المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أوائل المهاجرين: ويتفق موسى بن عقبة وابن إسحاق على أن أبا - السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية - جـ ١

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقَدّمَة

- ‌منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام

- ‌ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي

- ‌ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام

- ‌مصادر السيرة النبوية

- ‌الفصل الأولالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

- ‌قبل البعثة

- ‌صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌النبي المختار:

- ‌حفر زمزم:

- ‌نذر عبد المطلب:

- ‌زواج عبد الله من آمنة:

- ‌وفاة عبد الله:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل:

- ‌صفة حمل آمنة به:

- ‌مرضعاته:

- ‌معجزة شق الصدر:

- ‌قصة بحيرى الراهب:

- ‌شهوده حلف المطيبين:

- ‌زواجه من خديجة:

- ‌صيانة الله له قبل البعثة (إرهاصات البعثة):

- ‌بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:

- ‌إرهاصات نبوته:

- ‌البعثة المحمدية:

- ‌الوحي:

- ‌مرحلة الدعوة السرية:

- ‌المسلمون الأوائل:

- ‌إسلام الجن:

- ‌بدء الدعوة الجهرية:

- ‌أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌اضطهاد قريش للمسلمين:

- ‌لجوء قريش إلى المفاوضات:

- ‌لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات لإثبات النبوة:

- ‌مجادلة قريش:

- ‌الهجرة إلى الحبشة:

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌إسلام عمر بن الخطاب:

- ‌دخول المسلمين شعب أبي طالب:

- ‌وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها:

- ‌رحلته إلى الطائف:

- ‌أسانيد قصة عداس

- ‌الإسراء والمعراج:

- ‌الطواف على القبائل طلبا للنصرة:

- ‌الاتصال بالأنصار ودعوتهم:

- ‌بيعة العقبة الأولى:

- ‌ بيعة العقبة الثانية

- ‌الهجرة إلى المدينة المنورة:

- ‌أوائل المهاجرين:

- ‌الفَصْل الثَانيالرُّسُولُ صلى الله عليه وسلم في المَدِيْنَةِ خَصَائِصُ المُجْتَمع المَدَنِّي وَتَنْظِيمَاته الأوْلى وإجْلَاءُ اليَهُود

- ‌خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولىالمجتمع المدني قبل الهجرة:

- ‌أثر الإسلام في المجتمع المدني

- ‌الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:

- ‌نظام المؤاخاة في عهد النبوة

- ‌آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس

- ‌الحب أساس بنية المجتمع المدني

- ‌الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد

- ‌أهل الصفةفقراء المهاجرين:

- ‌إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

- ‌نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها

- ‌تاريخ الغزوة:

- ‌الطريق إلى خيبر:

- ‌وصف فتح خيبر:

- ‌أثر فتح خيبر:

- ‌كيفية توزيع غنائم خيبر:

- ‌نماذج من المجاهدين:

الفصل: ‌ ‌أوائل المهاجرين: ويتفق موسى بن عقبة وابن إسحاق على أن أبا

‌أوائل المهاجرين:

ويتفق موسى بن عقبة وابن إسحاق على أن أبا سلمة بن عبد الأسد هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة بعد أن آذته قريش إثر عودته من هجرة الحبشة فتوجَّه إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة (1).

وكذلك فإن مصعب بن عمير وابن أم مكتوم كانا من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن (2). وقد تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة (3).

وقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة. لكن شيئا من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة. فالمهاجرون كانوا على أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة.

قالت أم المؤمنين أم سلمة (4) رضي الله عنها: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

(1) سيرة ابن هشام 1/ 468 من طريق ابن إسحاق بدون إسناد وابن حجر: فتح الباري 7/ 261. لذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها إن أبا سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله (صحيح مسلم 2/ 632).

(2)

و (3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 260) من حديث البراء بن عازب.

(4)

هند بنت أبي أمية، هاجرت إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ولما مات زوجها أبو سلمة بن عبد الأسد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإصابة لابن حجر 8/ 150) وقد ذكر الواقدي أن عمرها حين وفاتها 84 سنة، وبينت الروايات الصحيحة أنها كانت حية في أيام ثورة ابن الزبير على يزيد ابن معاوية، ولعل وفاتها كانت سنة 61 هـ كما قال محمد بن حبيب (المحبر 85) فتكون سنها حين الهجرة 23 سنة وحين زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم 27 سنة.

ص: 202

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه.

قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة.

قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده. وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.

قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني.

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟

قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.

قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني.

قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. وما معي أحد من خلق الله.

قالت: فقلت: أتبلغُ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي. حتى إذا كنتُ بالتنعيم لقيتُ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يابنت أبي أميَّة؟

قالت فقلت: أريد زوجي بالمدينة.

قال: أو ما معك أحد؟

قالت فقلت: لا والله إلا الله وبنيَّ هذا.

قال: والله ما لك من مترك.

فأخذ بخطام البعير. فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيَّده في الشجرة، ثم

ص: 203

تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله.

ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة.

فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة.

قال فكانت تقول: والله ما علمت أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة. وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة" (1).

وقد سقت الخبر بطوله لما فيه من دلالة على الصعوبات التي واجهها المهاجرون، وهي تشير إلى أثر العصبية في اتخاذ العشائر القرشية مواقفها من الأحداث. فقد انحاز قوم أبي سلمة إليه رغم مخالفتهم له في العقيدة، ثم إن الخبر يكشف عن صورة من صور المروءة التي عرفها المجتمع القرشي قبل الإسلام تتمثل في موقف عثمان بن طلحة وتطوعه في مصاحبة المرأة وإحسان معاملتها مما يدل على سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة.

وثمة صورة تاريخية لحدث آخر هو هجرة عمر بن الخطاب كما حدَّث بها بنفسه قال: "اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب من أضاءة بني غفار فوق سرف (2)،

(1) سيرة ابن هشام 1/ 469 - 470 من رواية ابن إسحاق بإسناد صالح للاعتبار فيه سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة مقبول، ولم أجد له متابعاً، وقد تفرد بتوثيقه ابن حبان (البخاري: التاريخ الكبير 4/ 80 وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 4/ 166 وابن حبان: الثقات 6/ 399 وابن حجر: تهذيب التهذيب 4/ 148 - 149 وتقريب التهذيب 248). وعلى أية حال فهو خبر تاريخي لا يتعلق بالعقيدة أو الشريعة ورد من طريق صالحة لإثبات الحدث تاريخياً.

(2)

التناضب: ضرب من الشجر، وأضاءة بني غفار على عشرة أميال من مكة، والأضاءة: الغدير (الروض الأنف للسهيلي 4/ 188 - 190) وسرف: وادٍ من أودية مكة دخل في العمران حالياً.

ص: 204

وقلنا أينا (لا)(1) يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه.

قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن.

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما علينا المدينة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة - فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرق لها.

فقلت له: يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم

فقال: أبَرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.

فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.

فأبي عليّ إلا أن يخرج معهما.

فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذا قد فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول. فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليهما معهما.

حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟

قال: بلى.

قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.

قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتَتَن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً؛ قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.

(1) الزيادة يقتضيها السياق.

ص: 205

قالوا: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (1).

قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاص.

قال فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى (2) أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها. حتى قلت: اللهم فهمنيها.

قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا.

قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. (3).

وأما ما روى من إعلان عمر لهجرته وتهديده من يلحق به بثكل أمه فلم يصح (4).

(1) الزمر 53 - 55.

(2)

ذو طوى: واد بمكة.

(3)

سيرة ابن هشام 1/ 474 بإسناد حسن لذاته حيث صرح ابن إسحاق بالتحديث، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 435 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/ 61).

وانظر روايات أخرى للواقدي في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 271 وكأنه اختصار لمتن ابن إسحاق وفيها "وكنا إنما نخرج سراً".

(4)

ابن الأثير: أسد الغابة 4/ 52 بإسناد فيه مجاهيل ثلاثة (الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة 143. وانظر شرح المواهب اللدنية 1/ 319 والسيرة الشامية للصالحي 3/ 315. وفي إسنادهما المجاهيل الثلاثة.

ص: 206

لقد نزل كثير من المهاجرين في قباء في مكان يسمى (العصبة) قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سالم بن معقل مولى أبي حذيفة يؤمهم في مسجد قباء، لكونه أكثرهم قرآناً (1). لقد أرخ الزهري لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

