الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حساب السنين أن الرهان جرى في بداية مرحلة الجهر بالدعوة.
ولا بد أن فرحة المؤمنين بانتصار الروم كانت كبيرة لما فيها من تأييد القرآن وخذلان المشركين فضلًا عن انتصار أهل الكتاب على المجوس، بل قد أسلم ناس كثير على أثر ذلك (1).
إن مراقبة الأوضاع خارج الجزيرة العربية مهمة لبلد تجاري كمكة، وخاصة الصراع بين أقوى دول العالم يومئذ: الفرس والروم. كما أن نبوءة القرآن كانت تشعر المؤمنين بأهمية متابعة التطورات السياسية خارج بلادهم، بل وفيها ما يرمز إلى وحدة موقف المؤمنين بالله أمام الوثنية والإلحاد منذ أن كان المؤمنون قلة مستضعفة بمكة.
إن الجدل الساخن يوضح جانبًا آخر من العلاقات بين المسلمين والمشركين، وقد تصاعد العنف مع الأيام، فأصبح المسلمون في حالة انفصام تام عن المجتمع المكي تحيط بهم النظرات الغاضبة والألسن الشاتمة والأيدي المعتدية بأنواع العذاب، لذلك صار مقام المسلمين في مكة غاية في الصعوبة ومن هنا جاء التفكير بمكان آمن يهاجرون إليه، وكان توجههم الأول نحو الحبشة.
الهجرة إلى الحبشة:
من الثابت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة مرتين (2)، وكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة
(1) سنن الترمذي 5/ 344 - 345 وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب وحسنه الألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/).
وقارن برواية ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير 6/ 305 - 306 ط. الشعب وفي ط. بيروت 3/ 423 وفيه خطأ). بإسناد فيه مؤمل بن إسماعيل صدوق شيء الحفظ (تقريب 555) وفيه عنعنة أبي إسحاق السبيعي وهو مدلس.
وقارن أيضًا برواية الطبري: تفسير 21/ 19 بإسناد منقطع لأن عامر الشعبي لم يسمع ابن مسعود، ورجح ابن كثير فيه الإرسال (تفسير 3/ 423).
(2)
صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 187).
خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار (1).
وقد صورت أم سلمة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم) -وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى- الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة قالت: "لما ضاقت علينا مكة -وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه)، فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار أمنًا على ديننا ولم نخشَ منه ظلمًا"(2).
وممن خرج مهاجرًا إلى الحبشة أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إذا بلغ بَرْك الغِمَاد (3) لقيه ابن الدَغِنَّة -وهو سيد القارة (4) - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تسكب المعدوم، وتصل الرحم، وتحملُ الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (5)، وأنا لك جارٌ فارجع فاعبد ربك ببلادك. فرجع أبو بكر مع ابن الدَغِنة الذي أعلن في قريش جواره له. فوافقت قريش على أن يعبد أبو بكر ربه في داره ولا يستعلن،
(1) فتح الباري 7/ 187 - 188 (وهو قول الواقدي وإن لم يصرح الحافظ باسمه كما في طبقات ابن سعد 1/ 204) ويذكر ابن إسحاق أنهم عشرة رجال وأربع نسوة (سيرة ابن هشام 1/ 344).
(2)
فتح الباري 7/ 189 وسيرة ابن إسحاق 194 وسيرة ابن هشام 1/ 334 بإسناد حسن فرواية يونس بن بكير توبعت برواية البكائي وابن إسحاق صرح بالتحديث.
(3)
موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمين.
(فتح الباري 7/ 232).
(4)
حلفاء بني زهرة من قريش (الفتح 7/ 233).
(5)
يبدو أن هذه العبارة محفوظة عند الناس يقولونها في الثناء على صاحب المروءة، لذلك فقد وردت على لسان خديجة رضي الله عنها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بدء الوحي.
فمضى وقت على ذلك ثم أخذ أبو بكر يجهر بقراءة القرآن في فناء داره فيجتمع نساء وأبناء المشركين يعجبون وينظرون إليه "وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن" فأفزع ذلك قريشا، وطلبوا من ابن الدغنة أن يكفه، فخيره ابن الدغنة بين الإسرار بعبادته أو أن يرد عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره قائلا: إني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله (1).
وهكذا بقي أبو بكر بمكة على جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أذى المشركين بعد أن كان رسول الله قد أذن له بالهجرة على الحبشة (2).
وفي أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة حدث أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، فقرأ سورة النجم فسجد في موضع السجود وسجد كل من كان حاضرا إلا اثنين من المستكبرين، فشاع أن قريشا قد أسلمت (3).
وقد ذهبت روايات مرسلة صحيحة السند إلى مرسليها وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو العالية إلى أن الشيطان ألقى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءته في صلاته تلك العبارة (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى)، كما ذهبت روايات مرسلة أخرى ضعيفة الأسانيد إلى مرسليها إلى أن العبارة قالها الشيطان وسمعها المشركون دون المسلمين، فسجد المشركون بسجود المسلمين (4). وما قالته المراسيل المعتبرة يصطدم مع عصمة النبوة في قضية الوحي ويعارض التوحيد وهو أصل العقيدة الإسلامية؛ لذلك فإنها مرفوضة متنا حتى لو ثبت تعدد مخارجها، ولم يأخذها الثلاثة التابعون عن شيخ واحد.
(1) صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 475 - 476).
(2)
ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 372 - 374 بإسناد حسن.
(3)
صحيح البخاري كما في فتح الباري 2/ 551، 553، 557، 560، 565، 8/ 614 وصحيح مسلم 1/ 405 وراجع الألباني: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق.
(4)
المصادر السابقة.