الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي
.
1 -
مراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم: مثلاً (الأصل في عقائد البشر التوحيد لا الشرك) الأصل في عقيدة البشر التوحيد من لدن آدم عليه السلام، ثم طرأ عليهم الشرك (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) أي كانوا أمة واحدة على التوحيد، فلما تركوه وانحرفوا عنه أرسل الله تعالى الأنبياء ليردوهم إليه. هذا ما قرره القرآن الكريم، فإذا راجعنا كتب التاريخ القديم، وجدنا المؤرخ المنتسب للإسلام يقرر ما يخالف القرآن حين يذكر أن الأصل عبادة الحيوان والكواكب والقوى الطبيعية، ثم نتيجة ارتقاء العقل البشري وصل إلى التوحيد .. وهم يعتبرون الفرعون "اخناتون" أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين.
إن هذا التقرير يرجع إلى أمرين:
الأول: إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية وتطورها من تعدد الآلهة إلى التوحيد مجهوداً بشرياً نتيجة الارتقاء العقلي والثقافي.
الثاني: التأثر بنظرية داروين وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء في مجال العقيدة الدينية.
على أن من الحق أن نذكر فكرة شاملة تتطابق مع النظرة القرآنية طرحها عالم الأجناس البشرية إيفار ليسنر في كتابه (الإنسان والله والسحر) تقول: "إن أسلافنا البدائيين قد اعتقدوا بوجود إله واحد، ثم انحطوا بالتدريج بسبب النفوذ الشرير لسحرة القبائل وساحراتها وتحولوا إلى عباد لآلهة متعددة" *.
إن المطلوب من المؤرخ المسلم أن يستوعب كليات التصور القرآني للتاريخ البشري ويلتزم به في الكتابة التاريخية، ولو ظهرت بعض النظريات التي تخالف بعض هذه الكليات فليتهم هذه النظريات ما دامت لم تصبح حقائق قطعية،
* اقتبسه كولن ولسن: الإنسان وقواه الخفية: 157.
ومعظم استنتاجات التاريخ القديم ترتكز على علم الآثار والحفريات، وهي تعطي معلومات مشتتة لا تكفي لتغطية الفجوات الكبيرة في التاريخ البشري القديم، وإذا كان المؤرخ غير المسلم لا يستطيع التصور إلا من خلال الآثار المادية التي تزوده بالمعلومات
…
فإن المؤرخ المسلم يستند إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم ينله التحريف والتبديل وهي نعمة عظيمة أنعمها الله تعالى على المسلمين بحفظ كتابه يتلونه كما أنزل في كل عصر، مطمئنة نفوسهم إلى أنه "كلام الله" مما له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وسلوكهم وشخصيتهم وطبيعة مجتمعهم وحضارتهم، وهو أمر لم يتحقق لأمة أخرى غير الأمة الإسلامية.
2 -
تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام: إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله
…
إلى الجزاء الأخروى، وصفوة المؤمنين لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لا بد من إخلاصهم النية لله تعالى في كل أعمال المسلم سواء كانت جهاداً بالنفس أو نشاطاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياساً، فنشاط المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول محور - إرضاء الله تعالى - ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته فإنه يحبط عمله كما في الحديث الشريف "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه" وإذا كان هذا التصور يتحكم في الكثير من المسلمين الواعين اليوم فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين والأتباع - وهم خير القرون - إذاً؟.
إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم وإخلاص عقيدتهم وتوجههم إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع لهم في مشاركتهم في الفتوح ونشر الإسلام والتمكين له وتنظيم المناطق المفتوحة والاجتهاد في حل المشاكل والأقضية المستجدة وفق تعاليم الإسلام، لم يكن دافعاً دنيوياً ولا رغبة في التسلط
والاستحواذ ولا طمعاً في خيرات البلاد المفتوحة ولا فراراً من شظف الحياة في الصحراء كما يقول كايتاني وغيره من المستشرقين.
روى الطبري في خبر مفاوضة المغيرة بن شعبة لرستم، وما رد به على عروض رستم المادية مقابل تخلي المسلمين عن القتال حيث أجابه المغيرة بقوله: "أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره، وننجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا نفوسكم بالجزية فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم
…
" (1).