قال الزهري: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة، والمحرم وصفر ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" - يعني على قتله - قال الحاكم: "تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين"(2) وقد أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة، وكان يتردد على بيت أبي بكر كل يوم صباحاً ومساءا، لا يكاد يدع ذلك (3)، فلما أذن له بالهجرة جاءهم ظهراً على غير عادته وهو متقنع، فأخبر أبا بكر بذلك. واختياره وقت الظهر لأن الناس تأوي إلى بيوتها للقيلولة فراراً من الحر، وتقنُعُهُ يفيد شعوره بالخطر من حوله، فقد اعتزمت قريش قتله، ولابد أنها ستعمد إلى رصد تحركه. قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (4). وقد بينت رواية ضعيفة - بسبب الإرسال - قصة اجتماع المشركين على باب الرسول صلى الله عليه وسلم وذره التراب على رءوسهم (5). كما بيَّنَ ابن عباس حصار المشركين لبيته ابتغاء قتله، ومبيت علي على فراشه، ولحاقه صلى الله عليه وسلم بالغار، ولما علم المشركون ذلك في الصباح اقتصوا أثره إلى الغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فتركوه. ولكن هذه الرواية لا تصح للاحتجاج بها وهي "أجود ما روى في قصة نسيج العنكبوت على فم الغار"(6).

(1) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 184، 13/ 167).

(2)

فتح الباري 7/ 236.

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 230).

(4)

الأنفال 30.

(5)

سيرة ابن هشام 1/ 483 بسند صحيح إلى محمد بن كعب القرظي لكنه مرسل.

(6)

مسند أحمد 1/ 348 بإسناد ضعيف لكنه صالح للاعتبار، وقد حسنه ابن كثير (البداية والنهاية 3/ 179 وقال: وهو أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار) وحسنه ابن حجر.

ص: 207

وقد ورد حديث ضعيف جداً يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بات في غار ثور أمر الله شجرةً، فنبتت في وجه الغار، وأمر حمامتين وحشيتين، فوقعتا بفم الغار. وأن ذلك سبب صدود المشركين عن الغار. ومثل هذه الأساطير تسربت إلى مصادر كثير في الحديث والسيرة (1).

وعلى أية حال فإن ائتمار المشركين لقتله ثابت بنص الآية فلا يبعد أن يحاصروا بيته.

قالت عائشة رضي الله عنها: "فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها.

فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك.

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك (2) بأبي أنت يا رسول الله.

قال: فإني قد أذن لي في الخروج.

فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله.

= (الفتح 7/ 236) وحسنه الزرقاني (شرح المواهب 1/ 323) وفي السند عثمان بن عمرو بن ساج الجزري فيه ضعف (ابن حجر: تقريب 386) تفرد بتوثيقه ابن حبان، وحديثه صالح للاعتبار (تهذيب التهذيب 7/ 145) قال الألباني: واعلم أنه لا يصح حديث في العنكبوت والحمامتين (سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 339).

(1)

أخرجه ابن سعد: 1/ 229 وفي سنده أبو مصعب المكي مجهول وعوين بن عمرو منكر الحديث وسماه (عون) وأخرجه البزار كما في مسنده 2 /ق 232 وانظر كشف الأستار 2/ 299 - 300 وفي إسناده عوين بن عمرو، وهو منكر الحديث لا شئ، وقد تفرد به، وشيخه أبو مصعب مجهول، وقد تسرب الحديث إلى المعجم الكبير للطبراني 20/ 443 ودلائل النبوة لأبي نعيم 6/ 269 - 270 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 213 - 214 والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 181 وقال: غريب جدا من هذا الوجه.

وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 1/ 331 وسبل الهدى والرشاد 3/ 339 - 340.

(2)

وكان قد زوجه عائشة رضي الله عنها.

ص: 208

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم

قال أبو بكر: فخذ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن.

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وضعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب. وبذلك سميت ذات النطاق.

قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر - وهو غلام شاب ثقف لقن - فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح من قريش بمكة كبائت، فلا يسمح أمرًا يُكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حيث يختلط الظلام، ويرعى عليهم عامر بن فُهَيرة - مولى أبي بكر - منحة من غنم، فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عدي بن عدي - هاديًا خريتًا (1) قد غمس حلفًا في العاص بن وائل السهمي - وهو على دين الكفار - فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث" (2).

وتشير رواية صحيحة أخرى إلى أن رسول الله وأبا بكر "ركباً فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور"(3).

(1) قال الزهري: والخريت الماهر بالهداية (فتح الباري 7/ 238) وقد سماه ابن إسحاق "عبد الله بن أرقط".

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 231 - 232).

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 389).

ص: 209

وثمة رواية حسنة تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الغار من بيته، حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي رضي الله عنه ثوبه ونام مكانه، واخترق رسول الله صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه، بعد أن أوصى عليا بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به، فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب أنه نبي الله. قال فقال: يا نبي الله.

فقال له علي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون (1) فأدركه.

قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار.

