المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْقَبُول فَاشْتَرَطَ لِوُقُوعِ الطَّلَاق عَلَى الْمُعْتَمَد الْقَبُولَ دُون حُصُولِ الْأَلْفِ - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٤

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْوَصِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْوَدِيعَةِ]

- ‌[بَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ]

- ‌[بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ]

- ‌[بَابُ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[كِتَابُ النِّكَاحِ]

- ‌[بَابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ]

- ‌[بَابُ خِيَارِ النِّكَاحِ]

- ‌[بَابٌ فِي الصَّدَاقِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيمَةِ]

- ‌[بَابُ الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ]

- ‌[بَابُ الْخُلْعِ]

- ‌[بَابُ الطَّلَاقِ]

- ‌[بَابُ الرَّجْعَةِ]

- ‌[بَابُ الظِّهَارِ]

- ‌[بَابُ الْعِدَدِ]

- ‌[بَابُ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ]

- ‌[بَابُ النَّفَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْحَضَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِرَاحِ]

- ‌[بَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُغَاةِ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ وَالْمُخَدَّرَات]

- ‌[بَابُ التَّعَازِيرِ وَضَمَانِ الْوُلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرِّدَّةِ]

- ‌[بَابُ الصِّيَالِ]

- ‌[بَابُ الزِّنَا]

- ‌[بَابُ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ السِّيَرِ]

- ‌[بَابُ الْهُدْنَةِ]

- ‌[بَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ]

- ‌[بَابُ الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[بَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ]

- ‌[بَابُ الْأَيْمَانِ]

- ‌[بَابُ النَّذْرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ إلْحَاقِ الْقَائِف]

- ‌[بَابُ الْقِسْمَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّهَادَاتِ]

- ‌[بَاب الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ]

- ‌[بَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[بَابُ التَّدْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْكِتَابَةِ]

- ‌[بَابُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ]

الفصل: الْقَبُول فَاشْتَرَطَ لِوُقُوعِ الطَّلَاق عَلَى الْمُعْتَمَد الْقَبُولَ دُون حُصُولِ الْأَلْفِ

الْقَبُول فَاشْتَرَطَ لِوُقُوعِ الطَّلَاق عَلَى الْمُعْتَمَد الْقَبُولَ دُون حُصُولِ الْأَلْفِ وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ فَلَا بَيْنُونَةَ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

[بَابُ الطَّلَاقِ]

(وَسُئِلَ) مَا قَوْلُكُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْكُمْ - وَنَفَعَ بِعُلُومِكُمْ فِي جَوَابِكُمْ السَّابِقِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لَا بُدَّ فِي الشَّهَادَةِ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ التَّفْصِيلِ إلَى آخِرِ جَوَابِكُمْ فَمَا حَدُّ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّا رَأَيْنَا لِلْأَئِمَّةِ كَلَامًا لَمْ نَفْهَمْ الرَّاجِحَ مِنْهُ فَاكْتُبُوا لَنَا مَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَكُمْ مِنْ الْإِكْرَاهِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ حَدَّ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُهَدِّدَ قَادِرٌ عَلَيْهِ بِعِقَابٍ عَاجِلٍ لِأَجَلِهِ يُؤْثِرُ الْعَاقِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُحَقِّقُ مَا هَدَّدَ بِهِ إنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَعْجِزَ عَنْ الدَّفْعِ بِنَحْوِ هَرَبٍ أَوْ مُقَاوَمَةٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ تَنْجِيزُ الْعَاجِلِ بَلْ يَكْفِي التَّوَعُّدُ لَفْظًا وَخَرَجَ بِهِ الْآجِل نَحْوَ لَأَضْرِبَنَّك غَدًا فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِكْرَاهُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ إكْرَاهًا فِي شَخْصٍ أَوْ فِعْلٍ دُون آخَر وَمِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ دُون الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ التَّخْوِيفُ بِنَحْوِ حَبْسٍ طَوِيلٍ أَوْ صَفْعٍ عِنْد النَّاسِ أَوْ تَسْوِيدِ وَجْهٍ أَوْ طَوَافٍ فِي سُوقٍ لِذِي مُرُوءَةٍ أَوْ إتْلَافِ وَلَدٍ أَوْ وَالِدٍ أَوْ مَالٍ يَضِيقُ عَلَى الْمُكْرَهِ.

وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ لَكِنْ قَالَ فِي بَعْضِ تَفْصِيلِهِ نَظَرٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَمِنْ ثَمَّ صَوَّبَ الزَّرْكَشِيُّ مَا حَكَى عَنْ النَّصِّ وَصَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ وَقَالَ فِي الشَّرْحَيْنِ أَنَّهُ الْأَرْجَحُ عِنْد الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِمَحْذُورٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ إتْلَافِهِ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ اسْتِخْفَافٍ وَتَخْتَلِفُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِهِ مَا قَبْلَهَا نَعَمْ الْأَوْجَهُ مَا اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ وَجَزَمَ بِهِ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ أَيْضًا وَلَا يَحْصُلُ الْإِكْرَاهُ بِنَحْوِ طَلِّقْ زَوْجَتَك مَثَلًا وَإِلَّا قَتَلْت نَفْسِي أَوْ قَتَلْتُك قِصَاصًا وَلَوْ قَالَ لَهُ اللُّصُوصُ لَا نُخَلِّيك حَتَّى تَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّك لَا تُخْبِرُ بِنَا فَحَلَفَ لَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِمْ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِخِلَافِ مَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى زَيْدٍ أَوْ مَالِهِ وَقَدْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ مَحِلِّهِ فَلَمْ يُخَلِّهِ حَتَّى يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ فَحَلَفَ بِهِ كَاذِبًا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الطَّلَاقِ بَلْ خُيِّرَ بَيْنه وَبَيْن الدَّلَالَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا فَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ كَحَبْسٍ أَوْ تَرْسِيمٍ أَوْ كَوْنِهِ فِي دَارِ ظَالِمٍ صَدَقَ بِيَمِينِهِ وَبَطَلَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْوَاقِعَةُ مَعَ قِيَامِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ عَمَلًا بِهَا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ هُنَاكَ قَرِينَةً لَمْ يُصَدَّقْ نَعَمْ لَهُ طَلَبُ يَمِينِ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مُكْرَهًا بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ كَذَلِكَ فَذَاكَ وَإِلَّا حَلَفَ هُوَ وَبَطَلَ تَصَرُّفُهُ أَيْضًا وَالْمَسْأَلَةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي السُّؤَالِ سَتَأْتِي أَوَائِلَ الدَّعَاوَى، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إلَّا خَرَجْت مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ أَنَّهُ غَابَ عَنْهَا مُدَّةً وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ وَالْحَالُ أَنَّهَا خَرَجَتْ قَبْل بُلُوغِ الْإِذْنِ لَهَا فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاق لِصِدْقِ خُرُوجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ لَا لِخُرُوجِهَا بَعْد الْإِذْنِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ أَذِنَ لَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَإِنْ لَمْ تَعْلَم بِوُقُوعِ الْإِذْنِ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ إذْن وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا عَمَلُهَا بِالْإِذْنِ فَلَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَيْهِ لَا لَفْظًا وَلَا عُرْفًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُهُ نَعَمْ إنْ أَرَادَ التَّعْلِيقَ عَلَيْهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا طَرَحَ اللَّهُ لَك عَلَى تَمَامِ طَلَاقِي نَاوِيَةً الْإِبْرَاء فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ هَلْ تَطْلُقُ ثَلَاثًا أَمْ وَاحِدَةً أَمْ تُسْتَفْسَرُ عَنْ مُرَادِهَا بِقَوْلِهَا تَمَام فَإِنْ أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا تَمَام ثَلَاثًا أَوْ دُونه نَزَلَ كَلَامُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ أَطْلَقَتْ أَوْ قَالَتْ لَمْ أُرِدْ إلَّا أَصْلَ الطَّلَاقِ لَا عَدَدًا نَزَل عَلَى مَا نَوَاهُ أَوْ صَرَّحَ بِهِ وَهَلْ يُسْتَفْسَرُ الزَّوْجُ أَوْ يُنْزَلُ عَلَى جَوَابِهَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الِابْتِدَاءَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ إبْرَائِهَا فَإِنْ صَحَّ إبْرَاؤُهَا بِأَنْ وَجَدَتْ فِيهِ شُرُوطَ الْبَرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ وَقَعَ مَا نَوَاهُ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ

ص: 132

يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ وَلَا أَثَرَ لِنِيَّتِهَا الثَّلَاثَ حَتَّى تَطْلُقَ مِنْهُ حِينَئِذٍ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ نِيَّتُهَا لَهُنَّ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ الْبَرَاءَةِ إذَا لَمْ يُوجِدْهُنَّ لِأَنَّهَا إنَّمَا أَبْرَأَتْ بِشَرْطٍ وَهُوَ الثَّلَاثُ فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الشَّرْطُ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاء.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إذَا نَوَتْ الثَّلَاثَ فَإِنْ نَوَاهَا هُوَ أَيْضًا بَرِئَ وَوَقَعَتْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا بِأَنْ أَطْلَقَ أَوْ أَرَادَ وَاحِدَةً فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ إبْرَائِهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ إبْرَاءَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَد شَرْطه وَهُوَ الثَّلَاث وَكَذَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ ابْتِدَاءً وَلَا أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاء لِأَنَّ لَفْظَهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاء وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا نَوَى الِابْتِدَاء وَلَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَبْرَأُ.

فَعُلِمَ أَنَّ نِيَّتَهَا لِلثَّلَاثِ لَا تُوجِبُ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا إذَا لَمْ يَنْوِهِنَّ هُوَ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا وَهُوَ الْبَرَاءَةُ وَمَا يَتْبَعُهَا كَاشْتِرَاطِهَا كَوْنَهَا فِي مُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْبَرَاءَةِ إذَا لَمْ تُوجَدْ الثَّلَاثُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ هُوَ لَا إلَيْهَا فَإِنْ نَوَاهُنَّ وَقَعْنَ وَإِلَّا فَلَا وَلَيْسَتْ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ طَلَّقْت امْرَأَتَك حَتَّى يَأْتِيَ هُنَا التَّفْصِيلُ ثُمَّ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنهمَا لِأَنَّ السُّؤَالَ هُنَا مَعَادٌ فِي الْجَوَابِ فَنَظَرَ لِحَالِ السَّائِل وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتنَا فَلَيْسَ فِيهَا سُؤَالٌ وَإِنَّمَا الَّذِي فِيهَا مُعَاوَضَةٌ فَإِنْ صَحَّتْ تَرَتَّبَ حُكْمُهَا عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْظَرْ لِنِيَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا مَرَّ.

(وَسُئِلَ) مَا حُكْمُ طَلَاقِ الدَّوْر وَكَيْف صِيغَةُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْد مَنْ يُصَحِّحُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ طَلَاقَ الدَّوْرِ وَاقِعٌ وَلَا يَمْنَعُهُ الدَّوْرُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ بَالَغَ الْأَئِمَّةُ فِي رَدِّهِ وَتَزْيِيفِهِ بَلْ بَالَغَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الشَّنَاعَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ إنَّهُ يُشْبِهُ مَذْهَبَ النَّصَارَى فِي انْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ وَكَفَاك فِي الْمُبَالَغَةِ فِي بُطْلَانِهَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالزَّرْكَشِيُّ فَإِنَّهُمْ بَالَغُوا فِي ذَلِكَ وَفِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى كَيْفِيَّةِ مَنْعِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْد مَنْ يُصَحِّحُهُ لِأَنَّا نَرَى فَسَادَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَعَدَمَ جَوَازِ تَقْلِيدِهَا فَكَيْف نُفَرِّعُ عَلَيْهَا.

(وَسُئِلَ) فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالٍ بِالتَّرْخِيمِ مَا الرَّاجِحُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ الطَّلَاقُ أَوْ عَدَمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ فِيهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَمِنْ ثَمَّ جَزَمْت بِهِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ لَكِنِّي قُلْت فِيهِ أَيْ مِمَّنْ عَرَفَهُ أَيْ التَّرْخِيمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. اهـ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ شَرْطَ تَأْثِيرِ الصَّرِيح أَنْ يَصْدُرَ مِمَّنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ فَطَالٍ بِالتَّرْخِيمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ مِمَّنْ عَرَفَ أَنَّ أَصْلَهُ طَالِقٌ وَإِنَّمَا حُذِفَ آخِرُهُ تَرْخِيمًا تَخْفِيفًا فِي اللَّفْظِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ طَلِّقْنِي فَقَالَ أَبْرِئِينِي فَأَبْرَأَتْهُ فَقَالَ لَهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ وَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا وَاسْمِ وَالِدِهَا تَحْرُم عَلَيَّ تَحِلُّ لِغَيْرِي فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةُ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثُ طَلْقَاتٍ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هَذَا كِنَايَةٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ أَطْلَقَ وَقَعَتْ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) فِي رَجُلٍ تَشَاجَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَسَأَلَهَا الْبَرَاءَةَ مِنْ صَدَاقِهَا لِيُطَلِّقَهَا فَتُبْرِئُهُ فَيَقُولُ مَثَلًا أَبْرِئِينِي فَأُطَلِّقُك فَتَقُولُ أَبْرَأْتُك أَوْ أَبْرَأَكِ اللَّهُ مُنَجَّزَةً مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ بِلَفْظِ التَّنْجِيزِ وَإِذَا سُئِلَ هَلْ طَلَّقْت أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا ظَانًّا أَنَّهَا طَلُقَتْ وَأَنَّ ذِمَّتَهُ خَلَصَتْ مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَالَتْ لَا أَعْرِفُ صَدَاقِي قَالَ فَإِنَّ لَمْ أُطَلِّقْ إلَّا طَمَعًا فِي الْبَرَاءَةِ وَإِذَا أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَتْ لَمْ أَعْلَمْ قَدْرَ صَدَاقِي حِينَئِذٍ تُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَى الزَّوْجِ فَقَالَ الزَّوْجُ إذَا لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لِأَنِّي مَا طَلَّقْتهَا إلَّا طَمَعًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِي فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَلِأَنَّ الْإِمَامَ وَلِيَّ الدِّينِ الْعِرَاقِيّ ذَكَرَ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ نَجَّزَ تَصَرُّفًا ثُمَّ قَالَ أَرَدْت تَعْلِيقَهُ لَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَنَقَلَ الشَّيْخَانِ عَنْ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ ثَلَاثًا أَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فَمَا الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هَذِهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَمْ لَا؟

فَقَدْ أَجَابَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا مَا هَذَا نَصُّهُ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ نَاصِرٍ فَقَالَ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى جَمَاعَةٌ فِيهَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ نَجَّزَ الطَّلَاقَ وَأَطْلَقَهُ وَلَمْ

ص: 133

يُقَيِّدْهُ بِصِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَإِقْرَارُهُ بَعْد ذَلِكَ مُؤَكِّدٌ لَهُ وَأَفْتَى جَمَاعَةٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاق لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَ طَمَعًا فِي الْبَرَاءَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ لَمْ يَقَعْ وَإِقْرَارُهُ بَعْد ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ قَالَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الصَّحِيحُ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِثْلَ مَا نُقِلَ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَقْبَلْ لِكَوْنِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ يُوَافِقُ الظَّاهِرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

جَوَابُهُ بِحُرُوفِهِ فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السُّؤَال فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا فِي فَتَاوَى الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي فَقَالَ إنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ صَدَاقِك وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ الْخَمْسمِائَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ أَطَلَّقَ أَمْ لَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت التَّعْلِيقَ.

وَمَنْ نَجَّزَ تَصَرُّفًا ثُمَّ قَالَ أَرَدْت التَّعْلِيقَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا هَذَا فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِبْرَاء لَا يَقْبَلُهُ إذْ لَا يَصِحُّ إلَّا مُنَجَّزًا فَهَلْ هَذَا يُخَالِفُ مَا فِي فَتَاوَى الْأَصْبَحِيّ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ عُجَيْلٍ وَالْفَقِيهِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُعْطِيك كَذَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ الْوَفَاءِ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ أَمْ لَا يُخَالِفُهُ فَمَنْ أَجَابَ عَلَى هَذِهِ السَّيِّدُ الْجَلِيل الشَّرِيفُ السَّمْهُودِيُّ فَقَالَ إنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْ ابْنِ عُجَيْلٍ وَالْحَضْرَمِيِّ مَنْظُورٌ فِيهِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِدْعَاءِ الْبَرَاءَةِ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ فَيُلْحَقُ بِالْهِبَةِ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهَا فِي جَوَابِهِ أَبْرَأْتُك أَيْ بِاَلَّذِي ذَكَرْت إعْطَاءَهُ لَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مَجَّانًا وَفَّى بِمَا وَعَدَ أَمْ لَمْ يَفِ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ فَتَصِحُّ الْبَرَاءَةُ وَيَلْزَمُهُ مَا سَمَّى وَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِ مَا سَمَّاهُ عِوَضًا مِنْ الْمُبَرَّإِ مِنْهُ فَيُتَّجَهُ حِينَئِذٍ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَمَسْأَلَةُ الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ لَيْسَتْ نَظِيرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ أَبْرِئِينِي مِنْ صَدَاقِك وَأَنَا أُطَلِّقُك فِي نَظِيرِ الْبَرَاءَةِ فَتَقُولُ أَبْرَأْتُك قَاصِدَةً جَعْلَ الْبَرَاءَةِ عِوَضًا غَيْرَ أَنَّهَا حَذَفَتْ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ أَنْتِ طَالِقٌ قَاصِدًا ذَلِكَ وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالرِّسَالَةِ الْمَوْسُومَةِ بِالْمُحَرَّرِ مِنْ الْآرَاءِ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ بِالْإِبْرَاءِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ الْإِبْرَاء وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بَائِنًا عِنْد الْعِلْمِ بِالْمُبَرَّإِ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا طَلَاقَ وَلَا بَرَاءَةَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ هُنَا ثُمَّ تَعَقَّبَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا هُنَا وَقَدْ سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَبْرِئِينِي وَأُطَلِّقُك فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك فَقَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَبَانَ أَنَّ الْقَيْدَ الَّذِي أَبْرَأَتْ مِنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَوْضُوعِهِ أَنَّ الزَّوْجَ وَعَدَهَا بِالطَّلَاقِ عِنْد حُصُولِ الْبَرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَ بِهَا الطَّلَاقَ وَأَنَّ الزَّوْجَ ظَنَّ صِحَّتَهَا فَتَبَرَّعَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الْبَرَاءَةِ لِسَبْقِهَا عَلَى طَلَاقِهِ مُنَجَّزَةً بِحَيْثُ لَوْ صَحَّتْ وَامْتَنَعَ مِنْ الطَّلَاقِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ مَعَ حُصُولِهَا لَهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ لِعَدَمِ عِلْمِ الزَّوْجَةِ بِمَا أَبْرَأَتْ مِنْهُ هَذَا مَا يَقْتَضِيه وَضْعُ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ هَذَا آخِر كَلَامِهِ بِحُرُوفِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ سِرَاج الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ بِنَحْوِ هَذَا فِيمَنْ سَأَلَ امْرَأَتَهُ الْإِبْرَاء مِنْ صَدَاقِهَا لِيُطَلِّقَهَا فَتُبْرِئُهُ فَيَقُولُ لَهَا طَلَاقُك بِبَرَاءَتِك وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِصِحَّةِ بَرَاءَتك وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحِجَازِ يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَوْ لَا يَقَعُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ أَوْقَعْنَا بِهِ الطَّلَاقَ وَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَاسِدًا فَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَتَاوِيهِ لَوْ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا إنْ أَبْرَأْتَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ عَنْ الصَّدَاقِ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَإِلَّا فَلَا فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ؟

أَجَابَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ فَقَالَ إنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ طَلَاقُكِ بِبَرَاءَتِك أَوْ بِصِحَّةِ بَرَاءَتِكِ إنْ قَصَدَ بِهِ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَرَى مِنْ إبْرَاءِ الْمَرْأَةِ فَيُنْظَرُ إنْ صَحَّ الْإِبْرَاء لِوُجُودِ أَهْلِيَّةِ الْمَرْأَةَ لِذَلِكَ وَعَمَلِهَا بِمَا أَبْرَأَتْ مِنْهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ الْإِبْرَاء قَدْ صَدَرَ مِنْ الْمَرْأَةِ صَحِيحًا وَلَمْ يُقَابِلْ الزَّوْجُ طَلَاقَهُ بِعِوَضٍ تَحْقِيقِيٍّ وَلَا تَقْدِيرِيٍّ وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى مُجَرَّدِ صِفَةٍ فَأَشْبَهُ مَا لَوْ صَدَرَ مِنْهَا عَقْدُ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ.

فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ إنْ صَحَّ الْعَقْدُ الصَّادِرُ مِنْك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَا تَوَقُّفَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ رَجْعِيًّا عِنْد وُجُودِ الصِّحَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحّ

ص: 134

الْإِبْرَاء مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ وُجُودِ الصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ طَلَاقُك بِبَرَاءَتِك أَوْ بِصِحَّةِ بَرَاءَتِك تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى صِحَّةِ الْإِبْرَاء وَإِنَّمَا قَصَدَ تَنْجِيزَ طَلَاقِهَا مُقَابِلَ مَا صَدَرَ مِنْهَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا سَوَاءٌ صَحَّ الْإِبْرَاء أَمْ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنَّمَا صَدَرَ تَنْجِيزُهُ فَيَنْفُذُ وَيَلْغُو قَوْل الزَّوْجِ بِبَرَاءَتِك أَوْ بِصِحَّةِ بَرَاءَتِك وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقْصِدْ تَعْلِيقًا وَلَا تَنْجِيزًا فَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيقِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَتَاوَى الْمُخْتَلِفَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَائِنًا فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ بَعْد صُدُورِ الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَرْأَةِ صَحِيحًا إذْ لَا عِوَضَ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ.

وَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ رَجْعِيًّا فَهَذَا لَا يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِهِ بَلْ يُنْظَرُ فِي قَصْدِ التَّعْلِيقِ وَقَصْدِ التَّنْجِيزِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ وَيُعْمَلُ بِمَا قَرَّرْنَاهُ وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَغَيْرُ مُعْتَمَدٍ وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَرَّرْنَاهُ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّا إذَا أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ بِهَذَا الْإِبْرَاء فَكَانَ الْإِبْرَاء فَاسِدًا مَا حُكْمُهُ جَوَابُهُ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ كَمَا قَرَّرْنَا فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْد عَدَمِ صِحَّةِ الْإِبْرَاء لِعَدَمِ وُجُودِ الصِّفَةِ وَإِنْ قَصَدَ التَّنْجِيزَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا أَثَرَ لِفَسَادِ الْإِبْرَاءِ وَإِنْ أَطْلَقَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيقِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الصِّفَةِ وَلَوْ كَانَ مَا يَحْكِيهِ الْقَاضِي حُسَيْن فِي فَتَاوِيهِ مُعْتَمَدًا لَكَانَ يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ بَاعَ مَتَاعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ عَلَى الْمُشْتَرِي عِوَضًا تَحْقِيقًا وَلَمَّا اتَّفَقَتْ الطُّرُقُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ لِلتَّقْدِيرِ كَذَلِكَ يَكُونُ الطَّلَاقُ بَعُوضٍ تَقْدِيرِيّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنَّمَا قُلْت اتَّفَقَتْ الطُّرُقُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ وَالرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ.

فَرْعٌ بَاعَ الضَّامِنُ ثَوْبَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ هَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّافِعِيُّ وَلَا صَاحِبُ الرَّوْضَةِ عِلَّةَ هَذَا الْوَجْهِ الصَّائِرِ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَتَوْجِيهِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْعِ عِوَضٌ تَحْقِيقِيٌّ وَهَذَا التَّخَيُّلُ فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تَقَعُ بِعِوَضٍ تَحْقِيقِيٍّ وَبِعِوَضٍ تَقْدِيرِيٍّ وَكَأَنَّ الصَّدَاقَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ قَدْ تُعُوِّضَ عَنْ الطَّلَاقِ بِسُقُوطِهِ عَنْهُ وَهَذَا عِوَضٌ تَقْدِيرِيٌّ فَوَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَى الْمَذْهَبِ وَمَتَى لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاء لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ.

وَيُشْتَرَطُ هُنَا عِلْمُ الزَّوْجَيْنِ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي عُلِّقَ الطَّلَاقُ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنْهُ لِأَنَّ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ هَذَا جَوَابُ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ هَذِهِ الشَّاغِرَةِ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ أَبْرِئِينِي مِنْ صَدَاقِك أَوْ أَبْرِئِينِي وَفِي نِيَّتِهِ مِنْ الصَّدَاقِ الْمَذْكُورِ فَقَالَتْ أَبْرَأك اللَّهُ أَوْ أَبْرَأْتُك فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَفِي عُرْفِهِمْ أَنَّهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ صَحَّ طَلَاقُهَا وَإِذَا قَالَتْ لَمْ أَعْرِفْ مَهْرِي وَادَّعَتْ فَسَادَ الْبَرَاءَةِ رُجِعَ إلَى مَا فِي نِيَّتِهِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا طَمَعًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّته فَإِذَا ادَّعَتْ فَسَادَ الْبَرَاءَةِ وَأَسْنَدَتْ قَوْلَهَا إلَى مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا مِثَالُ إنْكَارِهَا لِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْوَلِيُّ.

وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ إيجَاب النِّكَاحِ وَتَكُونُ هِيَ قَدْ أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ وَأَطْلَقَتْ الْوَكَالَة وَلَمْ تَذْكُرْ مَهْرًا وَهَلْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ أَنِّي لَمْ أُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا إلَّا ظَانًّا أَنَّ ذِمَّتِي خَلَصَتْ مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ لَمْ أُقِرَّ بِهِ إلَّا أَنِّي طَمِعْت فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِي مِنْ الصَّدَاقِ فَهَلْ إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَامِّيًّا لَا يَعْرِف شَيْئًا وَكَانَ مِمَّنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ فَهَلْ يَدِينُ سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ مُتَوَسِّطًا أَوْ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ وَإِذَا قُلْتُمْ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَذَاكَ.

وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَقَعُ عِنْد الْجَهَالَةِ بِالْمُبَرَّإِ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيّ فَهَلْ يَحْلِفَانِ أَعْنِي الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَجْمِعُوا لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى وَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي يُظَنُّ أَنَّ عِنْده بَعْضَ نَظَرٍ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ فَإِنِّي نَظَرْت لِلْقَفَّالِ فِي هَذَا أَنَّهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً جَازِمَةً وَهُوَ أَعْنِي الْمُقَلِّدَ يَتْبَع فِي ذَلِكَ تَصْحِيحَ الشَّيْخَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ بِأَنَّ الَّذِي أَفْتَيْت بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِيمَنْ سَأَلَتْهُ زَوْجَتُهُ الطَّلَاقَ فَقَالَ لَهَا أَبْرِئِينِي فَقَالَتْ لَهُ أَبْرَأْتُك أَوْ أَبْرَأَكَ اللَّهُ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ تَلَفُّظِهَا بِالْإِبْرَاءِ أَوْ أَطْلَقَ فَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ كَوْنِهِ بَرِئَ مِمَّا طَلَبه مِنْهَا بِقَوْلِهِ أَبْرِئِينِي مِنْ دَيْنِك مَثَلًا وَعِلْمًا بِهِ

ص: 135

وَكَانَتْ رَشِيدَةً مَالِكَةً لِكُلِّ الدَّيْنِ بِأَنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ حَوْلٌ أَوْ أَحْوَالٌ أَوْ كَانَ دُون نِصَابٍ زَكَوِيّ وَقَعَ الطَّلَاقُ أَيْضًا.

وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ كَأَنْ جَهِلَتْهُ هِيَ أَوْ هُوَ أَوْ كَانَتْ سَفِيهَةً بِأَنْ بَلَغَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِدِينِهَا وَمَالِهَا وَاسْتَمَرَّتْ كَذَلِكَ أَوْ مَلَكَ غَيْرُهَا بَعْضَ الدَّيْنِ كَأَنْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَإِنَّ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ يَمْلِكُونَ بِقَدْرِهَا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا وُجِدَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فَيَجْرِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي صُورَةِ السَّائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ فَيَقُول مَثَلًا أَبْرِئِينِي وَأُطَلِّقُك فَتَقُولُ أَبْرَأْتُك أَوْ أَبْرَأَكَ اللَّهُ إلَخْ وَفِي آخِرِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ هَذِهِ الشَّاغِرَةِ لَا يَعْرِفُونَ إلَخْ وَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ مَنْ نَجَّزَ تَصَرُّفًا إلَخْ لِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ.

وَنَظَائِرِهَا مِمَّا قَامَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ عَلَى صِدْقِ مَا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ بِدَلِيلِ كَلَامِ أَبِي زُرْعَةَ نَفْسِهِ فِي نَظِيرَتِهَا الْآتِيَةِ وَإِلْحَاقِ أَبْرَأْكَ اللَّهُ بِأَبْرَأْتُكَ فِي كَوْنِهِ صَرِيحًا عَنْ الْإِبْرَاءِ لَا كِنَايَةً هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ خِلَافًا لِأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ كَطَلَّقَك اللَّهُ أَوْ أَعْتَقَك اللَّهُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ وَالثَّانِي صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِأَنْ أَرَادَ طَلَاقَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَرَاءَةِ وَلَمْ تُوجَدْ جَمِيعُ شُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ ظَانًّا أَنَّ طَلَاقَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِيمَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ مِنْ احْتِمَالَيْنِ لِلزَّرْكَشِيِّ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِمَا وَقَعَ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ النَّجْمَ الْأَخِيرَ وَكَانَ حَرَامًا وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ السَّيِّدُ بِهِ فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَال دَلَّتْ عَلَى إرَادَة الْإِخْبَار بِمَا وَقَعَ لِظَنِّهِ صِحَّةَ الْعِوَضِ.

وَقَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت الْإِطْلَاقَ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا إنْ كَانَ يَحِلُّهَا مِنْهُ لِلْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِفْتَاء ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ جَاءَ بِهَا لِمَنْ يَكْتُبُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَقَدُّمَ الطَّلْقَةِ قُلْ خَالَعْتك عَلَى بَاقِي صَدَاقِك فَقَالَتْ قَبِلْت وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلْقَةَ الْمَاضِيَةَ لَا إنْشَاءَ طَلْقَةٍ أُخْرَى بِأَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ وَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالْقَوْلُ قَوْله أَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ كَذَلِكَ. اهـ.

وَلَا يُنَافِي مَا قَرَّرْته فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْخَيْنِ عَنْ الْمُتَوَلِّي لِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا كَمَا هُوَ جَلِيٌّ مِنْ كَلَامِهِمْ الَّذِي ذَكَرْته وَقَوْلُ السَّائِلِ ثُمَّ قَالَتْ لَمْ أَعْلَمْ قَدْرَ صَدَاقِي إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُتَّهَمٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سبحانه وتعالى يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُتَّهَمًا أَنْ لَوْ تَحَقَّقْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يَرْفَعُهُ كَأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى فَسَادَ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُحَلَّلٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ قَدْرَ الْمُبَرَّإِ مِنْهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْوُقُوعِ إلَّا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُمَا يَعْلَمَانِهِ فَحَيْثُ اعْتَرَفَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِعَدَمِ الْعِلْمِ فَلَا وُقُوعَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهِمَا هَذَا عِنْد اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا.

أَمَّا لَوْ اخْتَلَفَا بِأَنَّ ادَّعَتْ الْعِلْمَ وَأَنْكَرَ فَالرَّاجِحُ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ تَصْدِيقُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ فَلَوْ قَالَتْ كُنْت جَاهِلَةً وَقَالَ بَلْ عَالِمَةً صُدِّقَ بِيَمِينِهِ وَبَرِئَ مِنْ الصَّدَاقِ وَبَانَتْ مِنْهُ لَكِنْ ذَكَرَ فِيهِ الْغَزِّيُّ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إنْ زَوَّجَهَا إجْبَارًا أَوْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ قَدْرَهُ فَلَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْعَقْدِ بَالِغَةً عَاقِلَةً صُدِّقَ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ فِي عَمَلِهَا بِقَدْرِهِ حِينَ أَبْرَأَتْهُ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمُجْبَرَةَ يُعْقَدُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا بِالصَّدَاقِ بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ قَالَ الْغَزِّيُّ وَهَذَا وَاضِحٌ فِي الثَّيِّبِ أَمَّا الْبِكْرُ الْمُجْبَرَةُ فَيَنْبَغِي أَنَّ الْحَالَ إنْ دَلَّ عَلَى عِلْمِهَا بِالصَّدَاقِ لَمْ تُصَدَّقْ هِيَ وَإِلَّا صُدِّقَتْ. اهـ.

وَبِمَا قَرَّرْته يَعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَهُ وَأَحْيَا بِعَلِيِّ هِمَّتِهِ مَا انْدَرَسَ مِنْ مَعَالِمِ الْعُلُومِ آخِرُ السُّؤَالِ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ هَذِهِ الشَّاغِرَةِ لَا يَعْرِفُونَ إلَى آخِرِهِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهَا إذَا ادَّعَتْ الْجَهْلَ بِمَا أَبْرَأَتْ مِنْهُ وَادَّعَى هُوَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقَهَا إلَّا طَمَعًا فِي الْبَرَاءَةِ قُبِلَ مِنْهُمَا فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ طَلَاقٌ

ص: 136

وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهَا بَيْن يَدَيْ حَاكِمٍ أَنَّهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا إلَّا طَمَعًا حَلَّفَهُمَا الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا مَا أَفْتَى بِهِ أَبُو زُرْعَةَ مِنْ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي فَقَالَ إنْ أَبْرَأْتِنِي إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَنْهُ فَصَحِيحٌ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا تَبَعًا لِمَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي.

وَلِنَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَل هُنَا إرَادَتُهَا التَّعْلِيقَ لِأَنَّ الصُّورَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ الزَّوْجَ خَالَعَهَا وَظَاهِرُ اللَّفْظِ صَرِيحٌ فِي دَعْوَاهُ فَصَدَقَ هُوَ دُونهَا وَأَمَّا مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عُجَيْلٍ وَالْحَضْرَمِيُّ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَنْهُمَا فَهُوَ شَيْءٌ انْفَرَدَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِدِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُهُمْ أَنَّهَا مَتَى قَالَتْ لَهُ أَبْرَأْتُك وَوُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْبَرَاءَةِ بَرِئَ وَقَوْلُهُ وَأَنَا أُعْطِيك كَذَا وَعْدًا لَا يَلْزَمُ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَفَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَالْبَرَاءَةُ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا وَقَوْلُ السَّيِّدِ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِدْعَاءِ الْبَرَاءَةِ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ عِنْد السَّائِلِ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَمَشَّى إلَّا إذَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَلَك كَذَا.

وَقُلْنَا إنَّ الْإِبْرَاء مَحْضُ تَمْلِيكٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْضَ تَمْلِيكٍ وَلَا مَحْضَ إسْقَاطٍ بَلْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْ كُلٍّ وَقَدْ يُغَلِّبُونَ شَائِبَةَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَقَدْ يُغَلَّبُونَ شَائِبَةَ الْإِسْقَاطِ فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ إسْقَاط أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُلْحَقَ بِالْهِبَةِ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ فَالْوَجْهُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ الَّتِي فِيهَا وَأُعْطِيك كَذَا صِحَّةُ الْبَرَاءَةِ وَعَدَمُ لُزُومِ الْوَفَاءِ سَوَاءٌ أَذُكِرَ عِوَضًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا وَالْأَوْجَهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا وَهِيَ وَلَك عَلَيَّ كَذَا أَنَّهُ كَذَلِكَ نَظَرُ الشَّائِبَةِ الْإِسْقَاط وَقَوْلُ السَّيِّدِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا أَبْرَأْتُك أَيْ بِاَلَّذِي ذَكَرْت إلَخْ مَمْنُوعٌ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَالْبُطْلَانُ جَاءَ إمَّا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأُولَى وَأُعْطِيك لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْوَعْدِ فَلَا يَصِحُّ لِلْإِلْزَامِ وَأَمَّا نَظَرُ الشَّائِبَةِ الْإِسْقَاطَ وَإِنْ قَالَ عَلَى أَنَّ لَك عَلَيَّ كَذَا فِي الثَّانِيَةِ.