وروى الطبري أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟ فقال:"الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد .. إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه"، إن ما قاله كل من ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة للفرس لم يكن يعبر عن شعور فردي، وإنما كان يمثل الفكرة المهيمنة على قيادة المسلمين ومعظم جندها المجاهدين، ولا يمنع هذا القول من مشاركة بعض الأعراب في الجهاد ممن تحفزهم العوامل المادية إلى جانب الرغبة في الجهاد، لكن هؤلاء لا يمثلون قيادة الحركة ولا روحها الموجهة، إنما أقرر ذلك لأن المجتمع المسلم مجتمع بشري فيه الصفوة الخيرة التي تلتزم المثل العليا وتخلص النية لله وتجعل كل همها كسب رضاه، وفيه طبقات دونها تأخذ نفسها بالحد الأدنى الذي يحقق لها صفة الإسلام.
وينبغي أن يتقرر بوضوح كامل أن تفسير حركة التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام لا يمكن أن يقوم به إلا المسلم الذي يردد كل يوم قول الحق تعالى لنبيه
(1) الطبري: تاريخ 3/ 520، 528.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (1). والذي تفاعل قلبه وشعوره مع القرآن والسنة وأحس بأثرهما في صياغة شخصيته وتحديد دوافع سلوكه. ومن هنا جاءت التفسيرات الغربية والاستشراقية قاصرة عن فهم دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام، فمثلاً عندما يعرض المستشرق الأب (لا مانس) لحادثة سقيفة بن ساعدة - وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية، حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية - فإن صور المؤامرات في البلاد الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوه رؤيته لأحداث السقيفة، فيلطع علينا بصورة مشوهة عندما يقرر تآمر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم واتفاقهم على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها فيما بينهم في سقيفة بني ساعدة.
إن الدراسات الاستشراقية وهي كثيرة جدا ومتباينة من حيث المستوى والدقة العلمية والبعد عن التعصب الديني والقومي، لكنها على العموم تصدر عن مفكرين عاشوا في بيئة بعيدة عن الإسلام لها حضارتها وفلسفاتها ومقاييسها وأذواقها، فيصعب عليهم تذوق الإسلام وبالتالي يتعذر عليهم فهم دوافع سلوك المسلم في حركته الفردية والجماعية، وهم يقيسون على التاريخ الأوروبي في تفسيرهم لحركة التاريخ الإسلامي رغم اختلاف طبيعة التاريخين، ولا نغفل عن كون الأوروبيين عموماً ينظرون إلى العالم من خلال موقفهم المتفوق عسكرياً وتكنولوجياً، فهم ينسبون كل مأثرة لأنفسهم وكل منقصة لسواهم. وعندما أرَّخ توينبي لحضارات العالم أعطى الحضارة الإسلامية مساحة ضيقة لا تتناسب مع حجمها ودورها الحقيقي في التاريخ العالمي.
إن أعظم قصور يواجه الدراسات الاستشراقية هو عجزها عن التصور السليم للإسلام وروحه وأثره في المجتمع الإسلامي وحركته التاريخية، وهو
(1) الأنعام آية 162 - 163.
قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على هذه الدراسات خاصة في عصر السيرة حيث تتطابق النظريات الإسلامية مع الواقع التاريخي.
3 -
تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله: إن المؤرخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أيه حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه "الخالق" عز وجل لـ "خلقه"، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فالحضارة السامية في نظر المسلمين هي التي تهيئ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه، دون أن تعيقه المؤسسات والأجهزة القائمة في المجتمع أو توقعه في التناقض بين "عقيدته" و"سلوكه" ودون أن تضغط عليه لتحرفه عن التزامه أمام رب العالمين. لذلك مهما تقدمت الحضارة في العلوم والمعارف والآداب والفنون، ومهما تفننت في ريازة الدور والقصور وفي الأثاث واللباس والطعام .. وفي تيسير الحياة المادية الرخية للإنسان، أقول مهما وصلت الحضارة في التقدم المادي فإنها تبقى في نظر المؤرخ المسلم "متخلفة" و"قاصرة" ما دامت لا تهيئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه. والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل تاريخية مختلفة .. ولا شك أن التضخم في منجزاتها المادية لم يكن في صدر الإسلام بل كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لذلك فإن المؤرخ الغربي آدم ميتز يرى أن القرن الرابع الهجري يمثل أوج الحضارة الإسلامية في حين أن المؤرخ المسلم يرى أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة لأنه أكثر ملاءمة لعبادة الله وتوحيده، وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاماً بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
إن هذا المنطق والتصور يبدوان غريبين بالنسبة للمؤرخين غير المسلمين لأنهم يخضعون في مقاييسهم لقيم الحضارة الغربية، أما المؤرخ المسلم فإن الأمر يبدو بدهياً أمامه لأنه تمكن من تمزيق طوق القيم والمقاييس والتصورات المنبثقة عن الحضارة المادية الغربية ولم يتم ذلك إلا بعد الوعي الإسلامي الذي ظهرت آثاره في العالم الإسلامي المعاصر .. ومن آثاره التفلت من كماشة الحضارة الغربية والاستعلاء بالإيمان والإسلام عليها والشعور بالذات والاستقلال الروحي والفكري. وهو أمر يمثل الخطوة الصحيحة على طريق الحضارة إن شاء الله.
