الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 هـ (1) ولا شك أن هذه التحولات مهدت لسيطرتهم على يثرب التي كانت السيادة فيها ليهود، وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من أوس وخزرج وإثارة الشقاق بينهم فأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبين، وآخر ذلك يوم بعاث (2) قبل الهجرة بخمس سنوات حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل لتفوق قواتهم عليهم حتى لجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير وقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فطنوا إلى خطورة الإجهاز عليهم وأن ذلك يمكن اليهود من استعادة سيطرتهم على يثرب، لذلك سعوا إلى المصالحة معهم بل إن الجانبين اتفقا على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في "بعاث" ليكون ملكا على يثرب مما يدل على تمكن العرب من المحافظة على قوتهم وتفوقهم على يهود بعد يوم بعاث.
ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولدت شعورا بالمرارة عند الطرفين ورغبة قوية في العيش بهدوء وسلام، وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها:"كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام"(3).
أثر الإسلام في المجتمع المدني
لا شك أن لكل حضارة وفكر ودين طابعاً يطبعه وصبغة تصبغه ولوناً يميزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش
(1) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة 348.
(2)
ابن الأثير، الكامل 1/ 660 - 666، 671،668، 676، 678 - 680.
(3)
صحيح البخاري 5/ 44 وانظر 5/ 67 منه.
وابن هشام السيرة 1/ 183.
في إطارها وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معينة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإن التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييراً جذرياً وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد. . إن هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثر على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذًا على واقع الحياة.
إن هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام. فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلابًا جذريًا في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيرًا كليًا، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان .. وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختلفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة ..
إن النقلة التي أحدثها الإسلام عميقة وشاملة، ففي عالم العقيدة يمثل طفرة من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها إلى عبادة الله الواحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذي {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . والذي لا يمكن تصوره وتمثله ومعرفة كنهه، بل يعرف بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين دون تمثيل أو تشبيه ولا نفي أو تعطيل.
وهذه طفرة من "العقل البدائي" الذي يتعامل مع المحسوسات إلى "العقل الحضاري" الذي يتمكن من فهم التوحيد والتنزيه لله رب العالمين. وفي سلوك الإنسان اليومي أحدث الإسلام تغييرًا جذريًا .. فالنقلة كبيرة بين ما كان عليه في جاهليته وما صار إليه في إسلامه .. لم يعد العربي كما كان متفلتًا من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية بل صار منضبطًا بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات ونوم واستيقاظ وطعام وشراب وزواج وطلاق وبيع وشراء .. ولا شك أن العادات تتحكم في الإنسان ويصعب عليه
التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة
…
لكن ما ولده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها فاعتادوا على عبادة الله تعالى واتجهوا بكل نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي إليه لأن العبادة في الإسلام شاملة لكل نشاط وحركة يقصد بها وجه الله تعالى، والتزموا بأداء الصلاة التي هي عماد الدين يوميًا خمس أوقات محددة. ولا شك أن النفس تكسل وتحاول التنصل من الواجبات والالتزامات لكن المسلم وقد أسلم وجهه لله تعالى تمكن من الاعتياد عليها، قال تعالى مبينًا ما تحتاجه الصلاة من صبر: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
…
} (1).
وكذلك الأمر بالنسبة للصوم بما فيه من خرق لعادات الإنسان اليومية في تناول الطعام والشراب يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة مؤمنة .. والتخلي عن جزء مما يملك الإنسان من مال كل سنة لأداء الزكاة يحتاج إلى التخلص من الحرص والشح فلا بد أن يكون حب المسلم لله أعظم من حبه للمال ليخرج زكاته، ولذلك فإن كثيراً من المرتدين في خلافة الصديق رضي الله عنه أعلنوا استعدادهم للبقاء على إسلامهم إذا أعفوا من الزكاة. وإلى جانب الاعتياد على الأوامر الجديدة وحمل النفس عليها كان لا بد للمسلم أن يتخلص من كثير من العادات المتأصلة كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام والربا الذي كان يقوم عليه اقتصاد مكة وغيرها. إن المسلمين تخلصوا من هذه العادات وغيرها استجابة لأمر الله تعالى .. فلما نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) خرجت الأنصار بدنان الخمر إلى
(1) سورة طه من الآية 132.
(2)
سورة المائدة 90، 91.