وَقَوْلُ السَّيِّدِ وَمَسْأَلَةُ الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ لَيْسَتْ نَظِيرَةً لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا نَظِيرَتُهَا إلَخْ صَحِيحٌ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَنْهُ مِنْ إفْتَائِهِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَبْرِئِينِي وَأُطَلِّقُك إلَخْ بِقَوْلِهِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَخْ فَمَحِلُّهُ حَيْثُ قَصَدَ الزَّوْجُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَوْ أَطْلَقَ فَيَقَعُ مُطْلَقًا أَمَّا لَوْ أَرَادَ جَعْلَ الطَّلَاقِ فِي مُقَابَلَةِ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ فَلَا يَقَعُ إلَّا إنْ صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ كَمَا ذَكَرْته أَوْ لَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةُ الْآتِي قَرِيبًا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت بِذَلِكَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِبْرَاء مِنْ الصَّدَاق وَجَعَلْته عِوَضًا لَا سَبَبًا إلَخْ.

وَأَمَّا مَا أَفْتَى بِهِ الْبُلْقِينِيُّ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَنْهُ فَهُوَ صَحِيحٌ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ أَبُو زُرْعَةَ وَأَطَالَ فِيهِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِخِلَافِهِ كَالْمُحِبِّ الطَّبَرِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ نَعَمْ نَقَلَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ الزَّرْكَشِيّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الْخُوَارِزْمِيَّ وَأَقَرُّوهُ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ صَدَاقِي عَلَيْك بِالطَّلَاقِ فَطَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ بَانَتْ وَبَرِئَ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْبُلْقِينِيُّ الْمَذْكُورُ وَكَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ مِنْ أَنَّ صِحَّةَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَائِنًا بِالْبَرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا بَدَأَ الزَّوْجُ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَأَتْ هِيَ فَإِنَّهَا إنْ عَلَّقَتْ الْبَرَاءَةَ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ.

وَإِنْ نَجَّزَتْهَا فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّته قَبْل أَنْ يُطَلِّقَ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْخُوَارِزْمِيَّ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ نَقَلَ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ وَأَقَرُّوهُ أَيْضًا وَحَكَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ فَتَاوَى الْقَاضِي وَأَقَرَّاهُ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ صَدَاقِي فَطَلِّقْنِي فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهَا قَصَدَتْ جَعْلَ الْإِبْرَاء عَنْ الطَّلَاقِ وَلِذَلِكَ تَرَتَّبَ سُؤَالُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ. اهـ.

وَحَذَفَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ وَكَانَ وَجْهُ حَذْفِهِ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَلَامِهَا إنَّمَا هُوَ تَنْجِيزُ الْبَرَاءَةِ لَا جَعْلَهَا عِوَضًا نَعَمْ إنْ صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا أَرَادَتْ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَوَافَقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا بِالْبَرَاءَةِ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهَا وَوُقُوعِهِ مِنْهُ فِي مُقَابِلَتِهَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ احْتِمَالًا قَرِيبًا فَقُبِلَتْ دَعْوَى إرَادَتِهِ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْبُلْقِينِيُّ السَّابِقَةِ لَوْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي طَلَاقُك بِصِحَّةِ بَرَاءَتِك أَوْ بِبَرَاءَتِك تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِبْرَاء مِنْ الصَّدَاقِ وَجَعْلَهُ عِوَضًا

ص: 137

لَا سَبَبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ لِاحْتِمَالِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى جَوَابِهَا فَإِنْ أَجَابَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ لَمْ يَقَعْ. اهـ.

فَعُلِمَ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ فِيمَا إذَا قَالَ لَهَا أَبْرِئِينِي مِنْ صَدَاقِك وَأَنَا أُطَلِّقُك فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْهُ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَاقُك بِصِحَّةِ بَرَاءَتِك أَوْ بِبَرَاءَتِك فَفَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك الْوَعْدَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي مُقَابِلَةِ الْإِبْرَاء فَأَرَدْت بِقَوْلِي أَبْرَأْتُك جَعْلَ الْإِبْرَاء فِي مُقَابِلَةِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُوقِعُهُ وَأَرَدْت رَبْطَهُ بِهِ وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ذَلِكَ وَقَعَ رَجْعِيًّا وَيَبْرَأُ وَلَا عِبْرَةَ بِإِرَادَتِهَا ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْ صَدَاقِي فَطَلِّقْنِي فَإِنَّهُ يَبْرَأُ طَلَّقَهَا أَمْ لَا.

فَإِنْ طَلَّقَهَا وَقَعَ رَجْعِيًّا وَإِنْ أَرَادَتْ وَحْدَهَا جَعْلَ الْإِبْرَاء فِي مُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ وَحَيْثُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ طَلَاقُك بِبَرَاءَتِك أَوْ بِصِحَّةِ بَرَاءَتِك التَّعْلِيقَ عَلَى صِحَّةِ بَرَاءَتِهَا بَلْ اسْتِئْنَافَ عَقْدِ خُلْعٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي مُقَابَلَةِ إبْرَاءٍ جَدِيدٍ تَوَقَّفَ تَمَامُ الْخُلْعِ حِينَئِذٍ عَلَى قَبُولِهَا أَوْ إبْرَائِهَا ثَانِيًا وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَإِنَّمَا قُبِلَ فِي إرَادَة ذَلِكَ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ خِلَافُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَلَى مِائَةٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مُرِيدًا الِابْتِدَاءَ قُبِلَ مِنْهُ وَوَقَعَ رَجْعِيًّا لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَإِنْ اتَّهَمَتْهُ حَلَّفَتْهُ اهـ.

وَإِذَا وَصَلَ لِلْمُقَلِّدِ إفْتَاءُ بَعْضِ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ وَعَرَفَ خَطَّهُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَاطَ وَيَسْأَلَ غَيْره إنْ تَيَسَّرَ لِيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ فَهُوَ الْوَرَعُ وَالِاحْتِيَاطُ وَلَا يَجُوز لِمَنْ لَمْ يَصِلْ لِرُتْبَةِ الْإِفْتَاءِ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا إلَّا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا مِنْ مَذْهَبِهِ كَالنِّيَّةِ وَاجِبَةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْوِتْرِ مَنْدُوبٌ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُفْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ لَكِنْ إنْ كَانَ عَدْلًا وَأَخْبَرَ عَنْ إمَام أَوْ كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِهِ بِحُكْمٍ فِي مَسْأَلَة مُعَيَّنَةٍ جَازَ اعْتِمَادُ خَبَرِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ مَرِضَ فَأَحْضَرَ شَاهِدَيْنِ فَقَالَ اشْهَدَا إذَا مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَامْرَأَتِي الْفُلَانِيَّةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِي الْمُتَّصِلَةِ بِمَوْتِي هَلْ يَصِحُّ هَذَا الطَّلَاق إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا تَرِثَ أَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ أَنْ لَا تَتَكَلَّفَ بِالْإِحْدَادِ وَإِذَا قَالَ هَذَا الشَّخْصُ أَوْ غَيْرُهُ لِامْرَأَتِهِ أَبْرِئِينِي مِنْ مَهْرِك وَهِيَ لَا تَعْلَمُ قَدْرَهُ فَأَبْرَأَتْهُ هَلْ يَبْرَأُ فَإِذَا قُلْتُمْ لَا فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَلَا تَرِثُ سَوَاءٌ أَقَصَدَ بِذَلِكَ حِرْمَانَهَا مِنْ الْإِرْث أَمْ لَا وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبْرَأَتْهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ قَدْرَهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ التَّعْلِيقَ عَلَى تَلَفُّظِهَا بِالْبَرَاءَةِ فَيَقَعُ رَجْعِيًّا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ حَلَفَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَبَانَهَا بِخُلْعٍ ثُمَّ جَدَّدَ نِكَاحَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَالَ فِي نَفَائِسِ الْأَزْرَقِيّ إنْ فَعَلَهُ بَيْن الطَّلَاقِ وَالتَّجْدِيدِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِلَّا حَنِثَ فَهَلْ يُقَرَّرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ النَّفَائِسِ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا حَيْثُ قَالُوا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ بِصِفَةٍ كَالدُّخُولِ فَأَبَانَهَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَوُجِدَتْ الصِّفَةُ قَبْلَ التَّزْوِيجِ لَمْ يُطَلِّقْ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالدُّخُولِ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ وَكَذَا إنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ بَعْد التَّزْوِيجِ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَعُودُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا فِي غَيْرِهِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ بَعْد زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الرَّقَبَةِ وَبَعْد تَجَدُّدِهِ لِتَخَلُّلِ حَالَةٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَرُفِعَ حُكْمُ الْيَمِينِ أَمَّا تَخَلُّلُ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالرَّجْعَةُ بَيْن التَّعْلِيقِ وَوُجُودِ الصِّفَةِ فَلَا يَمْنَعُ عَوْدَ الْحِنْثِ فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ نِكَاحًا مُجَدَّدًا وَلَا تُخَلِّلُ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا ذُكِرَ، وَاَللَّهَ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْحَرَامُ مِنْ زَوْجَتِي أَنَّ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ لَمْ يَكُنْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَبَانَ إنَّهُ كَانَ فَهَلْ تَطْلُقُ وَالْحَالُ إنَّهُ نَوَى بِعَلَيَّ إلَى آخِرِهِ الطَّلَاقَ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ لِعُذْرِهِ سَوَاءٌ أَنَوَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي ظَنِّهِ أَوْ فِي الْوَاقِعِ كَمَا بَيَّنْته فِي فَتَاوَى أُخْرَى بِكَلَامٍ مَبْسُوطٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَانَ بِهِ الْحَقُّ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ اضْطِرَابهمْ فِيهَا وَاخْتِلَافُهُمْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ وَكَّلَ زَوْجَتَهُ فِي طَلَاقِهَا فَقَالَتْ كَيْف أَقُولُ فَقَالَ قُولِي أَنْتِ الثَّلَاثُ

ص: 138

أَوْ أَنَا الثَّلَاثُ مِنْ عَقْدِك طَالِقٌ أَوْ دُون عَقْدِك؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُتَوَلِّي فَرَّقَ بَيْن قَوْلِهِ أَنْتِ ثَلَاثٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَقَوْله أَنْتِ ثَلَاثًا فَيَقَعُ بِهِ لِأَنَّ حَذَفَ بَعْضِ الْكَلَامِ شَائِعٌ لُغَةً إذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَفِي الْبَحْرِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ الثَّلَاثُ لَا يَكُونُ شَيْئًا وَإِنْ نَوَى الطَّلَاق وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْن الْمُعَرَّفِ وَغَيْرِهِ. اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنهمَا فِي حَالِ الرَّفْعِ لِأَنَّ ثَلَاثٌ بِالرَّفْعِ خَبَرٌ عَنْ أَنْتِ فَلَا حَذْفَ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ صَحِيحًا لِأَنَّ أَنْتِ مَوْضُوعَةٌ لِلذَّاتِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ فَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِثَلَاثٍ لَا مُعَرَّفًا وَلَا مُنَكَّرًا وَأَمَّا ثَلَاثًا بِالنَّصْبِ فَيُقْتَضَى حَذْفَ الْخَبَرِ فَيُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ طَالِقٌ فَالْكَلَامُ مَعَهُ صَحِيحٌ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَدَدِ الصَّرِيحِ وَالْفَرْقُ بَيْن أَنْتِ ثَلَاثٌ وَأَنْتِ اثْنَتَانِ ذَكَرْته مَبْسُوطًا مَعَ مَا يُنَاسِبُهُ فِي فَتْوَى غَيْرِ هَذِهِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ قُولِي أَنْتِ الثَّلَاثُ أَوْ أَنَا الثَّلَاثُ فَقَالَتْ ذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَتْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ أَنْتِ الثَّلَاث طَالِقٌ أَوْ أَنَا الثَّلَاثُ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَع عَلَيْهِ الطَّلَاقُ إنْ نَوَتْ بِالْأَوَّلِ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ لِإِسْنَادِ الطَّلَاقِ فِيهِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ وَهُوَ الزَّوْجُ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فَلَا يَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) إذَا قُلْنَا بِتَصْحِيحِ الدَّوْرِ فَطَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ عَلَّقَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ قَبْل الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ يُرِيد رَفْعَ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَة عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَاهُ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا يُقْبَل قَوْله فَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لِقَوْلِ الْإِمَام ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْغَايَةِ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ مَا لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ وَيَدِينُ فِيهِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيمَا ادَّعَاهُ لَمْ يَرْتَفِعْ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ إذْ لَا أَثَرَ لِمُصَادَقَتِهَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ رضي الله عنهم بِقَبُولِ قَوْلِهِمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِمَا لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمُنَاوِيُّ.

قَالَ الْإِمَام الْأَزْرَقِيّ وَبِنَحْوِهِ أَجَابَ الْمَحَلِّيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى تَعْلِيقَ الدَّوْرِ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ لَوْ أَقَامَهَا عَلَى ذَلِكَ لِأُمُورِ.

(أَحَدُهَا) أَنَّ الْأَئِمَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - نَقَلُوا عَنْ الْإِمَام الْخُوَارِزْمِيِّ مِنْ غَيْر مُخَالَفَةٍ لَهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى فَسَادَ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَصَادَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى دَعْوَاهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا فَلَا يَجُوز أَنْ يُوقِعَا نِكَاحًا جَدِيدًا إلَّا بِمُحَلِّلٍ لِكَوْنِهِمَا مُتَّهَمَيْنِ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَذَكَرَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ الْقَفَّالُ وَنَقَلَهُ فِي الْأَنْوَارِ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغَوِيّ وَغَيْرِهِمَا وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَا ذَكَرَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ مِنْ عَدَمِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَغَوِيّ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْإِمَام ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ وَالْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَدَمَ السَّمَاعِ.

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْثَرِينَ لَا يُفَرَّقُونَ بَيْن الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ حَيْثُ فَرَّقُوا فِي التَّحْلِيفِ وَأَلْزَمُوهُ بِالْبَيِّنَةِ قَالَ أَعْنِي الْأَذْرَعِيُّ وَفِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهَا مُطْلَقًا فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْخُوَارِزْمِيُّ هُوَ الْمَذْهَب الْمُعْتَمَدُ لِلتُّهْمَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى إذْ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْوَكَالَةَ لَادَّعَى كُلُّ مُطَلِّقٍ ثَلَاثًا أَرَادَ دَفْعَ الْعَارِ عَنْهُ بِتَحْلِيلِ زَوْجَته ثُمَّ تَجْدِيد نِكَاحِهَا أَنْ يَتَوَافَقَا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِهَا لِدَفْعِ ذَلِكَ كَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْبَكْرِيُّ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ.

قَالَ وَأَظُنُّ الْغَزَالِيَّ سُئِلَ لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْوَلِيَّ كَانَ فَاسِقًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ إنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا قَالَ الْإِمَام ابْنُ الْعِمَادِ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ الْمَرْأَةُ إذَا خَالَعَتْ الزَّوْجَ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَمْ يُسْمَعَ قَوْلُهَا كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ اهـ وَقَوْلُهُمْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُخَالِف مَا ذَكَرَهُ الْإِمَام الْخُوَارِزْمِيُّ وَصُورَتُهُ أَنْ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا فِي الْبَاطِنِ أَمَّا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنهمَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْره (الْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِمَام الدَّبِيلِي ذَكَرَ

ص: 139

فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فِي هَذَا الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ إنَّ نِكَاحِي كَانَ فَاسِدًا وَأُرِيدُ أَنْ أُكْمِلَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ ثُمَّ أَعْقِدُ نِكَاحًا صَحِيحًا فَكَلَّمَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسَادِ نِكَاحِهِ وَأَيْضًا ذَكَرَ الْإِمَام تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاح أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي لَمْ أَكُنْ نَكَحْتهَا قَبْل الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ذَكَرَهُ عَنْهُ الْإِمَام الْأَذْرَعِيُّ فِي الدَّعَاوَى مِنْ شَرْح الْمِنْهَاجِ وَذَكَرَ أَيْضًا نَحْو مَا سَبَقَ عَنْ الدَّبِيلِيِّ (الْأَمْرُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ بَعْد مُدَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ أَرَدْت بِالْبَائِنِ الطَّلَاقَ.

فَلَمْ تَقَعْ الثَّلَاثُ لِمُصَادَفَتِهَا الْبَيْنُونَةَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ كَذَا قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى سَبْقَ لِسَانِهِ إلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهُ أَنَّهُ لَا يَسَعُ امْرَأَتَهُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ (الْأَمْرُ الرَّابِعُ) أَنَّ الْقَاضِي جَمَالَ الدِّينِ بْنِ ظَهِيرَةَ سُئِلَ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَالَعَهَا قَبْل ذَلِكَ وَأَرَادَ دَفْعَ الثَّلَاثِ بِالْخُلْعِ وَوَافَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا الْخُلْعَ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا تُقْبَلَانِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فَأَجَابَ فَقَالَ نُقِلَ فِي الرَّوْضَةَ فِي أَوَاخِرِ الطَّلَاقِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت حَرَّمْتُهَا عَلَى نَفْسِي قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. اهـ.

قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ (الْأَمْرُ الْخَامِسُ) أَنَّ الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ السَّمْهُودِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت وَكَّلْت فُلَانًا بِطَلَاقِهَا وَكُنْتُ عَوَّلْتُ طَلَاقِهَا عَلَى فُلَانٍ إلَّا وَلَّيْتهَا فُلَانًا فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ فَقَالَ ذَكَر فِي الْعَزِيزِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت حَرَّمْتهَا قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَقَعْ الثَّلَاثُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَهُوَ شَامِلٌ لِدَعْوَى سَبْقِ التَّحْرِيمِ بِوَاسِطَةِ وَكِيلِهِ فِيهِ بِخُلْعٍ وَنَحْوِهِ مَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْن أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ وَلِيّهَا كَانَ قَدْ وُكِّلَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسمِائَةِ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا الْوَكِيل إلَّا بِأَلْفٍ فَالْعَقْدُ لَمْ يَنْعَقِدْ.

فَالطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ وَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي الْخَادِم وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ لِلْمُخَالَفَةِ فِي الصَّدَاقِ قَالَ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بَلْ يَطَّرِدُ فِي كُلِّ صُورَةٍ ادَّعَيَا فِيهَا الْفَسَادَ قَبْل الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

جَوَابُ الشَّيْخِ السَّمْهُودِيّ (الْأَمْرُ السَّادِسُ) أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ نُورَ الدِّين ابْن نَاصِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْد أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي كُنْت طَلَّقْتهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ قَبْل أَنْ تَضَعَ الْحَمْلَ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ قَبْل أَنْ أُرَاجِعَهَا فَهَلْ تَعُودُ إلَيْهِ قَبْل زَوْجٍ آخَرَ أَمْ لَا تَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بَعْد زَوْجٍ آخَرَ.

فَأَجَابَ فَقَالَ الْأَصْلُ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْل الْوَضْعِ فَتَبِينُ بَعْدَهُ فَلَا تَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَعِدَّتَيْنِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

(الْأَمْرُ السَّابِعُ) أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ تَعْلِيقَ الدَّوْرِ عَلَى زَوْجَتِهِ قَبْل الطَّلَاقِ لَفُتِحَ هَذَا الْبَابُ وَلَوْ فُتِحَ لَادُّعِيَ كُلُّ مُطَلِّقٌ ثَلَاثًا أَرَادَ دَفْعَ الْعَارِ عَنْهُ بِتَحْلِيلِ زَوْجَتِهِ ثُمَّ تَجْدِيدَ نِكَاحِهَا إذْ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيَظْهَرُ الْفَسَادُ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا أَنَّ الشَّيْخَيْنِ ذَكَرَا أَنَّ الرُّويَانِيّ قَالَ بَعْد اخْتِيَارِهِ تَصْحِيحَ الْأَوَّلِ لَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة) قَوْلُهُ فِي الْبَهْجَةِ لَوْ ضِعْفُ عِشْرِينَ لِعَقْدِ الْجُمُعَةِ كَيْفَ صُورَةُ ذَلِكَ وَمَا بَيَانُهُ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُمْ فِي الْفَرَائِضِ الْإِدْلَاءُ كَيْفَ صِفَته وَمَا مَعْنَاهُ (الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) إذَا وَجَدْنَا مَسْأَلَةً فِيهَا نَصٌّ لِلشَّافِعِيِّ لَكِنْ الشَّيْخَانِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ كَالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّة وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اعْتِرَاضِ صَاحِبِ الْمُهِمَّاتِ بِالنَّصِّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ فَهَلْ نَأْخُذُ بِالنَّصِّ وَنَتْرُكُ مَا عَدَاهُ أَمْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ الشَّيْخَيْنِ لَأَنَّهُمَا عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ (الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى أَحَدٍ أَنِّي أَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعَيْنَ الَّتِي تَحْتَ يَدِك فَقَالَ الْمَالِكُ مِلْكِي وَرِثْته عَنْ أَبِي أَوْ قَالَ مِلْكِي وَلَمْ نَجِدْ بَيِّنَةً مَعَ الْمُدَّعِي

فَهَلْ قَوْلُ الْمَالِك يَكْفِي فِي الْيَمِينِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ أَثَابَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى

ص: 140

الْجَنَّةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَالْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ فِي النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الزَّوْجِ دَعْوَاهُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بِمُحَلِّلٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا تَوَقُّفَ وَحُقُوقُ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَا سِيَّمَا الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَبْضَاعِ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ لَهَا هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّة.

وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَرْتَكِبُ ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيّ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْج فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زَلَّةُ عَالَمٍ وَزَلَّاتُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَقْلِيدُهُمْ فِيهَا وَلَقَدْ أَطَالَ جَمَاعَةٌ فِي الِانْتِصَار لِابْنِ سُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالْحَطِّ عَلَى مَنْ يُقَلِّدهُ فِي ذَلِكَ وَالْمُعْتَمَدُ مَا قُلْنَاهُ فَلِيَتَنَبَّهْ السَّائِلُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَهُ لِذَلِكَ وَلِيَحْذَرْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي وَرْطَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِفْتَاءِ أَحَدٍ بِهَا أَوْ تَعْلِيمِهِ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخَيْمَةٌ وَمَعْنِيّ مَا ذُكِرَ عَنْ الْبَهْجَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبَادِرَ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ إلَى عَقْدِ الْجُمُعَةِ قَبْل الْإِمَامِ الْخَاطِبِ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ لَوْ سُمَّاعُهَا تَبَادَرُوا أَيْ ضِعْف عِشْرِينَ إلَخْ وَمَعْنَى الْإِدْلَاءِ الِانْتِسَابُ فَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ يُدْلِي إلَى فُلَانٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ أَيْ أَنَّ بَيْنهمَا رَابِطَةً مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَإِذَا رَجَّحَ الشَّيْخَانِ شَيْئًا كَانَ الْمُعْتَمَدُ وَلَا نَظَرَ لِمَا يُطِيل بِهِ الْإِسْنَوِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمَا بِالنَّصِّ أَوْ غَيْرِهِ لَأَنَّهُمَا أَدْرِي بِأَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَنُصُوصِهِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمَا فَلَا يَعْدِلَانِ عَنْ النَّصِّ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَنَصٍّ آخَرَ أَوْ قَاعِدَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَيْسَ فِي الْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِمَا مِنْ يُدَانِي مَرْتَبَتَهُمَا عِلْمًا وَوَرَعًا وَاجْتِهَادًا فَوَجَبَ الْمَصِيرُ لِأَقْوَالِهِمَا وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُمَا وَقَدْ بَيَّنْت فِي شَرْح الْإِرْشَادِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمَا فِي بَابِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمَا شَاكَلَهُ وَبَيَّنْت كَجَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِي وَغَيْرَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ مَا قَالَاهُ فَتَمَسَّكْ أَيُّهَا السَّائِلُ وَفَّقَك اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَلَا تَعْدِلْ عَنْهَا فَتَضِلَّ وَتُضِلَّ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِسْنَوِيّ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ يُفْتِي بِمَا فِي الرَّوْضَةِ.

وَإِنْ كَانَ اعْتَرَضَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ رَأَيْنَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ الْمُعْتَرِضَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ وَعِنْد الْإِفْتَاءِ لَا يُفْتِي إلَّا بِمَا قَالَ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ فَلَا يَسَع أَحَدًا الْآن مُخَالَفَتُهُ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ كَالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّة فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ النَّصَّ فِيهَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوده، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هِيَ طَالِقٌ عَلَى تَمَامِ الْبَرَاءَةِ فَقَالَتْ أَنْتَ أَوْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا لَمْ يَجُزْ بَيْنهمَا إلَّا لَفْظُ الْبَرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَهُمَا فَلَا بَرَاءَةَ وَلَا طَلَاقَ وَإِنْ نَوَيَا شَيْئًا مُعِينًا أَوْ قَالَ لَهَا إنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ كَذَا وَعَيَّنَهُ فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْقَدْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْهُ مَعْلُومًا لَهُمَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ كَزَكَاةٍ صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا عَلَّقَ بِالْبَرَاءَةِ فَإِنْ صَحَّتْ بِأَنْ عَلِمَا الْقَدْرَ الْمُبَرَّأَ مِنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا مَرَّ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بِأَنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَهُوَ زَكَوِيٌّ لَمْ يَقَعْ وَمَا قِيلَ أَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ وَجَهِلَ الزَّوْجُ تَصِحُّ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَهْرِ الْمِثْل فَهُوَ فَاسِدٌ.

وَلِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا لِأَنَّا إذَا قُلْنَا بِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ فَلَا طَلَاقَ أَوْ بِصِحَّتِهَا فَالْعِوَضُ الصَّدَاقُ لَا مَهْرَ الْمِثْلِ مَعَ الصَّدَاقِ وَلَا مَهْرَ الْمِثْلِ فَقَطْ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْعِوَضَ إذَا كَانَ فِي الْخُلْعِ مَجْهُولًا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ مَحِلَّ ذَاكَ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا جَانِب الْمُعَاوَضَةِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ فِي صِيَغِ التَّعْلِيقِ فَغَلَبَ فِيهَا جَانِبُهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا وَمَا وَقَعَ فِي شَرْح الْمِنْهَاجِ لِلدَّمِيرِيِّ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) هَلْ عَلَيَّ الطَّلَاقُ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيَّ الطَّلَاق صَرِيحٌ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَنَّهَا خَرَجَتْ فَقَالَتْ مَا خَرَجْت مَا الْحُكْمُ وَقَالَ أَيْضًا عَلَيَّ الطَّلَاقُ إلَّا لَمْ تَنْقُلْ مَتَاعَك مِنْ جَانِبِ دَارِي لَأَشْتَكِيك

ص: 141

إلَى الْوَالِي وَأَدِّي مَنْ يُحْضِرُك إلَيْهِ الْيَوْمَ هَذِهِ فَلَمْ يَنْقُلْ مَتَاعَهُ فَذَهَبَ الْحَالِف إلَى الْوَالِي وَكَانَ الْوَالِي مُشْتَغِلًا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمْ يَتَّفِقْ وُصُولُهُ إلَيْهِ وَلَا إعْلَامُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) الْخُرُوجُ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي نَفْيِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ بِعَدَمِهِ إنْ كَانَ نَفْيُهُ مَحْصُورًا بِأَنْ عَيَّنَ لَهُ زَمَنًا فَادَّعَتْ عَدَمَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَأَقَامَتْ بِهِ بَيِّنَةً فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا طَلَاقَ وَإِنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالشَّكْوَى إلَى الْوَالِي فِي يَوْمٍ مُعِينٍ فَلَمْ يَشْتَكِ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ الْيَوْمِ فَتَرَكَ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاق بِخِلَافِ مَا إذَا مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ فِي جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ اسْرَحِي بِلَفْظِ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ؟

(فَأَجَابَ) لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ اسْرَحِي بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ لِأَنَّهُ مِنْ سَرَحَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ يَتَعَدَّى كَسَرَّحْتُهَا سَرْحًا قَالَ فِي الصِّحَاحِ هَذِهِ وَحْدُهَا بِلَا أَلِفٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] أَيْ تُخْرِجُونَ مَوَاشِيَكُمْ بِالْغَدَاةِ إلَى الْمَرْعَى وَلَا يَتَعَدَّى كَسَرَّحَتْ بِنَفْسِهَا سَرْحًا فَاسْرَحِي حِينَئِذٍ نَظِيرُ اذْهَبِي وَقَدْ جَعَلُوهُ كِنَايَةً لِأَنَّ الذَّهَابَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ احْتِمَالًا ظَاهِرًا فَكَذَلِكَ اسْرَحِي كِنَايَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ أَيْ اُخْرُجِي بِالْغَدَاةِ لِأَنِّي طَلَّقْتُك وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ أَيْ اُخْرُجِي بِالْغَدَاةِ إلَى مَوَاشِيك مَثَلًا.

فَإِنْ قُلْت اسْرَحِي مُشْتَقٌّ مِنْ السَّرَاحِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ مِنْ السَّرَاحِ صَرِيحٌ قُلْت هَذَا اشْتِبَاهٌ وَفَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْن سَرَحَ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ وَسَرَّحَ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الْمُشْتَقُّ مِنْ السَّرَاحِ أَيْ مَأْخُوذٌ مِنْهُ وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّسْرِيحِ إذْ هُوَ الْمَصْدَرُ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا السَّرَاحُ فَاسْمُ مَصْدَرٍ وَمَعْنَى سَرَّحَ الْمُضَعَّفِ لُغَةً أَرْسَلَ فَهُوَ بِمَعْنَى فَارَقَ فَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ صَرِيحًا لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيز مُرَادِفًا لِلتَّطْلِيقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ مِنْ سَرَحَ الْمُضَاعَفِ سَرِّحِي وَأَمَّا اسْرَحِي فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فَلَا يُعْطَى حُكْمُهَا بَلْ يَكُونُ كِنَايَةً كَمَا مَرَّ وَأَمَّا سَرِّحِي فَهُوَ مِنْ مَادَّةِ السَّرَاحِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ طَلِّقِي فَإِنْ نَوَى تَطْلِيقَ نَفْسِهَا كَانَ تَفْوِيضًا لِطَلَاقِهَا إلَيْهَا فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفَسَهَا وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ هِيَ طَالِقٌ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ أَوْ قَالَ عَلَيَّ الْحَرَامُ إلَّا خَرَجْت أَوْ قَالَ إلَّا لَمْ تَخْرُجِي مِنْ بَيْتِي مَا تَكُونِينَ لِي بِامْرَأَةٍ وَكُلَّمَا حَلَّيْتُ حَرَّمْتُ فَخَالَفَتْهُ مَا الْحُكْم وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَوْ هِيَ عَلَيَّ مِنْ السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا قَالَ هِيَ طَالِقٌ فَإِنْ سَبَقَ لِزَوْجَتِهِ ذِكْرٌ كَأَنْ قِيلَ لَهُ طَلِّقْ زَوْجَتَك أَوْ إنَّ زَوْجَتَك فَعَلَتْ كَذَا فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ إلَّا إنْ نَوَاهَا هَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ فَإِنْ قُلْت يَشْكُلُ عَلَى ذَلِكَ تَرْجِيحُ الشَّيْخَيْنِ فِيمَا لَوْ قِيلَ لِزَيْدٍ يَا زَيْدُ فَقَالَ امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا طَلَاقَ إلَّا إنْ نَوَى نَفْسَهُ خِلَافًا لِقَوْلِ شُرَيْحٍ الرُّويَانِيّ تَطْلُقُ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا قُلْت لَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامه.

إلَّا إنْ أَرَادَ نَفْسَهُ وَبِهَذَا فَارَقَ مَا صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ فِي الرَّوْضَة وَالْمِنْهَاجِ وَأَصْلِهِمَا فِيمَنْ قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَأَرَادَ زَيْنَبَ غَيْرَ زَوْجَتِهِ فَلَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ هِيَ طَالِقٌ بَعْد أَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا أَصَرْحُ مِنْ قَوْلِهِ زَيْنَبُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ أَعْرَفُ مِنْ الْعَلَمِ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ بِخِلَافِهِ فِي زَيْنَبَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفه إذْ لَفْظُ زَيْنَبَ مَوْضُوعٌ لِذَوَاتٍ كَثِيرَةٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَفَّالُ إذَا أَرَادَ غَيْرَ زَوْجَتِهِ قُبِلَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَنَاوَلَ ذَوَاتًا كَثِيرَةً إلَّا أَنَّ قَرِينَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُطَلِّقُ غَيْرَ زَوْجَتِهِ مَنَعَتْ مِنْ صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهَا فَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إرَادَةَ غَيْرِهَا وَإِذَا اكْتَفَى فِي تَعْيِينهَا بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الْخَارِجِيَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ فَمِنْ بَابٍ أَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِالصَّرِيحِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَهُوَ تَقَدُّمُ ذِكْر الزَّوْجَةِ ثُمَّ إعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا فَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت غَيْرَهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ فَالْأَمْرُ مُحْتَمَلٌ

ص: 142

فَرُجِعَ فِيهِ إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَاهَا وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ قِيلَ لَهُ طَلِّقْ امْرَأَتَك فَقَالَ طَلَّقْت أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ طَلَّقْت وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى السُّؤَالِ فِي الْأُولَى وَالتَّفْوِيضِ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً طَلَّقْت لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى امْرَأَتَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ وَلَا دَلَالَةٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ امْرَأَتِي وَنَوَى الطَّلَاق ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرَتْهُ لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا أَغْنَى عَنْ الِاحْتِيَاج إلَى ذِكْرِ ضَمِيرِهَا بَعْد طَلَّقْت وَأَوْجَبَ الِاكْتِفَاءَ بِهِ خَالِيًا عَنْ الضَّمِيرِ ظَاهِرًا فَإِذَا كَانَ تَقَدُّمُ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ اسْمِهَا بِالصَّرِيحِ وَالضَّمِيرِ فَمِنْ بَابٍ أَوْلَى إنْ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا يُعَيِّنُ رُجُوعَ الْوَاقِعِ بَعْده إلَيْهَا فَإِنْ قُلْت دَلَالَةُ هَذَا صَرِيحَةٌ فِيمَا ذَكَرْته إذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَكِنَّ مَا قَالَاهُ فِي طَلَّقْت ابْتِدَاءً مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ ابْتِدَاءً.

وَإِنْ نَوَاهَا يَرُدُّ مَا قُلْته فِي هِيَ طَالِقٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهَا ذِكْرٌ قُلْت لَا يَرُدُّهُ لِأَنَّ طَلَّقْت خَلَا عَمَّا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ لِلْمَرْأَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ يَرْجِعُ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِحَّ إرَادَتُهَا مِنْهُ بِخِلَافِ هِيَ طَالِقٌ فَإِنَّ هِيَ ضَمِيرٌ مَوْجُودٌ فِي اللَّفْظِ وَالضَّمِيرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرْجِعٌ فِي اللَّفْظِ يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَعْهُودٍ فَلَمَّا صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَذْكُورٍ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِيهِ وَأَمَّا طَلَّقْت فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ النِّيَّةُ فِيهِ كَمَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي امْرَأَتِي إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ بِوَجْهٍ فَلَمْ يُمْكِنُ تَأْثِيرُ النِّيَّةِ فِيهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هِيَ طَالِقٌ بَعْد تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ صَرِيحٌ وَمَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِهِ كِنَايَةٌ فِي الزَّوْجَةِ وَعَلَيَّ الْحَرَامِ وَإِنْ خَرَجْت مَا تَكُونِي لِي بِامْرَأَةٍ وَكُلَّمَا حَلَلْت حَرُمْت كِنَايَاتٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ إذَا وُجِدَ الْخُرُوجَ أَوْ عَدَمُهُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا لِأَنَّهُ إذَا نَوَى بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ أَوْ بِاللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الطَّلَاقَ كَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ خَرَجْت وَلَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا خَرَجَتْ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ وَإِنْ خَرَجَتْ فَطَلَّقَهَا لَمْ تَطْلُقْ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ.

وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ مِنْ السَّبْعِ الْمُحْرِمَات وَأَرَادَ بِهِنَّ السَّبْعَ الْمَذْكُورَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةُ كَانَ بِمَعْنَى أَنْت عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ كَأُخْتِي وَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ ذَلِكَ كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَالظِّهَار فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ أَوْ الظِّهَارَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِشَرْطِ الْعَوْدِ وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ وَطْئِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَطْلَقَ ذَلِكَ أَوْ أَقَّتَهُ كُرِهَ وَلَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ لَكِنْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ وَكَذَا يُكْرَهُ وَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الْحَالِ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا هَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِي لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ السَّبْعِ الْمُحْرِمَاتِ يُشْبِهُ قَوْلَهُ أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ فَأَعْطَيْنَاهُ حُكْمه عِنْد الْإِطْلَاق بِخِلَافِ أَنْت كَأُمِّي فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْتِ مِثْلُهَا فِي الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ فَلِذَا لَمْ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ عِنْد الْإِطْلَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَته عَمَّنْ قَالَ أَنْتِ أَوْ هِيَ طَالِقٌ وَكَانَ فِي يَدِهِ حَصَاةٌ فَأَلْقَاهَا حِينَ الْقَوْلِ وَقَالَ مَا قَصَدْتُ إلَّا الْحَصَاةَ مَا الْحُكْمُ وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ وَأَجْنَبِيَّةٌ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَقَالَ مَا قَصَدْتُ إلَّا الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ كَانَ اسْمُهَا وَالْأَجْنَبِيَّةُ مُتَوَافِقَيْنِ وَقَالَ فُلَانَةُ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ مَا قَصَدْتُ إلَّا الْأَجْنَبِيَّةَ مَا الْحُكْمُ وَلَوْ قَالَ خَلَعْتُك إلَى رَقَبَةِ أَبِيك مَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يُصَدَّقُ فِي قَوْله مَا قَصَدْتُ إلَّا الْحَصَاةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي نَظِيرِهِ وَفِي قَوْلِهِ مَا قَصَدْتُ إلَّا الْأَجْنَبِيَّةَ يُقْبَلُ فِي صُورَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَقَالَ مَا قَصَدْتُ إلَّا الْأَجْنَبِيَّةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ بِخِلَافِهِ فِي صُورَةِ زَيْنَبُ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ.

وَأَمَّا مَا فِي الرَّوْضَة وَأَصْلِهَا عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا إذَا قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت زَيْنَبَ أُخْرَى غَيْرَ زَوْجَتِي فَهُوَ ضَعِيفٌ فَقَدْ قَالَ بَعْد ذَلِكَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ عَدَمُ الْقَبُولِ وَصَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ وَعَلَيْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْن هَذَا وَمَا قَبْلَهُ وَقَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ لِأُمِّ زَوْجَتِهِ ابْنَتُك طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت ابْنَتَك الْأُخْرَى قُبِلَ بِأَنَّ قَوْله زَيْنَبُ طَالِقُ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ وَضْعًا إذْ هُوَ عَلَمٌ وَالْعَلَمُ إنَّمَا وُضِعَ لِيُعَيِّنَ مُسَمَّاهُ تَعْيِينًا خَاصًّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ فَلَيْسَ وَضْعًا فَقَوْلُهُ زَيْنَبُ طَالِقٌ لَا يَنْصَرِفُ لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ وَضْعًا وَكَذَا شَرْعًا إذْ الرَّجُلُ لَا يُطَلِّقُ

ص: 143

غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَأَمَّا ابْنَتُك وَإِحْدَاكُمَا وَأَنْتِ فَلَيْسَ عَلَمًا وَإِنَّمَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْوَصْفِيَّةِ فَكَانَ مُشْتَرَكًا وَضْعًا فَإِذَا قَالَ ابْنَتُك مَثَلًا طَالِقٌ كَانَ آتِيًا بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْن زَوْجَتِهِ وَغَيْرِهَا يَتَنَاوَلُهُمَا تَنَاوُلًا وَاحِدًا وَعِنْد هَذَا التَّنَاوُلِ لَا مُخَصِّصَ فِيهِ غَيْرُ الْقَصْدِ فَقُبِلَتْ مِنْهُ دَعْوَى إرَادَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُهُ.

وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَةُ الْمُوَافَقَةُ لِلشَّرْعِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُطَلِّقُ غَيْرَ زَوْجَته وَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلُ فِي صُورَةِ الْحَصَاةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الطَّلَاقَ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّهَا تَقْبَلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَرَجُلٌ إحْدَاكُمَا طَالِقُ وَقَالَ أَرَدْت الرَّجُلَ لَمْ يُقْبَلْ نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْحَصَاةِ بِجَامِعِ اسْتِحَالَةِ قَبُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلطَّلَاقِ وَإِذَا قَالَ خَالَعْتُكِ إلَى رَقَبَةِ أَبِيك فَقَدْ أَتَى بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَبَاهَا يَلْتَزِمُ لَهُ بِمَالٍ فِي مُقَابَلَةِ طَلَاقِهِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَلْتَزِمَ لَهُ بِهِ فَوْرًا وَحِينَئِذٍ فَتَطْلُقُ بَائِنًا بِذَلِكَ الْمَالِ إنْ كَانَ مُعَيَّنًا وَإِلَّا فَبِمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ خَالَعَهَا خُلْعًا مُنَجَّزًا وَأَنَّهَا بَعْدَهُ تَصِيرُ فِي رَقَبَةِ أَبِيهَا أَيْ عَلَيْهِ مُؤْنَتهَا طَلُقَتْ بِقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَلَمْ تَقْبَلْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَأَمَّا إذَا أُضْمِرَ الْتِمَاسُ جَوَابِهَا فَقَبِلَتْ بَانَتْ وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الْمِنْهَاجِ وَأَصْلُهُ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْأَكْثَرِينَ لَكِنَّ الْمُصَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمَالِ كِنَايَةٌ مُطْلَقًا فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ اللَّفْظِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَ فَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ لَا يَقَع بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْته وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَوْقِعُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا لِأَنَّ لَفْظَهُ مُحْتَمِلٌ كَمَا تَقَرَّرَ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ احْتِمَالَيْهِ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرْطٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(سُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مَعِي الْيَوْمَ وَإِلَّا فَبُكْرَةً أَوْ قَدَّمَ مَعِي عَلَى مُطَلَّقَةٍ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إذَا قَالَ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مَعِي الْيَوْمَ وَإِلَّا فَبُكْرَةً وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ مَا رَبَطَ بِهِ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ مَعِي إلَى آخِرِهِ لَا مَعْنَى لَهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَهُ مَعْنًى فَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ حَالَ كَوْنِك مَعِي فَإِنْ لَمْ تَكُونِي مَعِي فَأَنْتِ طَالِقٌ بُكْرَة أَيْ غَدًا وَهَذَا مَعْنَى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَإِذَا أَرَادَهُ قُبِلَ ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ مَعِيَّتُهَا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَلُقَتْ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ مَعِيَّتُهَا لَهُ كَذَلِكَ طَلُقَتْ بِفَجْرِ غَدِهِ وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ مَا قَصَدَهُ بِهَا إنْ كَانَ لَهُ قَصْدٌ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا شَيْئًا فَالْمَدَارُ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ لَا ضَابِطَ لَهَا فِي اللُّغَةِ فَرُجِعَ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَهَا ضَابِطًا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ فَالْمُقَارَنَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعُرْفِ لِأَنَّهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَوَجَبَ إنَاطَةُ الْحُكْمِ فِيهَا بِالْعُرْفِ وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ مَا عَدَا الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ تَقْدِيمِ اللُّغَةِ عَلَى الْعُرْفِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(مَسْأَلَة) قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ هُوَ وَإِيَّاهَا بِعُلْوِ الدَّارِ مَتَى نَزَلْت إلَى أَسْفَلِ الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَمُرَادُهُ بِأَسْفَلِهَا الْحَوْشُ وَصِفَةُ الْمَجْلِسِ الَّذِي هُوَ بِعُلُوِّهِ ثُمَّ تَشَاجَرَا فَقَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي فَإِنَّ عَازِمَةٌ إلَى بَيْتِ وَالِدَتِي فَقَالَ لَهَا إلَّا كُنْت تَعْزِمِي مُفَاتَنَةً فَقَدْ أَذِنْت لَك وَإِنْ كُنْت تُرِيدِي الطَّلَاقَ فَقَدْ عَرَفْت الْيَمِينَ الَّتِي حَلَفْتهَا فَخَرَجَتْ إلَى بَيْتِ وَالِدَتِهَا فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَوْ يُرْجَعُ إلَى إرَادَتِهَا؟

(فَأَجَابَ) إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنْ كُنْت تَعْزِمِي مُفَاتَنَةً فَقَدْ أَذِنْت لَك تَنْجِيزَ الْإِذْنِ لَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا تَنْزِلُ لِلْخُرُوجِ مُفَاتَنَةً فَنَزَلَتْ لِلْخُرُوجِ مُفَاتَنَةً لَمْ يَحْنَثْ وَإِلَّا حَنِثَ فَتُعْتَبَرُ نِيَّتُهَا حَالَ النُّزُولِ إلَى أَسْفَلِ الدَّارِ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ تَعْلِيقَ الْإِذْنِ عَلَى خُرُوجِهَا مُفَاتَنَة وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ مُطْلَقًا حَالَ النُّزُولِ لِلْخُرُوجِ فَوُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فَوَقَعَ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَسَأَلَ آخَرُ عَنْهَا أَهِيَ زَوْجَته أَمْ لَا فَقَالَ هِيَ مُخْرَجَةٌ وَفِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ هِيَ مُخْرَجَةٌ فَهِيَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى فَهَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْد هَذَا الْإِقْرَارِ الصَّادِرِ مِنْهُ بِغَيْرِ مُحَلِّلٍ وَلَا يُلْتَفَتُ لِعُرْفِ بَلَدِهِ أَمْ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْد زَوْجٍ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ بَلَدِهِ

ص: 144

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ لَا بِعُرْفِ أَهْلِ بَلْدَة فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَقَطْ كَانَ رَجْعِيًّا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِمُحَلَّلٍ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُ الطَّلَاقِ.

(سُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ قَالَ إلَّا دَخَلْت الدَّارَ طَلَّقْتُك فَهَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ أَوْ لَغْوٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ فَيَكُونُ لَغْوًا نَعَمْ إنْ ذَكَرَ قَبْلَهُ قَدْ لَفْظًا أَوْ نِيَّةً كَانَ تَعْلِيقًا لِانْسِلَاخِهِ عَنْ الْوَعْدِ حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(سُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَحَنِثَ وَلَهُ زَوْجَتَانِ فَهَلْ تَطْلُقَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا مُبْهِمًا فَيُعَيِّنُ وَلَوْ مَنْ مَاتَتْ مِنْهُمَا بَعْدَ التَّعْلِيقِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا تَطْلُقُ إلَّا إحْدَاهُمَا كَمَا أَفْتَى بِهِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا بَحَثَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالَةِ التَّعْلِيقِ فَلَهُ تَعْيِينُ الْمَيِّتَةِ وَفِي التَّوَسُّطِ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مَا يُوَافِقُهُ لَكِنْ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ تَعْيِينُ الْحَيَّة نَظَرًا لِحَالِ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ زَوْجَةً وَقَعَ عَلَى الْمَوْجُودَةِ حَالَ وُجُودِ الصِّفَةِ لِتَعَذُّرِهِ فِي غَيْرِهَا وَقَضِيَّةُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا إذَا بَقِيَتَا جَازَ لَهُ تَعْيِينُ إحْدَاهُمَا لِلْيَمِينِ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَاسْتِدْلَالُهُ فِي التَّوَسُّطِ بِكَلَامِ الشَّامِلِ وَقَضِيَّة الثَّانِي خِلَافُهُ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(سُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ دَارِ زَوْجِهَا فَقَالَ إلَّا لَمْ تَرْجِعْ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ بِمَاذَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ مَاتَتْ قَبْلَ الرُّجُوع طَلُقَتْ قَبْل مَوْتِهَا أَوْ الزَّوْجُ أَوْ هُمَا لَمْ تَطْلُقْ كَذَا فِي التَّوَسُّطِ وَقَوْلُهُ لَمْ تَطْلُقْ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبِرُّ لَا فَرْقَ بَيْن أَنْ يُفْعَلْ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْبَيْنُونَةِ بِخِلَافِ مَا بِهِ الْحِنْثُ فَعَلَيْهِ لَوْ مَاتَ ثُمَّ مَاتَتْ وَلَمْ تَرْجِعْ وَقَعَ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ شَهِدَ بِأَنَّهُ سَرَّحَ زَوْجَتَهُ فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ وَلَا نَظَرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَرَّحَ رَأْسَهَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبَرَكَتِهِ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أُنْثَيَاك طَالِقٌ فَهَلْ تَطْلُقُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ لَهَا أُنْثَيَيْنِ بِقَوْلِ أَهْلِ الطِّبِّ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ عَدَمَ الْوُقُوعِ وَمَنْ أَطْلَقَ الْوُقُوعَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ لَهَا أُنْثَيَيْنِ دَاخِل الْفَرْجِ إحْدَاهُمَا لِلشَّعْرِ وَالْأُخْرَى لِلْمَنِيِّ كَمَا فِي الرَّجُلِ.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ طَلَب فِي لَيْلَةٍ غَشَيَانَ زَوْجَتِهِ وَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ وَقَالَتْ لَهُ حَلَفْتُ أَنَّك مَا تَأْتِنِي اللَّيْلَةَ فَقَالَ لَهَا كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَمَكِّنِينِي وَعَلَيَّ كَفَّارَتُهَا وَإِلَّا أَحْلِفُ أَنَا يَمِينًا لَا تُكَفِّرُ فَلَمْ تُمَكِّنْهُ فَقَالَ لَهَا إلَّا لَمْ تُمَكِّنِينِي اللَّيْلَةَ مِنْ نَفْسِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَاقِي مَا بَقِيَ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِي كَلَامِهِ بَاقِي اللَّيْلَةِ أَوْ بَاقِي الشَّهْرِ أَوْ بَاقِي السَّنَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَمَضَتْ اللَّيْلَةُ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاق الثَّلَاثُ أَمْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ بِقَوْلِ اللَّيْلَةَ وَقَوْله بَاقِي مَا بَقِيَ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِتُمَكِّنَنِي وَأَرَادَ بِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ اللَّيْلَةِ كَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ اللَّيْلَةَ فَيَلْغُو وَكَذَا إنْ أَرَادَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ طَالِقٌ لِأَنَّ فِيهِ تَوْقِيتًا لِلطَّلَاقِ وَهُوَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قُبَلَ مَوْتِي بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ طَلُقَتْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْنَوِيّ فَقَالَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ فَتْحِ بَاءِ قَبْلَ غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا فِيهِ ضَمُّ الْبَاءِ وَإِسْكَانُهَا وَهُوَ الدُّبُرُ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَبِأَنَّ الرَّافِعِيَّ وَابْنِ الرِّفْعَة لَمْ يَتَعَرَّضَا إلَّا لِضَمِّ الْقَاف فَقَطْ. اهـ.

وَرَدَّهُ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنْ قَبْلَ هُنَا لَيْسَتْ نَقِيضَةَ بَعْدٍ بَلْ بِمَعْنَى مَا يُسْتَقْبَلُ فَمَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ قَبْل مَوْتِي أَيْ عِنْد اسْتِقْبَالِهِ وَذَلِكَ قُبَيْلَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَزْهَرِيّ قَالَ وَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَسَرَ الْقَافَ أَيْضًا طَلُقَتْ قُبَيْلَ الْمَوْتِ. اهـ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَفِي رَدِّهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِسْنَوِيّ لَمْ يَجْعَلْ قَبْلَ نَقِيضِهِ بَعْدَ بَلْ جَعَلَهَا نَقِيضَةَ الدُّبُرِ ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّ الضَّبْطَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْأَزْهَرِيِّ. اهـ.

فَمَا الَّذِي تَعْتَمِدُونَهُ وَهَلْ عَنْ كَلَامِ الرَّوْضَةِ جَوَابٌ شَافٍ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْآن مُتَرَدِّدَةٌ بَيْن أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى

ص: 145

قَبْل بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ حَالًا أَوْ بِمَعْنَى قُبْل بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ أَوْ ضَمِّهَا فَيَقَعُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَالْعِصْمَةُ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَلَمْ يُوقِعْ النَّوَوِيُّ بِهَا حَالًا بَلْ قُبَيْلِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ وَهَذَا فِقْهٌ ظَاهِرٌ وَلَا نَظَرَ إلَى كَوْنِهَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ لُغَةً إنْ سَلَّمْنَاهُ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ أَخْطَأَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهَذَا الْخَطَأُ لَا يُصَيِّرُ الْكَلِمَةَ لَا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ حَالًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بَلْ يُصَيِّرُهَا مُتَرَدِّدَةً بَيْن قَبْل وَقُبْل السَّابِقَتَيْنِ فَحَيْثُ لَمْ يُرِدْ بِهَا مَدْلُولَ أَحَدِهِمَا حَكَمْنَا بِالْمُحَقَّقِ وَهُوَ الْوُقُوعُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَأَلْغَيْنَا الْمَشْكُوكَ فِيهِ وَهُوَ الْوُقُوعُ حَالًا فَانْدَفَعَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِسْنَوِيّ وَبَانَ أَنَّهُ لَا يُلَاقِي كَلَامَ النَّوَوِيِّ وَأَنَّ مَا ذَكَره أَجْنَبِيٌّ عَمَّا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ.

(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ قَالَ أَنْتِ تَالِقٌ بِالتَّاءِ فَهَلْ يَحْنَثُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لُغَتُهُمْ إبْدَالُ الطَّاءِ تَاءً كَانَ صَرِيحًا لِأَنَّ هَذَا الْإِبْدَالَ لُغَةُ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ وَإِلَّا فَهُوَ كِنَايَةٌ.

(وَسُئِلَ) بِمَا صُورَته حَلَفَ صَائِمٌ أَنَّ امْرَأَتَهُ طَالِقٌ إلَّا أَفْطَرَ عَلَى حَارٍّ أَوْ بَارِدٍ فَمَا حِيلَتُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى ابْنُ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ حَانِثٌ إذْ لَا بُدَّ مِنْ الْفِطْرِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ لَا حِنْثَ لِإِفْطَارِهِ بِالْغُرُوبِ لِحَدِيثِ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْإِفْطَارِ تَعَاطِي الْمُفْطِرَ كَانَتْ حِيلَتُهُ الْمُخَلِّصَةُ لَهُ مِنْ الْحِنْثِ بِأَنْ يُدْخِلَ عُودًا فِي صِمَاخِهِ أَوْ نَحْوَهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ صَدَقَ أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى حَارٍّ أَوْ بَارِدٍ وَإِنْ أَرَادَ الْإِفْطَارَ الشَّرْعِيَّ فَلَا حِنْثَ أَيْضًا وَإِنْ أَطْلَقَ فَهُوَ مَحِلُّ التَّرَدُّدِ وَالنَّظَرِ لِتَعَارُضِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ فِي ذَلِكَ وَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَنَحْوَهُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ فَالْأَوْجُهُ تَرْجِيحُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاق وَمَنْ وَافَقَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إلَّا خَرَجْت مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بَعْد ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ مَثَلًا فَلَمْ تَخْرُجْ فِيهِ ثُمَّ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ أَوْ لَا يَقَعُ لِإِذْنِهِ لَهَا فِي الْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ خُرُوجَهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ خُرُوجٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَشْمَلُهَا يَمِينُهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ يَنْتَفِي اعْتِبَارُهُ بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُقَيَّدِ بِهِ فَيَصْدُقُ لُغَةً وَعُرْفًا أَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مِرْيَةَ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ كَيْفِيَّةِ صِيغَةِ حَلِّ طَلَاقِ الدَّوْرِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ صِيغَتُهُ فِيمَا إذَا عَلَّقَ بِطَلَاقِ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ سَوَاءٌ أَقُلْنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالتَّوْكِيلِ أَمْ لَا لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ عَلَى الصَّحِيحِ فَهُوَ لَمْ يُطَلِّقْ أَمَّا لَوْ عَلَّقَ بِأَنْ وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَلَا حِيلَةَ لَهُ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ الْفَسْخَ بِإِعْسَارِهِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا فُسِخَ بِذَلِكَ تَخَلَّصَ مِنْ الدَّوْرِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى ثَوْبٍ فَبَانَ ثَوْبَ غَيْرِهِ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا ظَنَّهُ ثَوْبَهُ فَحَلَفَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ ثَوْبُ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا لَا يَحْنَثُ النَّاسِي.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ الْمُشَرَّفَتَيْنِ وَحَضْرَمَوْتَ وَالشَّجَرَ وَعُمَانَ مِنْ الْيَمَنِ وَحَلَفَ آخَرُ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِهِ مَنْ الْحَانِثُ وَمِنْ أَيْنَ إلَى أَيْنَ حَدُّ الْيَمَنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ أَرَ فِي حَدِّ الْيَمَنِ شَيْئًا يَشْفِي وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ الْحَالِفِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُطَّرِد عِنْدَهُ فَإِنْ وَافَقَ عُرْفَ يَمِينِهِ فَذَاكَ ظَاهِرٌ وَإِنْ خَالَفَ يَمِينَهُ حَنِثَ وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَبَادِي الرَّأْيِ أَنَّ عُمَانَ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْيَمَنِ فَيَحْنَثُ الْحَالِفُ أَنَّهَا أَوْ إحْدَاهَا مِنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مَا يُعَيِّدُ مَعَ زَوْجَتِهِ وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا إذَا أَوْ إلَّا لَكِنْ الْعَامَّةَ لَا يَعْرِفُونَ حَرْفَ الشَّرْطِ فَمَا الْحُكْمُ وَإِذَا سَأَلَهُ دَرْسِي كَيْف قُلْت فَقَالَ

ص: 146

طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَالَ كَيْفَ قُلْت فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَا أُعَيِّدُ مَعَك فَقَالَ لَهُ قَدْ أَقْرَرْت أَنَّك لَمْ تَذْكُرْ مَا وَلَا الْعِيد فَقَالَ دُهِشْت مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَتَى عَيَّدَ مَعَ زَوْجَتِهِ حَنِثَ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ غَالِبَ الظَّنِّ أَنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ بَاطِنًا بِلَا شَكٍّ وَكَذَا ظَاهِرًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْبُلْقِينِيُّ فِي فَتْوَاهُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ صَخْرَةً بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مُرْتَفِعَةٌ فِي الْهَوَاءِ بَيْن السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَحَلَفَ آخَرُ بِهِ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي تَحْتَهَا مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ أَرَادَ الْأَوَّلُ بِارْتِفَاعِهَا فِي الْهَوَاءِ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِالْبِنَاءِ الَّذِي بُنِيَ تَحْتَهَا حَنِثَ لِكَذِبِهِ فِي ذَلِكَ نَعَمْ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ فَحَلَفَ اعْتِمَادًا عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ لَمْ يَحْنَثْ وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْبِنَاءِ مَوْجُودٌ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى اتِّصَالِهَا بِالْبِنَاءِ وَحَلَفَ وَاحِدٌ أَنَّهَا مُعْتَمَدَةٌ عَلَيْهِ وَآخِر أَنَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَمَدَةٌ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ وَيُحْتَمَلُ عَدَمُهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهِ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ وَلَا هُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا صَادِقٌ فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَالَ إنْ كَانَ الطَّائِرُ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَقَالَ آخَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَلَا يَحْنَثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَانِثًا قَطْعًا لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ قِيلَ لَهُ يَا فُلَانُ أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَك فَقَالَ طَلَّقْت طَلْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهُ آخَرُ أَنْتَ طَلَّقْت ثَلَاثًا فَقَالَ الزَّوْجُ صَدَقْت بِكَلَامِك مَعَك عَلَيَّ شُهُودٌ فَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا هَلْ هَذَا يَكُونُ إقْرَارًا مِثْل نَعَمْ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَوْلَهُ صَدَقْت كَنَعَمْ فَيَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا فَيُؤَاخَذ بِهِ وَقَوْلُهُ بِكَلَامِك إلَخْ أَمَّا أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ أَوْ لَهُ مَعْنًى بِأَنْ يُرِيدَ بِهِ رَفْعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَدَقْت وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَعْقِيبُ الْإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُؤَاخَذُ بِمَدْلُولِ قَوْلِهِ صَدَقْت كَمَا تَقَرَّرَ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَتْ بَذَلْت صَدَاقِي عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِي فَأَجَابَهَا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا آخِرَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ عُمْرِي فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَبْرَأُ مِنْ الصَّدَاقِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ آخِرَ جُزْءِ عُمْرِهِ فَلَا تَرِثُ مِنْهُ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لِعَدَمِ اتِّصَالِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْبَذْلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ بِالثَّلَاثِ كَانَ رَجْعِيًّا لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ جَوَابِهِ لِبَذْلِهَا لِأَنَّهَا طَلَبَتْ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي الطَّلَاقِ حَالًا فَأَجَابَهَا بِجَوَابٍ يَقْتَضِي الْوُقُوعِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ يَغْفُلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَيُلَقِّنُونَهُ ذَلِكَ بَعْد أَنْ يُلَقِّنُوهَا الْبَذْلَ عَلَى الطَّلَاقِ آخِرَ عُمْرِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ الْمَرِيض مِنْ حِرْمَانِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْإِرْثِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَوْ لَقَّنُوهَا بَذَلْت صَدَاقِي عَلَى تَعْلِيقِ طَلَاقِي بِآخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِك فَفَعَلَ كَانَ بَائِنًا وَأَفَادَ الْمَقْصُودَ لِوُجُودِ الْمُطَابَقَةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ كَمَا ذَكَرَ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الرُّويَانِيّ عَنْ وَالِدِهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ أَنَّهَا تَطْلُقُ حَالًا وَفِي الرَّوْضَةِ فِي تَعْلِيقِ مَا يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ وَعَدَمِ الْبَرَاءَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ قَالَ عَلَيَّ السَّبِيلُ مَا أَفْعَلُ كَذَا فَهَلْ هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ بَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْحَلَالُ فَإِنَّهُ كِنَايَةُ وَكَذَا هَذَا إلَّا أَنْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ هَذَا اُعْتِيدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ بِخِلَافِ عَلَيَّ السَّبِيلُ وَمِثْلُهُ بِالْأَوْلَى عَلَيَّ الْحَقُّ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا لَمْ تَتَزَوَّجِي بِفُلَانٍ فَهَلْ تَطْلُقُ حَالًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ وَعُمَرَ الْفَتَى أَنَّهُ يَقَعُ حَالًا لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلُ الْبِرِّ وَمُسْتَحِيلُهُ يَقَعُ الطَّلَاق بِهِ حَالًا كَإِنْ لَمْ تَصْعَدِي السَّمَاء وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ الشَّرَفُ ابْنُ الْمُقْرِي وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ أَصْلًا وَأَطَالَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدَّرَ مَحْذُوفًا جَعَلَ بِهِ الْبِرَّ مُمْكِنًا فَقَالَ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَتَتَزَوَّجُ فَالتَّقْدِيرُ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجِي بَعْدَ طَلَاقِي إيَّاكِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ هَذَا التَّقْدِيرِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ إنْ لَمْ تَتَزَوَّجِي بِفُلَانٍ شَرْطٌ

ص: 147

إلْزَامِيٌّ أَيْ أَنْتِ حَلَالٌ لِكُلِّ أَحَدٍ إلَّا فُلَانًا فَلَا تَحِلِّينَ لَهُ مُرِيدًا إلْزَامَهَا أَنْ لَا تَتَزَوَّجْ بِهِ وَهَذَا شَرْطٌ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ حَلَّتْ لِفُلَانٍ وَغَيْره فَأَشْبَهَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا لَا يَقَع عَلَيْكِ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ بَلْ بَعْضُهَا وَهُوَ مِلْكٌ لِمَا سِوَى فُلَان.

وَهَذَا شَرْطٌ إلْزَامِيٌّ وَالطَّلَاقُ وَإِنْ قَبْل التَّعْلِيقِ فَلَا يَقْبَلُ إلْحَاق الشَّرْطِ الْإِلْزَامِيِّ بِهِ كَأَنْتِ طَالِقٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَدْخُلِي الدَّارَ وَأَنْ لَا تَحْتَجِبِي مِنِّي فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ جَزْمًا وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَسْأَلَتنَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ إلْزَامِيّ فَيَقَعُ وَيَلْغُو إلْزَامَهُ لَهَا مَا لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا هَذَا لَوْ فُرِضَ إمْكَانُهُ فَمَا بَالك بِالْمُسْتَحِيلِ شَرْعًا وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِإِنْ لَمْ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ فَوْرٌ فَإِنْ كَانَ بِإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجِي وَقَعَ الطَّلَاقُ حَالًا اتِّفَاقًا.

وَلَا فَرْقَ فِي الْكُلِّ بَيْنَ أَنْ يَقُول بِفُلَانٍ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى إنْ لَمْ تَتَزَوَّجِي لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَعْنَى إلْزَامُهَا أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْن ذِكْرَ الْغَيْرِ وَعَدَمِ ذِكْرِهِ.

(وَسُئِلَ) مَا الْمُعْتَمَدُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرَ فِي الطَّلَاقِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ وُقُوعُ الْمُنَجَّزِ كَمَا رَجَّحَهُ الشَّيْخَانِ وَتَبِعَهُمَا فُحُولُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيِّ وَالْبُلْقِينِيِّ وَغَيْرِهِمْ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ سُرَيْجٍ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ بِقَوْلِهِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَكَانَ هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ الدَّوْرَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِمَا فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَكْثَرُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرِ الشَّافِعِيِّ وَمَا قَبْلَهُ وَجَرَى كَثِيرُونَ عَلَى إنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ حَاكِمٌ نُقِضَ حُكْمُهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْإِمَامُ وَلِيُّ اللَّهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيِّ يَقُولُ ائْتُونِي بِزَوْجَةِ الْمُلْقِي لِلدَّوْرِ حَيْثُ طَلَّقَهَا بَعْده وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِأَتَزَوَّجَهَا وَنَاهِيك بِهِ عِلْمًا وَوَرَعًا قَيْل وَلَمْ يَنُصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى الدَّوْرِ الْجُعْلِيّ بَلْ عَلَى الدَّوْرِ الشَّرْعِيّ الَّذِي لَا خِلَاف فِي اعْتِبَارِهِ وَمَنْ نَسَبَ إلَيْهِ الْأَوَّلَ فَقَدْ غَلِطَ وَجَهِلَ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِينَ لِأَنَّهُ زَلَّةٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. اهـ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ الثَّلَاث لَوْ تَغْدِي إلَى بَيْتِ أَهْلِك مِنْ غَيْرِ رِضَائِي مَا كَانَ إلَّا فِرَاقُك فَغَدَتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لِبَيْتِ أَهْلِهَا فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَهَلْ يُصَدَّقُ إلَّا قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهَلْ حَذْفُ إلَّا كَوُجُودِهَا وَيَحْصُلُ الْفِرَاقُ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ جَمْعٌ يَمَنِيُّونَ فَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثَةً لِأَنَّهَا غَدَتْ إلَى بَيْتِ أَهْلِهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ عَامِّيٌّ لَا يُفَرِّقُ بَيْن التَّعْلِيقِ وَالتَّنْجِيزِ وَلَا قَصَدَ شَيْئًا وَأَفْتَى آخَرُ بِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ إلَّا فِرَاقُك تَعْلِيقٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِمْرَارِ امْرَأَتِهِ إنْ غَدَتْ إلَى بَيْتِ أَهْلِهَا وَالظَّاهِرُ الْفَرْقُ بَيْن إلَّا وَعَدَمِهَا وَقَدْ أَشَارَ فِي فَتَاوَى الْأَصْبَحِيّ إلَى نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ إنْ رُحْت إلَى أَهْلِك فَهُوَ تَمَامُ طَلَاقِك وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنَّ لَفْظَ التَّمَامِ لَا يَقْتَضِي الثَّلَاثَ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي أَجَابَ بِهِ أَكْثَرُهُمْ وَظَهَرَ لِي أَنَّ تَمَامَ كَقَوْلِهِ كَانَ إلَّا فِرَاقُك. اهـ.

وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ أَنْظَارٌ ظَاهِرَةٌ فَالْوَجْهُ إفْتَاءُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ أَمَّا إفْتَاءُ الْأَوَّلِ بِالْوُقُوعِ بِمُجَرَّدِ الْغُدُوِّ لِبَيْتِ أَهْلِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُعَلَّقِ اشْتَمَلَ عَلَى التَّعْلِيقِ بِشَيْئَيْنِ بِالْغُدُوِّ لِبَيْتِ أَهْلِهَا وَعَدَمِ فِرَاقِهَا فَانْحَلَّ كَلَامُ الزَّوْجِ حِينَئِذٍ إلَى أَنَّهُ قَالَ إنْ غَدَوْتِ لِبَيْتِ أَهْلِكِ وَلَمْ أُفَارِقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَتَى غَدَتْ إلَيْهِمْ وَفَارَقَهَا فَوْرًا أَوْ تَرَاخِيًا وَلَوْ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ انْحَلَّتْ الثَّلَاثُ وَإِنْ لَمْ يُفَارِقْهَا حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَعَتْ الثَّلَاثُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَأَمَّا إفْتَاءُ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُعَلِّقٌ الطَّلَاقَ عَلَى عَدَمِ اسْتِمْرَارِهَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى الذَّهَابِ وَعَلَى عَدَمِ فِرَاقِهِ لَهَا بَعْدَ الذَّهَابِ وَقَوْل الثَّانِي الظَّاهِرُ الْفَرْقُ بَيْنَ إلَّا وَعَدَمِهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا كَانَ فِرَاقُك فِيهِ تَعْلِيقُ الثَّلَاثِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ.