4 -
رفض منطق "التبرير" كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام. إن هذا المنطق أثر للقهر النفسي والفكري الذي أحدثه الغزوة الفكري في عقولنا، ومن ذلك الأسلوب الاعتذاري الذي يستخدمه بعض المؤرخين المسلمين المعاصرين في الكلام عن الجهاد في الإسلام وحركة الفتوح الإسلامية واعتبارها دفاعاً عن حدود شبه جزيرة العرب أمام تحركات الفرس والروم، بل إن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لم تسلم من هذا الأسلوب التبريري وجعلوها دفاعاً عن دولة المدينة المنورة (دراسة العلامة محمد شبلي النعماني عن السيرة مثلاً فهو على فضله وقع في هذا الخطأ). بل إن بعض المؤرخين المسلمين ذهب إلى نفي روايات صحيحة عندما عجز عن التبرير الذي يريده، فقد نفى أحد الكتاب (1) روايات ابن إسحق حول قتل مقاتلة بني قريظة، وهي ثابتة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ. وكأنه يشك في عدالة قتلهم، فالتفسير الإسلامي إذا ليس دفاعياً تبريرياً بل ينطلق من اعتقاد أن الإسلام حق وما عداه باطل، وأن ما شرعه الإسلام من الجهاد وغيره حق لا يحتاج إلى اعتذار أو تبرير، حتى لو بدا ذلك غريباً أما الذهنية المهيمنة على الناس في القرن العشرين، لأننا لا نطوع "الإسلام وتاريخه" لأذواق الناس واتجاهاتهم الفكرية في "عصر معين" فما يحبذه
(1) د. وليد عرفات: في بحث قدمه في مؤتمر السنة والسيرة بقطر. وقبل ذلك في المؤتمر الدولي للتاريخ ببغداد.
الناس في عصر قد ينكرونه في عصر آخر، وما يحسبه أبناء بلدة حسناً يراه سواهم منكراً، والحكم لله ولشرعه وليس لأذواق الناس وأهوائهم والله غالب على أمره.
5 -
استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية: إن استعمال المصطلحات الشرعية ضروري عند كتابة التاريخ الإسلامي من خلال التصور الإسلامي النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأن هذه المصطلحات ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث. والقرآن الكريم قسم الناس إلى "المؤمن" و"الكافر" و"المنافق" ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها. فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه "يميني" أو "يساري" أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية التي ليست محددة بصورة دقيقة ثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي "الخير" و"الشر" و"الحق" و"الباطل" و"العدل" و"الظلم" كما حددها الشرع ولا تستخدم معايير الفكر الغربي "كالتقدمية والرجعية".
لقد انجرَّ بعض الكتاب المسلمين إلى استخدام مصطلحات وألفاظ ليست في "القاموس الإسلام" وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة.
إن استعمال المصطلحات الشرعية عند إعادة صياغة التاريخ الإسلامي ضروري جداً للحفاظ على استقلال التصور والمنهج الإسلامي وإبراز هويته بالإضافة إلى أن المصطلحات الشرعية أوضح وأدق من المصطلحات الغربية.
والآن ما هو المقصود بالبحث في التاريخ الإسلامي وفق مناهج المحدثين؟.
المقصود أن للمحدثين مناهج وطرقاً في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوب تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة.
بتاريخ صدر الإسلام، لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفاً عن سلف. وتستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة، فمثلاً شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة أن كل رواتها المتعاقبين إلى - شاهد العيان - متدينون تديناً صحيحاً وعندهم ملكة الحفظ التي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها كالتدليس الخفي أو الإرسال الخفي أو الاضطراب في معلومات المتن، وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة والنظر في اتفاقها أو اختلافها، فإن تعددت مخارج الرواية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الرواة الذين رووها واتفاقهم على الكذب.
ولكن ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحق وخليفة بن خياط والطبري حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة. كما أن الطبري يكثر النقل عن رواة في غاية الضعف مثل هشام بن الكلبي وسيف بن عمر التميمي ونصر بن مزاحم وغيرهم.
ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث، واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئاً كبيراً على "المؤرخ المعاصر المسلم" لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى
الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلاً ميسوراً كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط أو الطبري بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها، وعلى أية حال فنحن لا نبخس قدامى المؤرخين حقهم وفضلهم فقد جمعوا لنا المادة الأولية بالأسانيد التي تمكننا من الحكم عليها ولو بعد جهد وعناء.
والآن ماذا بعد سبر الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها؟
المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام .... وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً
…
أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي، لأن القاعدة "التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة" ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة ملئ بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على أثر الفتوح.
أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع
…
أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها.
وقد تعقب ابن حجر العسقلاني إنكار بعض النقاد لخبر غريب فقال: "في طرق هذه القصة القوي والضعيف، ولا سبيل إلى رد الجميع فإنه ينادى على من أطلقه بقلة الاطلاع والإقدام على رد مالا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص فيؤخذ بما اجتمعت عليه ويؤخذ من المختلف ما
قوي ويطرح ما ضعف وما اضطرب، فإن الاضطراب إذا بَعُد به الجمع بين المختلف، ولم يترجح شئ منه التحق بالضعيف المردود" (1).
وما دمنا قد قبلنا هذا "المبدأ" فإنه يمكن الإفادة بصورة واسعة من كتب الحديث في دراسة عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة، لأن كتب الحديث خُدمت أكثر من كتب السيرة والتاريخ من قبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها حفاظ كبار قدامى ودارسون معاصرون، وحتى الأحرف اليسيرة المنتقدة فيهما صمدت أمام النقد لأن أصولها معروفة ولم ينفرد بها البخاري ومسلم. ومادام الأمر كذلك فيمكن إذاً اعتماد ما أورده البخاري ومسلم من روايات تتعلق بالسيرة والراشدين، ثم النظر في روايات السنن الأربعة وموطأ مالك التي لقيت سبراً وتمحيصاً أيضاً رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحيحين ولا تخلو من الضعيف.
إن كتب الحديث تحوي قدراً كبيراً من أخبار السيرة وإن كانت لا تغطي كل أحداثها، ومن هنا تبرز أهمية النقد الحديثي لروايات كتب السيرة والتاريخ
…
فكبار المحدثين أمثال الحافظ ابن سيد الناس في كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير) والحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام) عندما كتبا السيرة النبوية اعتمدا على الكتب السنة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) لكنهما لم يتمكنا من الاستغناء عن كتب السيرة والتاريخ.
ولابد هنا من إيضاح حقيقة مهمة قد يؤدي إغفالها إلى شكنا في صحة تصورنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحة معلوماتنا عن الخلفاء الراشدين المهديين. وهذه الحقيقة هي أن كتب الحديث تدعم ما أوردته كتب السيرة والتاريخ في معظم الجوانب المتعلقة بالسيرة، وخاصة سيرتي محمد بن إسحق بن يسار (ت 151 هـ) وموسى بن عقبة (ت 140 هـ) والأولى وصلت إلينا بعنوان سيرة ابن هشام الذي قام بتهذيبها .. وقد خصصتُ سيرة ابن إسحق لأن السيرة التي تقابلها هي
(1) العجاب في بيان الأسباب (مخطوطة) منها صورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
مغازي الواقدي الذي رماه المحدثون بالوضع وضعفوه رغم تصريحهم بغزارة مادته في السيرة .... والحق أن الدراسة لمغازي الواقدي تكشف عن صحة ما يقوله المحدثون فكثير من الرواة الذي يسوق الواقدي الروايات بواسطتهم لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال.
وهناك اتجاه خاطئ عند بعض المستشرقين تابعهم فيه بعض مؤرخينا يعلي من شأن مغازي الواقدي على سيرة ابن إسحق .. والحق أن سيرة ابن إسحق أدق وأوثق وتتطابق معلوماتها مع معلومات كتب الحديث في كثير من الجوانب. إن الفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة يتمثل في كون كتب السيرة تسوق كثيراً من الروايات بأسانيد مرسلة ومنقطعة، وتوجد هذه الروايات في كتب الحديث متصلة مسندة مما يوثق معلومات كتب السيرة، ولكن لا شك أنه ستتم الإضافات والتعديلات إذا اعتمدنا على كتب الحديث إلى جانب كتب السيرة والتاريخ، وإذا طبقنا قواعد النقد الحديثية على "الرواية التاريخية". وفيما يلي بعض النتائج التي سنحصل عليها بسبب تطبيق هذا المنهج، والتي اتضحت لي من دراساتي الخاصة بهذا الموضوع.