قال: وجعل علي يُرمي بالحجارة، كما كان يُرمي نبي الله وهو يتضور، قد لفَّ رأسه في الثوب لا يخرجه، حتى أصبح (2)

ثم كشف رأسه، فقالوا: إنك للئيم!. كان صاحبك نرميه فلا يتضوَّر وأنت تتضوَّر وقد استنكرنا ذلك (3).

(1) تقع في سبيل الست في طريق منى.

(2)

تشير رواية ضعيفة إلى كسر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رضي الله عنه لصنم نحاسي كان في أعلى الكعبة، وذلك في الليلة التي بات فيها علي في فراشه صلى الله عليه وسلم، ومدار الرواية على نعيم بن حكيم وهو صدوق له أوهام، ومثله لا يحتج بما تفرد به، وقد تفرد بهذه الرواية (مصنف ابن أبي شيبة 14/ 488 - 489 ومسند أحمد 1/ 84 والنسائي: الخصائص 134 - 135 وتهذيب الآثار 3/ 237 ومستدرك الحاكم 3/ 5 وشيخ الحاكم هنا هو أبو بكر محمد بن إسحق القطيعي، 2/ 366 - 367 وقال الذهبي: إسناده نظيف والمتن منكر. وتاريخ بغداد 13/ 302، وموضع أوهام الجمع والتفريق 2/ 432. والبوصيري: اتحاف المهرة الخيرة 93 أ.

(3)

مسند أحمد 5/ 26 - 27 (ط: أحمد محمد شاكر) من حديث ابن عباس بإسناد حسن فيه أبو بلج صدوق. وقد صحح الشيخ أحمد محمد شاكر سنده، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بَلْج الفزاري وهو ثقة وفيه لين (مجمع الزوائد 9/ 119 - 120) وقال ابن حجر: "أبو بلج صدوق ربما أخطأ"(تقريب 625).

وقد انفرد بهذا الحديث وقد قال ابن حبان: "أرى أن لا يحتج بما انفرد به من الرواية (المجروحين 3/ 112).

ص: 210

لقد كان غار ثور قد تحدد منطلقًا للهجرة، وضُرب الموعد مع الدليل في ذلك المكان، وكان خروج المصطفى والصديق إلى الغار ليلًا (1).

ولا تقوى هذه الرواية على معارضة ما في الصحيح، ولكن يمكن التوفيق بينهما، لأن رواية الصحيح ليست صريحة في ركوبهما من بيت الصديق رضي الله عنه. فإذا افترضنا أن اصطحابهما معاً جرى من بئر ميمون أمكن التوفيق بين الروايتين.

لقد حمل أبو بكر رضي الله عنه ثورته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت أسماء ابنته أنها خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم (2).

لقد مكث الاثنان في الغار ثلاث ليالٍ وقد تمكن المشركون من اقتفاء أثرهم إلى الغار حيث رأى الصديق أقدامهم فقال:"يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا.

قال: "أسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما"(3). وإلى هذا اليقين والتوكل الكامل تشير الآية {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (4).

لقد أخفقت قريش في العثور عليهما، فأعلنت مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما (5).

لقد أرخت رواية واهية خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار في ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول، وأدركتهما القيلولة ظهر يوم الثلاثاء بقديد. وهذا

(1) يؤيده ما في مغازي عروة ص 128، 129 ومغازي موسى بن عقبة، وكذلك رواية الواقدي في طبقات ابن سعد 1/ 227.

(2)

مستدرك الحاكم 3/ 5 ودلائل البيهقي 2/ 480 بإسناد فيه انقطاع بين يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير وأسماء، ولكن يحيى أخذ الخبر عن أبيه عباد كما في سيرة ابن هشام 1/ 488 فهو الذي يروي عن جدته أسماء لذلك فإن السند حسن. ثم هو مما يتداول عادة في الوسط العائلي.

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 257).

(4)

التوبة 40.

(5)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 238).

ص: 211

التحديد يثير الشك بصحة الرواية فضلًا عن ضعف الإسناد (1).

لقد مضى الاثنان في الطريق إلى المدينة وهما يحسان برصد المشركين لهما.

قال أبو بكر: "أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلًا"(2)، ووقعت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، ولنقرأ ما سجّله الصديق رضي الله عنه عن بداية الرحلة قال: "أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رُفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيتُ الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة.

ثم قلت: "نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام"

ثم حكى أبو بكر خبر مرور راع بهما، فطلب منه لبنا، وصادف استيقاظ الرسول فشرب ثم قال:"ألم يأن للرحيل" قلت: بلى قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جَلد من الأرض (3)(4).

وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبرُ نزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيمة أم مَعْبد بقديد طالبين القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، إلا شاة

(1) ابن سعد: الطبقات 1/ 232 بإسناد واهٍ فيه عبد الملك بن وهب المذحجي اسمه الحقيقي سليمان بن عمرو النخعي قال الإمام البخاري: معروف بالكذب (التاريخ الكبير 2/ 2/ 28 وانظر حاشية المعلمي اليماني على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/ 373) وانفرد بتوثيقه ابن حبان (الثقات 7/ 108) وفي السند محمد بن بشر بن محمد الواسطي أبو أحمد العسكري، والصحيح أنه بشر بن محمد بن أبان السكري البصري. ترجم له البخاري ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (التاريخ الكبير 1/ 2/ 84) وقال أبو زرعة الرازي: هو شيخ (الجرح والتعديل 2/ 364) وذكر ابن عدي فيه جرحاً شديداً (الكامل 3/ 1096 - 1100) ثم إن اعلاه يشك البخاري في إرساله حيث تسائل: الحر ما أدرى أدرك أبا معبد؟ (التاريخ الكبير 1/ 2/ 84).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 255).

(3)

يعني أرضاً صلبة مستوية.

(4)

صحيح مسلم 4/ 2309 من حديث البراء بن عازب.

ص: 212

هزيلةَ لا تدرً لبناً. فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله، وحلب في إناء حتى علت الرغوة، وشرب الجميع، ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية (1) إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها "لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يستخفيان نزلاً بأبي مَعْبد فقال: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن.

(1) أخرجها ابن إسحاق بإسناد معضل كما في دلائل النبوة للبيهقي 2/ 493 من رواية يونس بن بكير عنه.

- وابن خزيمة كما ذكر ابن حجر في الإصابة. ولم أقف على سنده

- والطبراني: المعجم الكبير 4/ 56 فإسناد فيه مكرمٍ بن محرز انفرد ابن حبان بتوثيقه (الثقات 9/ 207) ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً (الجرح والتعديل 8/ 443) وفيه محرز بن مهدي مجهول، وهشام بن خنيس مجهول الحال. وقال الهيثمي: وفي إسناده جماعة لم أعرفهم (مجمع الزوائد 6/ 58).

- وأخرجه الطبراني من طريق آخر فيه عبد العزيز بن يحيى المديني نسبه البخاري وغيره إلى الكذب وفيه مجاهيل أيضاً كما يقول الهيثمي (مجمع الزوائد 8/ 279 وانظر ميزان الاعتدال 3/ 573 والضعفاء للعقيلي 4/ 74).

- وأخرجه ابن سعد: الطبقات 1/ 230 بإسناد واهٍ فيه سليمان بن عمرو النخعي، وقد دلس اسمه عبد الملك بن وهب المذحجي وهو كذاب (الكامل لابن عدي 3/ 1096).

- وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/ 1/ 84 وفي إسناده عبد الملك بن وهب المذحجي كذاب (التاريخ الكبير 2/ 2/ 28) وشك البخاري في انقطاع السند.

- وأخرجه البزار بإسنادين أحدهما فيه عبد الرحمن بن عقبة مجهول الحال ويعقوب بن محمد الزهري صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء (كشف الأستار 2/ 300) والآخر سنده حسن ومتنه قال عنه البزار: وهو يخالف سائر الأحاديث في قصة أم معبد (كشف الأستار 2/ 301) ومن اختلاف متنه قوله "نزلا بأبي معبد" وذكره إسلام أبي معبد آنذاك.

وهذه الرواية من حديث قيس بن النعمان أخرجها الطبراني بسند صحيح وسياق أتم فيما ذكر ابن حجر (الإصابة 5/ 506).

وساقها الحاكم في المستدرك 3/ 9 من حديث هشام بن حبيش مجهول الحال. وساقها من طريق قيس بن النعمان 3/ 8 - 9 ولم يصرح باسم الراعي.

وأخرجه البغوي ابن شاهين وابن منده من طريق حزام بن هشام بن حبيش بن خالد عن أبيه (السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 309).

وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني بسنده من حديث هشام بن حبيش (دلائل 282).=

ص: 213

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبه - فما تلك الشاة؟ فأتي بها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها، ثم حلب عسّاً فسقاه، ثم شربوا، فقال أنت الذي يزعم قريش أنك صابيء؟ قال: إنهم ليقولون. قال: أشهد أن ما جئت به حق. ثم قال: أتبعك قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا. فاتَّبَعَهُ بعدُ". وهذا الخبر

= وأخرجه ابن سيد الناس من طريق أبي بكر الشافعي بإسناد فيه الكديمي وعبد العزيز بن يحيي متهمان (عيون الأثر 1/ 188).