وَقَوْله كَانَ فِرَاقُك فِيهِ تَعْلِيقُهُ عَلَى مُجَرَّدِ ذَهَابِهَا إذْ الْمَعْنَى يَلْزَمُنِي الثَّلَاثُ إنَّ غَدَوْت لِأَهْلِك حَصَلَ الْفِرَاقُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لَوْ أَبْرَأَتْنِي فُلَانَةُ وَأَبُوهَا مِنْ صَدَاقِهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ

ص: 148

بِإِبْرَائِهِمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يَقَعُ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ وَشَيْخُهُ الْفَتَى لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي التَّعْلِيقِ وُجُودُ الصِّفَةِ الصَّحِيحَةِ وَبَرَاءَةُ أَبِيهَا لَغْوٌ فَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ بَرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ فَهَلْ تَطْلُقُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ تَطْلُقُ لِقَوْلِهِمْ لَوْ نَادَى إحْدَى زَوْجَتَيْهِ: بِيَا حَفْصَةُ فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ الْمُجِيبَةُ ظَاهِرًا فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْمُنَادَاة طَلُقَتْ أَيْضًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ وَكَّلَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ الطَّلَاقَ وَنَوَى فَهَلْ يَقَعُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا تَصِحُّ النِّيَّةُ إلَّا مِنْ الْكَاتِبِ فَإِنْ وَكَّلَهُ فِي النِّيَّةِ أَيْضًا فَكَتَبَ الْوَكِيلُ وَنَوَى وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ لَا تَنْفُذُ إلَّا إنْ كَانَ الْكَاتِبُ هُوَ النَّاوِي سَوَاءٌ الْكَاتِبُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ إذَا تَحَمَّلْت بِمَا فِي بَطْنِك إلَى أَنْ يَعْرِفَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَلْ تَطْلُقُ حَالًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ وَالنَّفَقَةَ فَأَجَابَتْهُ طَلُقَتْ بَعْد الْمُدَّةِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتَى بِصِيغَةِ تَنْجِيزٍ كَطَلَّقْتُك عَلَى أَنْ تَتَحَمَّلِي بِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَوَصَفَ الْمُلْتَزِمَ بِصِفَةِ السَّلَمِ فَقُبِلَتْ طَلُقَتْ فَوْرًا وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَقَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلُ وَالْفَرْق أَنَّهُ فِي التَّنْجِيزِ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى الْمَجْهُولِ بِخِلَافِهِ فِي التَّعْلِيقِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ قَالَ إلَّا لَمْ تَخْرُجِي مِنْ بَيْتِي بِشَيْءٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ خَرَجْت بِغَيْرِ شَيْءٍ وَقَالَ بَلْ بِشَيْءٍ فَلَا يَقَعُ فَمَنْ الْمُصَدَّقُ مِنْهُمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَضِيَّةُ مَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي فِي إنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا هُنَا أَيْضًا لَكِنَّهُ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّنَةِ ثُمَّ ادَّعَى وَطْأَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَفِيمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِعَدَمِ الْوَطْءِ ثُمَّ اخْتَلَفَا وَفِيمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ثُمَّ ادَّعَى الْإِنْفَاقَ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ الْحِنْثِ وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّظَائِرِ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا فِي الرَّوْضَةِ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ فِي مَحِلِّهِ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مَا فِي الرَّوْضَةِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ لِأَنَّ نَحْوَ الْوَطْءِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْ شَأْنِهِ الْخَفَاءُ وَمَشَقَّةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِذْنِ وَخُرُوجِهَا بِشَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ وَنَحْوِهَا فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ لَوْ أَكَلَ قِطٌّ حَمَامَ إنْسَانٍ فَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ فَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ حَتَّى مَاتَ الْقِطُّ فَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَحْنَثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ فَأَعْسَرَ الْغَرِيمُ فَإِنَّهُ إذَا فَارَقَهُ حَنِثَ وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمُلَازَمَةُ وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ أَطَؤُك اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا أَوْ مُحَرَّمَةً فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِ وَطْئِهَا خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ الْجَوَابَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ فِي قِيَاسِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْغَرِيمِ انْعَقَدَتْ مُطْلَقَةً فَعَمَّتْ حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَلَيْسَ فِيهَا تَنْصِيصٌ بِالْحَلْفِ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا لَوْ حَلَفَ لِيَقْتُلَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا بِقَتْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَفِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِهِ مُنْعَقِدَةٌ وَيَجِبُ الْحِنْثُ فِيهَا وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْغَرِيمِ فَلَا تَنْصِيصَ فِيهَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ أُفَارِق نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ آحَادُ الْمَنْفِيِّ كَلَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ ظَرْفٍ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ عَهْدٍ وَكَلَا أَشْرَبُ مَاءً مِنْ إدَاوَةٍ فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ إدَاوَةٍ وَعُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْي إمَّا ظَاهِرٌ كَلَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ بِرَفْعِ رَجُلٍ أَوْ نَصٌّ كَلَا رَجُلَ بِفَتْحِ رَجُلٍ أَوْ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ التَّنْصِيصِ كَلَا مِنْ رَجُلٍ.

وَلَا أُفَارِقُ مِنْ الظَّاهِرِ فِي الْعُمُومِ فَيَعُمُّ حَالَتَيْ الْيَسَار وَالْإِعْسَار فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَة الْهِرِّ الْحِنْثُ بِتَرْكِ الْقَتْلِ إلَّا أَنْ يُبَاحَ لَهُ قَتْلُهُ بِأَنْ يَصُولَ عَلَى نَحْوِ طَعَامِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ هَذَا مَا فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا جَوَابُ الثَّانِي فَإِنَّهُ فَاسِدٌ حُكْمًا وَقِيَاسًا أَمَّا الْحُكْمُ فَلَمَّا تَقَرَّرَ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيَشْرَبْنَ الْخَمْرَ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ الْحَلْفَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ وَهُوَ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْجَائِزِ شَرْعًا إذْ لَا عُمُومَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ لَمْ أَطَأْ حَثٌّ عَلَى الْوَطْءِ وَالْأَيْمَانُ الْمُطَلَّقَة تَنْزِلُ عَلَى

ص: 149

الْمُبَاحَاتِ فَنُزِلَ عَلَى مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْم لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَحُصُولُ الْفَيْئَةِ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْحِنْثِ إذْ لَوْ وَطِئَ فِي الْمُدَّةِ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ وَحَصَلَتْ الْفَيْئَةُ عَلَى الْأَصَحّ وَكَذَا لَوْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْحَلُّ يَمِينُهُ قَطْعًا وَتَحْصُلُ الْفَيْئَةُ عَلَى الْأَصَحِّ فَإِنْ قُلْتَ لِمَ لَا نُنَزِّلُ قَتْلَ الْهِرِّ عَلَى حَالَةِ الْإِفْسَادِ الَّتِي يَحِلُّ قَتْلُهُ فِيهَا قُلْت تِلْكَ حَالَةٌ نَادِرَةٌ فَلَا تَعْلَقُ بِهَا الْيَمِينُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الْحَلْفَ عَلَى قَتْلِ زَيْدٍ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَحِلُّ قَتْلُهُ وَشُرْبُهَا فِيهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَالِفَ مَتَى تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِ الْهِرِّ وَلَمْ يَقْتُلْهُ حَنِثَ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ تِلْكَ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُصَلِّي خَلْف زَيْدٍ فَوَلِيَ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْ الْحَالِفِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ تَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّ مَشَقَّةَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ تَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْذَارِ الْجُمُعَةِ وَأَيْضًا فَمِلْكُ الزَّوْجَةِ يُشْبِهُ فَوَاتُهُ فَوَاتَ الْمَالِيَّةِ وَفِي الْجَوَاهِرِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْأَوْلَى وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ نَشَزَتْ وَرَجَا رَدَّهَا إلَى الطَّاعَةِ فَاشْتُغِلَ بِرَدِّهَا عُذِرَ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا لَوْ اُشْتُغِلَ بِصَلَاحِ مَالِهِ الَّذِي يَخْشَى فَسَادَهُ لَوْ صَلَّى الْجُمُعَةَ لَا يُقَالُ لِمَ لَا يَكُونُ الْإِيجَابُ الشَّرْعِيُّ عُذْرًا فِي عَدَمِ الْحِنْثِ كَالْإِكْرَاهِ الْحِسِّيّ فَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَهُ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى مَا يَعُمّ الْمَعْصِيَةَ وَغَيْرَهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ فَأَعْسَرَ فَفَارَقَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُلَازَمَتُهُ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَهُوَ فِي يَدِ الْكُفَّار عَلَى أَنَّهُ لَا يُهَاجِرُ لَزِمَتْهُ الْهِجْرَةُ وَيَحْنَثُ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ وَبِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ وَدِيعَةٌ يَلْزَمُهُ إخْفَاؤُهَا فَإِذَا حَلَفَ كَاذِبًا حَنِثَ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْأَوْلَى لِهَذَا الْحَالِفِ أَنْ يَرْفَعَ الْقَضِيَّةَ إلَى حَاكِمٍ فَيُلْزِمُهُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَحْنَثُ لِإِكْرَاهِ الْقَاضِي وَإِلْزَامِهِ لَهُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ طَلَّقْتَ زَوْجَتَك فَقَالَ تِسْعِينَ طَلْقَةً وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَمَا يَلْزَمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ أَرَادَ الْمُلْتَمِسُ بِذَلِكَ الِاسْتِخْبَارَ كَانَ إقْرَارًا فَيُؤَاخَذُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فَلَهُ مُعَاشَرَتُهَا بَاطِنًا بَعْد الرَّجْعَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْتِمَاسَ الْإِنْشَاءِ مِنْ الْمُطَلَّقِ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ مُطْلَقًا لِأَنَّ طَلَّقْتُ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ لِذِكْرِهِ فِي السُّؤَالِ وَمَا فِيهِ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ طَلَّقْتهَا تِسْعِينَ طَلْقَةً قَاصِدًا بِذَلِكَ الْإِيقَاعِ فَتَلْحَقُهَا الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الطَّلَاقَ رَجْعِيُّ وَأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ وَمَا ذَكَرْته فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا قَالُوهُ فِيمَنْ قِيلَ لَهُ الْتِمَاسًا لِلْإِنْشَاءِ أَطْلَقْتَ زَوْجَتَك فَقَالَ نَعَمْ مَثَلًا بِجَامِعِ أَنَّ نَحْوَ نَعَمْ لَيْسَتْ مِنْ صَرَائِحِ الطَّلَاقِ لَكِنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ الْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ نَزَّلُوهَا مَنْزِلَةَ طَلَّقْتُهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي نَحْوِ نَعَمْ الَّذِي لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى طَلَّقْتُهَا إلَّا مُجَرَّدُ ذَلِكَ التَّنْزِيلِ فَأَوْلَى فِي تِسْعِينَ الْمُسْتَدْعَى تَقْدِيرُ عَامِلٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُؤَالٌ وَلَا إنْشَاءٌ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَم.

(وَسُئِلَ) عَنْ امْرَأَةٍ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعَتْ هَلْ يُقْبَلُ رُجُوعُهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يُقْبَلُ رُجُوعُهَا كَمَا فِي التَّدْرِيبِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُنْسَبُ لِزَوْجِهَا مِنْ غَيْر تَحْقِيقٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ جَمَاعَةٍ جَاءُوا إلَى جَمَاعَةٍ آخَرِينَ فَحَلَفَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ الْوَارِدِينَ بِالطَّلَاقِ مَا نَحْنُ لَكُمْ بِضِيفَانٍ أَوْ مَا نَذُوقُ لَكُمْ طَعَامًا أَوْ مَا نَذُوق عِنْدَكُمْ زَادًا وَقَصَدَ الْيَمِينَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فَحَلَفَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ مَا تَرُوحُونَ إلَّا بَعْدَ زَادٍ فَهَلْ يَبْرَأُ الْحَالِفُ الْأَوَّلُ بِرُجُوعِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى مَحِلِّهِ وَبِالْمَحِلِّ بَاقِيهِمْ الزَّاد وَيَتَمَلَّكُونَ الزَّادَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَذَاكَ وَإِنْ قُلْتُمْ بِخِلَافِهِ فَمَا تَكُونَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ الْحِنْثِ لَهُمَا أَوْضِحُوا لَنَا الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ لَفْظٍ بِمَا يَقْتَضِيه؟

(فَأَجَابَ) رحمه الله بِمَا صُورَتُهُ إذَا حَلَفَ مَا نَحْنُ لَكُمْ بِضِيفَانٍ وَقَصَدَ نَفْسَهُ وَجَمَاعَتَهُ وَحَلَفَ أَحَدُ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ مَا تَرُوحُونَ إلَّا بَعْدَ زَادٍ فَأَطْعَمَهُمْ أَحَدُ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ رَوَاحِهِمْ زَادًا لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْ الْحَالِفَيْنِ حَيْثُ لَا نِيَّةَ لَهُمَا بِأَنْ أَطْلَقَا هَذَيْنِ الْيَمِينَيْنِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ السَّائِلُ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَوَّلِ فِيهِ مَا نَحْنُ لَكُمْ بِضِيفَانٍ.

وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يُضَيِّفْهُمْ الْجَمِيعُ فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ الْأَوَّلُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يَصِيرُ ضَيْفًا

ص: 150

لِأَحَدٍ مِنْ الْقُدُومِ عَلَيْهِمْ فَلَا خَلَاصَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِي أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يَرُوحُ إلَّا بَعْدَ أَكْلِهِ زَادًا مِنْ عِنْدِ أَحَدِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا إنْ أَكَلُوا كُلُّهُمْ زَادًا مِنْ عِنْدِ أَحَدِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ وَيُقَاسُ بِمَا ذَكَرْته بَقِيَّةُ النِّيَّاتِ، أَوْ يَسْأَلُ السَّائِلُ مِنْ الْحَالِفَيْنِ عَنْ مُرَادِهِمَا بِالْحَلِفِ هُنَا وَفِيمَا مَرَّ، وَقَدْ سُئِلَ بِصُورَةِ ذَلِكَ لِيُكْتَبَ لَهُ الْجَوَابُ عَلَى ثَبْتٍ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا نِيَّةٌ فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَإِنْ حَلَفَ الْأَوَّلُ مَا نَذُوقُ لَكُمْ زَادًا فَمَتَى ذَاقَ أَحَدُ الْقَادِمِينَ زَادًا لِلْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ إنْ أَرَادَهُ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَذُقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ شَيْئًا لِلْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ فَلَا حِنْثَ، وَأَمَّا الْحَالِفُ الثَّانِي فَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ الزَّادِ فَذَاقُوا زَادَ الْغَيْرِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِأَكْلِهِمْ لَهُ قَبْلَ رَوَاحِهِمْ وَإِنْ حَلَفَ الْأَوَّلُ مَا نَذُوقُ عِنْدَكُمْ زَادًا فَمَتَى ذَاقُوا عِنْدَهُمْ أَيْ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِمْ عُرْفًا مَعَ حُضُورِهِمْ فِيهِ زَادًا لِلْمَقْدُومِ عَلَيْهِمْ، أَوْ غَيْرِهِمْ حَنِثَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَحْنَثْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرُوحُوا إلَّا بَعْدَ زَادٍ وَإِنْ رَاحُوا بِلَا أَكْلِ زَادٍ حَنِثَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَفِي صُورَةِ مَا نَذُوقُ لَكُمْ زَادًا وَلَا نِيَّةَ لِلْحَالِفِ فَيَبْرَأُ بِتَمَلُّكِهِمْ لِلزَّادِ قَبْلَ ذَوْقِهِ ثُمَّ عَلَى السَّائِلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - أَنْ يَبْحَثَ عَنْ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَعَنْ كَوْنِ الْحَالِفَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا أَرَادَا شَيْئًا، أَوْ أَطْلَقَا وَيَتَأَمَّلَ مَا ذَكَرْتُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ فَإِنْ فَهِمَ حُكْمَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهْمًا يَقِينِيًّا عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا أَرْسَلَ لِمَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ مُفَصَّلًا لِنَذْكُرَ لَهُ حُكْمَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِينَ أَقَرَّ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى تَمَامِ الْبَرَاءَةِ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ عَلَّقَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ نِكَاحِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ تَزْوِيجًا صَحِيحًا وَيُغَيِّبَ حَشَفَتَهُ فِي قُبُلِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا أَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سِتَّ عَشْرَةَ طَلْقَةً وَقَالَ الْآخَرُ أَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ فَأَجَابَ بَعْضُ فُقَهَاءِ زُبَيْدٍ بِجَوَابٍ مَبْسُوطٍ حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ إلَّا طَلْقَةٌ فَمَا التَّحْقِيقُ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ زُبَيْدٍ مِنْ وُقُوعِ طَلْقَةٍ فَقَطْ غَيْرُ مُعْتَمِدٍ وَلَا مُعَوِّلٍ عَلَيْهِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا قِيَاسَ يُعَضِّدُهُ وَلَيْتَهُ قَالَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَإِنَّ لَهُ وَجْهًا مَا أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ فِيمَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ غَصَبَهُ بُكْرَةً وَآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَشِيَّةً حَلَفَ الْمُدَّعِي مَعَ أَحَدِهِمَا وَأَخَذَ الْغُرْمَ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا تَعَارُضَ. اهـ.

فَهَذَا قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ عَدَمَ وُقُوعِ شَيْءٍ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا يُمْكِنُ الْمُدَّعِيَ هُنَا حَلْفُهُ مَعَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ لَهُ وَجْهًا، تَمْوِيهٌ بَاطِلٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فِيهَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ إلَّا فِي الزَّائِدِ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْأَلْفِ لَمْ يُعَارِضْ مَنْ شَهِدَ بِسِتَّ عَشْرَةَ، إلَّا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا وَأَمَّا السِّتَّ عَشْرَةَ فَهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَيْهَا لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِعَشَرَةٍ مَثَلًا كَانَ مُقِرًّا بِخَمْسَةٍ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ كَانَ مُقِرًّا بِسِتَّ عَشْرَةَ فَيَقَعُ مِنْهَا ثَلَاثٌ وَيُعَزَّرُ عَلَى إيقَاعِهِ الزَّائِدَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنْ الرُّويَانِيِّ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ فَإِنَّهُ أَعْنِي الزَّرْكَشِيّ قَالَ: وَاللَّامُ فِي الطَّلَاقِ لِلْعَهْدِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الثُّلُثُ فَلَوْ طَلَّقَ أَرْبَعًا قَالَ الرُّويَانِيُّ عُزِّرَ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ أَنَّهُ يَأْثَمُ. اهـ.

وَشَاهِدُ مَا ذَكَرْته مِنْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ قَوْلِهِمْ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ دِينَارًا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ دِينَارٍ ثَبَتَ نِصْفُ الدِّينَارِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ وَلِلْمُدَّعِي الْحَلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِالنِّصْفِ لَا يُعَارِضُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَكَمَا ثَبَتَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ يَقَعُ هُنَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَاعْتَمِدْهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا خَالَفَهُ وَبِمَا قَرَّرْته يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ شَهَادَةِ

ص: 151

وَاحِدٍ بِسِتَّةَ عَشَرَ وَآخَرَ بِأَلْفٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَشَهَادَةِ اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ بِكُلِّ تَقْدِيرٍ وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ.

وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ طَلَّقَ وَاحِدَةً وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ تَعَارَضَا فِي الزَّائِدِ عَلَى الْوَاحِدَةِ فَهَلْ يَقَعُ هَذَا الزَّائِدُ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ وُقُوعُهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ بِأَنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ وَزْنَ مَا أَتْلَفَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دِينَارٌ وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّ وَزْنَهُ نِصْفُ دِينَارٍ لَزِمَ الدِّينَارُ أَخْذًا بِشَهَادَةِ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ بِخِلَافِ شَهَادَةِ التَّقْوِيمِ فَإِنْ قَوَّمَتْهُ بَيِّنَةٌ بِدِينَارٍ وَأُخْرَى بِنِصْفٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النِّصْفُ لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَيْهِ وَتَعَارُضِهِمَا فِي الْبَاقِي وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا بِأَنَّ مَدْرَكَ شَهَادَةِ التَّقْوِيمِ الِاجْتِهَادُ وَقَدْ تَطَّلِعُ بَيِّنَةُ الْأَقَلِّ عَلَى عَيْبٍ فَمَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي الْوَزْنِ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالْأَكْثَرِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ فِي الْقِيمَةِ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالْأَقَلِّ وَكَالتَّعَارُضِ فِي الْوَزْنِ التَّعَارُضُ فِي الذَّرْعِ، أَوْ الْعَدِّ، أَوْ الْكَيْلِ فَيُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الْأَكْثَرِ وَأَمَّا قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ قِيَاسُ كَلَامِهِمْ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَزْنِ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِعَدَدِ الْمَعْدُودِ، أَوْ بِأَذْرُعِ الْمَذْرُوعِ فَعَارَضَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ بِأَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ ذَلِكَ كَنِصْفِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ قِيَاسُ كَلَامِهِمْ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ تَأَمُّلِ مَا قَالُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَزْنِ مِمَّا ذَكَرْته فِيهَا عُلِمَ جَرَيَانُ مِثْلِهِ فِي الْعَدِّ وَالذَّرْعِ وَالْكَيْلِ إذْ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ جَلِىٌّ وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ لَمْ يَتَأَتَّ قَوْلُهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ لَا شَيْءَ فِيهِ لَا خَفِيٌّ وَلَا ظَاهِرٌ بَلْ هُوَ الْجَارِي عَلَى سُنَنٍ إلَّا سُنَنَ الِاسْتِقَامَةِ فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِآخَرَ بَادَلْت أَوْ بَادَلْتُك بِزَوْجَتِي إلَى زَوْجَتِك أَوْ بِضَيْعَتِي إلَى ضَيْعَتِك أَوْ بَقَرَتِك أَوْ زَاقَرْت أَوْ زَاقَرْتك إلَى ذَلِكَ فَقَالَ بَادَلْت أَوْ بَادَلْتُك أَوْ زَاقَرْتك أَوْ زَاقَرْت وَيُرِيدَانِ بِزَاقَرْت مَعْنَى بَادَلْت مَا الْحُكْمُ وَعَمَّنْ قَالَ لِآخَرَ طَلِّقْ زَوْجَتَك وَأُزَوِّجُك أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ طَلِّقْ زَوْجَتَك وَأُزَوِّجُك نَفْسِي أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجُك نَفْسِي أَوْ وَأُزَوِّجَكَ أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك ابْنَتِي فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَقَالَ هِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ طَلَقَتْ مَا الْحُكْمُ وَعَمَّنْ أَرَادَ السَّفَرَ فَقَالَ لِلنَّاسِ إلَّا لَمْ أَجِئْ هَذِهِ السَّنَةَ أَوْ إذَا غِبْت عَنْ زَوْجَتِي سَنَةً فَمَا أَنَا لَهَا بِزَوْجٍ أَوْ فَمَا هِيَ لِي امْرَأَةٌ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي بَادَلْت، أَوْ بَادَلْتُك بِزَوْجَتِي إلَى زَوْجَتِك أَنَّهُ إنْ نَوَى بِهِ طَلَاقًا وَاحِدًا، أَوْ مُتَعَدِّدًا وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا فَهُوَ كِنَايَةٌ فِيهِ لِصِدْقِ حَدِّهَا عَلَيْهِ وَهُوَ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَادَلْتُك يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ كَذَلِكَ.

وَقَاعِدَةُ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي بَابِهِ وَلَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ تَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَبَادَلْت صَرِيحٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا يَأْتِي فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الزَّوْجَةِ نَاوِيًا بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا كَذَلِكَ لَزِمَ كَوْنَهُ كِنَايَةً فِيهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا لَا تَعَسُّفَ فِيهِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي نَحْوِ بِعْتُك نَفْسَك إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كِنَايَةٌ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته. ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ صَرَّحُوا بِنَحْوِ مَا ذَكَرْته فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ بِعْتُك الطَّلَاقَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَادَلْتُك بِضَيْعَتِي إلَى ضَيْعَتِك مَثَلًا فَبَيْعٌ؛ لِأَنَّ بَادَلْت مِنْ صَرَائِحِ الْبَيْعِ فَإِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ بَادَلْتُك ضَيْعَتِي بِضَيْعَتِك انْعَقَدَ بَيْعًا وَصَارَتْ الضَّيْعَةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ ثَمَنًا وَالْأُخْرَى مُثَمَّنًا وَأَمَّا بَادَلْت بِضَيْعَتِي إلَى ضَيْعَتِك فَهُوَ بَاطِلٌ لِفَقْدِ كَافِ الْخِطَابِ الْمُشْتَرَطَةِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَزَاقَرْت إذَا اُشْتُهِرَتْ عِنْدَ قَوْمٍ بِمَعْنَى بَادَلْت صَارَتْ كِنَايَةَ بَيْعٍ وَطَلَاقٍ فَإِنْ نُوِيَ بِهَا بَيْعٌ صَحَّ، أَوْ طَلَاقٌ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ زَيْدٌ بِنْتَهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ إلَّا إنْ زَوَّجَهُ فَإِذَا زَوَّجَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلِلْمُطَلِّقِ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُزَوِّجِ الْمُلْتَزِمِ لَهُ بِذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ لَكِنَّهُ قَالَ فِيمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي وَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَلَاقَ هَذِهِ بَدَلًا عَنْ طَلَاقِ الْأُخْرَى يَقَعُ الطَّلَاقَانِ إذَا فَعَلَاهُ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الرَّجْعَةُ. اهـ. فَجَعْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ رَجْعِيًّا يُنَاقِضُ جَعْلَهُ لَهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بَائِنًا.

وَمِنْ

ص: 152

ثَمَّ قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي هَذِهِ لَا رَجْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ عَلَى الْآخَرِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِيُوَافِقَ قَوْلُهُ مَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي تِلْكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ كَجٍّ يَقُولُ إنَّهُ بَائِنٌ فِي الصُّورَتَيْنِ وَيَجْعَلُ الْعِوَضَ فِيهِمَا فَاسِدًا حَتَّى يَقَعَ بَائِنًا وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَابْنُ الْقَطَّانِ يَقُولُ إنَّهُ بَائِنٌ فِي الْأُولَى رَجْعِيٌّ فِي الثَّانِيَةِ وَعَلَيْهِ الْفَرْقُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ نِكَاحُ الْبِنْتِ مَقْصُودٌ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعِوَضِيَّةِ شَرْعًا فَكَانَ فَاسِدًا وَيَلْزَمُ مِنْ فَسَادِهِ الْوُقُوعُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأَمَّا الْعِوَضُ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا فَهُوَ بِمَثَابَةِ الدَّمِ.

وَقَاعِدَةُ الْخُلْعِ أَنَّ عِوَضَهُ إذَا لَمْ يُقْصَدْ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ الْوُقُوعِ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْأُولَى وَرَجْعِيًّا بِلَا مَالٍ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ الْأَوْجَهُ لِمَا عَلِمْت مِنْ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَجَوَابُ بَقِيَّةِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته وَهُوَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْمُقَابِلُ لِلْخُلْعِ تَزْوِيجًا فَوُجِدَ وَقَعَ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ طَلَاقًا وَقَعَ رَجْعِيًّا وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ أَجِئْ هَذِهِ السَّنَةَ. . . إلَخْ كِنَايَةٌ فَإِنْ نَوَى بِهِ طَلَاقًا، أَوْ مُتَعَدِّدًا وَغَابَ عَنْهَا سَنَةً وَقَعَ مَا نَوَاهُ وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَقِيلَ لَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ ثَلَاثًا أَوْ قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَقَالَ ثَلَاثًا مَا الْحُكْمُ؟ ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْأَوْجَهُ أَخْذًا مِمَّا أَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ سبحانه وتعالى عَهْدَهُ أَنَّهُ نَوَى بِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا وَقَدْ بَنَاهُ عَلَى مُقَدَّرِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَقَعَ الثَّلَاثُ وَكَانَ التَّقْدِيرُ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهَا طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَكِنْ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ كَوْنُهَا غَيْرَ مَنْوِيَّةٍ مَعَ لَفْظِ طَالِقٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الْعَدَدِ كَوْنُهُ مَنْوِيًّا بِنِيَّةٍ مَقْرُونَةٍ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَاقْتِرَانِ نِيَّةِ الْكِنَايَةِ بِهَا فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا بَيَّنَهُ شَيْخُنَا الْمَذْكُورُ حَيْثُ قَالَ:

لَمْ يُصِبْ فِي جَوَابِهِ هَذَا سَوَاءٌ أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ بِلَفْظِ ثَلَاثًا كَمَا يَقْتَضِيهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ لِمَا لَا يَخْفَى أَيْ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ أَمْ بِلَفْظِ طَالِقٍ الْمُقَدَّرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إعْمَالِ مُقَدَّرٍ يَجُوزُ عَدَمُ إرَادَتِهِ وَإِهْمَالِ مُتَلَفَّظٍ بِهِ وَلَا فِي تَوْجِيهِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ اعْتَبَرَ أَنَّ التَّقْدِيرَ هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ وَاقْتِرَانِهَا بِطَالِقٍ، إذْ نِيَّةُ الْعَدَدِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا كَمَا ذُكِرَ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْعَدَدِ ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ نَقَلَ عَنْ فَتَاوَى الْإِمَامِ ابْنِ رَزِينٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ قُولُوا لَهَا أَنْتِ وَرَفِيقَتُك طَالِقٌ فَقِيلَ لَهُ لِأَيِّ شَيْءٍ لَا تَقُولُ ثَلَاثًا فَقَالَ ثَلَاثًا.

فَأَجَابَ إنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِلَفْظِي هَذَا أَيْ بَلِّغُوهُمَا أَنِّي طَلَّقْتهمَا وَنَوَى بِذَلِكَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ وَقَعَ الثَّلَاثُ كَمَا نَوَى وَإِنْ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ عَدَدٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَبِذَلِكَ يَبْقَى قَوْلُهُ ثَلَاثًا إنْ قَصَدَ بِهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كَأَنَّهُ أَرَادَ طَلَّقْت الْآنَ كُلًّا مِنْهُمَا ثَلَاثًا، أَوْ كُلًّا مِنْهُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ بِهِ تَمَامُ الثَّلَاثِ إنْ دَخَلَ بِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا قَصْدٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ بَعْدَ نَقْلِهِ ذَلِكَ وَفِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَقْفَةٌ وَلَا سِيَّمَا إنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ؛ لِأَنَّ ثَلَاثًا بِمُفْرَدِهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِيقَاعِ فَتَأَمَّلْهُ اهـ.

وَفِي ذَلِكَ تَأْيِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ الْجَوَابُ.

وَأَمَّا تَوَقُّفُ الْأَذْرَعِيِّ فَهُوَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يَبْنِ الْكَلَامَ عَلَى الْمُقَدَّرِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ الصَّلَاحِ أَفْتَى فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ سَكَتَ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَالَ ثَلَاثًا بَائِنَةً عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الثَّلَاثَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعْنَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ أَوَّلًا لَكِنْ أَرَادَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا تَتِمَّتَهُ وَتَفْسِيرَهُ وَعَنَى بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا أَنَّهَا طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ أَيْضًا قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِلَفْظٍ حُذِفَ بَعْضُهُ اجْتِزَاءً بِالْبَاقِي مِنْهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الْقَرِينَةِ وَمِمَّا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً أَنْتِ ثَلَاثًا وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْهُ فِي تَوَسُّطِهِ قُلْت تَأَمَّلْ جَوَابَهُ مَعَ مَا سَبَقَ عَنْ صَاحِبِهِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ رَزِينٍ وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ ثَلَاثًا فَالْأَصَحُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ

ص: 153

شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ سِوَاهُ فَاعْلَمْهُ. اهـ. وَيُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا مَا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثَلَاثًا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النِّيَّةُ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ سَبَقَ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيرَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثَلَاثًا فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَوَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ ثُمَّ رَأَيْتنِي فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فَرَاجِعْهُ مَعَ هَذَا.

(وَسُئِلَ) اُشْتُهِرَ فِي التُّرْكِ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ قَالَ لَهَا دُسْتُورٌ فَإِذَا غَابَ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ نَوَى الطَّلَاقَ أَمْ لَا مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا طَلَاقَ فِيمَا ذَكَرَ وَإِنْ جَعَلْنَا لَفْظَ (دُسْتُورٌ) كِنَايَةً؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُقُوعِ بِهَا تَحَقُّقُ نِيَّةِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ بِهَا وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ ثَابِتَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَلَا تُزَالُ إلَّا بِيَقِينٍ وَجَعْلُ (دُسْتُورٌ) كِنَايَةً لَهُ وَجْهٌ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ عُرْفًا فِي الْإِذْنِ فِي الْمُفَارَقَةِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يُنَاسِبُ مَعْنَاهَا الْمُشْتَهِرَةِ فِيهِ عُرْفًا فَلَمْ يَبْعُدْ جَعْلُهَا كِنَايَةً.

(وَسُئِلَ) عَنْ حُكْمِ حَلِّ الدَّوْرِ بِالصِّيغَةِ الَّتِي نَقَلَهَا السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مَعَ التَّنْظِيرِ فِيهَا وَهِيَ كُلَّمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَالدَّمِيرِيُّ يَقُولُ هِيَ إنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْت طَالِقٌ فَهَلْ الصِّيغَتَانِ سَوَاءٌ وَقَوْلُ الْأَزْرَقِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْمُخَلِّصُ إذَا قُلْتُمْ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ قُلْنَا الْمُخَلِّصُ أَنْ يَقُولَ لِلزَّوْجَةِ طَلِّقِي نَفْسَك فَتُطَلِّقُ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ عَلَى الْأَصَحِّ لَكِنْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ الْفَسْخَ كَالْإِعْسَارِ وَنَحْوِهِ. اهـ. فَعِبَارَةُ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ حَاصِرَةٌ وَالْأَزْرَقُ مِنْ الْوَاقِفِينَ عَلَى مُصَنَّفَاتِ السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيِّ وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ لِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَا لِمَا أَظْهَرَاهُ مِنْ النَّظَرِ مَعَ نَقْلِهِ لِعِبَارَةِ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْحَاصِرَةِ فَهَلْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْفُضْ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ نَقْلًا عَنْ بَعْضِهِمْ إنَّهُ إذَا عَكَسَ التَّعْلِيقَ فَقَالَ: كُلَّمَا تَلَفَّظْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَإِذَا طَلَّقَهَا انْحَلَّ الدَّوْرُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَالَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْقَبْلِيَّ قَدْ صَارَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مُعَلَّقًا عَلَى النَّقِيضَيْنِ وَهُمَا الْوُقُوعُ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ.

وَكُلَّمَا كَانَ لَازِمًا لِلنَّقِيضَيْنِ فَهُوَ وَاقِعٌ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْوَاقِعِ عَنْ أَحَدِهِمَا قَالَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْوَكَالَةِ كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلِي فَيُعَادُ الْعَزْلُ بِأَنْ يَقُولَ كُلَّمَا عُدْت وَكِيلِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ فَيَقُولُ عَزَلْتُكَ. اهـ. وَأَمَّا تَنْظِيرُ الْإِسْنَوِيِّ بِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ الْمُتَأَخِّرِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى التَّنْجِيزِ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصُوَرٍ يَصِحُّ فِيهَا التَّعْلِيقُ دُونَ التَّنْجِيزِ مِنْهَا الرَّاهِنُ إذَا أَعْسَرَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عِتْقَ الْمَرْهُونِ بِصِفَةٍ فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ انْفِكَاكِ الرَّهْنِ نَفَذَ الْعِتْقُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَصِحُّ تَنْجِيزُهُ وَمِنْهَا الْعَبْدُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ عَلَى عِتْقِهِ وَلَا يَصِحُّ تَنْجِيزُهَا وَلَهُ فِيهِ نَظْرٌ ثَانٍ وَهُوَ سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّعْلِيقِ الثَّانِي لَكِنَّ التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدْرَكَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ إنَّمَا هُوَ وُقُوعُهُ عَلَى تَقْدِيرِ كُلٍّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ.

وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الطَّلَاقُ بِلَا لَفْظٍ آخَرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْمَدْرَكُ فِي الْوَكَالَةِ إنَّمَا تَعَارُضُ التَّعْلِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ مَطْلُوبُهُ خِلَافُ مَطْلُوبِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَلَمَّا تَعَارَضَا اعْتَضَدَ الْعَزْلُ بِالْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ الْحَجْرُ وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ الْعَزْلُ إلَّا بِلَفْظٍ. اهـ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَقَّبَ اعْتِرَاضَهُ هَذَا وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّعَقُّبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّ التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. . . إلَخْ لَا يُفِيدُهُ فِي مَطْلُوبِهِ نَفْعًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَرَتُّبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مَعَ انْفِرَادِهِ عَمَّا يُعَارِضُهُ وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ مُعَارِضٍ لَهُ وَهُوَ التَّعْلِيقُ الثَّانِي فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ هَذَا الْمُعَارِضِ إلَيْهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْوُقُوعُ لِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا أَنَّ سَبَبَ انْحِلَالِ الدَّوْرِ أَنَّ التَّعْلِيقَيْنِ لَمَّا وُجِدَا وَصَحَّا لَزِمَ كَوْنُ الطَّلَاقِ الْقَبْلِيِّ مُعَلَّقًا عَلَى النَّقِيضَيْنِ وَهُمَا الْوُقُوعُ الَّذِي اقْتَضَاهُ التَّعْلِيقُ الثَّانِي وَعَدَمُهُ الَّذِي اقْتَضَاهُ التَّعْلِيقُ الْأَوَّلُ.

وَيَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالنَّقِيضَيْنِ الْوُقُوعُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْوَاقِعِ

ص: 154

عَنْ أَحَدِهِمَا فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ وَإِيضَاحُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ وَإِنَّمَا الَّذِي ادَّعَاهُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا بِالنَّقِيضَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَاقِعٌ لِمَا مَرَّ وَذَلِكَ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُ التَّعْلِيقَانِ ثُمَّ قَالَ طَلَّقْتُك كَانَ هَذَا مُعَلَّقًا بِنَقِيضَيْنِ وَهُمَا وُقُوعُ الْقَبْلِيِّ ثَلَاثًا لَوْ وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ مُفَادُ التَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ وَوُقُوعُهُ ثَلَاثًا لَوْ لَمْ يَقَعْ هَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ مُفَادُ التَّعْلِيقِ الثَّانِي فَإِذًا صَحَّحْنَا كُلًّا مِنْ التَّعَلُّقَيْنِ.

فَإِنْ قُلْنَا بِتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَزِمَ وُقُوعُ النَّقِيضِينَ وَكُلٌّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِارْتِفَاعِ الْمَذْكُورَيْنِ مُحَالٌ فَلَزِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا وَاقِعٌ وَلَا بُدَّ وَأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ لَمَّا وُجِدَ سَدَّ بَابَ الطَّلَاقِ فَلَمَّا وُجِدَ التَّعْلِيقُ الثَّانِي مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ طَلَّقْتُك وَقُلْنَا بِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ الثَّانِي الَّتِي سَلَّمَهَا الْإِسْنَوِيُّ كَمَا مَرَّ لَزِمَ مَنْعُهُ لِذَلِكَ السَّدِّ وَاقْتِضَاؤُهُ لِلْوُقُوعِ وَإِلَّا لَزِمَ الْمُحَالُ الْمُقَرَّرُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ انْدِفَاعُ قَوْلِهِ وَلِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الطَّلَاقُ بِلَا لَفْظٍ آخَرَ مَعَ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ الْعَزْلُ إلَّا بِلَفْظٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اللَّفْظِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَقَرَّرَ وَانْدِفَاعِ مَا حَاوَلَهُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْبَابِ وَبَابِ الْوَكَالَةِ عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ قَدْ يَتَّفِقُ مَعَ اخْتِلَافِ مَدْرَكِهِمَا فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مَدْرَكُ الْوَكَالَةِ غَيْرَ مَدْرَكِ مَا هُنَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ حَلُّ الدَّوْرِ السَّابِقِ بِالتَّعْلِيقِ اللَّاحِقِ عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ أَشَارَ إلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا بِقَوْلِهِ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْوَكَالَةِ إلَخْ فَجَعَلَ بَيْنَهُمَا تَقَارُبًا لَا اتِّحَادًا وَهُوَ عَيْنُ مَا يَدَّعِيهِ الْإِسْنَوِيُّ فَلَا وَجْهَ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَحَثَ انْحِلَالَ الدَّوْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا يَدُكِ طَالِقٌ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوُقُوعَ بِالسِّرَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّلْقَةِ، أَوْ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ لَا يُنْسَبُ لِلْمُطَلِّقِ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْمِيلٌ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى تَنَاقُضٍ فِيهِ وَقَعَ لِلرَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا لَمْ يَنْسَدَّ بَابُ الطَّلَاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ وُقُوعُ طَلَاقٍ عَلَيْهَا وَفِي هَذَا الْمِثَالِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِهَا. اهـ.

وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْعِمَادِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إيقَاعِ بَعْضِهِ وَلَا مِنْ تَطْلِيقِ بَعْضِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ فَرْعُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ. اهـ. وَلَيْسَ بِذَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الطَّلَاقِ إلَّا إذَا أَوْقَعَهُ عَلَى كُلِّهَا دُونَ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الِانْسِدَادِ الدَّوْرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى لَفْظِهِ وَهُوَ مَتَى، أَوْ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَإِذَا أَوْقَعَهُ عَلَى بَعْضِهَا وَقُلْنَا بِمَا مَرَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَوْلُهُ وَقَعَ عَلَيْك وَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُقُوعُهُ وُقُوعَ الثَّلَاثِ قَبْلَهُ لَمْ يَحْصُلْ الدَّوْرُ فَظَهَرَ أَنَّ لِمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَجْهًا وَأَنَّ الدَّوْرَ يَنْحَلُّ بِهِ كَمَا يَنْحَلُّ بِمَا مَرَّ فَهَاتَانِ طَرِيقَتَانِ لِحَلِّهِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْكَمَالِ الدَّمِيرِيِّ مِنْ حَلِّهِ بِمَا مَرَّ عَنْهُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَنْقُولِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَإِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي تِلْكَ تَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ فَمَا بَالُك بِهَذِهِ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا بِوَجْهٍ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهَا انْحِلَالٌ.

وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَزْرَقِ فَإِنَّمَا يَتَّضِحُ إنْ كَانَتْ صِيغَةُ تَعْلِيقِهِ كُلَّمَا، أَوْ مَتَى طَلَّقْتُك وَحِينَئِذٍ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِذَلِكَ لَمْ يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الطَّلَاقِ حَتَّى يَحْتَاجَ لِحَلِّهِ وَإِنَّمَا يَنْسَدُّ الْبَابُ إذَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ كُلَّمَا، أَوْ مَتَى وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي وَهَذِهِ لَا يَنْحَلُّ الدَّوْرُ فِيهَا بِمَا قَالَهُ الْأَزْرَقُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلطَّلَاقِ يُسَمَّى وُقُوعًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ إيقَاعًا وَحَصْرُ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ قَدْ بَانَ انْدِفَاعُهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ لَهُ طَرِيقَيْنِ طَرِيقَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَطَرِيقَ الْإِسْنَوِيِّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(سُئِلَ) عَمَّا لَوْ قَالَ عَلَيَّ فِي زَوْجَتِي بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إلَّا بِإِسْكَانِ النُّونِ أَوْ تَشْدِيدِهَا بِفَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ بُدُّكِ مِنْ مُسَايَرَتِي الْحَقَّ فَسَارَ إلَى الْحَقِّ بَعْدَ مُدَّةٍ لَكِنْ لَمْ يَتَسَايَرَا مَعًا فِي الطَّرِيقِ مَا حُكْمُهُ؟ وَعَمَّا لَوْ قَالَ عَلَيَّ فِي امْرَأَتِي بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إلَّا لَمْ تُعْطِنِي الْحَقَّ هَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ بِنَفْيِ الْإِعْطَاءِ حَتَّى لَوْ أَعْطَاهُ الْحَقَّ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى صِيغَةِ عَلَيَّ فِي زَوْجَتِي بِالطَّلَاقِ هَلْ هُوَ صَرِيحٌ، أَوْ كِنَايَةٌ، أَوْ لَغْوٌ

ص: 155

وَلِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ مَنْشَؤُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ بِالطَّلَاقِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا كَانَ لَغْوًا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَالطَّلَاقُ لَا يُقْسَمُ بِهِ لَكِنَّهَا هُنَا مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَيَّ فِي زَوْجَتِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً أَيْ: عَلَيَّ فِي زَوْجَتِي الطَّلَاقُ وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَغْوٌ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَإِذَا تَرَدَّدَ لَفْظٌ كَذَلِكَ رُجِعَ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فَإِنْ نَوَى بِالْبَاءِ الْقَسَمَ كَانَ لَغْوًا، أَوْ كَوْنَهَا زَائِدَةً كَانَ صَرِيحًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ مَاتَ وَلَمْ تُعْلَمْ نِيَّتُهُ فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ التَّرَدُّدِ.

وَأَصْلُ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ يُرَجِّحُ النَّظَرَ إلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَحَيْثُ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ نُظِرَ فِي لَفْظِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ بُدَّكَ مِنْ مُسَايَرَتِي الْحَقَّ. وَقَوَاعِدُ اللُّغَةِ قَاضِيَةٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ بِاحْتِمَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ يُفَرِّقُ بَيْنَ فَتْحِ إنَّ وَكَسْرِهَا مَعَ تَخْفِيفِهَا، أَوْ تَشْدِيدِهَا عُومِلَ بِقَضِيَّةِ فَرْقِهِ وَأُدِيرَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ تِلْكَ الْمُحْتَمَلَاتِ رَجَعْنَا إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ قَالَ نِيَّتِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسِيرَ مَعِي، أَوْ وَحْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ التَّرَاخِي إلَى الْقَاضِي، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُخَلِّصُ لِي حَقِّي الَّذِي عَلَيْهِ أَخَذْنَاهُ بِمَا نَوَى مِنْ هَذِهِ الْمُحْتَمَلَاتِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَإِنْ اطَّرَدَ عُرْفُهُمْ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مُحْتَمِلٍ لَهُ حُمِلَ عَلَيْهِ.

وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ فِي عَلَيَّ فِي زَوْجَتِي بِالثَّلَاثِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الصَّرَائِحِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُمْ إذَا تَعَارَفُوا لَفْظًا طَلَاقًا وَكَانَ مُحْتَمِلًا لَهُ يَكُونُ كِنَايَةً وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ عُرْفُهُمْ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ بِشَيْءٍ فَإِنْ نَطَقَ بِإِنْ مَكْسُورَةٍ مُخَفَّفَةٍ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا بُدَّ لَك أَيْ: لَا غِنًى لَك عَنْ أَنْ تُسَايِرَنِي الْحَقَّ فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ سَايَرَهُ الْحَقُّ بِأَنْ ذَهَبَ هُوَ وَإِيَّاهُ وَلَوْ مُتَرَتِّبَيْنِ إلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ الْحَلِفِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِلَّا حَنِثَ بِالْيَأْسِ بِمَوْتٍ، أَوْ نَحْوِهِ وَإِنَّمَا لَمْ تُشْتَرَطْ الْمَعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُسَايَرَةَ إلَى الْحَقِّ تَصْدُقُ بِاجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِهِ فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا هُوَ نَصٌّ فِي الْمَعِيَّةِ عِنْدَ السَّيْرِ وَلَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي فَوْرِيَّةِ الْمُسَايَرَةِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ مُحَكَّمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ. وَإِنْ شَدَّدَ إنَّ مَعَ كَسْرِهَا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ الْحَلِفَ عَلَى إثْبَاتِ غِنَاهُ عَنْ مُسَايَرَتِهِ إلَى الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ وَإِلَّا حَنِثَ وَإِنْ فَتَحَهَا مُخَفَّفَةً كَانَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ أَنْ مُخَفَّفَةً فَفِي النَّحْوِ يَقَعُ حَالًا؛؛ لِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ وَفِي غَيْرِهِ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَأْتِي هُنَا مَا مَرَّ فِي الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَإِنْ فَتَحَهَا مُشَدَّدَةً كَانَ مَعْنَاهُ قَرِيبًا مِمَّا مَرَّ فِي مَعْنَى الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ فَيَأْتِي فِيهَا فِي تِلْكَ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا نِيَّةَ وَلَا عُرْفَ كَمَا تَقَرَّرَ.

(وَسُئِلَ) عَنْ مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا جَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَتُهَا إذَا قُلْنَا بِتَصْحِيحِ الدَّوْرِ فَطَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ عَلَّقَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ يُرِيدُ دَفْعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِذَلِكَ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَاهُ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ أَمْ لَا فَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ

(أَجَابَ الْأَوَّلُ) فَقَالَ: نَقَلَ الشَّيْخُ النَّهَارِيُّ الْيَمَنِيُّ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِعَدَمِ الْإِلْغَاءِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ ادَّعَى الْإِلْقَاءَ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ. نَعَمْ إنْ قَامَتْ حِسْبَةٌ قُبِلَتْ، وَكَذَا إنْ أَقَامَتْهَا الْمَرْأَةُ، أَوْ صَدَّقَتْهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ قُبِلَ قَالَ: وَفِي الرَّوْضَةِ مَا يُفْهِمُهُ. اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِعَدَمِ الْإِلْغَاءِ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ.

(وَأَجَابَ الثَّانِي) فَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْغَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا ادَّعَى مَا لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ وَيَدِينُ فِيهِ فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيمَا ادَّعَاهُ لَمْ يَرْتَفِعْ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ إذْ لَا أَثَرَ لِمُصَادَفَتِهَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى قَالَ الْإِمَامُ الْأَزْرَقُ وَبِنَحْوِهِ

أَجَابَ الْفَقِيهُ الْحِلِّيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ ادَّعَى تَعْلِيقَ الدَّوْرِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ. الْأَمْرُ الثَّانِي لِلْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا نَظَائِرُ قَالُوا فِيهَا بِعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الْمُطَلِّقِ فِيمَا ادَّعَاهُ، مِنْهَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ نَقَلُوا عَنْ الْإِمَامِ الْخُوَارِزْمِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا طَلَّقَ

ص: 156

زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى فَسَادَ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَصَادَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى دَعْوَاهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَا نِكَاحًا جَدِيدًا إلَّا بِمُحَلِّلٍ لِكَوْنِهِمَا مُتَّهَمَيْنِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ الْقَفَّالُ وَنَقَلَهُ فِي الْأَنْوَارِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عُطَيْفٍ الْيَمَنِيُّ: وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ قَوْلَ الزَّوْجَيْنِ وَبَيِّنَتَهُمَا عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَحَكَمَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الْمَنْقُولِ فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا قَالَهُ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ فَحِينَئِذٍ لَا يَخْفَى أَنَّ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ نَقْضَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. اهـ.

قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْخُوَارِزْمِيُّ مِنْ عَدَمِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ هُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَغَوِيِّ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ وَغَيْرِهِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ: وَالْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ: أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَدَمَ السَّمَاعِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْثَرِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعُذْرِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ حَيْثُ فَرَّقُوا فِي التَّحْلِيفِ وَأَلْزَمُوهُ بِالْبَيِّنَةِ قَالَ أَعَنَى الْأَذْرَعِيَّ وَفِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهَا مُطْلَقًا فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ لِلتُّهْمَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى كَمَسْأَلَتِنَا الْمَسْئُولِ عَنْهَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعِمَادِ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ: وَنَظِيرُ مَا قَالَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ.

الْمَرْأَةُ إذَا خَالَعَتْ الزَّوْجَ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهَا كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الْفَتَاوَى وَقَوْلُهُمْ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ وَصُورَتُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي الْبَاطِنِ أَمَّا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الدَّبِيلِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فِي هَذَا الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ إنَّ نِكَاحِي كَانَ فَاسِدًا وَأُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ ثُمَّ أَعْقِدُ نِكَاحًا صَحِيحًا فَكَلَّمَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي فَسَادِ نِكَاحِهِ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَذْرَعِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الدَّعَاوَى مِنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَالَ بْنَ ظَهِيرَةَ ذَكَرَ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَطَالَتْ مُدَّتُهُ مَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ ادَّعَى فَسَادَ النِّكَاحِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي لَمْ أَكُنْ نَكَحْتهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَمِنْهَا مَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ أَرَدْت بِالْبَائِنِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ الثَّلَاثُ لِمُصَادَفَتِهَا الْبَيْنُونَةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ

لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ نَاصِرٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلهَا ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي كُنْت طَلَّقْتهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ قَبْل أَنْ تَضَعَ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَهَلْ تَعُودُ إلَيْهِ قَبِلَ الزَّوْجُ أَمْ لَا تَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ؟

(فَأَجَابَ) فَقَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْوَضْعِ فَتَبِينُ بَعْدَهُ فَلَا تَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَعِدَّتَيْنِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَمِنْهَا مَا سُئِلَ عَنْهُ قَاضِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ بَلْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَهِيرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ خَالَعَهَا قَبْل ذَلِكَ وَأَرَادَ رَفْعَ الثَّلَاثِ بِالْخُلْعِ وَوَافَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا الْخُلْعَ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَمْ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؟

(فَأَجَابَ) فَقَالَ نُقِلَ فِي الرَّوْضَةِ فِي أَوَاخِرِ الطَّلَاقِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت حَرَّمْتُهَا عَلَى نَفْسِي قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا رَأَيْت فِي فَتَاوَى مَنْسُوبَةٍ إلَى الْقَاضِي إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَا آكُلُ هَذَا الزَّادَ الْمُعَيَّنَ ثُمَّ أَكَلَهُ قَبْل أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ ثُمَّ قَالَ أَنَا مَلْقِيٌّ بِمَسْأَلَةِ الدَّوْرِ فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ؟

فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: نَعَمْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَأَفْتَى بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَدُ وَلَدِهِ الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ بْنِ أَبِي السُّعُودِ حَتَّى قَالَ وَأَمَّا عَدَمُ

ص: 157

الْوُقُوعِ أَصْلًا فَغَيْرُ مُعْتَمَدٍ وَإِنْ رَجَّحَهُ كَثِيرُونَ وَانْتَصَرَ لَهُ جَمْعٌ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ فِي فَتَاوِيهِ: وَالْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهَا وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي إبْرَاهِيمَ وَوَلَدِ وَلَدِهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ الشَّرِيفَ السَّمْهُودِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت وَكَّلْت فُلَانًا بِطَلَاقِهَا أَوْ كُنْت عَزَلْتهَا عَنْ فُلَانٍ أَوْ وَلَّيْتهَا فُلَانًا قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَقَعْ الثَّلَاثُ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) فَقَالَ: ذُكِرَ فِي الْعَزِيزِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ كُنْت حَرَّمْتهَا عَلَى نَفْسِي قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَقَعْ الثَّلَاثُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَهُوَ شَامِلٌ لِدَعْوَى سَبْقِ التَّحْرِيمِ بِوَاسِطَةِ وَكِيلِهِ فِيهِ بِخُلْعٍ وَنَحْوُهُ مَا فِي فَتَاوِي الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ وَلِيَّهَا كَانَ قَدْ وُكِّلَ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا الْوَكِيلُ إلَّا بِأَلْفٍ فَالْعَقْدُ لَمْ يَنْعَقِدْ فَالطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ وَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ

قَالَ فِي الْخَادِمِ: وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى إبْطَالِ النِّكَاحِ بِالْمُخَالَفَةِ فِي أَصْلِ الصَّدَاقِ وَلَا يَخْتَصُّ مَا ذُكِرَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بَلْ يَطَّرِدُ فِي كُلِّ صُورَةٍ ادَّعَيَا فِيهَا الْفَسَادَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ. جَوَابُهُ.

وَمِنْهَا سُئِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ بِالثَّلَاثِ مَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ ثُمَّ كَانَ فَقِيلَ لَهُ حَنِثَ ثُمَّ قَالَ أَنَا مَلْغِيٌّ بِمَسْأَلَةِ الدَّوْرِ عَلَى مَحْضَرِ الْفَقِيهِ فُلَانٍ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ مَلْغِيٌّ أَمْ لَا يُقْبَلُ؟

(فَأَجَابَ) فَقَالَ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَعْمَلُ بِمَسْأَلَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا وَالْمُخْتَارُ الِاحْتِيَاطُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. إذْ لَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَادَّعَى كُلُّ مُطَلِّقٍ ثَلَاثًا أَرَادَ رَفْعَ الْعَارِ عَنْهُ بِتَحْلِيلِ زَوْجَتِهِ ثُمَّ تَجْدِيدِ نِكَاحِهَا أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ الْفَسَادُ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا أَنَّ الشَّيْخَيْنِ رضي الله عنهما ذَكَرَا أَنَّ الرُّويَانِيَّ قَالَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ تَصْحِيحَ الدَّوْرِ لَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ بَلْ عِبَارَةُ الشَّيْخِ نَاصِرٍ لَا يَحِلُّ تَعْلِيمُهَا لِلْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي تَصْحِيحِ الدَّوْرِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ عَنْ الْقَاضِي صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ ظَهِيرَةَ مِنْ أَنَّ عَدَمَ الْوُقُوعِ أَصْلًا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ نَاصِرٍ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ - وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ فَظَهَرَ لَنَا مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا عَدَمُ قَبُولِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ تَعْلِيقَ الدَّوْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لَوْ بَاعَ دَارًا ثُمَّ قَالَ كُنْت وَقَفْتهَا أَوْ بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ قَالَ كُنْت أَعْتَقْتُهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ فَهَلْ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ أَوْ الْجَوَابُ الثَّانِي وَنَقْلُ مَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرَ نَظِيرٌ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا أَوْ لَا أَوْضِحُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِجَوَابٍ شَافٍ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا بَلْ هِيَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي بِلَادِنَا لِكَثْرَةِ طَلَاقِهِمْ، ثُمَّ ادِّعَائِهِمْ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَعْلِيقَ مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبُلْدَانِ بِادِّعَائِهِمْ ذَلِكَ، فَالِاحْتِيَاطُ سَدَّ هَذَا الْبَابَ عَنْهُمْ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ؟

(فَأَجَابَ) عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ فَقَدْ بَلَغَنِي فِيهَا عَنْ أَهْلِ بَجِيلَةَ وَغَيْرِهِمْ قَبَائِحُ عَظِيمَةُ الْفُحْشِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِهْتَارِهِمْ بِالدِّينِ وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ سُنَنِ الصَّالِحِينَ فَلِذَلِكَ صَنَّفْت فِي بُطْلَانِهَا وَفِسْقِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مُصَنَّفًا حَافِلًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمْ مُرَاجَعَتُهُ وَزَجْرُ أَهْلِ بِلَادِكُمْ بِهِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْقَبَائِحِ، وَلَقَدْ أَخَذَهُ بَعْضُ أَبْنَاءِ الْفُقَرَاءِ إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ، أَوْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ وَحَصَلَ لِكَثِيرِينَ مِنْهُمْ الْهِدَايَةُ وَاجْتِنَابُ نِسَائِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ تَحَلَّلَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ، وَبَعْضُهُمْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، وَقَدْ أَطَلْت فِي ذَلِكَ الْمُصَنَّفِ وَبَيَّنْت الرَّدَّ فِيهِ عَلَى رَجُلٍ زُهْدَانِيٍّ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ شَيْخٍ لَهُ زُهْدَانِيٍّ أَيْضًا، وَبَيَّنْت أَيْضًا أَنَّ فِي كَلَامِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى وَبَيَّنْت فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَيْضًا أَنَّ أَكْثَرَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا

ص: 158

فِي كَيْفِيَّةِ الْوُقُوعِ خِلَافَ مَا اشْتَهَرَ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرِينَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ وَبَيَّنْت فِيهِ أَيْضًا أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُسُوقٌ وَأَنَّ مَنْ حَكَمَ فِيهَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ يُنْقَضُ حُكْمُهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُلْغِيًا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّا وَإِنْ تَحَقَّقْنَا إلْغَاءَهُ نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَكَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ أَيْضًا وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ مِنْ قَبُولِهِ إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ، أَوْ صَدَّقَتْهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَلَقَدْ أَصَابَ الْمُجِيبُ الثَّانِي فِيمَا ذَكَرَهُ فَهُوَ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(سُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِوَلَدِهِ إلَّا قُلْت فِي بَيْتِي تَكُنْ أُمُّك طَالِقًا فَقَالَ بَعْضَ الْيَوْمِ فَهَلْ يَحْنَثُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقِيلَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ وَمَا الْمُرَادُ بِالْقَيْلُولَةِ؟

(فَأَجَابَ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَا لَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ الْقَيْلُولَةُ فِي اللُّغَةِ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُعْمَلُ فِيهَا بِالضَّعِيفِ. اهـ لَفْظُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ الْقَيْلُولَةَ هِيَ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَالْمُرَادُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ نِصْفُهُ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا وَهُوَ قُبَيْلَ الظُّهْرِ فَمَتَى نَامَ الْوَلَدُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ قُبَيْلَ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْحَلِفِ، أَوْ غَيْرِهِ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا نَعَمْ إنْ نَوَى بِالْقَيْلُولَةِ وَقْتًا آخَرَ أُدِيرَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ رُوحِي أَيْ اذْهَبِي طَالِقًا بِالنَّصْبِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ فَإِنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَقَعُ وَاسْتَنَدَ لِفَرْعٍ فِي الرَّوْضَةِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يَقَعُ وَأَوَّلَ الْفَرْعَ الْمَذْكُورَ، وَبَعْضُهُمْ مَالَ إلَى تَضْعِيفِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ نَقَلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ خِلَافَهُ، وَبَعْضُهُمْ تَوَقَّفَ فَمَا الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رُوحِي كِنَايَةُ طَلَاقٍ كَاذْهَبِي فَإِنْ نَوَاهُ بِهِ جَاءَتْ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِيهِ الْآتِيَةُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِرُوحِي الطَّلَاقَ كَانَ بِمَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ فَلَزِمَ أَنْ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُهُ الْآتِي وَهُوَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَدَمُ الْوُقُوعِ حَالًا بِأَنْ طَلَّقَهَا غَيْرَ بَائِنٍ وَقَعَتْ طَلْقَةً ثَانِيَةً وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ بِهِ لَمْ يَقَعْ بِطَلَاقِهِ شَيْءٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ بِرُوحِي طَلَاقًا يَصِيرُ لَغْوًا وَإِذَا صَارَ لَغْوًا صَارَ قَوْلُهُ طَالِقًا مُتَجَرِّدًا عَمَّا يُصَيِّرُهُ مُعْتَدًّا بِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ نَظِيرَ قَوْلِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ إنَّمَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ بِنِسَاءِ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي، وَإِنْ قَالَ أَلْفَ مَرَّةٍ: وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَغْوٌ فَيَصِيرُ وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي وَحْدَهُ وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ: طَلَّقْت، أَوْ طَالِقٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى امْرَأَتَهُ فِي الْأَوَّلِ وَأَنْتِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْمَرْأَةِ ذِكْرٌ وَلَا دَلَالَةٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ امْرَأَتِي وَنَوَى الطَّلَاقَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا فَقَالَ: طَلَّقْت فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أُرِدْهَا؛ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ ضِمْنًا وَاسْتَشْكَلَهُ الْعِجْلِيّ بِمَا لَوْ قَالَ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي فَإِنَّهُ صَرِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْمَرْأَةِ ذِكْرٌ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ خَلَفَ ذِكْرَهَا فِيهِ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّلَاقِ كَعَلَيَّ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا رُوحِي طَالِقًا فَإِنَّهُ فُقِدَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ ذِكْرُهَا وَالِاشْتِهَارُ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ وَنَظِيرُ قَوْلِ الْقَاضِي أَيْضًا.

لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ سَرَقْت مَالِي فَأَنْكَرَ فَقَالَ إلَّا كُنْت سَرَقْته فَامْرَأَتُك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَزَادَ وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي أَمْ لَا فَقَالَ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ امْرَأَتِي وَلِأَنَّ الْغَيْرَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ فِي النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ إجَازَةٌ لِلطَّلَاقِ وَلَيْسَ بِإِيقَاعٍ لَهُ فَتَأَمَّلْهُ لَا سِيَّمَا تَعْلِيلُهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي صُورَتِنَا فَإِنْ قُلْت أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَمَا مَرَّ فِي طَلِّقْهَا فَقَالَ طَلَّقْت قُلْت يُفَرَّقُ بِأَنَّ ذِكْرَهَا هُنَا وَقَعَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ طَلَبٌ لِطَلَاقِهَا حَتَّى يَنْزِلَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ طَلِّقْهَا، نَعَمْ ذِكْرُهَا وَإِنْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ يُفِيدُ تَأْثِيرَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ بِهِ بِخِلَافِ طَلَّقْت، أَوْ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ أَصْلًا وَمِنْهَا أَنَّ الْإِسْنَوِيَّ قَيَّدَ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ ثَلَاثٌ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّأْكِيدُ بِمَا

ص: 159

إذَا رَفَعَ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَّنَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمَا عَنْ الْعَبَّادِيِّ.

لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ شَيْءٌ بَلْ إذَا طَلَّقَهَا وَقَعَ طَلْقَتَانِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ أَيْ بِأَنْتِ طَالِقٌ لَا بِطَالِقًا كَمَا لَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَجَبَ حَمْلُ السَّاكِنِ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَنْ نَصْبٍ وَأَنْ يَكُونَ عَنْ رَفْعٍ فَنَأْخُذُ بِالْيَقِينِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ هُوَ الْأَوَّلُ، أَوْ الثَّانِي نَعَمْ إنْ نَصَبَهُمَا مَعًا، أَوْ جَرَّهُمَا، أَوْ جَرَّ أَحَدَهُمَا مَعَ نَصْبِ الْآخَرِ، أَوْ رَفْعِهِ فَالْقِيَاسُ فِي الْجَمِيعِ إلْحَاقُهُ بِالسَّاكِنِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْهُ. اهـ. وَيَحُثُّ فِي التَّوَسُّطِ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي اسْتِفْسَارُ الْجَاهِلِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيُعْمَلُ بِتَفْسِيرِهِ أَيْ: فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَتُهُ

فَالْوَجْهُ مَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا ذَكَرَهُ فِي أَنْتِ طَالِقًا طَالِقًا بِنَصَبِهِمَا، أَوْ طَالِقٌ طَالِقًا وَعَكْسُهُ بِالْجَرِّ مَعَ النَّصْبِ، أَوْ طَالِقٍ طَالِقٌ بِجَرِّ أَحَدِهِمَا وَرَفْعِ الْآخَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ أَيْ: خَبَرُ أَنْتِ وَإِنْ أَخْطَأَ بِنَصْبِهِ، أَوْ جَرِّهِ وَلَا يَقَعُ بِالْمَنْصُوبِ، أَوْ الْمَجْرُورِ الَّذِي لَيْسَ بِخَبَرٍ شَيْءٌ، عَلِمْت اتِّضَاحَ مَا ذَكَرْته أَنَّ طَالِقًا بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ شَيْءٍ مُطْلَقًا وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ أَيْ: بِأَنْتِ طَالِقٌ مِنْهُ لَا بِطَلَاقِهِ كَمَا مَرَّ تَعْلَمُ صِحَّةَ مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا شَيْءٌ أَصْلًا وَمِنْهَا قَوْلُ التَّهْذِيبِ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا فَإِنْ أَرَادَ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتَا وَإِنْ أَرَادَ التَّأْكِيدَ وَنَصَبَ عَلَى الْحَالِ قُبِلَ مِنْهُ وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ.

وَإِنْ أَرَادَ التَّعْلِيقَ قُبِلَ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا. اهـ. فَإِذَا كَانَ طَالِقًا الْمَنْصُوبُ هُنَا مُحْتَمَلًا لِمَا ذُكِرَ مَعَ كَوْنِهِ وَقَعَ بَعْدَ صِيغَةٍ صَحِيحَةٍ هِيَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا فِي رُوحِي طَالِقًا بَلْ لَا يَقَعُ بِهِ فِيهَا شَيْءٌ مُطْلَقًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا وَقَعَ تَابِعًا لِصِيغَةٍ صَحِيحَةٍ فَاحْتَمَلَ الْإِيقَاعَ ثَانِيًا وَالتَّأْكِيدَ وَالتَّعْلِيقَ فَعُمِلَ بِإِرَادَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي رُوحِي طَالِقًا فَوَقَعَ مُسْتَقِلًّا وَهُوَ لَا يَصْلُحُ وَحْدَهُ لِلِاسْتِقْلَالِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَإِنْ قُلْت لَمْ يَذْكُرْ الْبَغَوِيّ عَلَى طَرِيقَتِهِ حُكْمَ مَا إذَا أَطْلَقَ.

قُلْت قِيَاسُ مَا مَرَّ عَنْ الْإِسْنَوِيِّ فِي السُّكُونِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْوُقُوعَ وَعَدَمَهُ فَحَكَمْنَا بِعَدَمِهِ لِأَصِل بَقَاءِ الْعِصْمَةِ، وَأَمَّا مَا يَأْتِي عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَصَاحِبِ الذَّخَائِرِ مِنْ أَنَّهُ مَعَ الْإِطْلَاق يَقَعُ طَلْقَتَانِ فَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ نَصِّ الْأُمِّ وَهُوَ وَجْهٌ مُغَايِرٌ لِهَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَأْتِي ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ حُسَيْنًا حَكَى وَجْهًا أَيْ: ضَعِيفًا بِالْمَرَّةِ أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَالِقًا يُنْصَبُ عَلَى الْحَالِ وَتَقْدِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ حَالَةَ مَا تَكُونِينَ طَالِقًا وَالْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ قَطُّ طَالِقًا إنَّمَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً وَالرَّجُلُ هُوَ الطَّالِقُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. اهـ.

وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرْته فِي رُوحِي طَالِقًا وَاضِحٌ لَا غُبَارَ فِيهِ وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ وَاعْتَمَدُوهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ حَتَّى يُطَلِّقَهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ إذَا صِرْت مُطَلَّقَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ هَذَا إنْ لَمْ تَبِنْ بِالطَّلْقَةِ الْمُنَجَّزَةِ وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ غَيْرُهَا مَا لَمْ يُرِدْ إيقَاعَ طَلْقَةٍ مَعَ الْمُنَجَّزَةِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَقَعَ ثِنْتَانِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ تَطْلِيقِي إيَّاكِ قَالَا وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَالِقًا فَإِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ الْمُعَلَّقَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ غَيْرَ طَالِقٍ لَمْ تَقَعْ الْمُعَلَّقَةُ. اهـ. وَبِتَأَمُّلِهِ يُعْلَمُ أَنَّ طَالِقًا لَمْ يَقَعْ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا فَاتَّضَحَ أَنَّ طَالِقًا غَيْرُ مُقْتَضٍ لِوُقُوعِ شَيْءٍ بِلَفْظِهِ لَا عِنْدَ التَّكَلُّمِ وَلَا بَعْدَهُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ هُنَا مَعَ كَوْنِهِ وَاقِعًا بَعْدَ صِيغَةِ طَلَاقٍ صَرِيحَةٍ فَأَوْلَى فِي رُوحِي طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ صِيغَةِ طَلَاقٍ صَرِيحَةٍ بَلْ كِنَايَةٌ وَلَمْ يَنْوِهِ بِهَا كَمَا هُوَ الْغَرَضُ.

وَمَرَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَحْوِ مَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا إذَا أَرَادَ إيقَاعَ طَلْقَةٍ مَعَ الْمُنَجَّزَةِ وَذَلِكَ الْفَرْقُ أَنَّهُ هُنَا وَقَعَ عَقِبَ صِيغَةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ فَصَحَّتْ نِيَّةُ إيقَاعِ طَلْقَةٍ بِهِ مُصَاحِبَةٍ لِلطَّلْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِتِلْكَ الصِّيغَةِ، وَأَمَّا فِي رُوحِي طَالِقًا فَوَقَعَ مُسْتَقِلًّا وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ لَا يَصِحُّ إيقَاعُ شَيْءٍ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ اعْتَمَدَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا

ص: 160

مَا تَقَرَّرَ عَنْ الْعَبَّادِيِّ مَعَ نَقْلِ الْأَئِمَّةِ كَمَا فِي التَّوَسُّطِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ خِلَافَهُ، وَلَفْظُهُمْ: قَالَ فِي الْأُمِّ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا وَقَعَ طَلْقَةٌ.

