دون توارث:

ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يؤاخي بين أصحابه مؤاخاة مواساة وتعاون وتناصح دون أن يترتب على ذلك حق التوارث بين المتآخين. وهكذا وردت أخبار تفيد أنه آخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي (1) مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق مما يجعل الواقدي والبلاذري ينكران ذلك (2). وكذلك أنكر ابن كثير مؤاخاة جعفر بن أبي طالب لمعاذ بن جبل لأن جعفراً قدم في فتح خيبر أول سنة 7 هـ (3). ومثل ذلك مؤاخاة الحتات مع معاوية بن أبي سفيان (4) لأن معاوية أسلم بعد فتح مكة سنة 8 هـ. وكذلك فإن الحتات قدم المدينة في وفد تميم في العام التاسع للهجرة (5). وإذا اعتبرنا المؤاخاة مستمرة إلا ما يتعلق بحق التوارث الذي أبطل بعد بدر، فلا موجب لهذا الاعتراض والإنكار الذي أبداه المؤرخون تجاه هذه الروايات.

وكذلك إذا قبلنا وقوع مؤاخاة دون إرث قبل وبعد تشريع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فإن ذلك سوف يفسر الالتباس الذي وقع فيه ابن إسحاق عندما أورد في قائمة المتآخين خبر مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بن حارثة وكلهم مهاجرون في حين أن سائر الأسماء الأخرى التي وردت في قائمته توضح أن المؤاخاة كانت بين مهاجري وأنصاري (6). وقد عقب ابن كثير على مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بأنه لا معنى لهذه المؤاخاة إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه الرسول من صغره. وإلا أن يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار.

(1) البخاري: الصحيح 5/ 88 و 3/ 47.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 271.

(3)

ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 326.

(4)

ابن حجر: الإصابة قسم 2 ص 30.

(5)

سيرة ابن هشام 4/ 222.

(6)

المصدر نفسه 1/ 504، 507.

ص: 247

ولكن هذا التعليل الذي قدمه ابن كثير غير مقبول لأن المصادر ذكرت مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب لكلثوم بن الهدم أو غيره، كما ذكرت مؤاخاة زيد ابن حارثة لأسيد بن حضير (1).

كما أن المؤاخاة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي تقتضي التوارث، والنبي لا يورث كما جاء في الحديث، كما أن البلاذري ذكر مؤاخاة علي لسهل بن حنيف (2)، وكذلك فإن البلاذري ذكر وقوع مؤاخاة بين النبي وعلى وحمزة وزيد بمكة (3).

ونخلص من ذلك إلى أن هذه المؤاخاة بين النبي وعلي وبين حمزة وزيد إذا كانت قد وقعت - فإنها مؤاخاة تقتضي المؤازرة والرفقة دون حقوق التوارث وأنها جرت في غير الوقت الذي أعلن فيه نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك.

وأخيراً فإن المؤاخاة التي شرعت بين المؤمنين باقية لم تنسخ سوى ما يترتب عليها من توارث فإنه منسوخ، وبوسع المؤمنين في كل عصر أن يتآخوا بينهم على المواساة، والارتفاق والنصيحة ويترتب على مؤاخاتهم حقوق أخص من المؤاخاة العامة بين المؤمنين.

إن استجابة المسلمين لأوامر الله تعالى تظهر في انخلاعهم عن علاقاتهم الاجتماعية والمكانية إذا اقتضت ذلك مصلحة العقيدة.

(1) ابن هشام: السيرة 1/ 504 - 507.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270.

(3)

المصدر السابق 1/ 270. وقد ورد خبر مؤاخاة حمزة لزيد في مسند أحمد 1/ 230.

ص: 248