الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس
ولا شك أن الروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون بشكل قبائل وشعوب وأوطان وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة. وتعتبر آصرة القربى أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كونت المجتمعات البشرية. ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب وأماكن أخرى، وقوميات كما في بلاد فارس، ومجتمعات دينية كما في الإمبراطورية البيزنطية. وقد جعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم وأن أقرَّ بعض الأواصر الأخرى إذا انضوت تحت هذه الأصل مثل الأرحام التي حث الإسلام على وصلها. ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث ومثل صلة الجوار وما يترتب عليها من حقوق الجار ومثل الصلة بين أفراد العشيرة وما يترتب عليها من تضامن في الديات ومثل الصلة بين أبناء المدينة وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم .. لكن هذه الصلات ينبغي أن تنضوي تحت آصرة العقيدة فإذا خالفتها وأضرت بها لم يبق لها أي اعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته .. وهكذا قاتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه - وهو يمجد الأصنام - فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى. ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك وهو يسحب ليرمي في القليب ببدر دون أن ينكر قلبه ذلك (1).
قال ابن إسحاق (2): وحدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأساري فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيراً. وكان أبو عزيز بن عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى.
(1) سيرة ابن هشام 2/ 75
(2)
انظر ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 306 - 307.
قال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: أشدد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك
…
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعض النضر ابن الحارث ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره ما قال. قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب إنه أخي دونك.
روى الترمذي (1) بإسناد قال عنه حسن صحيح وهو: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة - قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار .. وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فقال: أو قد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال غير عمرو: فقال له ابنة عبد الله بن عبد الله: "والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل".
وقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه هياباً له (2) لكن مصلحة العقيدة هي المعتبرة عنده أولا فلما رأى أباه يؤذي المسلمين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله ويأتيه برأسه (3).
وقد أوضح القرآن الكريم ذلك فيما قصه عن نوح عليه السلام وابنه {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (4).
(1) الترمذي: سنن 5/ 90 كتاب التفسير.
(2)
مسند الحميدي 2/ 520.
(3)
الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 318.
(4)
سورة هود آية 45، 46.
وهكذا بَيَّن الحق سبحانه أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نوحًا نبي الله. وصرح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: (إنه عمل غير صالح). فإذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتُّ عندما تصطدم بالعقيدة فالأحرى أن تنبتّ صلات الدم والعرق والوطن واللون إذا اصطدمت بمصلحة العقيدة.
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2).
وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفة ووضع حب الله ورسوله والجهاد في سبيل العقيدة في كفة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (3).
وقد نزلت هذه الآيات من سورة التوبة في الحض على الهجرة إلى المدينة المنورة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها .. وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة .. ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها وهاجروا إلى الله ورسوله والجهاد في سبيله.
(1) سورة الحجرات 10.
(2)
سورة التوبة 23.
(3)
سورة التوبة 24.
وخلاصة القول أن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقيدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله والمؤمنين. وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي إليه مهما كان لونه أو جنسه على أن ينخلع من صفاته الجاهلية ويكتسب الشخصية الإسلامية ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.