وَسُئِلَ عَنْ مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ طَالِقًا فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ بِهِ الْحَالَ طَلُقَتْ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ الْحَالَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَلْقَةٍ عَلَيْك وَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِهِ طَلْقَةً أُخْرَى وَقَعَتْ ثَانِيَةً أَيْضًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِهِ التَّأْكِيدَ وَإِفْهَامَ الْأُولَى قُبِلَ مِنْهُ. قَالَ: وَحَلَّفْته وَإِنَّمَا قُلْنَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ، وَتَحْلِيفُهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ خِلَافُهُ قَالَ فِي التَّوَسُّطِ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَقَوْلُهُ حَلَّفْته يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ يَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى إرَادَتِهِ وَاحِدَةً فَلَوْلَا أَنَّ مُطْلَقَهُ يَقْتَضِي طَلْقَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِتَحْلِيفِهِ وَجْهٌ هَذَا لَفْظُهُ وَقَدْ يَكُونُ تَحْلِيفُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ طَلْقَتَيْنِ لَا أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي وُقُوعَهُمَا وَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ. اهـ كَلَامُ التَّوَسُّطِ وَتَبِعَهُ فِي الْخَادِمِ.

فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إذَا صِرْت مُطَلَّقَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ طَالِقًا حَالٌ وَالْحَالُ تَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إنْ أَعْتَقْت نِصْفَك فَنَصِيبِي حُرٌّ حَالَ عِتْقِك فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِمَا وَحِكَايَةُ هَذَا الْفَرْعِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ مَنَاصِيصِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَجِيبٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ قَالَ فِي الْأُمِّ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا طَلُقَتْ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَالَ صِفَةً يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهَا وَالْحَالُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهَا فَإِذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَقَعَتْ أُخْرَى قَالَ: يَعْنِي الشَّافِعِيَّ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقًا طَلْقَةً أُخْرَى طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَةً بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلْقَةً أُخْرَى بِمَا نَوَاهُ فَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ أَنَّهَا الْأُولَى تَأْكِيدًا لَهَا حَلَّفْته قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَتَانِ طَلْقَةً بِالْمُبَاشَرَةِ وَأُخْرَى بِالصِّفَةِ. اهـ.

وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ جَرَى جَمْعٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَمِنْ الْمَرَاوِزَةِ كَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِ وَظَهَرَ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْعَبَّادِيِّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إرَادَةِ الْحَالِ وَالثَّانِي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ سَاقَ كَلَامًا بَيَّنَ بِهِ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ لَا يَتَقَيَّدَانِ بِنَصِّ الْأُمِّ وَلَا بِغَيْرِهِ بَلْ بِمَا اتَّضَحَ مَدْرَكُهُ وَإِنْ خَالَفَ النَّصَّ؛ لِأَنَّهُ كَمَا بَيَّنْته بِشَوَاهِدِهِ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْعُبَابِ بَلْ وَفِي الْفَتَاوَى بِأَبْسَطَ مِنْ ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا طَيْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ فَرَفَعَ فُضَلَاؤُهَا سُؤَالًا فِيهِ طَلَبُ وَجْهِ الْعُدُولِ عَنْ اعْتِرَاضَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهِمَا بِالنَّصِّ وَكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسْمَعُ لَهُمْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ نَصٍّ لَهُ آخَرَ، أَوْ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَكَانَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ رَجَّحَا مِنْهُمَا مَا اتَّضَحَ مَدْرَكُهُ وَهُنَا كَذَلِكَ، إذْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته فِي التَّهْذِيبِ الْمُصَرِّحِ بِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْحَالَ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَعَنْ الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي.

وَعَنْ الْعَبَّادِيِّ رَجَّحَ الشَّيْخَانِ مِنْهَا كَلَامَ الْعَبَّادِيِّ لِظُهُورِهِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً لِعَامِلِهَا فَإِذَا رَاعَيْنَا هَذَا الْأَصْلَ تَعَيَّنَ مَا ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَهَا فِي مَعْنَى الصِّفَةِ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ قَيْدٌ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا فِي مَعْنَى الصِّفَةِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَلْقَةٍ عَلَيْك عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَقْتَضِي إنْشَاءَ إيقَاعِ طَلْقَةٍ بَلْ الْإِخْبَارُ بِوُقُوعِهَا فَلْيُجْرَ فِيهِ بِفَرْضِ اعْتِمَادِهِ مَا قَالُوهُ فِي نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا أَمْسِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي عَقْدٍ آخَرَ وَأَنَّ زَوْجًا آخَرَ قَبْلَهُ طَلَّقَهَا إنْ عُرِفَ ذَلِكَ وَكَذَا إنْ لَمْ يُعْرَفْ عَلَى مَا فِي الرَّوْضَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ اعْتِرَاضًا عَلَى كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ إنَّ الْحَالَ تَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ فَعَجِيبٌ؛ لِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا الْمُقَارَنَةَ يُؤَيِّدُ مَا قَالَاهُ لَا أَنَّهُ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اقْتَضَاهَا مَعَ كَوْنِهِ قَيْدًا كَمَا تَقَرَّرَ اقْتَضَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ حَالًا كَمَا قَالَاهُ بَلْ إنْ طَلَّقَ وَقَوْلُهُ وَيَصِيرُ. . . إلَخْ، أَعْجَبُ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرًا لِمَسْأَلَتِنَا بِوَجْهٍ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ حُرِّيَّةَ نَصِيبِهِ عَلَى عِتْقِ شَرِيكِهِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَجَعَلَ وُقُوعَهَا

ص: 161

مُقَارِنًا لَهُ بِقَوْلِهِ: حَالَ عِتْقِك وَأَمَّا هُنَا فَعَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى وُجُودِ اتِّصَافِهَا بِكَوْنِهَا طَالِقًا فَعَمِلُوا فِي كُلٍّ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ فِيهِ وَقَوْلُهُ وَحِكَايَةُ هَذَا الْفَرْعِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ. . . إلَخْ.

جَوَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَجِيبٍ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ قَدْ يَعْدِلَانِ عَنْ نَصٍّ لِمُقْتَضَى نَصٍّ آخَرَ هَذَا وَاعْتِرَاضُ الْأَذْرَعِيِّ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْخَادِمِ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ سَبَقَهُ إلَيْهِ فِي أَخْذِهِ مِنْ النَّصِّ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ يَقَعُ طَلْقَتَانِ أَيْ: حَالًا وَاضِحٌ مِمَّا قَرَّرْته بَلْ الْوَجْهُ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَإِرَادَةِ الْحَالِ مَا قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ خِلَافًا لِمَا مَرَّ عَنْ الْخَادِمِ فَتَأَمَّلْهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فِي رُوحِي طَالِقًا إذَا لَمْ يُرِدْ بِرُوحِي طَلَاقًا لَا يَقَعُ بِطَالِقٍ شَيْءٌ مُطْلَقًا عَلَى الْأَوْجَهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَرَيَانِ تِلْكَ الْأَوْجُهِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقًا جَرَيَانُهَا فِي رُوحِي طَالِقًا إذَا لَمْ يَنْوِ بِرُوحِي طَلَاقًا لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ ثَمَّ صِيغَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً فَاغْتُفِرَ فِي تَابِعِهَا الْمُنَزَّلِ عَلَى مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِي الْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِغَيْرِهِ.

وَمِثْلُهُ لَا يَقَعُ بِاسْتِقْلَالِهِ شَيْءٌ كَمَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى بِفَضْلِهِ هُوَ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَإِلَيْهِ مَفْزَعُنَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ. فَإِنْ قُلْت هَلْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَصْلًا بِمَا يَفِي بِهِ وَيَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ بِالْمَرَّةِ أَيْ: لِتَعْلِيلَيْهِ الْمُطَبَّقَيْنِ عَلَى مَا يَرُدُّهُ وَيُزَيِّفُهُ. قُلْت: نَعَمْ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْحَالَ مُقَيِّدَةٌ لِصَاحِبِهَا وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ تَنَاوَلَهَا الْأَمْرُ كَحُجَّ مُفْرَدًا، أَوْ اُدْخُلْ مَكَّةَ مُحْرِمًا فَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ ظَهَرَ لَك أَنَّ طَالِقًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ رُوحِي لِتَنَاوُلِ الرَّوَاحِ بِمَعْنَى الذَّهَابِ لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يُفَوِّضَهُ إلَيْهَا فَتُوقِعَهُ وَلَمْ تُوقِعْهُ فَحِينَئِذٍ اتَّضَحَ نَظَرًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا شُذُوذَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ ثَلَاثٌ بِرَفْعٍ أَوْ خَفْضٍ أَوْ سُكُونٍ هَلْ تَطْلُقُ مَعَ النِّيَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عُمُومِ كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَقَدْ فَرَّقَ الْفَقِيهُ ابْنُ عَبْسِينَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَامِّ وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي إلَّا فَسَادُ كَلَامِهِ وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ الثَّلَاثُ لَا يَكُونُ شَيْئًا.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَدْ ذَكَرْت الْمَسْأَلَةَ بِأَطْرَافِهَا فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَعِبَارَتُهُ، أَوْ أَنْتِ اثْنَانِ وَنَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَقَضِيَّةُ مَا نَقَلَهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ التَّوْشِيحِ وُقُوعُ ثِنْتَيْنِ وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِمَادِهِ عَدَمُ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِمَا أَفْتَيْت بِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَيُنَافِي الْوُقُوعَ مِنْ أَصْلِهِ مَا يَأْتِي فِي أَنْتِ ثَلَاثٌ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ ثِنْتَانِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَحْذُوفٍ أَيْ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَلِفِ فِيهِ عَلَى اللُّغَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ فَأَثَّرَتْ نِيَّةُ الْعَدَدِ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا لَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِمُنَافَاةِ لَفْظِهِ لَهَا كَمَا تَقَرَّرَ.

وَلَوْ نَوَى بِأَنْتِ ثِنْتَانِ وَاحِدَةً وَقَعَتَا أَيْضًا فِيمَا يَظْهَرُ لِمُنَافَاةِ لَفْظِهِ لِنِيَّتِهِ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ، أَوْ أَنْتِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَغْوٌ وَإِنْ نَوَى أَصْلَ الطَّلَاقِ فَقَطْ فَثَلَاثٌ أَيْ: لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَجْهَانِ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ ثَلَاثًا صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ فَلَا أَثَرَ لِنِيَّةِ خِلَافِهِ، أَوْ أَنْتِ ثَلَاثٌ، أَوْ أَنْتِ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَفَارَقَتْ ثَلَاثٌ ثَلَاثًا بِأَنَّهَا بِالرَّفْعِ خَبَرُ أَنْتِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَرْكِيبٌ فَاسِدٌ إذْ لَا يُخْبَرُ عَنْ أَنْتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلذَّاتِ بِثَلَاثٍ سَوَاءٌ عُرِّفَتْ أَمْ نُكِّرَتْ وَلَا أَثَرَ لِصِحَّتِهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا صَارَتْ عَيْنَ الثَّلَاثِ مُبَالَغَةً وَادِّعَاءً؛ لِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ مُحَسَّنٌ يُخَالِفُهُ مَوْضُوعُ اللَّفْظِ وَالْحَمْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا مَرَّ فِي أَنْتِ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْمَصْدَرِ ثُمَّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ طَالِقٍ وَنَحْوِهِ فَأَثَّرَتْ نِيَّةُ الطَّلَاقِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ وَنَحْوُهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إرَادَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ أَصْلُ الْمَادَّةِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ بِهِ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَهُوَ يَقْتَضِي حَذْفَ الْخَبَرِ فَيُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ طَالِقٌ فَصَحَّ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَدَدِ الصَّرِيحِ وَبِمَا ذَكَرْته يَنْدَفِعُ قَوْلُ

ص: 162

الْأَذْرَعِيِّ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَالثَّلَاثِ ثُمَّ مَا تَقَرَّرَ فِي أَنْتِ الثَّلَاثُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا رَفَعَهُ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الرَّفْعِ يَصِحُّ مَعَهُ اللَّفْظُ بِتَقْدِيرِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، أَوْ أَنْتِ ذَاتُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالسُّكُونُ ظَاهِرٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّا إنَّمَا قَدَّرْنَا مَا تَقَرَّرَ وَمَا يَأْتِي رِعَايَةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ مَعَ نِيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ تَخْرِيجُهُ عَلَى الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ

لِأَنَّ الْعَامِّيَّ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الصَّنَاعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْهَمُهُ بِالطَّبْعِ فَيَقْصِدُهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ فَانْدَفَعَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ وَلِلْفَرْقِ اتِّجَاهٌ انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ السَّائِلُ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَدَدِهِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْفَقِيهُ ابْنُ عَبْسِينَ وَلَمْ أَدْرِ مَا النَّظِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَلَوْ ذَكَرَهُ السَّائِلُ لَوَضَّحْت الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لَهُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ مِائَةُ طَالِقٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ وَلَا شَاهِدَ فِيهِ لِصِحَّةِ التَّرْكِيبِ هُنَا إذْ مَدْلُولُهُ أَنَّهَا جَمَعَتْ مَا وُصِفَتْ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَهُوَ مِائَةُ طَلْقَةٍ فَكَانَ مُرَادُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً وَهَذَا يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ وَلَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ فِي أَنْتِ ثَلَاثٌ، أَوْ الثَّلَاثُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ، قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ مِنَى بِوَاحِدَةٍ وَنَوَى الثَّلَاثَ، أَوْ بِثَلَاثٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ دُونَ الثَّلَاثِ فَوَجْهَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ صَحِيحٌ فَأَثَّرَتْ فِيهِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنْ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمَحْذُوفَ هُوَ طَالِقٌ وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحْت فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ الْوُقُوعَ فَقُلْت وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ فِي الْأُولَى وُقُوعُ وَاحِدَةٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ بِوَجْهٍ وَفِي الثَّانِيَةِ وُقُوعُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ فَهُوَ كَأَنْتِ بَائِنٌ ثَلَاثًا فَإِنْ قُلْت لَمْ يُبَيِّنْ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ حُكْمَ الْجَرِّ وَالسُّكُونِ فِي أَنْتِ ثَلَاثٌ قُلْت هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا ذَكَرْته مِنْ الْوُقُوعِ عِنْدَ النِّيَّةِ فِي أَنْتِ الثَّلَاثِ بِالْجَرِّ، أَوْ السُّكُونِ أَيْ: أَنْتِ ذَاتُ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ وَالسُّكُونُ عَلَى الْوَقْفِ فَإِنْ قُلْت يُؤَيِّدُ مَنْ بَحَثَ الْفَرْقَ هُنَا بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ فَرْقُهُمْ بَيْنَهُمَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ إنْ، وَنَحْوُهُ قُلْت يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اخْتِلَافَ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ ثَمَّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالطَّلَاقِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَعْجِيلُ الْوُقُوعِ فِي الْفَتْحِ وَتَأْخِيرُهُ فِي الْكَسْرِ فَنَظَرْنَا إلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ حَالِ الْعَامِّيِّ عِنْدَ نُطْقِهِ بِنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ لِبُعْدِ إرَادَته مِنْهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّحْوِيِّ

وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ هُنَا فَاخْتِلَافُ حَرَكَةِ ثَلَاثٍ، أَوْ الثَّلَاثِ فِيهِ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالطَّلَاقِ إثْبَاتًا تَارَةً كَمَا فِي حَالَةِ النَّصْبِ وَنَفْيًا أُخْرَى كَمَا فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، فَلَمْ نَنْظُرْ لِلَفْظِهِ إذَا صَدَرَ مِنْ عَامِّيٍّ وَإِنَّمَا نَظَرْنَا لِقَصْدِهِ فَحَيْثُ نَوَى مَا يُوَافِقُ الصِّنَاعَةَ وَلَوْ بِتَقْدِيرٍ أَوْقَعْنَا بِهِ وَحَيْثُ لَا فَلَا وَكَذَا النَّحْوِيُّ؛ لِأَنَّ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الرَّفْعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا مَرَّ هُوَ قَضِيَّةُ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا فَلَزِمَ حِينَئِذٍ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَيُؤَيِّدُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا هُنَا عَدَمُهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْفَتْحِ فَتَقَعُ وَاحِدَةً مِنْ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ وَفَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مَرَّ فِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ بِأَنَّ هَذَا لَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّعْلِيقُ فَعِنْدَ الْفَتْحِ يَنْصَرِفُ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ مُطْلَقًا وَذَاكَ يَغْلِبُ فِيهِ قَصْدُ التَّعْلِيقِ فَفَرْقٌ فِيهِ بَيْنَ النَّحْوِيِّ وَغَيْرِهِ وَشَيْخُنَا زَكَرِيَّا بِأَنَّ حَمْلَ هَذَا عَلَى التَّعْلِيقِ يُؤَدَّى إلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِهِ ثَمَّ وَصَاحِبُ الْإِسْعَادِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَمْ تَصْلُحْ أَنْ الْمَفْتُوحَةُ لِلتَّعْلِيقِ فَتَمَخَّضَتْ لِلتَّعْلِيلِ بِخِلَافِهَا فِي الدُّخُولِ وَنَحْوِهِ فَكَمَا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ كَذَلِكَ فَرَّقْنَا نَحْنُ بَيْنَ صُورَةِ السُّؤَالِ وَإِنْ دَخَلَتْ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَاضِحًا مُبَيَّنًا.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِثْلُك طَالِقٌ فَمَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ أَرَ فِي هَذِهِ نَقْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَقَعُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ قَصْدًا وَلَا ضِمْنًا وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ عَلَى مُمَاثِلِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى مُمَاثِلِهَا وُقُوعُهُ

ص: 163

عَلَيْهَا لِتَغَايُرِ ذَاتَيْ الْمِثْلَيْنِ وَإِنْ اتَّحَدَا فِي الصِّفَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ وَأَنَّ مُمَاثَلَتَهَا لِغَيْرِهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إيقَاعُهُ الطَّلَاقَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْمُخَاطَبَةِ بِطَرِيقِ الصَّرِيحِ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ طَلَاقَهُ لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ لَغْوٌ فَكَيْف يُشْرِكُهَا مَعَهَا فِيهِ وَهُوَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَقَالَ آخَرُ لِزَوْجَتِهِ أَشْرَكْتُك مَعَهَا كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوْقَعْته عَلَيْك كَمَا أَوْقَعَهُ ذَاكَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَكَذَا هُنَا مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ كَمَا كُلُّ مَنْ هُوَ مِثْلُك طَالِقٌ.

وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَحْتَمِلَ الطَّلَاقَ احْتِمَالًا خَالِيًا عَنْ تَكْلِيفٍ وَتَعَسُّفٍ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا هُنَا أَنَّهُ كَقَوْلِهِ نِسَاءُ الْعَالَمِينَ، أَوْ الزَّيْدِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي. وَلَا طَلَاقَ بِهَذَا وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ فَكَذَا هَذَا قَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى مُمَاثِلَتِهَا بِالصَّرِيحِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَوُقُوعُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمَعْطُوفِ عَلَى الْبَاطِلِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقْتَضِيَ لِلْإِيقَاعِ مُخْتَلِفٌ وَبَيْنَهُمَا تَرَتُّبٌ فَلَمْ يُمْكِنُ بِنَاءُ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِهِ بِخِلَافِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْإِيقَاعِ لَفْظٌ وَاحِدٌ.

وَيُجَابُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ بِالرُّتْبَةِ بَلْ وَبِالزَّمَانِ عِنْدَ قَوْمٍ فَلَا يَبْعُدُ الْقِيَاسُ فَإِنْ قُلْت قَدْ يُعَبِّرُ الْبُلَغَاءُ بِالْمِثْلِ وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَتَهُ كَمَا فِي نَحْوِ: مِثْلُك لَا يَبْخَلُ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إلَّا أَنْتَ لَا تَبْخَلُ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَثَلِ لِيُفِيدَ نَفْيَ الْبُخْلِ عَنْهُ بِطَرِيقٍ أَظْهَرَ قُلْت هَذَا الِاعْتِبَارُ الْمُحَسَّنُ لَا يَأْتِي هُنَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِثْلُك طَالِقٌ حَيْثُ جَعَلَ الْمِثْلَ صِفَةً لِغَيْرِهَا صَرِيحًا فَلَمْ تُمْكِنْ إرَادَتُهَا مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ؛ لِأَنَّك لَوْ أَرَدْت أَنْ تُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَنْتِ طَالِقٌ لَكَانَ تَأْوِيلًا بَعِيدًا وَحَمْلًا مُتَعَسِّفًا وَالْمُحَسِّنُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي مِثْلُك لَا يَبْخَلُ الدَّاعِي إلَيْهِ قَصْدُ الْمَدْحِ وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ لَا يَأْتِي هُنَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، فَلَمْ يَظْهَرْ كَوْنُهُ كِنَايَةً لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهَا مَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ احْتِمَالًا قَرِيبًا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته فَتَأَمَّلْهُ. وَلَا يَأْتِي هُنَا الْوُقُوعُ الَّذِي قِيلَ بِهِ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ غَيْرُك طَالِقٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَأْتِي هُنَا وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْدٍ وَرَدٍّ وَتَنَاقُضٍ وَاخْتِلَافٍ وَقَدْ بَيَّنْتُ خُلَاصَتَهُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ ثُمَّ رَأَيْت مَا يُؤَيِّدُ مَا مِلْت إلَيْهِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كِنَايَةٍ وَهُوَ أَنَّ جَمْعًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَنْتِ أَوْلَى النِّسَاءِ بِنَفْسِك، أَوْ وَلِيَّةُ النِّسَاءِ بِنَفْسِك فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ لِتَضَمُّنِهِ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك وَهُوَ كِنَايَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ عُرْفَ الْعَامَّةِ كَلَا عُرْفٍ وَلَوْ قَالَ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا قَالَ الْقَفَّالُ: هُوَ لَغْوٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَلَيْسَ كِنَايَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى الْمَرْأَةِ وَلَا الْتِزَامٌ مِنْ الزَّوْجِ وَأَفْتَى الْعِجْلِيّ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ فَإِذَا قَالَ مَنْ ذَكَرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْكِنَايَاتِ فَكَذَا مَسْأَلَتُنَا بَلْ قَوْلُ الْقَفَّالِ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ الْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى الْمَرْأَةِ. . . إلَخْ نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ امْرَأَةٍ مِثْلُك طَالِقٌ لَيْسَ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى زَوْجَتِهِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا هَلْ تَطْلُقُ وَاحِدَةً كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الرَّوْضَةِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَعَنْ نَفَائِسِ الْأَزْرَقِ وَذَكَر أَنَّ شَارِحَ الرَّوْضِ أَقَرَّ الرَّوْضَ كَأَصْلِهِ عَلَى ذَلِكَ وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي الرَّوْضِ وَأَصْلِهِ يُفْهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ غَلَطٌ صَرِيحٌ إمَّا لِسِقَمٍ فِي نَقْلِهِ، أَوْ فَهْمِهِ، أَوْ نُسْخَتِهِ فَاَلَّذِي فِي الرَّوْضَةِ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةً كَذَا قَالَ الْمُتَوَلِّي هَذِهِ عِبَارَتُهُ وَجَرَى عَلَيْهَا الرَّوْضُ وَشَارِحُهُ وَاَلَّذِي فِي النَّفَائِسِ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْعَدَدَ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةً قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَهَذِهِ الصُّورَةُ غَيْرُ صُورَةِ السُّؤَالِ فَالْتِبَاسُهَا بِهَا يُنْبِئُ عَنْ مَزِيدِ غَفْلَةٍ وَتَسَاهُلٍ، أَوْ عَنْ فَسَادِ تَصَوُّرٍ وَوَجْهُ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ فَقَطْ فِيهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ قَوْلُهُ بَعْدَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ كَذَا لَوْ قَالُوهُ لَكِنْ اسْتَشْكَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِطَلْقَةٍ وَمَا بَعْدَهُ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْتَ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ

ص: 164

كَتِلْكَ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يُقَالُ إنَّ أَلْفَ مَرَّةٍ وَثَلَاثَ طَلْقَاتٍ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا - جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [مريم: 60 - 61] قُلْتُ كَأَنَّهُمْ لَحَظُوا فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي الْآيَةِ فِي قُوَّةِ الْجَمْعِ لِكَوْنِهِ مُحَلًّى بِأَلْ فَحَسُنَ إبْدَالُ الْجَمْعِ مِنْهُ وَهُنَا لَيْسَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَا يُقَرِّبُهُ مِنْ الْجَمْعِ فَلَمْ يَحْسُنْ إبْدَالُهُ مِنْهُ ثُمَّ هَذَا الْإِيرَادُ وَإِنْ تَوَجَّهَ فِي مَسْأَلَةِ النَّصِّ لَا يَتَوَجَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّ التَّنَافِيَ فِيهَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَأَلْفٍ أَتَمُّ وَأَظْهَرُ مِنْهُ بَيْنَ طَلْقَةٍ وَثَلَاثٍ، فَإِذَا أَلْغَى الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه النَّظَرَ إلَى ثَلَاثٍ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يُلْغِيَ النَّظَرَ إلَى أَلْفٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، وَالْكَلَامُ قَدْ تَمَّ بِوَاحِدَةٍ فَلَا نَظَرَ لِمَا بَعْدَهَا لِمُنَافَاتِهِ لَهَا كَمَا تَقَرَّرَ.

هَذَا كُلُّهُ فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ وَالرَّوْضِ وَشَرْحِهِ وَالنَّفَائِسِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السُّؤَالِ الَّتِي نَقَلَهَا بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ غَلَطًا وَتَحْرِيفًا فَالصَّوَابُ فِيهَا وُقُوعُ الثَّلَاثِ وَلَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَسْكَةٍ مِنْ فَهْمٍ، أَوْ تَصَوُّرٍ، نَعَمْ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلُ أَلْفٍ، أَوْ مِثْلُ الْأَلْفِ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى وَوَاحِدَةً فِي الثَّانِيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْعَبَّادِيُّ عَنْ الْكَرَابِيسِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقِيَاسُ الْعَمْدِ فِي أَنْتِ كَمِائَةِ طَلْقَةٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْعَبَّادِيِّ عَنْ الْكَرَابِيسِيِّ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وُقُوعَ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ كَمِائَةِ طَالِقٍ لِوُقُوعِ التَّشْبِيهِ فِي الْعَدَدِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَمِائَةِ طَالِقٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهِنَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَفْرَادِهِنَّ، أَوْ فِي عَدَدِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِنَّ وَإِذَا احْتَمَلَ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا عَامَلْنَاهُ بِالْأَقَلِّ تَمَسُّكًا بِأَصْلِ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ كَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَسَائِلَ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِكَلَامِهِمْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ وَاقِعَةِ حَالٍ مُهِمَّةٍ هِيَ شَخْصٌ ذُكِرَ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ مَثَلًا وَأُهْدُوا هَدَايَا لِلْأَصْحَابِ وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا أَوْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا اسْتَقَلَّهُ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَطَلَّقْت أَوْ فَقَدْ طَلَّقْت النَّاسَ كُلَّهُمْ ثَلَاثًا بِمَعْنَى أَنِّي قَطَعْت طَمَعِي عَنْهُمْ كُلِّهِمْ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ قَصْدُ الطَّلَاقِ الشَّرْعِيِّ وَلَا مَعْنَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ زَوْجَتَهُ حَالَ تَلَفُّظِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهَلْ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ لَفْظِهِ الصَّرِيحِ أَمْ لَا وَهَلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَسْأَلَةِ الْوَاعِظِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي الرَّاجِحُ فِيهَا عَدَمُ الْوُقُوعِ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ وَأَوْضِحُوا إيضَاحًا شَافِيًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَدْ بَيَّنْت فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ إلَّا إنْ أَرَادَهَا فَإِذَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي هَذِهِ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِالنِّسَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ وَلَا تَتَخَرَّجُ هَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاعِظِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ الْجَمْعَ الَّذِينَ فِيهِمْ امْرَأَتُهُ بِقَوْلِهِ: طَلَّقْتُكُمْ فَفِيهِ خِطَابٌ لِلْمَرْأَةِ مَعَهُمْ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ الشَّرْعِيِّ مَعَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَدَمِ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَأَمَّا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَلَفَّظَ بِقَوْلِهِ طَلَّقْت النَّاسَ كُلَّهُمْ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي تَنَاوُلِ زَوْجَتِهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي قَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهَا عَلَى مَنْ لَا تَطْلُقُ بَلْ لَوْ قَالَ مَنْ اسْمُهُ زَيْدٌ نِسَاءُ الزَّيْدِينَ طَوَالِقُ لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُهُ، وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ تَطْلُقُ إنَّمَا يَأْتِي كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَمُولِيُّ عَلَى ضَعِيفٍ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: امْرَأَةُ الزَّيْدِينَ طَالِقٌ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ لَكِنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أُرِدْ نَفْسِي؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّعْرِيفِ عَلَى دُخُولِهِ فِي لَفْظِهِ لَا تُقَاوِمُ إرَادَتَهُ صَرْفَ لَفْظِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الرَّوْضَةِ وَجْهَانِ عَنْ الْقَفَّالِ فِيمَا لَوْ قَالَ مَنْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ امْرَأَةُ الْقَاضِي طَالِقٌ.

وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ مِنْهُمَا عَدَمُ الطَّلَاقِ كَمَا بَيَّنْتُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَبِهَذَا كُلِّهِ بَانَ أَنَّ صُورَةَ السُّؤَالِ لَا يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاعِظِ فَلَا يَقَعُ فِيهَا طَلَاقٌ وَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاعِظِ لِمَا عَلِمْتَهُ مِمَّا تَقَرَّرَ.

(وَسُئِلَ) عَنْ أَمَةٍ غَرَّتْ بِزَوْجِهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهَا فِي بَذْلِ مَهْرِهَا فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْوُقُوعِ فَهَلْ هُوَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيٌّ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهَا تَتَبُّعٌ بِهِ إذَا عَتَقَتْ وَقَدْ ذَكَرْت فِي اخْتِصَارِي لِتَحْرِيرِ

ص: 165

الْآرَاءِ مَسْأَلَةَ الْبَذْلِ وَمَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فَقُلْت إذَا قَالَتْ بَذَلْت صَدَاقِي عَلَى طَلَاقِي، أَوْ بِطَلَاقِي فَطَلَّقَ بَانَتْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَ بِعِوَضٍ ثُمَّ إنْ عَلِمْنَا قَدْرَ الْمَهْرِ وَوُجِدَتْ شُرُوطُهُ السَّابِقَةُ وَأَرَادَتْ بِبَذْلِهِ الْإِبْرَاءَ مِنْهُ بَرِئَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَبْرَأْ وَلَزِمَهَا لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى الْأَصْبَحِيِّ.

إذَا قَالَتْ بَذَلْت صَدَاقِي عَلَى طَلَاقِي فَطَلَّقَ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا الزَّوْجُ فَلَا فَرْقَ بَيْن أَنْ تَقُولَ بَذَلْت لَك، أَوْ بَذَلْت وَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَجَزْت كَبَذَلْتُ ثُمَّ رَأَيْتُنِي ذَكَرْت فِي الْفَتَاوَى أَنِّي سُئِلْت عَمَّا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ فَهَلْ تَطْلُقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَوْ لَا تَطْلُقُ فَأَجَبْت بِقَوْلِي أَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَتَى وَتِلْمِيذُهُ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ وَالطَّيِّبُ النَّاشِرِيُّ بِأَنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَطْلُقُ بَائِنًا وَقَالَ ابْنُ عُجَيْلٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْحَضْرَمِيُّ - نَفَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِهِمَا -: إنْ أَرَدْت اسْتِئْنَافَ الْبَرَاءَةِ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا طَلُقَتْ وَهُوَ الْأَوْجَهَ وَإِذَا قُلْنَا تَطْلُقُ طَلُقَتْ بَائِنًا. اهـ كَلَامِي فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ لِقَوْلِ الزَّوْجِ فِي جَوَابِهِ لَهَا عَلَى صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ. فَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ يَقْتَضِي إيجَادَ بَرَاءَةٍ صَحِيحَةً غَيْرَ الْأُولَى وَلَمْ تُوجَدْ فَعَلَيْهِ إنْ وُجِدَتْ فَكَمَا يَأْتِي عَلَى الثَّالِثِ فِيمَا يَظْهَرُ وَالْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ رَجْعِيًّا نَظَرُوا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مُقَابَلَةٌ تَقْتَضِي الْعِوَضِيَّةَ حَتَّى يَقَعَ بَائِنًا، وَالْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ نَظَرُوا إلَى، أَنَّ لَفْظَهُ مُحْتَمَلٌ فَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْبَرَاءَةِ فَلَا وُقُوعَ وَإِلَّا بِأَنْ أَطْلَقَ، أَوْ أَرَادَ عَدَمَ الِاسْتِئْنَافِ وَقَعَ بَائِنًا وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فَعَلَيْهِ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْبَرَاءَةِ وَوُجِدَتْ مِنْهَا بَرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ بَعْدَ كَلَامِهِ وَقَعَ بَائِنًا وَبَرِئَ وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ اسْتِئْنَافَهَا طَلُقَتْ إنْ كَانَتْ بَرَاءَتُهَا الْأُولَى صَحِيحَةً وَإِلَّا فَلَا فَتَأَمَّلْهُ، وَأَبْعَدُ تِلْكَ الْآرَاءِ الرَّأْيُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْوُقُوعِ رَجْعِيًّا لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ وَإِنْ عَلَّلْته بِمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ لَوْ قَالَ أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيَّ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ثَلَاثًا وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثَانِيًا لِظَنِّهِ أَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ بِالْعِبَارَةِ الْأُولَى فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ السِّرَاجُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِمَا لَفْظُهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ ثَانِيًا عَلَى الظَّنِّ الْمَذْكُورِ. اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَاطِنًا وَقَدْ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرِينَةَ تُؤَيِّدُهُ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً وَهِيَ زَوْجَتُهُ بَاطِنًا كَأَنْ زَوَّجَهَا لَهُ أَبُوهُ فِي صِغَرِهِ، أَوْ وَكِيلُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِوَجْهٍ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ لِمَعْنَاهُ وَلَا عِبْرَةَ بِظَنِّهِ فَكَذَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ.

ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ فِي تَوَسُّطِهِ نَقَلَ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ رَزِينٍ وَأَقَرَّهُ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ نَكَحَ امْرَأَةً وَعَلَّقَ بِالثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ بَلَدِهِ إلَّا بِهَا فَأَخْبَرَهُ بَعْضٌ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ فَخَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ وَتَرَكَهَا مُتَوَهِّمًا أَنْ النِّكَاحَ بَاطِلٌ؟

فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ.