وبإسناد فيه ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر مُعضلاً.

وبإسناد فيه هشام بن حبيش مجهول الحال، وأضاف ابن سيد الناس إلى أسانيد أبي بكر الشافعي سنداً فيه سيف بن عمر التميمي وهو متروك.

وساق ابن كثير الخبر من طريق ابن أبي ليلى، وليس فيه التصريح بأم معبد أو بأبي معبد، فسنده منقطع. كما ساقها من رواية البزار بالسند الذي فيه عبد الرحمن بن عقبة (البداية والنهاية 3/ 189).ثم ساقها ابن كثير بواسطة البيهقي وفي إسناده عبد الملك بن وهب المذحجي كذاب (البداية والنهاية 3/ 190) ويرى ابن كثير أن قصة أم معبد مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً (البداية والنهاية 3/ 188).

ثم إن الحافظ ابن حجر ذكر أن ابن منده ساقها من طريق عبد الرحمن بن عقبة (الإصابة 6/ 169) وقد سبق أنه مجهول الحال.

وذكر الحافظ ابن حجر أيضاً (الإصابة 8/ 306 - 307) أن ابن السكن أخرجها من طريقين: طريق ابن الأشعث حفص بن يحي التيمي ولم أقف على ترجمته، ومن طريق آخر بسند لم يذكر ابن حجر سائر رجاله لكن متن روايتي ابن السكن مخالف لمتون الروايات الأخرى.

كذلك أخرج القصة ابن عبد البر في الاستيعاب (1958) بإسناد فيه الحكم بن أيوب الخزاعي انفرد ابن حبان بتوثيقه (لسان الميزان 1/ 478) وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 245) فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً وفيه محمد بن سليمان بن الحكم الخزاعي ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/ 269 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولكنه كتب عنه فيبدوا أنه - على الأقل - يُعتبر بحديثه. وفيه عبد الله بن محمد بن عيسى بن حكيم لم أقف على ترجمته.

وهكذا لا يخلو طريق من طرقها من العلل القادحة، وهي بمجموع طرقها لا تصلح للاحتجاج بها في موضوع المعجزات. ولكن حديثي التابعي الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى والصحابي جابر بن عبد الله هما أمثل طرق قصة أم معبد يعتضدان إلى الحسن لغيره. لكنهما لا يقويان على مناهضة حديث قيس بن النعمان من طريق الطيالسي فإنه حسن لذاته بل يرى أبن حجر أنه صحيح.

ص: 214

فيه معجزة حسيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم. شاهدها أبو معبد فأسلم (1).

ولندع رواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي ففيها تفاصيل تكشف عن المعجزة النبوية.

قال سراقة: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه.

قال: فأومأت إليه بعيني أن أسكت. ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعلَّهُ، ثم سكت.

قال: ثم مكثت قليلاً ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي فقيِّد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها (2). ثم انطلقت فلبست لأمتى، ثم أخرجتُ قِداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره.

قال: وقد كنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقلة.

قال: فركبت على أثره، فبينا فرسي يشتدُّ بي عثر بي فسطت عنه.

قال فقلت: ما هذا!!

(1) رواه البزار بإسناد حسن وقال معقباً: لا نعلم روى قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا، ولا نعلمه بهذا اللفظ إلا عنه وهو يخالف سائر الأحاديث في قصة أم معبد (كشف الأستار 2/ 301) وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (6/ 58) وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجها الطبراني من حديث قيس بن النعمان بسند صحيح وسياق أتم. (الإصابة 5/ 506).

(2)

القِداح والازناد والسهام والأقلام والأزلام معناها واحد، وهي أعواد تسوَّي للاستقسام الذي هو من القسم أي النصيب وهي متشابهة في أقدار الأجسام، وإنما تختلف بالعلامات والوسام، وبواسطتها يستشير المشرك الآلهة (محمود سليم الحوت: في طريق المثيولوجيا عند العرب ص 142 - 146).

ص: 215

قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمتُ بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره.

قال: فأبيت إلا أن أتبعه.

قال: فركبت في أثره، فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه.

قال فقلت: ما هذا!!

قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره.

قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار.

قال: فعرفتُ حين رأيت أنه قد منع مني، وأنه ظاهر.

قال: فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له وما تبتغي منا؟ فقال لي ذلك أبو بكر.

