الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ
تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِى، وَتُرَدُّ فِيمَا يُرَدُّ فِيهِ.
ــ
بابُ الشَّهادةِ على الشَّهادَةِ والرُّجُوعِ عن الشّهادَةِ
(تُقْبَلُ الشَّهادَةُ على الشَّهادَةِ فيما يُقْبَلُ فيه كِتابُ القاضى، وتُرَدُّ فيما يُرَدُّ فيه) الكلامُ في هذه المسألةِ في فُصول ثَلاثَةٍ؛ أحدُها، في (1) جَوازِها. والثانى، في مَوْضِعِها. والثالثُ، في شَرْطِها.
أمّا الأوَّلُ: فإنَّ الشَّهادةَ على الشَّهادةِ جائِزَةٌ، بإجْماعِ العُلَماءِ. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعىُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. قال أبو عبيدٍ: أجْمَعَتِ العُلَماءُ مِن أهلِ الحِجازِ والعِراقِ، على إمْضاءِ الشَّهادةِ على الشَّهادةِ في الأمْوالِ. ولأنَّ الحاجةَ داعِيَة إليها، فإنَّها لو لم تُقْبَلْ، لبَطَلَتِ الشَّهادةُ على الوُقُوفِ (2)، وما يتَأخَّرُ إثْباتُه عندَ الحاكمِ ثم يَمُوتُ شُهودُه، وفى ذلك ضَرَرٌ على النَّاسِ، ومَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، فوجَبَ أن تُقْبَلَ، كشَهادَةِ الأصْلِ.
(1) سقط من: ق، م.
(2)
في م: «الموقوف» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الفصل الثانى: أنَّها تُقْبَلُ في المالِ، وما يُقْصَدُ به المالُ، كما ذكَر أبو عُبَيْدٍ، ولا تُقْبَلُ في حَدٍّ. وهذا قولُ الشَّعْبِىِّ، والنَّخَعِىِّ، وأبى حنيفةَ. وقال مالكُ، والشافعىُّ في قولٍ، وأبو ثَوْرٍ: تُقْبَلُ في الحُدودِ، وفى كُلِّ حقٍّ؛ لأنَّ ذلك يثْبُتُ بشَهادةِ الأصْلِ، فيَثْبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، كالمالِ. ولَنا، أنَّ الحُدودَ مَبْنِيَّةٌ على السَّتْرِ والدَّرْءِ بالشّبُهاتِ، والإِسْقاطِ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ، والشَّهادةُ على الشهادةِ فيها شُبْهَةٌ؛ فإنَّها يَتَطَرَّقُ إليها احْتِمالُ الغَلَطِ والسَّهْوِ والكَذِبِ في شُهودِ الفَرْعِ، مع احْتِمالِ ذلك في شُهودِ الأصْلِ، وهذا احْتِمال زائدٌ، لا يُوجَدُ في شُهودِ الأصْلِ، وهو مُعْتَبَرٌ، بدَلِيلِ أنَّها لا تُقْبَلُ مع القُدْرَةِ على شُهُودِ الأصْلِ، فوَجَب أن لا تُقْبَلَ فيما يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَها إنَّما تُقْبَلُ للحاجَةِ، ولا حاجَةَ إليها في الحَدِّ؛ لأنَّ سَتْرَ صاحبه أوْلَى مِن الشَّهادةِ عليه، ولأنَّه لا نَصَّ فيها، ولا يَصِحُّ قِياسُها [على الأَموالِ؛ لِما بينَهما مِن الفَرْقِ في الحاجَةِ والتَّساهُلِ فيها، ولا يَصِحُّ قِياسُها](1) على شَهادةِ الأصْلِ؛ لِما ذكَرْنا، فيَبْطُلُ إثْباتُها. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّها لا تُقْبَلُ في القِصاصِ أيضًا، ولا حَدِّ القَذْفِ؛ لأنَّه قال: إنَّما تجوزُ في الحُقوقِ، أمّا الدماءُ والحَدُّ فلا.
