الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ:
وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا دُونَ النِّصْفِ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ.
ــ
ويُفارِقُ الاسْتِثْناءَ، فإنَّ الاسْتِثْناءَ مع المُسْتَثْنَى منه عِبارَةٌ عن الباقِى مِن المُسْتَثْنَى منه، فقولُ اللَّهِ تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (1). عبارةٌ عن تِسْعِمائةٍ وخمْسِينَ عامًا. أمّا القَضاءُ فإنَّما يَرْفَعُ جُزْءًا كان ثابِتًا، فإذا ارْتَفَعَ بالقَضاءِ لا يجوزُ التَّعْبِيرُ عنه بما يَدُلُّ على البَقَاءِ (2).
فصل: قال الشَّيْخُ، رحمه الله:(ويَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما دُونَ النِّصْفِ، ولا يَصِحُّ فيما زادَ عليه. وفى النِّصْفِ وجهان) الاسْتِثْناءُ مِن الجِنْسِ -وهو ما دَخَل في المُسْتَثْنَى منه- جائزٌ بغيرِ خِلافٍ عَلِمْناه، فإنَّ ذلك كلامُ العَرَبِ وقد جاء في الكِتَابِ. والسُّنَّةِ، قال اللَّهُ تعالى:
(1) سورة العنكبوت 14.
(2)
في ق، م:«القضاء» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} . وقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم[في الشَّهِيدِ](1): «يُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كُلُّهَا إلَّا الدَّيْنَ» (2). وذلك في كلامِ العَرَبِ كثيرٌ. فإذا أقَرَّ بشئٍ واسْتَثْنَى منه، كان مُقِرًّا بالباقِى بعدَ الاسْتِثْناءِ، فإذا قال: له عَلَىَّ مائةٌ إلَّا عَشَرَةً. كان مُقِرًّا بِتِسْعِينَ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ يَمْنَعُ أن يَدْخُلَ في اللَّفْظِ ما لَوْلَاهُ لدَخَلَ، فإنَّه لو دَخَل ما أمْكَنَ إخْراجُه، ولو أقَرَّ بالعَشَرَةِ المُسْتَثناةِ لَما قُبِلَ منه إنْكارُها، وقَوْلُ اللَّهِ تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} . إخبارٌ بتِسْعِمائةٍ وخَمْسِينَ،
(1) سقط من: م.
(2)
أخرجه مسلم، في: باب من قتل في سبيل اللَّهُ كفرت خطاياه إلا الدين، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1501، 1502. والترمذى، في: باب ما جاء في ثواب الشهداء، وباب ما جاء في من يستشهد وعليه دين، من أبواب الجهاد. عارضة الأحوذى 7/ 138، 204. والنسائى، في: باب من قاتل في سبيل اللَّه تعالى وعليه دين، من كتاب الجهاد. المجتبى 6/ 28 - 30. والإمام مالك، في: باب الشهداء في سبيل اللَّه، من كتاب الجهاد. الموطأ 2/ 461. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 308، 330، 3/ 352، 373، 5/ 297، 304، 308، 330.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فالاسْتِثْناءُ بَيَّنَ أنَّ الخَمْسِينَ المُسْتَثْناةَ غيرُ مُرَادَةٍ، كما أنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أنَّ المَخْصُوصَ غيرُ مُرَادٍ باللَّفْظِ العامِّ. إذا ثَبَتَ ذلك، فلا نَعْلَمُ خِلافًا في جَوازِ اسْتِثْناءِ ما دُونَ النِّصْفِ (1)، وقد دَلَّ عليه ما ذَكَرْنا مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ.
فصل: فأمّا اسْتِثْناءُ ما زادَ على النِّصْفِ، فلا يَخْتَلِفُ المَذْهَبُ أنَّه لا يَصِحُّ، وهو كاسْتِثْناءِ الكُلِّ، يُؤْخَذُ بالجميعِ. ويُحْكَى ذلك عن ابنِ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِىِّ (2). وقال أبو حنيفةَ، ومالِكٌ، [والشّافعىُّ](3)، وأصحابُهم: يَصِحُّ اسْتِثْناءُ ما دونَ الكُلِّ، فلو قال: له عَلَىَّ مائةٌ إلَّا تِسْعةً وتِسْعِينَ. لم يَلْزَمْه إلَّا واحدٌ، بدَلِيلِ قولِ اللَّهِ تعالى:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (4). وقولِه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (5).
(1) بعده في الأصل: «فلا يختلف» .
(2)
عبد اللَّه بن جعفر: درستويه بن المَرْزُبان أبو محمد الفارسى، الإِمام العلامة شيخ النحو، أخذ عن ثعلب والمبرد، وله تصانيف كثيرة، كان ثقة، حدث عنه الدارقطنى، وابن شاهين، مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتوفى في صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/ 351، 352.
وقد ضبطه السمعانى بضم الدال والراء وسكون السين وضم التاء، وسكون الواو وفتح الياء (دُرُسْتُويَه). الأنساب 5/ 299، 300.
(3)
سقط من: ق، م.
(4)
سورة ص 82، 83.