1 -
زيادة اليقين بصحة معلوماتنا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقدمها كتب السيرة المعتمدة وخاصة سيرة ابن إسحق.
وهذا من رحمة الله بعباده أن حفظ لهم سيرة نبيه ليتمكنوا من الاقتداء به.
2 -
إضافة معلومات تكمل جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الشاملة لأمور الدين والدنيا، وهذه الإضافات التي تقدمها كتب الحديث مهمة لأن كتب التاريخ والسيرة المختصة اقتصرت على المغازي دون تفاصيل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر السيرة.
3 -
توضيح بعض الجوانب التي اختلف فيها المؤرخون والمحدثون، مثلاً "غزوة بني المصطلق" يذكر البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم داهمهم على
غرة أما كتب السيرة فتذكر أنه أنذرهم وأنهم تأهبوا لقتاله وقاتلوه على ماء المريسيع.
ففي مثل هذا الحال نحتاج إلى فهم موقف الإسلام من إنذار العدو وسوف نطالع ثلاثة آراء للعلماء:
الأول: يقول بعدم الوجوب مطلقاً وهو رأي حكاه المازري والقاضي عياض.
الثاني: يقول بالوجوب مطلقاً. وإلى هذا الرأي ذهب الإمام مالك وآخرون.
الثالث: يقول بالوجوب سنة لمن لم تبلغهم الدعوة وعدم الوجوب بالسنة لمن بلغتهم. وإلى هذا الرأي ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم وهو الراجح (1).
وبما أن بني المصطلق ممن بلغتهم الدعوة فإن رواية الإمام البخاري في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق على غرة منسجمة مع هذا الرأي الراجح، ولا داعي إلى ترجيح رواية ابن إسحق وبقية كتاب السيرة عليها بحجة أنها أكمل وأن رواية البخاري تخالف النص القرآني {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
…
} (2).
4 -
التعديل في بعض الموضوعات المتعلقة بالسيرة والتي لم تهضمها الدراسات المعاصرة المعتمدة على كتب السيرة والتواريخ فقط مثلاً "نظام المؤاخاة" و"الوثيقة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم كدستور للمدينة أول الهجرة" ....
ولكن ينبغي أن لا نبالغ في حجم التعديل الذي سيحدث في صورة السيرة كما تظهر عند كتاب السيرة القدامى وكما عرفها المسلمون في خلال الأربعة عشر قرناً.
(1) راجع نيل الأوطار للشوكاني 7/ 262.
(2)
سورة الأنفال 58.
الماضية، فإن الدراسة والمقارنة تكشف عن التطابق بين كتب الحديث وكتب السيرة في كثير من الأسس والتفاصيل معاً، وهذا من حفظ الله تعالى لسيرة نبيه لتبقى مناراً يقتدي بها المسلمون في كل عصر ومصر. فكان أن هيأ لها جهابذة المحدثين من طبقة التابعين وتلاميذهم لكتابتها في وقت مبكر مستقين أخبارها من الصحابة الذين كانوا شهود عيان ومشاركين في الأحداث، فلم يقع انقطاع بين الأحداث والتدوين يؤدي إلى الضياع أو التحريف أو التهويل، وعندما نستعرض أصحاب كتب السيرة نجد معظمهم من المحدثين وليسوا من الأدباء أو القصاصين ولذلك أهميته، فهم معروفون بالتوثيق، ولهم مناهج نقدية واضحة. وأساليبهم جدية بعيدة عن المبالغة والحشو والخيال.
5 -
بيان أن علماء المسلمين حرصوا على جمع كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث وأخبار سيرته سواء كانت -في رأيهم- صحيحة أو مختلفة، وأحياناً ضُم النوعان من الروايات في كتاب واحد، مع البيان الصريح لحال الرواية من الصحة أو الضعف، أو البيان الضمني لذلك بذكر السند الذي يحتوي على اسم الراوي المتهم.
وأحياناً أخرى يضم الكتاب الأخبار الصحيحة فقط كما هو شأن صحيحي البخاري ومسلم، في حين ضمت بعض المؤلفات الأخبار الواهية والموضوعة فقط مثل العلل المتناهية للدارقطني، واللآلئ المصنوعة للسيوطي وتنزيه الشريعة لابن عراق.
إن الحرص على جمع الصحيح والموضوع ينفي أن يكون المسلمون قد حجبوا بعض أخبار سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن القرآن أشار إلى اتهامات المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وشبههم فكان أحياناً المصدر الوحيد للتعرف على وجهة نظر خصوم الإسلام (1).
(1) النحل 103، الفرقان 4، 5، 7 - 8، 41، المؤمنون 68 - 70، الزخرف 31.