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا قولُ أبى حنيفةَ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ: تُقْبَلُ. وهو ظاهِرُ كلامِ الخِرَقِىِّ؛ لقولِه: في كُلِّ شئٍ إلَّا في الحُدودِ؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِى، لا يَسْقُطُ بالرُّجوعِ عن الإِقْرارِ به، ولا يُسْتَحَبُّ سَتْرُه، فأشْبَهَ الأمْوالَ. وذكرَ أصْحابُنا هذا رِوايةً [عن أحمدَ؛ لأنَّ ابنَ منصورٍ نَقَلَ أنَّ سُفْيانَ قال: شهادةُ رجلٍ مكانَ رجلٍ في الطَّلاقِ جائِزةٌ. قال أحمدُ: ما أحْسَنَ ما قال. فجَعَلَه أصْحابُنا رِوايَةً في القِصاصِ] (1). وليس هذا بِرِوايَةٍ؛ فإنَّ الطَّلاقَ لا يُشْبِهُ القِصاصَ. والمذهبُ أنَّها لا تُقْبَلُ فيه؛ لأنَّه عُقُوبَة بَدَنِيَّة (2)، تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، وتُبْنَى على الإسْقاطِ، فأشْبَهَتِ الحُدودَ، فأمَّا ما عَدا الحُدودَ والقِصاصَ والأموالَ، كالنِّكاحِ والطَّلاقِ وسائرِ ما لا يَثْبُتُ إلَّا بشاهِدَيْن، فنَصَّ أحمدُ على قَبُولِها في الطَّلاقِ والحُقوقِ، فدَلَّ على قَبُولِها في جميعِ هذه الحُقوقِ. وهو قولُ الخِرَقِىِّ. وقال ابنُ حامدٍ: لا تُقْبَلُ في النِّكاحِ. ونحوُه قولُ أبى بَكرٍ. فعلَى قولِهما، لا تُقْبَلُ إلَّا في المالِ، وما يُقْصَدُ به المالُ. وهو قولُ أبى عُبَيْدٍ؛ لأنَّه حَقٌّ لا يثْبُتُ إلَّا بشَاهِدَيْن، فأشْبَهَ حَدَّ القَذْفِ. ووَجْهُ الأوّلِ، أنَّه حَقٌّ لا يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فيَثْبُتُ بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ، كالمالِ، وبهذا فارَقَ الحُدودَ.
(1) في ق، م:«في الطلاق» .
(2)
في م: «فيه» .
وَلَا تُقْبَلُ إلَّا أنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ شُهُودِ الْأصْلِ؛ بمَوْتٍ، أوْ مَرَضٍ، أوْ غَيْبَةٍ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ إلًّا بَعْدَ مَوْتِهِمْ.
ــ
الفصلُ الثالثُ: في شُرُوطِها، وهى ثَلاثةٌ؛ أحدُها، أن تتَعَذَّرَ [الشَهادَةُ مِن شُهودِ الأصْل.
5069 -
مسألة: (ولا تُقْبَلُ إلَّا أن تَتَعَذَّرَ (1) شَهادةُ شُهُودِ الأصْلِ؛ بمَوْتٍ، أو مَرَض، أو غَيْبَةٍ إلى مَسافَةِ القَصْرِ) وعنه، لا تُقْبَلُ إلَّا أن يَمُوتَ شاهِدُ الأصْلِ. هذا أحدُ الشروطِ، وهِو تَعَذُّرُ شَهادةِ الأصْلِ؛ لموْتٍ، أو غَيْبَةٍ، أو مَرَضٍ، أو حَبْسٍ، أو خوْفٍ مِن سُلْطانٍ
