الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأزقة وأراقوها وقالوا: "انتهينا ربنا انتهينا ربنا" وشرب الخمر الذي أقلعوا عنه كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع، والخمر الذي أراقوه كان مالاً ضحوا به تسليماً لله رب العالمين.
ولم يكن العربي ليخضع لدولة وإنما كانت الوحدة السياسية والاجتماعي هي القبيلة وكانت الدويلات التي نشأت في أنحاء من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بوقت طويل قد اندثرت وطغت البداوة والقبلية بما فيها من عصبية وتنازع وصراع وتفكك في سائر شبه الجزيرة، فلما جاء الإسلام أرسى مفهوم الدولة وربط سائر القبائل والأفراد بها، فقامت دولة المدينة المنورة على أساس فكري بحت وتوسعت لتوحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام، فكانت هذه نقلة في تاريخ شبه الجزيرة العربية السياسي.
وهكذا فإن الإسلام أحدث تغييراً جذرياً في حياة الفرد والمجتمع في المدينة المنورة لما تميز به من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغته {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (1).
وسوف نتلمس آثار هذا التغيير الشامل في المباحث التالية:
الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:
قدم المهاجرون إلى المدينة المنورة - كما أطلق على يثرب في الإسلام - وكانوا في البدء من عشائر مختلفة من قريش، ثم استمرت الهجرة وصار حقاً على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن يهاجروا إليها وظل الأمر كذلك حتى أوقفت الهجرة رسمياً بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة.
والهجرة حدث عظيم استحق أن يكون بداية العام الهجري الجديد عند المسلمين منذ أن وضع الخليفة عمر بن الخطاب التقويم الهجري.
فالهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة، فقد فارق المهاجرون وطنهم ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء الله ورسوله. ولما
(1) سورة البقرة الآية 138.
اعترضت قريش سبيل صهيب الرومي بحجة أنه جمع أمواله من عمله بمكة ولم يكن ذا مال قبل قدومه مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه فبلغ ذلك رسول الله فقال: ربح صهيب (1). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها (2). وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة كانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم على الأعراض والمصالح والعلائق الدنيوية.
وقد دلت أحداث الهجرة على سلامة التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم، فقد صاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض وتحكيم شرع الله والقيام بأمره والجهاد في سبيله وهم يقبلون على بناء دولة المدنية المنورة بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس.
وقد اختار الله تعالى المدينة لهجرة المسلمين لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين" رواه البخاري ومسلم (3).
وتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأخر معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فلما أذن الله لرسوله بالخروج لم يُعْلمْ أحداً بذلك إلا علياً وأبا بكر وآله، وكان المشركون قد غاظتهم هجرة المسلمين فائتمروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال 30.
(1) الحاكم: المستدرك 3/ 398 وقال صحيح على شرط مسلم.
(2)
انظر الإصابة 8/ 222.
(3)
صحيح البخاري 7/ 186 وصحيح مسلم 7/ 57.
وقد خرج الاثنان إلى جبل ثور حيث أويا إلى غار فيه، وتعقبهم المشركون إلى المكان حتى بدت أقدامهم خارج الغار فقال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، متفق عليه (1) لكن الله تعالى صرف المشركين عنهم فلم يفطنوا لهما، وخرج الإثنان بعد ثلاثة أيام في طريقهما إلى المدينة (2) يقطعان الصحراء ورسول الله قد بلغ الثالثة والخمسين وأبو بكر بلغ الحادية والخمسين، لكن القلوب الموصولة بالله تعالى لا يعيقها شيء عن بلوغ القصد وتحقيق أهداف الرسالة، ورسالة الإسلام جاءت تنظم أمور العبادات والمعاملات فهي دستور للحياة لابد لتطبيقه من أرض وأمة تقام فيها أحكام الله تعالى التي اكتمل تشريعها فيما نزل في المدينة المنورة من قرآن وما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمله أو أمر به من سنة
…
وهي تعطي صورة لأمثل دولة - ضمت أمثل مجتمع - ظهرت في تاريخ البشر وهي النموذج الذي ينبغي على المسلمين في كل زمان ومكان أن يحتذوه ليكفلوا لأنفسهم سعادة الدارين ويبتعدوا عن الشقاء والحياة الضنك والضياع وسط ركام الجاهلية الذي يزحف عليهم من كل مكان ولا منجي لهم إلا بالعودة إلى الله تعال والاقتداء بهدي رسوله.