(5)
سورة الحجر 42.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[فاسْتَثْنى في مَوْضِعٍ الغاوينَ مِن العبادِ، وفى مَوْضِعٍ العبادَ مِن الغاوينَ](1)، وأيُّهما كان الأكْثَرَ فقد دَلَّ على اسْتِثْناءِ الأكْثَرِ، وأنْشَدُوا (2):
أدُّوا التى نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مائةٍ
…
ثم ابْعَثُوا حَكَمًا بالحَقِّ قَوَّامَا
فاسْتَثْنَى تِسْعِينَ مِن مائةٍ؛ لأنَّه (3) في مَعْنَى الاسْتِثْناءِ، ومُشَبَّهٌ به، ولأنَّه اسْتَثْنَى البعضَ، فجازَ، كاسْتِثْناءِ الأقَلِّ، ولأنه رَفَع بعضَ ما تَناوَلَهُ اللَّفْظُ، فجاز، كالتَّخْصِيص والبَدَلِ. ولَنا، أنَّه لم يَرِدْ في لِسانِ العَرَبِ الاسْتِثْناءُ إلَّا في الأقَلِّ، وقد أَنْكَرُوا اسْتِثْناءَ الأَكْثَرِ، فقال أبو إسحاقَ الزَّجّاجُ: لم يَأْتِ الاسْتِثْناءُ إلَّا في القَلِيلِ مِن الكَثِيرِ، ولو قال قائِلٌ: مائةٌ إلَّا تِسْعةً وتِسْعِينَ. لم يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بالعَرَبِيَّةِ، وكان عِيًّا مِن الكَلامِ ولُكْنةً.
(1) سقط من: ق، م.
(2)
سيأتى قول ابن فضال: هو بيت مصنوع.
(3)
في م: «ولأنه» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال القُتَيْبِىُّ: يُقالُ: صُمْتُ الشَّهْرَ إلَّا يَوْمًا. ولا يُقالُ: صُمْتُ الشَّهْرَ إلا تِسْعةً وعِشْرِينَ يومًا. ويُقالُ: لَقِيتُ القَوْمَ جَمِيعَهُم إلَّا واحِدًا أو اثْنَيْنِ. ولا يجوزُ أن يُقالَ: لَقِيتُ القَوْمَ إلَّا أكْثَرَهُم. وإن لم يَكُنْ صَحِيحًا في الكَلامِ، لم يَرْتَفِعْ به ما أقَرَّ به، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ، وكما لو قال: له عَلَىَّ عَشَرَةٌ، بل خَمْسةٌ. وأمّا ما احْتَجُّوا به مِن التَّنْزِيلِ، فإنّه في الآيةِ الأُولَى اسْتَثْنَى المُخْلَصِينَ مِن بَنِى آدَمَ، وهم الأقَلُّ، كما قال:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (1). وفى الآيةِ الأُخْرَى اسْتَثْنَى الغاوِينَ مِن العِبَادِ وهم الأَقَلُّ، فإنَّ المَلائكَةَ مِن العِبادِ، وهم غيرُ غاوِينَ، قال اللَّهُ تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2). وقيل: الاسْتِثْناءُ في هذه الآيةِ مُنْقَطِعٌ بمعنى الاسْتِدْراكِ، فيكونُ قولُه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . مُبْقًى (3) على عُمُومِه لم يُسْتَثْنَ منه شَئٌ، فيكونُ قَوْلُه:{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . أى لكنْ مَن اتَّبَعَكَ مِن الغَاوِينَ فإنَّهم غَوَوْا باتِّباعِكَ. وقد دَلَّ على صِحَّةِ هذا قولُه في الآيةِ الأُخْرى لأَتْباعِه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (4). وعلى هذا، لا يكونُ لهم فيها حُجَّةٌ. وأمّا البَيْتُ،
(1) سورة ص 24.
(2)
سورة الأنبياء 26.
(3)
في م: «يبقى» .
(4)
سورة إبراهيم 22.
وَفِى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ وَجْهَانِ.
ــ
فقال ابنُ فَضَّالٍ النَّحْوِىُّ (1): هو بَيْتٌ مَصْنُوعٌ لم يَثْبُتْ عن العَرَبِ. على أنَّ هذا ليس باسْتِثْناءٍ، فإنَّ الاسْتِثْناءَ له كَلِماتٌ مَخْصُوصةٌ ليس هذا منها، والقِياسُ لا يَجوزُ في اللُّغةِ. ثم نُعارِضُه بأنَّه اسْتَثْنَى أكْثَرَ مِن النِّصْفِ، فلم يَجُزْ، كاسْتِثْناءِ الكُلِّ. والفَرْقُ بينَ اسْتِثْناءِ الأكْثَرِ (2) والأقَلِّ، أنَّ العَرَبَ اسْتَحْسَنَتْه في الأقَلِّ واسْتَعْمَلَتْه، ونَفَتْه في الأَكْثَرِ وقَبَّحَتْه، فلم يَجُزْ قِياسُ ما قَبَّحُوه على ما حَسَّنُوه.
فصل: (وفى اسْتِثْناءِ النِّصْفِ وَجْهانِ) أحَدُهما، يجُوزُ. وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِىِّ؛ لأنَّه ليس بالأكْثَرِ (3)، فجازَ، كالأقَلِّ (4). والثانِى، لا يجوزُ. ذكَره أبو بكرٍ؛ لأنَّه لم يَرِدْ في كَلامِهم إلَّا في القَلِيلِ مِن الكَثِيرِ، والنِّصْفُ ليس بقَلِيلٍ. وهو أَوْلَى، [إن شاء اللَّهُ](5).
(1) على بن فضال بن على بن غالب أبو الحسن، المجاشعى، القيروانى، التميمى، الفرزدقى، المفسر، إمام النحو، طوف الدنيا، وصنف «الإكسير في التفسير» و «البرهان» ، وله مؤلفات غير ذلك، وله نظم جيد، توفى في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/ 528، 529.
(2)
في الأصل: «الأكبر» .
(3)
في الأصل: «بأكثر» .
(4)
في الأصل: «كالأول» .
(5)
سقط من: ق، م.