قال قلت: تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك.

قال: اكتب له يا أبا بكر.

فكتب لي كتابًا في عظم أو في رقعة أو في خزفة، ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت فسكت، فلم أذكر شيئًا مما كان". ثم حكى خبر لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وإسلامه (1).

(1) سيرة ابن هشام 2/ 102 - 104 بإسناد صحيح لغيره، لأن ابن إسحاق توبع في صحيح البخاري، تابعه عُقيل (صحيح البخاري كما في فتح الباري 7/ 230 - 248، وبين الحافظ ابن حجر وصل حديث الزهري في 7/ 240).

ص: 216

وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئًا، وأنّ وصيته كانت: أخف عنا (1).

وتذكر رواية صحيحة أنه صار آخر النهار مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان جاهداً عليه أوله. وأن الرسول هو الذي دعا عليه فصرعه الفرس (2). وقد احتاط الاثنان في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق، فإذا سئل أبو بكر عن رسول الله قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير (3). وقد صحَّ أن الدليل أخذ بهم طريق السواحل (4). وفصَّل ابن إسحق وصف الطريق الذي سلكوه قال: "فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل - حتى عارض الطريق - أسفل من عُسْفان، ثم سلك بهما أعلى أسفل أَمَج، ثم استجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخَرَّار، ثم سلك ثَنيَّة الُمَّرة، ثم سلك بهما لقْفاً ثم أجاز بهما مدْلَجة لقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مَحَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مَحَاج، ثم تبطَّن بهما مَرْجح من ذي الغَضْوين ثم من ذي كَشْر، ثم أخذ بهما على الجَدَاجد، ثم على الأجْرد ثم سلك بهما ذا سَلَم من بطن أَعْداء مَدْلَجة تِعْهِن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجَّة.

قال ابن هشام: ثم هبط بهما العَرْج وقد أبطأ عليهما بعضُ ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم أوسن بن حُجْر على جمل له يقال له ابن الرّداء إلى المدينة وبعث معه غلاماً يقال له مسعود بن هُنيدة، ثم خرج بهم دليلهما من العَرْج، فسلك بهما ثَنيَّة العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رِئم ثم قدم

(1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 238 - 239).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 249 - 250).

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 249).

(4)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 232).

ص: 217

بهما قُباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتدَّ الضحاء، وكادت الشمس تعتدل (1).

وكان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروجه من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحرُّ عليهم عادوا إلى بيوتهم، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا، وقدم الرسول وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم، فخرجوا فاستقبلوه، وكانت فرحتهم به غامرة فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه.

وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قُباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء (2).

ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم (3).

وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار (4). فأحاطوا بالرسول وبأبي بكر وهما راكبان، ومضي الموكب داخل المدينة، "وقيل في المدينة: جاء نبي الله جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم" (5). وقد صعد الرجال والنساء فوق

(1) الحاكم: المستدرك 3/ 8 بإسناد حسن وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصححه ابن حجر وأشار إلى طريقين آخرين له (فتح الباري 7/ 238).

وانظر سيرة ابن هشام 1/ 491 - 492 بدون إسناد.

وفي صحيح مسلم 4/ 2311 أن قدومهما المدينة ليلاً، ويجمع بينهما أن الوصول ليلاً والدخول نهاراً (الفتح 7/ 244).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 239، 265)، وسيرة ابن هشام 1/ 492 بسند حسن وهو صحيح لغيره.

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265).

(4)

أخرجه البخاري في التاريخ الصغير كما في فتح الباري 7/ 251 ولم أجده في المطبوع وإسناده صحيح.

(5)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 250).

ص: 218

البيوت، وتفرَّق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله، يا محمد يا رسول الله (1).

قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان: "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) فلم ترد بها رواية صحيحة (3).

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. فنزل في داره (4).

وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده فكان يقول لهم: دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب (5). وكان داره طابقين، قال أبو أيوب الأنصاري:

(1) صحيح مسلم 4/ 2311.

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 260).

(3)

ابن حجر: فتح الباري 7/ 261، 262. وابن القيم: زاد المعاد 3/ 551.

والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 1/ 360،359.

(4)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 250، 265).

(5)

سيرة ابن هشام 1/ 494 بدون إسناد، ومغازي موسى بن عقبة 1/ 183 بدون إسناد وأخرجها ابن عائذ وسعيد بن منصور كلاهما من طريق عطاف بن خالد - وهو صدوق يهم - عن صديق (ابن حجر: فتح الباري 7/ 246 والتقريب 393).