(1) سقط من: ق، م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أو غيره. وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشَّافعىُّ. وحُكِىَ عن أبى يوسف، ومحمدٍ، جَوازُها مع القُدْرَةِ على شَهادةِ الأصْلِ، قِياسًا على الرِّوايةِ وأخْبارِ الدِّياناتِ. ورُوِىَ عن الشَّعْبِىِّ، أنَّها لا تُقْبَلُ إلَّا أن يَمُوتَ شاهِدُ الأصْلِ؛ لأنَّهما إذا كانا حَيَّيْنِ، رُجِىَ حُضورُهما، فكانا كالحاضِرَيْن. وعن أحمد مثلُ هذا، إلَّا أنَّ القاضىَ تَأوَّلَه على الموتِ، وما في معناه مِن الغَيْبَةِ البَعيدَةِ ونحوِها. ويُمْكِن تأويلُ قولِ الشَّعْبِىِّ على هذا، فَيَزُولُ هذا الخِلافُ. ولَنا على اشْتِراطِ تعَذرِ شهادَةِ (1) شاهِدِ الأصْلِ، أنَّه إذا أمْكَنَ الحاكمَ أن يَسْمَعَ شَهادةَ شاهِدَىِ الأصْلِ، اسْتَغْنَى عن البَحْثِ عن عَدالَةِ شاهِدَىِ الفَرْعِ، وكان أحْوطَ للشهادةِ، فإنَّ سَماعَه منهما مَعْلُوم، وصِدْقَ شاهِدَىِ الفَرْعِ عليهما مَظْنون، والعملُ باليَقِينِ (2) مع إمْكانِه أوْلَى مِن اتِّباعِ الظَّنِّ، ولأنَّ شَهادَةَ الأصْلِ تُثْبِتُ نَفْسَ الحقِّ، وهذه إنَّما تُثْبِتُ الشَّهادةَ عليه، ولأنَّ في شَهادةِ الفَرْعِ ضَعْفًا؛ لأنَّه يَتَطَرَّقُ إليها احْتِمالان؛ احْتِمالُ غَلَطِ شاهِدَىِ [الأصْلِ، واحْتِمالُ غَلَطِ شاهِدَىِ](3) الفَرْعِ، فيكونُ ذلك وَهْنًا فيها، ولذلك لم تَنْتَهِضْ لإثْباتِ الحُدودِ والقِصاصِ، فيَنبغِى أن لا تَثْبُتَ إلَّا عندَ عَدَمِ شَهادةِ الأصْلِ،
(1) سقط من: ق، م.
(2)
في ق، م:«باليمين» .
(3)
سقط من النسخ، والمثبت من المغنى 14/ 201.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كسائرِ الأبدالِ، ولا يَصِحُّ قِياسُها على أخْبارِ الدِّياناتِ؛ لأنَّه خُفِّفَ فيها، ولذلك (1) لا يُعْتَبَرُ فيها العدَدُ، ولا الذكورِيَّةُ، ولا الحُريَّةُ، ولا اللَّفْظُ، والحاجَةُ داعِيَةٌ إليها في حَقِّ عُمومِ الناسِ، بخِلافِ مَسْألَتِنا. ولَنا على قَبُولِها عندَ تَعذُّرِها بغيرِ الموْتِ، أنَّه قد تَعذَّرَتْ شَهادةُ الأصْلِ، فتُقْبَلُ شَهادةُ الفَرْعِ، كما لو ماتَ شاهِدا (2) الأصْلِ، ويُخالِفُ الحاضِرَيْن؛ فإنَّ سَماعَ شَهادَتِهما مُمْكِن، فلم يَجُزْ غيرُ ذلك. إذا ثَبَت هذا، فذكرَ القاضى أن الغَيْبَةَ المُشْترَطةَ لسَماعِ شَهادَةِ (3) الفَرْعِ، أن يكونَ شاهدُ الأصْل بمَوْضِعٍ لا يُمْكِنُه أن يَشْهَدَ ثم يَرْجِعَ مِن يَوْمِه. وهذا قالَه أبو يوسف، وأبو حامِدٍ مِن أصْحابِ الشافعىِّ؛ لأنَّ الشَّاهِدَ تَشُقُّ عليه المُطالَبَةُ بمِثْلِ هذا السَّفَرِ، وقد قال الله تعالى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (4). وإذا لم يُكَلَّفِ الحُضورَ، تَعذّرَ سَماعُ شَهادتِه، فاحْتِيجَ إلى سَماعِ شَهادَةِ الفَرْعِ. وقال أبو الخَطَّابِ: تُعْتَبَرُ مَسافةُ القَصْرِ. وهو قولُ أبى حنيفةَ، وأبى الطّيِّبِ الطَّبرِىِّ، مع اخْتِلافِهم في
(1) في ق، م:«وكذلك» .
(2)
في ق، م:«شاهد» .
(3)
في م: «شهاد» .
(4)
سورة البقرة 282.