وقد تأخرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى هاجر معظم القادرين على الهجرة من أصحابه الذين استجابوا للأمر بالهجرة، واستمر الحث على الهجرة وبيان فضل المهاجرين بنزول الآيات القرآنية واستمر معها تدفق المسلمين الجدد من كل مكان، فقد كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين ليتوطد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين اقضّت الهجرة مضاجعهم فمضوا يخططون للإجهاز على كيان
(1) صحيح البخاري 7/ 217 وصحيح مسلم 7/ 109.
(2)
أحمد: المسند رقم 351 وانظر ابن كثير البداية والنهاية 3/ 187 - 188.
الإسلام الفتيِّ ودولته الناشئة، لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
…
} (1). أي أن الذي يخرج بنية الهجرة فيموت في الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) فهنا أقسم الله تعالى أن يرزق المهاجرين في سبيله رزقاً حسناً سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم في غير جهاد.
وقد منع القرآن الكريم المسلمين القادرين على الهجرة من الإقامة مع المشركين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} النساء 97، 98، 99.
وذلك لأن الإقامة مع المشركين فيها تكثير سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى، بالإضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم، ولا يخفى ما في بعدهم عن دولة الإسلام من منع استفادة المسلمين منهم في حربهم ومصالحهم وتكثير سوادهم، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" رواه أبو داود.
(1) سورة النساء من الآية 100.
(2)
سورة الحج 58.
وقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا من بعد ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين قد تفقهوا في الدين هموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم وكان ذلك سبباً في نزول الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ....} (1).
ويتضح من ذلك كله أن الهجرة كانت فرضاً في أول الإسلام على من أسلم حتى إذا كانت غزوة الأحزاب سنة خمس للهجرة وتبينت قدرة الدولة الإسلامية على الدفاع عن نفسها وحماية كيانها أمام قوى الأحزاب مجتمعين لم تعد بحاجة إلى مهاجرين جدد، فقد تغيرت خطة الدولة الإسلامية من الدفاع إلى الهجوم وعبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله:"الآن نغزوهم ولا يغزوننا".
وكذلك ضاقت المدينة بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت والمسكن، فطلب الرسول الكريم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلا:"هجرتكم في رحالكم" إذ لم تعد ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة بل صار بقاؤهم في قبائلهم أجدى لقيامهم بالدعوة إلى الإسلام خارج المدينة وتوسيع انتشار الإسلام.
ولكن ذلك لا يعتبر وقفاً رسمياً للهجرة، بل إن إعلان وقف الهجرة كان بعد فتح مكة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا"(2). وبهذا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدوّ، لكن الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر ولم يأمن الفتنة على دينه مع قدرته على الخروج منها.
لقد أدت الهجرة المستمرة إلى تنوع سكان المدينة المنورة فلم يعودوا يقتصرون على الأوس والخزرج ويهود بل نزل معهم المهاجرون من قريش وقبائل العرب
(1) سورة التغابن من الآية 14 والحديث أخرجه الترمذي سنن 4/ 202. وقال هذا حديث حسن صحيح، والحاكم: المستدرك 2/ 490.
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الحافظ الذهبي.
(2)
صحيح البخاري 3/ 200 وصحيح مسلم 3/ 1487.
الأخرى (1). والمجتمع المدني الجديد أرسيت قواعده وشيد بنيانه على أساس روابط العقيدة التي استعلت على ارتباطات القبيلة وعصبيتها وسائر الروابط الأخرى، وبرزت فكرة الأمة الواحدة كما سيتضح عند دراسة دستور المدينة المنورة. وتقسيمات السكان صار أساسها عقدياً وصاروا يقسمون إلى ثلاث مجموعات هي: المؤمنون والمنافقون واليهود.
ولا شك أن تدفق المهاجرين إلى المدينة ولَّد مشاكل اقتصادية واجتماعية كان لابد من مواجهتها بقرار حاسم، فكان أن شُرِّع نظام المؤاخاة.
(1) ليس لدينا إحصاء دقيق لعدد المهاجرين ولكن ابن هشام (السيرة 2/ 115 - 114، 342 - 346 وابن سعد في الطبقات 2/ 12 سميا عدداً منهم، وكان من اشترك منهم في بدر ثلاثة وثمانين رجلاً، وربما كان عدد المهاجرين حتى بدر لا يتجاوز - مع عوائلهم - أربعمائة نفر.