وعطاف يرويها عن صديق بن موسى عن عبد الله بن الزبير (البداية والنهاية 3/ 200).

وأشار ابن حجر إلى تخريج الحاكم لها من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس (فتح الباري 7/ 245) ولم أجده في طبعة المستدرك (وإسحق ثقة كما في التقريب) وإسناد الحاكم في البداية والنهاية 3/ 197 وهو سند ضعيف فيه إبراهيم بن صرمة شيخ يعتبر بحديثه ومحمد بن سليمان لا يعرف حاله.

وأخرجها ابن سعد بسند فيه الواقدي (الطبقات 1/ 236 - 237) وبسند معضل (1/ 237).

وأخرجها البيهقي كما في البداية والنهاية 3/ 200 من طريق سعيد بن منصور نفسه وفيه عطاف ابن خالد، ويعتضد حديث عبد الله بن الزبير بحديث أنس فيرقي إلى الحسن لغيره.

ص: 219

"لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السُّفل وأنا وأم أيوب في العلوّ، فقلت له: يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب: إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت.

قال: فلقد انكسر حِبُّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه (1).

وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه بدار أبي أيوب سبعة (2) أشهر.

وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين (3). وآثروهم. على أنفسهم، فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مر الدهور وتتالي الأجيال، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4).

وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناء عظيماً فقال: (لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار)(5) و (لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكتُ وادي الأنصار أو شِعبهم)(6).

(1) سيرة ابن هشام 1/ 498 - 499 بإسناد صحيح، ومستدرك الحاكم 3/ 460 - 461 بإسناد صحيح، قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأشار الحافظ ابن حجر إلى تخريج أبي سعيد الخركوشي له من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس في كتابه "شرف المصطفى"(فتح الباري 7/ 252) وقد حُقِّق "شرف المصطفى" للخركوشي في جامعة اكستر ببريطانيا، ولم أقف عليه. وانظر طريقاً آخر له في البداية والنهاية لابن كثير 3/ 199 من طريق أفلح مولى أبي أيوب عنه وإسناده صحيح.

(2)

الطبقات الكبرى 1/ 237 بإسناد ضعيف.

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 264).

(4)

الحشر 9.

(5)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 112).

(6)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 110).

ص: 220

(أسانيد حديث (دعوا الناقة فإنها مأمورة)

محمد بن إسحاق: (بدون إسناد).

موسى بن عقبة: (بدون إسناد).

سعيد بن منصور: من طريق عطاف بن خالد -صديق بن موسى- عبد الله بن الزبير (1)

البيهقي:

محمد بن سعد -الواقدي

محمد بن عائذ

الحاكم -أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني -محمد بن مخلد الدوري- محمد بن سليمان

ابن إسماعيل بن أبي الورد -إبراهيم بن أبي صرمة- يحيى بن سعيد -إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة- أنس.

البيهقي

ابن كثير

ص: 221

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار (1). وقد اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم وهم يرتجزون:

اللهمّ إنه لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة

فانصرُ الأنصارَ والمهاجرة (2).

وقد بناه أولًا بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين (3).

كانت الهجرة قاسية الوقع على المهاجرين. وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَزْورة في سوق مكة فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"(4).

لقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ، فالمدينة بلدة زراعية، تغطي أراضيها بساتين النخيل، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر وبلال. فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمىَّ يقول:

كلّ امريء مصّبح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحُمىَّ يرفع عقيرته يقول:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً

بوادٍ وحولي إذخِرٌ وجَليلُ

وهل أَرِدَنْ يومًا مياهَ مِجَنَّةٍ

وهل يَبْدُونَ لي شامةٌ وطَفيلُ

(1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265).

(3)

ابن حجر: فتح الباري 7/ 246 نقلًا عن الزبير بن بكار.

(4)

رواه الترمذي (سنن 5/ 722) وقال: حسن غريب صحيح.

وابن ماجة: سنن 2/ 1037 رقم الحديث 3108 والدارمي: سنن 2/ 239.

ص: 222

فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجُحفة"(1).

وقال:"اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم"(2).

لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة. لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين.

والحكم يدور مع علته، ومقتضاه أن من قَدِر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإِقامةُ فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإِسلام (3).

وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي، لكنهم أخَّروا ذلك من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة. فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي (4).

(1) صحيح البخاري (فتح الباري7/ 262).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري7/ 269).

(3)

ابن حجر: فتح الباري 7/ 229.

(4)

فتح الباري 7/ 268.

ص: 223