وَمَسْأَلَتُنَا أَوْلَى مِنْ هَذِهِ بِالْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّهُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، أَوْ مَعَ النِّسْيَانِ، أَوْ الْإِكْرَاهِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ ظَنُّهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ عُذْرًا فِي خُرُوجِهِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مَعَ الْجَهْلِ، أَوْ النِّسْيَانِ، أَوْ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، فَأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ ظَنُّهُ عُذْرًا فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاحْتَفِظْ بِهِ فَإِنَّهُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَسُئِلَ عَنْهُ كَثِيرًا ثُمَّ رَأَيْت فِي التَّوَسُّطِ عَنْ الْفَارِقِيّ، أَوْ ابْنِ الْبَزْرِيِّ أَنَّهُ لَوْ اسْتَفْتَى عَامِّيٌّ فَقِيهًا فَقَالَ لَهُ طَلَّقْتَ زَوْجَتَك فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ طَلَّقْتَ زَوْجَتَك قَالَ نَعَمْ ثُمَّ رَأَى فِي الْكُتُبِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ وَالْفَقِيهُ أَخْطَأَ فَقَالَ لَمْ أُطَلِّقْ وَإِنَّمَا قُلْت بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْفَقِيهِ قَالَ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَسَبَقَ عَنْ غَيْرِهِ مَا يُنَازِعُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ فَرَاجِعْهُ. اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِمَا سَبَقَ عَنْ غَيْرِهِ مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ رَزِينٍ لَكِنَّ الْوَجْهَ الْمُوَافِقَ لِكَلَامِ الشَّيْخَيْنِ كَالْأَصْحَابِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ - أَنَّهُ مَتَى أَوْقَعَ الطَّلَاقَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَعْلَمْ وُقُوعَهُ، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ كَإِفْتَائِهِ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ عِلْمُهُ بِشَيْءٍ فَأَخْبَرَ مُسْتَنِدًا إلَيْهِ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِخِلَافِ الْحَقِّ لَمْ يَقَعْ

ص: 166

عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا وَقَعَ بِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ آخِرًا مِمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ فَقُبِلَ وَكَذَا مَا أَفْتَى بِهِ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ التَّحْرِيمَ بِأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْإِنْشَاءَ بَلْ الْإِخْبَارَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُكَاتَبَ النُّجُومَ فَقَالَ لَهُ السَّيِّدُ: أَعْتَقْتُك ظَانًّا صِحَّةَ الْأَدَاءِ ثُمَّ بَانَ فَسَادُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِلْقَرِينَةِ، فَكَذَا هُنَا وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ رَزِينٍ فَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ لَهُ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ غَيْرَ ثِقَةٍ مُعْتَمَدٍ؛ لِأَنَّ إخْبَارَ مِثْلِ هَذَا لَا يَكُونُ قَرِينَةً فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ مُهِمٌّ

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَهَجَمَ أَهْلُهَا بِتَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَبُّصٍ زَمَنَ الْعِدَّةِ لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا وَفِي يَدِهِمْ فَدَخَلَ بِهَا هَذَا الزَّوْجُ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا فَزَعَمَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي نِكَاحِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ النِّكَاحُ الثَّانِي لَا يَرْتَفِعُ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ الْوَطْءَ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا لَوْ طَلَّقَهَا دُونَ ثَلَاثٍ بِلَا عِوَضٍ ثُمَّ قَالَ وَطِئْت فَلِي الرَّجْعَةُ وَأَنْكَرَتْ وَطْأَهُ صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيمَا إذَا ادَّعَى عِنِّينٌ، أَوْ مُولٍ الْوَطْءَ وَأَنْكَرَتْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ فِي هَذِهِ وَهِيَ تَدَّعِي مَا يُزِيلُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَأَمَّا فِي تِلْكَ فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَدَّعِي الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَصْدِيقِهَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بَلْ صُورَتُهُ أَوْلَى بِأَنْ تُصَدَّقَ فِيهَا مِنْ صُورَةِ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي صُورَةِ الرَّوْضَةِ لَمْ يَتَعَلَّق بِهَا حَقٌّ ثَالِثٌ وَمَعَ ذَلِكَ صُدِّقَتْ فِي نَفْيِ الْوَطْءِ فَأَوْلَى فِي صُورَةِ السُّؤَالَ أَنْ تُصَدَّقَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ ثَالِثٌ وَأَيْضًا فَتَصْرِيحُهُمْ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي صُورَةِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَدَّعِي الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَالْأَصْلُ عِلْمُهُ وَهَذَا السَّبَبُ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِعَيْنِهِ فَالْمَنْقُولُ فِيهَا مَا قَرَّرْته ثُمَّ دَعْوَاهَا مَقْبُولَةٌ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي نَظِيرِ صُورَةِ السُّؤَالِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَاقُك وَاحِدًا وَوَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ أَمْ لَا وَعَيَّنَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْوُقُوعِ أَوْ الذَّهَابِ كَأَنْ يَقُولَ إلَّا دَخَلْت الدَّارَ يَقَعُ أَوْ يَذْهَبُ طَلَاقُك أَوْ وَقَعَ أَوْ ذَهَبَ هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَأَقَرَّاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ نَحْوِ طَلَّقْت مِنْ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَمَعَ نَحْوِ طَالِقٌ مِنْ ذِكْرِ الْمُبْتَدَإِ فَلَوْ نَوَى أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ، أَوْ امْرَأَتِي وَنَوَى لَفْظَ طَالِقٍ نَعَمْ إنْ سَبَقَ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ فِي سُؤَالٍ، أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ وَقَعَ تَفْوِيضٌ لَمْ يُشْتَرَطْ ذِكْرُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالُوهُ فِي طَلَّقْت جَوَابًا لِطَلِّقْنِي، أَوْ لِطَلِّقْهَا، أَوْ لِطَلِّقِي نَفْسَكِ وَفِي إنْ كُنْت كَاذِبًا. . . إلَخْ لِتَرَتُّبِهِ عَلَى السُّؤَالِ وَالتَّفْوِيضِ وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا بَانَ لَك أَنَّهُ لَا وُقُوعَ عَلَى مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَاقُك وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صَادِقَةٌ مَعَ وُجُودِ الزَّوْجِيَّةِ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهَا لَهَا إذْ يَصْدُقُ مَعَ وُجُودِ الزَّوْجِيَّةِ أَنَّ طَلَاقَهَا إذَا وُجِدَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، أَوْ اثْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي حَلَّ الْعِصْمَةِ بِوَجْهٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا نَعَمْ لَوْ نَوَى بِطَلَاقِك وَاحِدٌ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً مَثَلًا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فَيَقَعُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ طَلَاقَك مَصْدَرٌ وَهُوَ يَنُوبُ عَنْ الْفِعْلِ وَأَصْلٌ لَهُ فَلَا تَبْعُدُ إرَادَتُهُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ إفْتَاءُ الْوَلِيِّ أَبِي زُرْعَةَ بِأَنَّ قَوْلَهُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا مِنْ زَوْجَتِي تَفْعَلُ كَذَا كِتَابَةً؛ لِأَنَّ حَذْفَ يَلْزَمُنِي مَثَلًا صَيَّرَهُ كِنَايَةً فَإِنْ نَوَى إيقَاعَهُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْفِعْلِ وَقَعَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ بِتَقْدِيرِ إنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيَّ، أَوْ نَحْوِهِ. اهـ.

فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ ظَاهِرًا فِيمَا ذَكَرْته وَإِذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يَقَعُ، أَوْ وَقَعَ طَلَاقُك فَهُوَ تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا فَإِنْ أَبْدَلَ ذَلِكَ بِذَهَبَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الذَّهَابِ وَالْوُقُوعِ نَوْعُ تَقَارُبٍ فَلَا يَبْعُدُ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِنْ أَرَادَ بِذَهَابِ الطَّلَاقِ وُقُوعَهُ وَقَعَ بِالدُّخُولِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ فَلَا وُقُوعَ.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ طَالَبَتْهُ زَوْجَتُهُ أَوْ وَكِيلُهَا بِكِفَايَتِهَا كَالنَّفَقَةِ مَثَلًا وَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِحُضُورِ حَاكِمٍ مِنْ

ص: 167

حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ الزَّوْجُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَنَّ بَيْتَهَا مَلْآنُ طَعَامًا فَمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمِلْءِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَمْلُوءًا حَقِيقَةً أَوْ يُدَيَّنُ وَيَرْجِعُ إلَى قَصْدِهِ بَيِّنُوا لَنَا الْجَزْمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْبَيْنُونَةُ، أَوْ عَدَمُهَا فَالْمَسْأَلَةُ وَاقِعَةٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ لِلزَّوْجِ نِيَّةٌ عُمِلَ بِهَا وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَكُنْ بَيْتُهَا مَلْآنَ مِنْ الطَّعَامِ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَبَحَثَهُ الشَّيْخَانِ فِي مَوْضِعٍ وَجَزَمَا بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا حَتَّى تَمُوتَ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَأْتِي فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - السَّائِلُ أَيْضًا مَا لَفْظُهُ: هَذَا جَوَابُكُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَدْ أَفَدْتُمْ كَانَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَكُمْ وَأَدَامَ بِكُمْ النَّفْعَ وَالْحَالُ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ فِرَاقَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوءًا حَقِيقَةً وَاعْتَمَدَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ إنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ إلَّا فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّوْضَةِ فِي الْأَيْمَانِ وَكَذَلِكَ عِبَارَةُ الرَّوْضِ وَشَرْحِهِ فِي الْأَيْمَانِ فَرْعٌ قَدْ يُصْرَفُ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ كَلَا أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ وَنَوَى مَسْكَنَهُ دُونَ مِلْكِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ آدَمِيٍّ.

قَالَ الشَّارِحُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا بِأَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى لَا فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ كَأَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ.

وَعِبَارَةُ الْمُزَجَّدِ فِي الْعُبَابِ فِي الْإِيمَانِ فَرْعٌ: لَوْ قَالَ الْحَالِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَرَدْت شَهْرًا مَثَلًا قُبِلَ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَا الْآدَمِيِّ كَطَلَاقٍ وَإِيلَاءٍ وَعِتْقٍ لَكِنْ يُدَيَّنُ وَاعْتَمَدَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ هَذِهِ النُّصُوصَ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى فُقَهَاءِ الْبَلَدِ وَقَالُوا الْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا طَلَاقَ وَأَرَادُوا صَرْفَ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَرْسَلُوا إلَيْك الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ وَلَمَّا وَرَدَ الْجَوَابُ الْكَرِيمُ قَامُوا بِهِ عَلَى الْحَاكِمِ بِالْفُرْقَةِ وَقَالُوا لَهُ: قَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ عَلَى وَفْقِ كَلَامِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِيَّتُهُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَلْبَتَّةَ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَقَالَ لَهُمْ الْحَاكِمُ مَا أَرَادَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ - عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَكِنْ يُدَيَّنُ كَمَا جَزَمَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ سُؤَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي السُّؤَالِ يُدَيَّنُ، أَوْ تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ وَمِنْ الْآنِ فَالْمَسْئُولُ مِنْ التَّفَضُّلَاتِ الْكَرِيمَةِ إزَاحَةُ الْإِشْكَالِ بِجَوَابٍ شَافٍ صَرِيحٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيُدَيَّنُ بِحَيْثُ إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَمْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ بِالنِّيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَحَقِّ الْآدَمِيِّينَ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا.

وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَمَا مَعْنَى هَذِهِ النُّصُوصِ الْجَازِمَةِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: مَا أَفْتَيْت بِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ نِيَّةٌ عَمِلَ بِهَا أَيْ: ظَاهِرًا أَيْضًا هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ كَمَا يَأْتِي وَلَا يُعَارِضُهُ مَا ذُكِرَ عَنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي نِيَةِ مَجَازٍ لَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ وَتُعَضِّدُهَا أَمَّا إذَا نَوَى غَيْرَ الْحَقِيقَةِ مِمَّا يَتَجَوَّزُ بِهِ عَنْهَا وَقَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ النِّيَّةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَسَائِلَ فِي الطَّلَاقِ لَا تُحْصَى بَلْ قَدْ تَزْدَادُ قُوَّةُ الْقَرِينَةِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى قَضِيَّتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ رَأَيْت مِنْ أُخْتِي شَيْئًا وَلَمْ تُخْبِرِينِي بِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مُوجِبِ الرِّيبَةِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إنْ رَأَتْ مِنْهَا مُوجِبَ رِيبَةٍ وَلَمْ تُخْبِرْهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَتْ مِنْهَا غَيْرَهُ وَلَمْ تُخْبِرْهُ عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ الْمُخَصَّصَةِ لِلْعَامِّ فِي قَوْلِهِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ.

فَكَذَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا طَالَبَتْهُ هِيَ، أَوْ وَكِيلُهَا بِكِفَايَتِهَا كَانَتْ مُدَّعِيَةً عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ طَعَامٌ فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَلْآنُ طَعَامًا كَانَتْ الْقَرِينَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمِلْءَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا يُكَذِّبُ دَعْوَاهَا وَكَانَ قِيَاسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ لَمْ تَقْوَ فِيهَا قُوَّتَهَا فِي تِلْكَ أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتِ نِيَّةٌ وَاشْتَرَطْنَاهَا فِي مَسْأَلَتِنَا لِمَا عَرَفْت مِنْ قُوَّةِ الْقَرِينَةِ ثَمَّ لَا هُنَا.

وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته

ص: 168

أَيْضًا مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لَهُ فَعَلْت كَذَا حَرَامًا أَيْ كَأَكْلِ الرِّبَا مَثَلًا فَقَالَ لَهَا إلَّا فَعَلْت حَرَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِالْحَرَامِ أَكْلَ الرِّبَا فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ ذِكْرِهَا لَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ غَيْرَهُ فَحَمَلْنَا إطْلَاقَهُ الْحَرَامَ الشَّامِلَ لِلرِّبَا وَغَيْرِهِ عَلَى الرِّبَا فَقَطْ عَمَلًا بِالْقَرِينَةِ وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته أَيْضًا أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَغْتَسِلُ أَنَّهُ يَقَعُ بِالْغُسْلِ مِنْ جَنَابَةٍ وَغَيْرِهَا فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَقَطْ دُيِّنَ وَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمَحَلُّهُ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ.

أَمَّا إذَا كَانَتْ قَرِينَةٌ كَمَا لَوْ رَاوَدَهَا فَامْتَنَعَتْ لِغَصْبٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا قَوْلُهُ أَرَدْت الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أَغْتَسِلُ يَعُمُّ كُلَّ غُسْلٍ فَإِذَا خَصَّصَهُ بِبَعْضِ الْأَغْسَالِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْعُمُومُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ الْخُصُوصُ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَتِهِ لِذَلِكَ دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَتِهِ لِذَلِكَ قُبِلَتْ مِنْهُ ظَاهِرًا أَيْضًا فَكَذَا مَسْأَلَتُنَا حَقِيقَةُ الْمَلْءِ فِيهَا مَعْرُوفَةٌ فَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْمَلْءِ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَتِهِ دُيِّنَ وَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَتِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ إنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَحْكِيمًا لِلْقَرِينَةِ، وَالْوَاقِعُ فِي السُّؤَالِ كَمَا عَرَفْت أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهَا، أَوْ مِنْ وَكِيلِهَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ فِي الْبَيْتِ فَحَلِفُهُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا تَكْذِيبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ.

وَتَكْذِيبُهُ يَحْصُل بِوُجُودِ بَعْضِ طَعَامٍ فِي الْبَيْتِ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَرِينَةَ مُرْبِحَةٌ لِلْمَجَازِ هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَعَمِلْنَا بِهَا بِعَيْنِ مَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ نَظَائِرُ مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ بَلْ عَيْنُهَا كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ رَأَيْت الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا صَرَّحُوا بِمَا قُلْته مِنْ الضَّابِطِ الصَّرِيحِ فِي مَسْأَلَتِنَا حَيْثُ قَالُوا لَوْ خَصَّصَ عَامًّا بِالنِّيَّةِ كَأَنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ دُيِّنَ وَإِنْ كَانَتْ تُشْعِرُ بِإِرَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ، أَوْ عَدَمِ الطَّلَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ قُبِلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ لَهُ الْمُسْتَثْنَاةُ وَهِيَ تُخَاصِمُهُ تَزَوَّجْت عَلَيَّ فَيَقُولُ لَهَا عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ وَيَقُولُ أَرَدْت غَيْرَ الْمُخَاصَمَةِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا قَالُوا لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ وَمِثَالُ الثَّانِيَةِ مَا إذَا قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي طَالِقٌ طَلَاقَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَثَاقِ قُبِلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَالُوا وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِأَكْلِ خُبْزٍ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَلَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا إلَّا بِقَرِينَةٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته فِي صُورَةِ السُّؤَالِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ أَنَّهُ قَالَ مَتَى سَافَرْت إلَى سِوَاكُنَّ وَلِفُلَانٍ عِنْدِي فِلْسٌ وَاحِدٌ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ سَافَرَ لِسِوَاكُنَّ وَدَرَاهِمُ فُلَانٍ كُلُّهَا عِنْدَهُ فَلَمَّا حَضَرَ طَلَبَهُ أَبُو الزَّوْجَةِ هُوَ وَالشُّهُودُ فَحَضَرُوا عِنْدَ مُفْتٍ شَافِعِيٍّ لِيَسْتَفْتِيَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَأَخْبَرَ الشُّهُودُ الْمُفْتِيَ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ الْيَمِينُ الْمَذْكُورَةُ فَاعْتَرَفَ بِالسَّفَرِ وَقَالَ لَهُ الْمُفْتِي وَقَعَ عَلَيْك الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَحَلَفَ الْأَيْمَانَ الْأَكِيدَةَ الْغَلِيظَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَذَا التَّعْلِيقُ أَصْلًا وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الشُّهُودَ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْمُفْتِي لَا يُقْبَلُ مِنْك ذَلِكَ فَقَالَ عِنْدِي مَطْعَنٌ فِي الشُّهُودِ فَخَرَجَ لِيَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ عَجَزْت عَنْ إبْدَاءِ الْمَطْعَنِ وَحَلَفَ الْأَيْمَانَ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَقَالَ لَهُ الْمُفْتِي لَا يَنْفَعُك ذَلِكَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي حَلَفْت مِنْهَا فَإِنَّك إلَّا فَعَلْت ذَلِكَ رَفَعْنَا أَمَرَك إلَى الْقَاضِي فَاعْتَزَلَهَا ثُمَّ جَاءَ هُوَ وَأَبُوهَا إلَى الْمُفْتِي ثَانِيًا وَأَعْطَى أَبَاهَا دَرَاهِمَ وَتَوَافَقَا عَلَى أَنْ تَتَحَلَّلَ لَهُ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَحَلَفَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا أَنَّ الشُّهُودَ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ مُدَّةً كُلَّ مَا اجْتَمَعَ بِالْمُفْتِي يَحْلِفُ لَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ لَا يَنْفَعُك ذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَدَّعِيَ النِّسْيَانَ وَكَتَبَ لَهُ سُؤَالًا مُمَوَّهًا وَرَفَعَهُ لِمُفْتٍ شَافِعِيٍّ فَكَتَبَ لَهُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ النِّسْيَانُ ثُمَّ سُئِلَ ذَلِكَ الْحَالِفُ بَعْدَ إفْتَاءِ الْمُفْتِي لَهُ بِمَا ذَكَرَ هَلْ حَلَفْت وَنَسِيت فَحَلَفَ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ وَأَنَّ الشُّهُودَ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَصْمِيمِهِ عَلَى تَكْذِيبِ الشُّهُودِ دَعْوَى النِّسْيَانِ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ

ص: 169

ذَاكِرِينَ النَّقْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْجَنَّةَ.

(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: لَا تُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى النِّسْيَانِ فِيمَا ذَكَرَ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ الشِّهَابُ الْأَذْرَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَوَسُّطِهِ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْقِيقًا وَتَحْرِيرًا لِلْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَحَلَّ قَبُولِ دَعْوَى نَحْوِ النِّسْيَانِ حَيْثُ لَا يَكْذِبَ الشُّهُودُ وَإِلَّا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَرَدَّ بِذَلِكَ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي رَدِّ غَالِبِ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلَى الشَّيْخَيْنِ إطْلَاقَهُ اعْتِرَاضًا عَلَيْهِمَا قَبُولَ دَعْوَى مَا ذُكِرَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ هُوَ الْحَقُّ وَلَا يَسَعُ الْإِسْنَوِيَّ وَلَا غَيْرَهُ مُخَالَفَتُهُ لِظُهُورِهِ وَاتِّضَاحِهِ.

وَمِنْ ثَمَّ أَيَّدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُطْلِقِينَ بِقَوْلِ الْقَفَّالِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ لَوْ قَالَ إلَّا لَمْ أَحُجَّ فِي هَذَا الْعَامِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَقَالَ هُوَ قَدْ حَجَجْت وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَالَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنْ دَعْوَى النِّسْيَانِ إلَى دَعْوَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَا يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُ حَكَمَنَا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهَا. اهـ.

وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْعَامِّيِّ دَعْوَى النِّسْيَانِ، أَوْ نَحْوِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي السُّؤَالِ فَهُوَ غَالِبًا إنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ التَّهَوُّرِ وَقِلَّةِ الدِّينَ قَصْدًا لِنَيْلِ شَيْءٍ مِنْ سُحْتِ الدُّنْيَا وَمَا دَرَى ذَلِكَ الْمُعَلِّمُ الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مَفَاسِدَ إثْمُهَا عَظِيمٌ وَبَالُهَا وَخِيمٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ إلَّا تَسْلِيطُهُ الْعَامَّةِ الْجَهَلَةِ، أَوْ الْفَسَقَةِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَبْضَاعِ بِالْبَاطِلِ مَعَ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ وَالْحُرْمَةِ وَلِخَطَرِ أَمْرِهَا وَصُعُوبَةِ عَاقِبَتِهَا امْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إفْتَاءِ مُدَّعِي النِّسْيَانَ قَالُوا: وَاسْتِعْمَالُ التَّوَقِّي أَوْلَى مِنْ فَرَطَاتِ الْأَقْدَامِ وَمَنْ يَحْتَاطُ لِدِينِهِ لَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ مِنْ الْعَامَّةِ. اهـ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا ذَكَرُوهُ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ الَّذِي مَضَى مِنْ نَحْوِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ فَمَا بَالُك بِزَمَانِنَا الَّذِي صَارَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ لَا خِلَافَ لَهُمْ وَلَا مَسْكَةَ وَلَقَدْ اسْتَفْتَانِي مَنْ لَا أُحْصِي فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَيَنْهَوْنَ إلَيَّ فِيهِ شَيْئًا فَأَمْتَنِعُ مِنْ إفْتَائِهِمْ حَتَّى أَبْحَثَ عَنْ الْقَضِيَّةِ فَأَجِدُهَا عَلَى خِلَافِ مَا حَكَوْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا أَنَّ بَعْضَ فَسَقَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ هُمْ الْحَامِلُونَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْحَالِفِ نَارًا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُعَلِّمُونَهُ، أَوْ يَكْتُبُونَ لَهُ صُورَةً مُخَالِفَةً لِلْوَاقِعِ وَيُرْسِلُونَ بِهَا إلَيَّ لِلِاسْتِفْتَاءِ عَنْهَا فَيُلْهِمُنِي اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ فَضْلِهِ التَّشَكُّكَ فِيهَا وَالْبَحْثَ الشَّدِيدَ عَنْهَا حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى الْمَسْئُولُ أَنْ يُعَامِلَ بِعَدْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ أُولَئِكَ الْفَسَقَةَ الْمَارِقِينَ وَالْمَرَدَةَ الضَّالِّينَ هَذَا وَمِمَّا يَحْمِلُك عَلَى التَّحَرِّي فِي الْإِفْتَاءِ فِي مَسَائِلِ النِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِ طَلَاقِ النَّاسِي لَوْ فُرِضَ صِدْقُهُ إنَّمَا هُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ بِوُقُوعِ طَلَاقِ النَّاسِي وَعَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَنَاهِيك بِهِمَا فَإِنَّهُ مَا مِنْ فُحُولِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُفْتِيَانِ بِوُقُوعِ طَلَاقِ النَّاسِي وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَكَيْفَ لَا وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَنَفَعَنَا بِهِمْ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ وَوَفَّقَنَا إلَى سُلُوكِ طَرِيقَتِهِمْ الْمُثْلَى الْمُطَهَّرَةِ عَنْ قَبَائِحِ الزَّلَلِ وَمَفَاسِدِ الشُّبَهِ وَالْخَبَلِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَأَقَرَّ فِي حَالِ مَرَضِهِ عِنْدَ شَخْصٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَبَقِيَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى مَاتَ فَأَخْبَرَهَا الْمُقَرُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ وَصَدَّقَتْهُ فَهَلْ تَرِثُهُ وَلَا تَحْسِبُ الْعِدَّةَ إلَّا مِنْ الْمَوْتِ لِمُعَاشَرَتِهَا لَهُ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ يُحْكَمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ الْإِقْرَارِ أَوْ مِنْ قَبْلِ الْإِقْرَارِ بِزَمَنٍ يَسَعُ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا مَضَى مِنْ قُبَيْلِ إقْرَارِهِ مَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّتُهَا قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْهُ إنْ قُلْنَا: إنَّ مُعَاشَرَةَ الرَّجْعِيَّةِ تَقْطَعُ الْعِدَّةَ لِغَيْرِ نَحْوُ الرَّجْعَةِ كَمَا عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَفِي شَرْحِي الصَّغِيرِ عَلَى الْإِرْشَادِ وَأَلْحَقَ الْبُلْقِينِيُّ بِعَدَمِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مَعَ الْمُعَاشَرَةِ عَدَمَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَقَضِيَّتُهُ امْتِنَاعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ

ص: 170

تَرَدَّدَ فِيهِ الزَّرْكَشِيُّ فِي تَكْمِلَتِهِ وَنَقَلَ فِي خَادِمِهِ عَنْ قَضِيَّةِ كَلَامِ الْمَطْلَبِ امْتِنَاعَ إرْثِهِ دُونَ إرْثِهَا ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ بَلْ قِيَاسُ مَا مَرَّ مَا قُلْنَاهُ وَقِيَاسُ مُقَابَلَةِ الَّذِي انْتَصَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ وَنَقَلُوهُ عَنْ الْأَصْحَابِ تَوَارُثُهُمَا. اهـ. وَإِنْ لَمْ يُمْضِ ذَلِكَ، أَوْ جَهِلَ الْحَالَ وَرِثَتْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِرْثِ مُحَقَّقَةُ الْبَقَاءِ إذْ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُنَافِيهَا وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا وَعَدَمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْكَلَامُ كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْحَامِلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

(وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ أَخْبَرَتْهُ امْرَأَةٌ أَوْ امْرَأَتَانِ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا أَوْ صِدْقُهُمَا بِأَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَاتِهِ لَكِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ ذَلِكَ وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ الْإِخْبَارُ شَيْئًا مِنْ التَّذَكُّرِ سَوَاءٌ تَوَهَّمَ أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ إلَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ يَظُنُّهُ الْمُخْبِرُ مُقْتَضِيًا لِلْوُقُوعِ وَهُوَ لَيْسَ عِنْدَ الْمُتَلَفِّظِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ فَهَلْ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ وَالْحَالُ مَا ذَكَرَ يُلْزِمُهُ بِفِرَاقِ نِسَائِهِ أَمْ لَا وَهَلْ إذَا شَكَّ إنْسَانٌ فِي زَوْجَةٍ تَزَوَّجَهَا هَلْ كَانَتْ دَخَلَتْ فِي عَقْدِهِ وَقْتَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ تَطْلِيقٍ أَمْ لَا تَطْلُقُ الْمَشْكُوكُ فِي دُخُولِهَا وَشُمُولِ التَّطْلِيقِ لَهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يَلْزَمُهُ فِرَاقٌ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ الْمَذْكُورِ إلَّا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَلَمْ يَجُزْ اسْتِنَادُ إخْبَارِهِ لِمَا لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ فَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ قَوْلُهُمْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ. اهـ.

وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ عَصَرَ عِنَبًا ثُمَّ قَالَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ وَجَدَهُ خَلًّا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ إلَّا بَعْدَ التَّخَمُّرِ وَبِهَذَا يَتَّجِهُ مَا ذَكَرْته مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَوْلِي وَلَمْ يُجَوَّزْ. . . إلَخْ جَمَعْت بِهِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ نَقْلًا عَنْ الرُّويَانِيِّ وَأَقَرَّاهُ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَأَخْبَرَهُ عَدْلَانِ وَأُلْحِقَ بِهِمَا عَدْلٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَظَنَّ صِدْقَهُمَا لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، هَذَا إنَّمَا يَأْتِي إذَا أَوْقَعْنَا طَلَاقَ النَّاسِي بِأَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ مَعَ ظَنِّ الصِّدْقِ لَمْ يُجَوَّزْ أَنَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا وَحِينَئِذٍ أُلْحِقَ مَا نَقَلَاهُ وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَهُ وَحِينَئِذٍ أُلْحِقَ مَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ: وَعَلَى الْأَوَّلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ فَسَقَةٍ وَصِبْيَانٍ ظَنَّ صِدْقَهُمْ.

وَبِهَذَا كُلِّهِ اتَّضَحَ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا وَلَا طَلَاقَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَ تَزَوُّجُهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا وَالْوَرَعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى إنْعَامِهِ وَأَشْكُرُهُ عَلَى إلْهَامِهِ وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ وَخِتَامِهِ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِ أَفْضَالِهِ فِي دَارِ نَعِيمِهِ وَإِكْرَامِهِ.

(وَبَعْدُ) فَهَذَا كِتَابٌ لَقَّبْته بِالِانْتِبَاهِ لِتَحْقِيقِ عَوِيصِ مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ حَمَلَنِي عَلَيْهِ أَنِّي أَفْتَيْت فِي مَسْأَلَةٍ بِمَا هُوَ الْحَقُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَتُوُهِّمَ خِلَافُ الْمُرَادِ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُ الِانْتِقَادِ ثُمَّ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ فِي أَطْرَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَتَخْرِيجِهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالدَّلَائِلِ ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا مُشْكِلَاتٍ لَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهَا وَمُعْضِلَاتٍ لَمْ يُوَجِّهُوا نَظَرَهُمْ إلَيْهَا فَقَصَدْت إلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ نَقْدٍ وَرَدٍّ وَإِشْكَالٍ وَجَوَابٍ لِيَنْجَلِيَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَجْهُ الصَّوَابِ بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِ إشَارَةٍ فِي وَرَقَاتٍ يَسِيرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَتُهَا فِي نَفْسِهَا عَسِيرَةً وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَأَسْأَلُ اللَّهَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى تَحْرِيرِ ذَلِكَ وَيُسَهِّلُ الْوَعْرَ مِنْ تِلْكَ الْمَسَالِكِ فَإِنَّهُ الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. وَرَتَّبْته عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَبَاحِثَ وَتَتِمَّةٍ (الْمُقَدَّمَةُ) فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ وَعَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَعَلَى فِعْلِ، أَوْ تَرْكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فِيهِمَا يَنْقَسِمُ إلَى إكْرَاهٍ بِحَقٍّ وَإِلَى إكْرَاهٍ بِبَاطِلٍ فَالْإِكْرَاهُ بِبَاطِلٍ إذَا صَحِبَهُ عَدَمُ قَصْدٍ مِنْ الْمُكْرَهِ وَاخْتِيَارٌ بِأَنْ أَتَى بِعَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَدْنَى تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ فِيهِ لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ فَقَطْ. أَخْبَرَ الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عَزَّ إفْضَالُهُ وَجَلَّ نَوَالُهُ بِأَنَّهُ رَفَعَ حُكْمَهُ عَنْ أُمَّتِهِ رُخْصَةً لَهُمْ وَخُصُوصِيَّةً مِنْ خَصَائِصِهِمْ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَجَعَلَ فِعْلَ الْمُكْرَهِ الَّذِي

ص: 171

وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِكْرَاهِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَلَا فِعْلٍ فَكُلُّ مَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مُتَرَتِّبًا عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهِ فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ بَلْ لَا إكْرَاهَ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ الْفِعْلُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمَوْضِعُ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ إكْرَاهٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَشْمَلُ التَّرْكَ وَالْقَوْلَ وَقَدْ يُرَتِّبُهُ عَلَى الِانْفِعَالِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي رَفَعَهُ شَفَقَةً عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ.

نَعَمْ إنْ عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ بِحَيْثُ زَادَتْ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يُرَتِّبْ شَيْئًا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُبَحْ الْقَتْلُ وَلَا الزِّنَا وَهَذَا سَبَبُ اسْتِثْنَائِهِمْ لِهَذَيْنِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ فِي الثَّانِي مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعَلَامَاتِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الرَّبْطُ بِنَحْوِ السَّبَبِ، أَوْ الشَّرْطِ، أَوْ الْمَانِعِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فِعْلٍ وَلَا إلَى فَاعِلٍ كَمَا يَأْتِي. وَمِنْ ثَمَّ حَرُمَ الْإِرْضَاعُ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ مَنُوطٌ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَدَثِ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَوْ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَرْكِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ بَطَلَ، أَوْ عَلَى نَحْوِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالرَّمْيِ وَالسَّعْيِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الصَّرْفُ صَحَّ، أَوْ عَلَى نَحْوِ غَشَيَانِ أَمَتِهِ فَحَبِلَتْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَلَحِقَهُ، أَوْ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ صَارَ مُحْصَنًا وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَأَحَلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا، أَوْ عَلَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَلُحُوقُ النَّسَبِ وَانْفِسَاخُ نِكَاحِ نَحْوِ أَبِي الْوَاطِئِ كَمَجْنُونٍ وَطِئَ زَوْجَةَ أَبِيهِ، أَوْ أُكْرِهَ مَجُوسِيٌّ عَلَى ذَبْحٍ، أَوْ مُحْرِمٌ حَلَالًا عَلَى ذَبْحِ صَيْدٍ حَلَّ.

وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الشُّرُوطِ وَنَحْوِهَا وَالْخِطَابُ فِيهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا تَقَرَّرَ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنَاطَ الْحُكْمَ بِوُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ، أَوْ الشَّرْطِ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فِعْلٍ وَلَا إلَى فَاعِلٍ وَبِمَا قَرَّرْته فِي هَذَا الْمَحَلِّ يَتَّضِحُ لَك مُتَفَرِّقَاتُ كَلَامِهِمْ الْمُتَعَارِضَةُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَلْغَوْا الْإِكْرَاهَ تَارَةً وَاعْتَدُّوا بِهِ تَارَةً أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَثَّرَ فِيهَا الْإِكْرَاهُ وَإِلَى أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا لِمَا مَرَّ فِيهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي بِالْعَكْسِ فَأَكْثَرُ مَسَائِلِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَبَعْضُهَا قَدْ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَأْخَذُهُ وَمَلْحَظُهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فَاسْتَفِدْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ يَزُولَ بِهِ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ لَا يُهْتَدَى إلَى حَلِّهَا إلَّا بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ كَمَا تَقَرَّرَ.

وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ التَّاجِ السُّبْكِيّ يَتَّضِحُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ إنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ. اهـ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُبَاحَ وَمَا بَعْدَهُ لَا إثْمَ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَرْكِهَا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَخِيرَيْنِ فَإِنَّ فِيهِمَا إثْمًا فَإِذَا كَانَا لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ انْتَفَى عَنْهُمَا الْإِثْمُ رُخْصَةً مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى كَمَا مَرَّ. وَنَخْتِمُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ بِفَرْعَيْنِ مُشْكِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَوْ أَكْرَهَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَ عَلَى وَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَوَطِئَهَا وَأَحْبَلَهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ لِشَرِيكِهِ الْمُكْرِهِ لَهُ أَوْ لَا لَا لِأَنَّهُ الْحَامِلُ لَهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَقُولُ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لَهُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةُ الْمُكْرِهِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي مَوَاضِعَ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ فِعْلٍ فَكَيْفَ يَكُونُ فِعْلُهُ الْمُتَعَدِّي بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَبَبًا لِأَخْذِهِ مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَلَا رِضَاءَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّ التَّرَدُّدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْرَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَعْجَمِيًّا يَرَى وُجُوبَ طَاعَةِ آمِرِهِ وَإِلَّا فَهُوَ آلَةٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ ثَانِيهِمَا: قَطَعَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ بِبَاطِلٍ عَقْدٌ وَلَا حَلٌّ كَبَيْعٍ وَطَلَاقٍ وَغَيْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا فِيهِ قَوْلَا الْمُكْرَهِ وَهَذَا غَيْرُ مَا جَزَمُوا بِهِ.

وَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَزْمَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُوقِعُهُ الْمُكْرَهُ مُنَجَّزًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا الْقَوْلَانِ فَمَحَلُّهُمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى فِعْلٍ سَبَقَهُ تَعْلِيقٌ بِالطَّلَاقِ مَثَلًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ نَحْوُ إلَّا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تُكْرَهُ عَلَى دُخُولِهَا فَمَنْ نَظَرَ إلَى اخْتِيَارِهِ أَوَّلًا أَوْقَعَ عَلَيْهِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى إكْرَاهِهِ

ص: 172

عَلَى الدُّخُولِ لَمْ يُحَنِّثْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ إنَّمَا يَسْتَنِدُ بِالْحَقِيقَةِ الْقَرِيبَةِ إلَى وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَوُجُودُهُ مِنْ الْمُكْرَهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ.

وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ كَالِاخْتِيَارِ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أُكْرِهَ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ وَكَانَ آثِمًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَصِحُّ وَإِنْ أَكْرَهَهُمَا كَافِرٌ مِنْهُمَا ظَاهِرًا وَكَذَا بَاطِنًا إنْ أَذْعَنَ لَهُ قَبْلَهُمَا وَمِنْ ذَلِكَ إكْرَاهُ الْإِمَامِ مُكَلَّفًا عَلَى الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ أَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ إعْتَاقِهِ وَامْتَنَعَ مِنْهُ أُجْبِرَ عَلَى إعْتَاقِهِ فَيَصِحُّ وَيَقَعُ الْمَوْقِعَ وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَوْلَى مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَامَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْءِ كَإِحْرَامٍ وَلَمْ يَفِئْ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يَقُولَ إذَا زَالَ عُذْرِي وَطِئْتُ فَأَكْرَهَهُ الْقَاضِي عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ بِحَقٍّ فَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَقُلْنَا الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ وَلَغَا الزَّائِدُ، وَإِنْ قُلْنَا يَنْعَزِلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَهُوَ كَمَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ إنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ الْحُكْمَ مَا دَامَ بِالْحَقِّ فَإِذَا انْعَزَلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فَسَاوَى سَائِرَ الْآحَادِ حِينَئِذٍ وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ نُفُوذُ الطَّلَاقِ مَعَ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ فِيمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: طَلِّقْ زَوْجَتِي، أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي، أَوْ بِعْ مَتَاعِي وَإِلَّا قَتَلْتُك مَثَلًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ تَضَمَّنَ إذْنًا فَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ جَاءَ النُّفُوذُ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إكْرَاهًا يَقْتَضِي إلْغَاءَ التَّصَرُّفِ وَلُحُوقَ الْإِثْمِ لِلْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِيهِ حَيْثِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ رُتِّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمُهُمَا لِانْفِكَاكِ الْحُكْمَيْنِ وَعَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَثَلًا هُنَا لِسُقُوطِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالْإِكْرَاهِ (تَنْبِيهٌ) تَعْبِيرِي بِالْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ هُوَ مَا عَبَّرُوا بِهِ وَأَقَرُّوهُ

لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِكْرَاهَ عَلَى حَقٍّ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى حَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ وَالْمُعْتَبَرُ إنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ لَا عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ إكْرَاهٌ عَلَى حَقٍّ لَا بِهِ لِحُرْمَةِ إكْرَاهِهِ عَلَيْهِ لِقَبُولِنَا عَقْدَ الْجِزْيَةِ مِنْهُ الْمُسْتَلْزِمَ لِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ فَلَوْ أَسْلَمَ لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِبَاطِلٍ لَا يُقَالُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَوْ قَالَ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْقَاتِلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك وَإِلَّا اقْتَصَصْتُ مِنْك لَمْ يَكُنْ إكْرَاهًا يَدْخُلُ فِي الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ مَعَ نَفْيِهِمْ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْإِكْرَاهِ مِنْ أَصْلِهَا وَيَرُدُّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَلَا عَكْسَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ الْمُكْرَهَ بِهِ حَقُّ الْمُكْرَهِ وَالطَّلَاقُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ حَقًّا لَهُ فَالْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِكْرَاهَ عَلَى حَقٍّ خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ إنَّ الْإِكْرَاهَ نَفْسَهُ حَقٌّ وَلَا يَكُونُ حَقًّا إلَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ لَازِمَيْهِ الْمُكْرَهِ بِهِ وَعَلَيْهِ حَقًّا فَخَرَجَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهَا لَيْسَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ حَلَالًا إذْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُكْرِهَ بِهِ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ.

(الْمَبَاحِثُ) فِي ذِكْرِ الصُّوَرِ الَّتِي مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْخُطْبَةِ وَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِهَا طِبْقَ مَا مَرَّ فِي بَحْثِ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَفِي بَعْضِهَا خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ وُقُوعِهِ مَعَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيهِ بِحَقٍّ فَلَمْ يَجْرُوا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ مُطَابِقٍ لِمَا اسْتَثْنَوْهُ وَمِنْ الْوُقُوعِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ وَعَدَمِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِبَاطِلٍ، فَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ فِيمَا إذَا قَالَ لَا أُفَارِقُكِ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكِ أَنَّهُ لَوْ أَفْلَسَ الْغَرِيمُ فَمَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَفَارَقَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَإِنْ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ وَاجِبًا لِإِعْسَارِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَا أُصَلِّي الْفَرْضَ فَصَلَّى حَنِثَ. اهـ.

وَبِهِ جَزَمَ غَيْرُهُمَا وَالْقِيَاسُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ وَقَوْلُهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ. . . إلَخْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا قَالَاهُ أَثْنَاءَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا لَمْ أَطَأْك اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً مِنْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى عَدَمَ الْحِنْثِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - اعْتَرَضَهُ وَقَالَ بَلْ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْيَمِينِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَعْصِيَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فَلَمْ يَعْصِهِ حَنِثَ

ص: 173

أَيْ: وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ الْمَعْصِيَةَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ هُوَ نَظِيرُ مَا قَالَاهُ فِي لَا أُصَلِّي الْفَرْضَ فَلِمَ اُعْتُمِدَ الْحِنْثُ هُنَاكَ وَلَمْ يُعْتَمَدْ هُنَا مُوَافَقَةً لِلْمُزَنِيِّ مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْرَكِ وَقَدْ قَالَ غَيْرُهُمَا: الْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَفَوَاتِ الْبِرِّ بِالْإِكْرَاهِ.

هَذَا حَاصِلُ مَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مِنْ هَذَيْنِ الْإِشْكَالَيْنِ الْقَوِيَّيْنِ وَيُجَابُ عَنْ أَوَّلِهِمَا بِأَنَّ مَحَلَّ قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ مَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ تَصَرُّفًا مُنَجَّزًا كَمَا مَرَّ فِي إكْرَاهِ الْقَاضِي لِلْمُولِي عَلَى الطَّلَاقِ، وَلِنَاذِرِ الْعِتْقِ وَشَارِطِهِ عَلَى إيقَاعِهِ، وَلِأَحَدِ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَا فِي إكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَفِي هَذَا كُلِّهِ يَقَعُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ وَيَصِحُّ لِمَا مَرَّ مِنْ تَقْصِيرِ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَوْ الْفِعْلِ اللَّازِمِ لَهُ فِي الْحَالِ الْآثِمِ بِتَرْكِهِ حَتَّى أَحْوَجَ غَيْرَهُ إلَى حَمْلِهِ عَلَيْهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلُ شَيْءٍ عَلَّقَ عَلَيْهِ طَلَاقًا مَثَلًا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ فِي إلْغَاءِ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ وَالْإِكْرَاهِ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي الْحِنْثِ وُجُودُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْإِكْرَاهِ بِقِسْمَيْهِ.

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِ شُرَّاحِ التَّنْبِيهِ فِي مَسْأَلَةِ غَرِيمِ الْمُفْلِسِ السَّابِقِ فَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَعَلَى قَوْلِ الْمُكْرَهِ أَيْ: فَلَا يَحْنَثُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ شَرْعًا. اهـ. فَتَأَمَّلْ تَعْلِيلَهُ عَدَمَ حِنْثِهِ بِمَنْعِ الْحَاكِمِ لَهُ مِنْ مُلَازَمَةِ غَرِيمِهِ الْمُعْسِرِ بِأَنَّهُ مُكْرَهٌ شَرْعًا تَجِدْهُ صَرِيحًا أَيْ: صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ وُجُودَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ كَهُوَ بِالْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ وَمِنْ ثَمَّ عَلَّلَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ كَالْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ، فَإِنْ قُلْتَ هَلْ لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ وَجْهٌ جَلِيٌّ يَتَّضِحُ بِهِ ذَلِكَ؟ قُلْت: نَعَمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمُنَجَّزِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى تَقْصِيرِ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ بِمَا أَوْجَبَ أَنَّ إكْرَاهَهُ بِحَقٍّ وَإِلَى عَدَمِ تَقْصِيرِهِ بِمَا أَوْجَبَ أَنَّ إكْرَاهَهُ بِبَاطِلٍ، فَقَالُوا فِي الْأَوَّلِ يَنْفُذُ قَطْعًا وَفِي الثَّانِي لَا يَنْفُذُ قَطْعًا.

وَأَمَّا فِي الْمُعَلَّقِ فَلَمْ يَنْظُرُوا كُلُّهُمْ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى ابْتِدَاءِ تَعْلِيقِهِ السَّابِقِ بِاخْتِيَارِهِ فَأَوْقَعَهُ بِفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ وَبَعْضُهُمْ إلَى فِعْلِهِ حَالَ الْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُوقِعْ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ نَظَرًا إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ لَهُ فَتَأَمَّلْ اخْتِلَافَ نَظَرِهِمْ وَمَلْحَظِهِمْ فِي الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ يَتَّضِحُ لَك مَا ذَكَرْته وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُعَلِّقَ لَمْ يَجْعَلْ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ مُوجِبًا لِحِنْثِهِ إلَّا إذَا قَارَنَهُ الِاخْتِيَارُ وَالرِّضَا بِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ أَلْفَاظُ التَّعَالِيقِ كَلَا أُفَارِقُ، أَوْ إنْ دَخَلْت وَنَحْوِهِمَا، وَإِكْرَاهُ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْمُعَلِّقِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ.

وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الْمُنَجَّزُ فَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي تَقْيِيدُهُ بِاخْتِيَارٍ وَلَا بِعَدَمِهِ فَفَصَلَ فِيهِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ وَعَدَمِهِ نَظَرًا إلَى تَقْصِيرِ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَعَدَمِ تَقْصِيرِهِ فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فُرُوعٌ أُخْرَى غَيْرُ مَسْأَلَةِ الْمُفْلِسِ السَّابِقَةِ قُلْت: نَعَمْ وَهَا أَنَا أُمْلِي عَلَيْك مِنْهَا لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُك إلَى مَا ذَكَرْتُهُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْخَادِمِ فِيمَنْ ابْتَلَعَ خَيْطًا وَبَقِيَ طَرَفُهُ خَارِجًا ثُمَّ أَصْبَحَ صَائِمًا فَإِنْ نَزَعَهُ أَفْطَرَ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ قَالَ وَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْبِرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ. اهـ.

فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ أَيْ: بِبَاطِلٍ تَعْلَمْ أَنَّهُ أَلْحَقَ هُنَا الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ كَالْإِكْرَاهِ بِبَاطِلٍ حَتَّى أَعْطَاهُ حُكْمَهُ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ بِهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى أَنَّ الِابْتِلَاعَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُتَسَبِّبِ عَنْهُ إجْبَارُ الْحَاكِمِ لَهُ عَلَى نَزْعِهِ وَإِنَّمَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا أَجْبَرَهُ عَلَى نَزْعِهِ صَارَ غَيْرَ مُخْتَارٍ لَهُ فَسَاوَى الْمُكْرَهَ بِبَاطِلٍ فِي عَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَلَمْ يُفْطِرْ حِينَئِذٍ وَمِنْهَا مَا فِي حَوَاشِي الرَّوْضَةِ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ شَيْءٍ كَانَ فِعْلُهُ مُمْكِنًا فَمُنِعَ مِنْهُ كَأَنْ قَالَ إلَّا لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمُنِعَ مِنْ الدُّخُولِ بِالْإِكْرَاهِ إنْ كَانَتْ مِلْكَهُ أَوْ بِالشَّرْعِ إنْ كَانَتْ مِلْكَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لِفَوَاتِ الْبِرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.

قَالَ وَقَدْ سُئِلْتُ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَزْرَعَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَدَّانًا

ص: 174

فَمُنِعَ بِالشَّرْعِ لِكَوْنِهَا مِلْكَ الْغَيْرِ مِنْ زَرْعِهِ فَظَهَرَ لِي عَدَمُ الْوُقُوعِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَيْ: وَهِيَ فَوَاتُ الْبِرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ قَالَ وَنَظِيرُهَا وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ الرَّغِيفَ غَدًا فَتَلِفَ الرَّغِيفُ قَبْلَ الْغَدِ أَيْ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ فَفَاتَ الْبِرُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ حِنْثُ الْمُكْرَهِ أَيْ: وَأَصَحُّهُمَا عَدَمُ الْحِنْثِ وَقَوْلُهُ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ أَيْ: فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ مَعْنَاهُ إنْ عُدِمَ دُخُولِي بِاخْتِيَارِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ دَخَلْتهَا مُخْتَارًا لَمْ تَطْلُقْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَوَّلًا، أَوْ بِالشَّرْعِ وَثَانِيًا فَمُنِعَ بِالشَّرْعِ أَنَّ الْحَاكِم مَنَعَهُ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ كَمَا يَأْتِي بَسْطُهُ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الطَّلَاقِ فِيمَا لَوْ قَالَ إلَّا أَخَذْتِ حَقَّكِ مِنِّي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى أَعْطَى بِنَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فِعْلِ الْمُكْرَهِ وَقَضِيَّتُهُ تَرْجِيحُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا مَرَّ. وَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ فَكَأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ كَرْهًا، وَفِعْلُ الْمُكْرَهِ هُنَا كَلَا فِعْلٍ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي إنْ أَعْطَيْتُك حَقَّك فَامْرَأَتِي طَالِقٌ اخْتِيَارُ الْمَدِينِ لَا الدَّائِنِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ عَقِبَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ الرَّافِعِيِّ كَذَلِكَ وَقَضِيَّتُهُ تَرْجِيحُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَالْمُتَّجَهُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ فَهُوَ اشْتِبَاهٌ لِظَنِّهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ الْمُعَلَّقُ كَالْمُنَجَّزِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ هُوَ إيجَابُ الشَّرْعِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّ زَوْجَتَهُ اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا لَا يَحْنَثُ

كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَيْ لِلْحَائِضِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ كَمَا. . . إلَخْ تَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ الْمُكْرَهَ بِحَقٍّ عَلَى فِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ لَهُ لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ الَّذِي بِحَقٍّ فَهَذَا تَصْرِيحٌ أَيْ: صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمُتَّجَهُ خِلَافُهُ. . . إلَخْ مِنْ بَابِ اشْتِبَاهِ الْمُعَلَّقِ بِالْمُنَجَّزِ عَلَى أَنَّ الزَّرْكَشِيّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الِاشْتِبَاهِ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ شَيْخُهُ الْأَذْرَعِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَوْ قَالَ إلَّا أَخَذْتَ مَا لَكَ عَلَيَّ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَأَخَذَهُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ وَلَوْ بِتَلَصُّصٍ، أَوْ انْتِزَاعِهِ مِنْهُ كَرْهًا وَالْمَالُ مُعَيَّنٌ فِي الْجَمِيعِ، أَوْ دَيْنٌ وَرَضِيَ بِهِ الْمَدِينُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِعْطَاءِ فِي الْأَخِيرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. وَمِثْلُهَا الثَّالِثَةُ طَلُقَتْ لِوُجُودِ الْوَصْفِ لَا إنْ أُكْرِهَ الدَّائِنُ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ فَأَخَذَ مِنْهُ فَلَا تَطْلُقُ اهـ. قَالَ أَعْنِي الْأَذْرَعِيَّ مَحَلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الطَّلَاقِ عِنْدَ إكْرَاهِ الدَّائِنِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ مَدِينِهِ مَا إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ أَخْذُهُ مِنْهُ فَإِنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ آخِرَ السَّلَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ. اهـ. فَقَوْلُهُ فَالظَّاهِرُ. . . إلَخْ هُوَ مَادَّةُ الزَّرْكَشِيّ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ ذَاكَ اشْتِبَاهٌ فَهَذَا اشْتِبَاهٌ أَيْضًا وَعَجِيبٌ مِنْ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ تَعَالَى عَهْدَهُ كَيْفَ تَبِعَ الْأَذْرَعِيَّ. عَلَى هَذَا الِاشْتِبَاهِ الظَّاهِرِ.

وَكَلَامُ ابْنِ الرِّفْعَةِ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته وَهُوَ قَوْلُهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ لَوْ قَالَ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ فَاسْتَوْفَاهُ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ تَبَرَّعَ بِهِ، حَنِثَ.

قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِمَا إذَا قَبَضَهُ مُخْتَارًا أَمَّا إذَا قَبَضَهُ جَبْرًا بِالْحَاكِمِ وَيُتَصَوَّرُ فِي الْأَجْنَبِيِّ بِأَنْ يَكُونَ ضَامِنًا فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْ الْإِكْرَاهِ كَمَا إذَا أَفْلَسَ فَفَارَقَهُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي دَفْعِ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ الْفَلَسِ. وَلَا كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عِنْدَ بَذْلِ الْأَجْنَبِيِّ بِإِبْرَائِهِ مِنْ الضَّمَانِ وَبِإِبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ حَنِثَ بِهِ نَعَمْ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفَائِسَ فَقَوْلُهُ أَمَّا إذَا قَبَضَهُ جَبْرًا بِالْحَاكِمِ. . . إلَخْ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَعْنِي ابْنَ الرِّفْعَةِ أَلْحَقَ الْجَبْرَ مِنْ الْحَاكِمِ هُنَا بِجَبْرِهِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمُفْلِسِ الْمُصَرِّحِينَ فِيهَا بِعَدَمِ الْحِنْثِ. كَمَا مَرَّ وَقَوْلُهُ: وَجَوَابُهُ. . . إلَخْ فِيهِ بَيَانُ وَجْهٍ آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَتَقْرِيرُهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِكْرَاهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَأَنْ لَا يَجِدَ الْمُكْرَهُ مَنْدُوحَةً عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّائِنَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْأَخْذِ بِسَبِيلٍ مِنْ الْإِبْرَاءِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَنْ الضَّمَانِ، أَوْ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ حَنِثَ بِهِ أَيْ: لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْبِرَّ بِاخْتِيَارِهِ وَإِذَا فَرَضَ أَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى أَخْذٍ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ.

ص: 175

عَنْهُ بَلْ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَأَشْبَهَ الْإِكْرَاهَ عَلَى قَتْلِ هَذَا، أَوْ هَذَا أَوْ طَلَاقِ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ.

وَمِنْهَا لَوْ حَلَفَ لَا يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَقَدْ أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّرَفُ الْمُنَاوِيُّ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ مِنْ صَوْمِهِ، أَوْ أَطْلَقَ أَفْطَرَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ بِالْغُرُوبِ وَلَا حِنْثَ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي الْأَيْمَانِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مُفْطِرًا مِنْ صَوْمٍ قَاصِدًا بِذَلِكَ الْوِصَالَ فَهُوَ آثِمٌ بِالْإِمْسَاكِ مِنْ الْغُرُوبِ فَإِذَا لَزِمَهُ الْحَاكِمُ بِتَنَاوُلِ مُفْطِرٍ بِعَيْنِهِ فَتَنَاوَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ حِنْثِ الْمُكْرَهِ نَظِيرُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَأَفْلَسَ الْغَرِيمُ وَمَنَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْحَاكِمُ مُفْطِرًا، أَوْ عَيَّنَ لَهُ مُفْطِرًا فَتَنَاوَلَ غَيْرَهُ حَنِثَ لِقَرِينَةِ الِاخْتِيَارِ. اهـ.

وَمِنْهَا مَا فِي تَوَسُّطِ الْأَذْرَعِيِّ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ مَالَهُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا فَيَحْنَثُ سَوَاءٌ أَخَذَ مِنْهُ اخْتِيَارًا أَمْ غَيْرَ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَطَاءِ دُونَ الْأَخْذِ وَقَدْ وُجِدَ الْعَطَاءُ فَوَقَعَ الْحِنْثُ ثَانِيهَا أَنْ يُعْطِيَهُ لِوَكِيلِهِ وَلَوْ بِأَمْرِهِ أَيْ: إنْ غَابَ عَنْهُ الْمُوَكِّلُ كَمَا قَيَّدَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الْخُلْعِ ثَالِثُهَا أَنْ يُعْطِيَ وَكِيلُهُ دَائِنَهُ وَلَوْ بِأَمْرِهِ. رَابِعُهَا أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا عَنْهُ وَلَوْ بِحَوَالَةٍ. خَامِسُهَا أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا فَلَا يَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ. سَادِسُهَا أَنْ يُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى دَفْعِهِ فَيُعْطِيهِ إيَّاهُ مُكْرَهًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ. اهـ. وَمُرَادُهُ بِالْقَوْلَيْنِ الْقَوْلَانِ الْمَعْرُوفَانِ فِي وُجُود الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَأَظْهَرُهُمَا لَا حِنْثَ مَعَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُنَا بِحَقٍّ فَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى إيجَادِ الْمُعَلَّقِ يَمْنَعُ الْحِنْثَ بِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ.

وَمِنْهَا لَوْ حَلَفَ لَا يُؤَدِّي دَيْنَ فُلَانٍ الَّذِي عَلَيْهِ فَحَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِأَدَائِهِ فَأَدَّاهُ لَمْ يَحْنَثْ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَتَبِعَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّرَفُ الْمُنَاوِيُّ وَبَعْضُ مُعَاصِرِيهِ تَنْزِيلًا لِلْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ وَأَمَّا قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ: إنَّهُ يَحْنَثُ هُنَا أَيْضًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمِهِ السَّابِقِ قَرِيبًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وَهْمِهِ مَا مَرَّ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ نَزْعِ الْخَيْطِ مِنْ أَنَّ إجْبَارَ الْحَاكِمِ عَلَى النَّزْعِ غَيْرُ مُفْطِرٍ كَالْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ وَمَا مَرَّ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّ زَوْجَتَهُ اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا وَمُنِعَ عَنْ الْوَطْءِ لَمْ يَحْنَثْ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَيْنِ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ فَإِنْ قُلْت ذَكَرَ الْأَصْحَابُ مَسَائِلَ تَدُلُّ لِمَا مَرَّ عَنْ الزَّرْكَشِيّ وَالْأَذْرَعِيِّ. وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ لَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ فِي الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ الْمُنَجَّزِ قُلْت: لَا شَاهِدَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ ذِكْرِهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا.

مِنْهَا قَوْلُهُمْ لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ يَمِينًا مُغَلَّظَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَقُلْنَا بِوُجُوبِ التَّغْلِيظِ أَيْ: عَلَى الضَّعِيفِ حَلَفَ وَحَنِثَ فَلَمْ يَنْظُرُوا لِكَوْنِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالتَّغْلِيظِ كَالْإِكْرَاهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَا حَقِيقَةُ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْدُوحَةً عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِتَأْدِيَةِ الْمُدَّعَى بِهِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ حِنْثُ الْيَمِينِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ وَحَلَفَ حَنِثَ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْإِكْرَاهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِانْتِفَاءِ الْإِكْرَاهِ مِنْ أَصْلِهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ثُمَّ رَأَيْت مَا قَدَّمْته آنِفًا عَنْ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا فِيهَا لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ فَمَنَعَ الْحِنْثُ.

وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ: لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُقَيَّدٌ فَحَلَفَ بِعِتْقِهِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَحَلَفَ بِعِتْقِهِ لَا يَحُلُّهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي عَدْلَانِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ فَحَكَمَ بِعِتْقِهِ ثُمَّ حَلَّ الْقَيْدَ فَوَجَدَهُ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِحَلِّ الْقَيْدِ دُونَ الشَّهَادَةِ لِتَحَقُّقِ كَذِبِهِمَا. اهـ. فَالْحُكْمُ بِالْعِتْقِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِالْحَلِّ وَلَمْ يَنْظُرُوا لَهُ وَيُجَابُ بَعْدَ تَسْلِيمِ اعْتِمَادِ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَإِلَّا فَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ عَدَمِ حِنْثِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي يَقْتَضِي ضَعْفَهُ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ كَمَا بَيَّنْته فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِحَلِّ الْقَيْدِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالْعِتْقِ وَإِنَّمَا الْمُعَلَّقُ هُوَ الَّذِي حَلَّهُ مُخْتَارًا لِظَنِّهِ أَنَّهُ عَتَقَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ وَأَنَّ الْحَلَّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ بَانَ خَطَأُ ظَنِّهِ وَأَيْضًا فَكَلَامُنَا فِي حُكْمٍ صَحِيحٍ.

وَهَذَا حُكْمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا تَرَتَّبَ

ص: 176

عَلَى حَلِّهِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَقَ بِزِنَةِ الْقَيْدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِعِتْقِهِ بِهِ بَاطِلٌ فَوُجُوبُ الْحَلِّ الْمُرَتَّبِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ الْبَاطِلِ لَاغٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعِتْقِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِالْحَلِّ فَقَدْ بَانَ بُطْلَانُهُ وَإِنَّمَا يَلْحَقُ بِالْإِكْرَاهِ حُكْمُ الْقَاضِي الصَّحِيحُ لَا غَيْرُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ تَعْلِيلًا لِلْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَبْحَثَ. وَأَمْعِنْ النَّظَرَ فِيهِ لِيَتَّضِحَ لَك مُتَفَرِّقَاتُ كَلَامِهِمْ الْمُتَعَارِضَةُ الظَّوَاهِرِ فِي ذَلِكَ حَتَّى زَلَّتْ فِيهَا أَقْدَامُ الْأَكَابِرِ كَمَا عَلِمْت، بَلْ الشَّخْصُ نَفْسُهُ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ فِيهَا كَمَا مَرَّ لَك عَنْ الزَّرْكَشِيّ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَسْتَحْضِرُ بَعْضَ الْفُرُوعِ الْمُقَرَّرَةِ فِيمَا سَبَقَ أَوَّلًا فَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ فِي الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْحِنْثَ كَالْإِكْرَاهِ بِبَاطِلٍ.

وَفِي بَعْضِهَا يَسْتَحْضِرُ بَعْضَ هَذِهِ الْفُرُوعِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِحَقٍّ لَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ هُنَا كَهُوَ فِي الْمُنَجَّزِ فَإِذَا أَمْعَنْت النَّظَرَ وَأَنْعَمْته فِيمَا قَرَّرْته وَتَأَمَّلْته حَقَّ التَّأَمُّلِ ظَهَرَ لَك أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفَرْقُ فِي الْإِكْرَاهِ بِحَقٍّ بَيْنَ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ وَأَنَّ الْفُرُوعَ الْمُصَرِّحَةَ بِهِ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ الْمُوهِمَةِ لِخِلَافِهِ فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهَا قَدْ ظَهَرَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا فِي خِلَافِ مَا قُلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ وَحَرَّرْنَاهُ.

(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مُجَرَّدَ الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالْإِكْرَاهِ سَوَاءٌ قَدَرَ الْحَاكِمُ عَلَى إكْرَاهِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ أَمْ لَا كَالظَّلَمَةِ الْمُتَمَرِّدِينَ وَأَمَّا ثَانِي الْإِشْكَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ الَّذِي هُوَ تَصْرِيحُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْأَيْمَانِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ حَنِثَ وَفِي الطَّلَاقِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّهَا اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً بِنُسُكٍ لَمْ يَحْنَثْ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ كَمَا مَرَّ مَبْسُوطًا فَيُجَابُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ فِي صُورَةِ لَا أُصَلِّي الْفَرْضَ وَمَا قِيسَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا أُفَارِقُك السَّابِقُ قَدْ وَجَّهَ الْحَلِفَ إلَى النَّفْيِ الْعَامِّ وَجَعَلَهُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمِنْ الْمُفَارَقَةِ عِنْدَ إعْسَارِ الْغَرِيمِ فَحَيْثُ صَلَّى صَلَاةً صَحِيحَةً، أَوْ فَارَقَ غَرِيمَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ صَرِيحًا فَحَنِثَ وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ إنْ لَمْ أَطَأْكِ فَفِيهِ تَعْلِيقٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِحَثِّ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَحَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ شَرْعًا لِحَيْضٍ وَنَحْوِهِ كَانَ كَتَعَذُّرِهِ حِسًّا فَلَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَطْءُ الْمُبَاحُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ لَازِمًا لِلتَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ.

فَعُلِمَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته رَدُّ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ السَّابِقِ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ صُورَةَ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَعْصِيَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَتْ كَصُورَةِ لَأَطَؤُهَا اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا لِمَا تَقَرَّرَ بَلْ كَصُورَةِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ حَرْفًا بِحَرْفٍ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَجَّهَ حَلِفَهُ إلَى إيقَاعِ الْمَعْصِيَةِ الْمُحَرَّمِ فَحَيْثُ خَالَفَهُ فَقَدْ خَالَفَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ صَرِيحًا فَحَنِثَ لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ وَاجِبَةً فَتَأَمَّلْ هَذَا الْجَوَابَ لِتَفِرَّ بِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي وَرْطَةِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ الْمُسْتَلْزِمِ لِتَنَاقُضِ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ التَّنَاقُضَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ لَهُ لَوْلَا مَا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الظَّاهِرِ لِلْمُتَأَمِّلِ.

ثُمَّ رَأَيْتنِي فَرَّقْتُ بِفَرْقٍ آخَرَ فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ وَعِبَارَته إذَا وُجِدَ الْقَوْلُ أَوْ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ أَوْ النِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ الْحِنْثِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ أَمْ بِالطَّلَاقِ. وَقَوْلُ الْقَفَّالِ: يَحْنَثُ فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْيَمِينِ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ هُوَ مَذْهَبَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ قَالَ حَلَفَ إلَّا لَمْ تَصُومِي غَدًا أَوْ لَيَطَأَنَّهَا اللَّيْلَةَ فَحَاضَتْ لَمْ تَطْلُقْ كَأَنْ لَمْ تُصَلِّ الْيَوْمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَحَاضَتْ وَقْتَهُ وَلَمْ يَمْضِ زَمَنُ إمْكَانِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي إنْ لَمْ تُصَلِّي الْآنَ، فَحَاضَتْ طَلُقَتْ حَالًا ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَإِنْ قَالَ إلَّا لَمْ تَصُومِي يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ إلَّا لَمْ تُصَلِّي زَمَنَ الْحَيْضِ أَوْ إلَّا لَمْ تَبِيعِي الْخَمْرَ فَصَلَّتْ فِيهِ أَوْ صَامَتْ أَوْ بَاعَتْ الْخَمْرَ لَمْ تَطْلُقْ أَيْ: وَلَا نَظَرَ لِفَسَادِ ذَلِكَ وَحُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ حِلُّهُ وَلَا صِحَّتُهُ فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: هَذَا مُشْكِلٌ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.

وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَبَرُّ وَيَحْنَثُ بِالْقِرَاءَةِ جُنُبًا وَإِنْ لَمْ يَبَرَّ بِهِ عَنْ نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ النَّذْرِ الْقُرْبَةُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا وُجُودُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَعَ التَّذْكِيرِ وَالِاخْتِيَارِ. وَفَارَقَتْ هَذِهِ مَا قَبْلَهَا فِي صُوَرِ الْحَيْضِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ.

ص: 177

ثَمَّ لَمَّا طَرَأَ بَعْدَ الْحَلِفِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِلِ الْحِسِّيِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَلَّقِ بِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لَهُ لِعُذْرِهِ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا عِنْدَ تَجَرُّدِ يَمِينِهِ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ قَاصِدٌ الْإِثْمَ وَمُخَالَفَةَ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يُعَدُّ مَنْعُ الشَّارِعِ لَهُ عُذْرًا فِي عَدَمِ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَعْنِي تَعَرُّضَهُ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَعْلِيقَهُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ لَهُ وَلَوْ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِتَعَرُّضِهِ فِي حَلِفِهِ لَهُ وَأَمَّا الْأَوَّلُ أَعْنِي الَّذِي قَدْ عَلَّقَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ فَطَرَأَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُتَغَلِّبٌ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِعُذْرِهِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ الظَّاهِرَ أَيْضًا يَتَّضِحُ لَك بِهِ أَيْضًا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ وَأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ.

(التَّتِمَّةُ) فِي فَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ مِنْهَا مَحَلُّ إلْغَاءِ فِعْلِ الْمُكْرَهِ وَقَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ وَأَتَى بِعَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ فِيهِ بِوَجْهٍ لِدَاعِيَةِ الْإِكْرَاهِ فَحَسْبُ كَمَا مَرَّ.

وَفِي مَجْمُوعِ الْمَحَامِلِيِّ الْإِكْرَاهُ يَرْفَعُ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مَعَهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ أَرَادَ اللَّفْظَ فَقَطْ فَيَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْإِيقَاعَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَيْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ إرَادَةُ اللَّفْظِ فَقَطْ وَحَكَى الْأَصْحَابُ فِيمَا لَوْ قَصَدَ الْمُكْرَهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ قَوْلًا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ أَثَرَ اللَّفْظِ.

وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ وَالْأَصَحُّ الْوُقُوعُ إذْ لَا يَبْعُدُ اخْتِيَارُهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَعَلَى هَذَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ كِنَايَةٌ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ إنْ نَوَى وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَمِنْهَا مَتَى حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِلتَّعْلِيقِ أَوْ ذَاكِرًا لَهُ مُكْرَهًا عَلَى الْفِعْلِ أَوْ مُخْتَارًا جَاهِلًا بِالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ لَا بِالْحُكْمِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» أَيْ: لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفِ فَالْفِعْلُ مَعَ ذَلِكَ كَلَا فِعْلٍ وَكَذَا لَا حِنْثَ إلَّا عَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ الْمُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ بِأَنْ لَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ لِنَحْوِ صَدَاقَةٍ أَوْ حَيَاءٍ أَوْ مُرُوءَةٍ. وَقَصَدَ بِذَلِكَ مَنْعَهُ أَوْ حَثَّهُ وَعَلِمَ بِالتَّعْلِيقِ فَفَعَلَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا أَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ مَنْعَهُ وَلَا حَثَّهُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَالَى بِتَعْلِيقِهِ كَالسُّلْطَانِ وَالْحَجِيجِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَفَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ وَلَوْ مَعَ النِّسْيَانِ وَقَسِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ التَّعْلِيقِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَنْعٍ، أَوْ حَثٍّ نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا قَصَدَ مَعَ الْحَثِّ، أَوْ الْمَنْعِ فِيمَنْ يُبَالِي بِهِ أَعْلَامَهُ بِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا تَطْلُقُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَوْ عَلَّقَ بِفِعْلِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَفَعَلَهُ كَذَلِكَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بِدُخُولِ نَحْوِ بَهِيمَةٍ، أَوْ طِفْلٍ فَدَخَلَ غَيْرَ مُكْرَهٍ حَنِثَ، أَوْ مُكْرَهًا فَلَا. وَفَارَقَ مَا مَرَّ مِنْ الْوُقُوعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهَا حَالَ الْإِكْرَاهِ فَكَأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا بِخِلَافِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ وَلَوْ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِهِ وَأُلْحِقَ نَحْوُ الطِّفْلِ هُنَا بِالْبَهِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ شَبَهًا بِهَا مِنْهُ بِالْمُمَيَّزِ وَفِي الْحَلِفِ عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ بَيَّنْت حَاصِلَ الْمُعْتَمِدِ مِنْهُ فِي الْفَتَاوَى وَهُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ مُطْلَقًا فَعَلَيْك بِهِ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ مُهِمٌّ.

وَلِكَثْرَةِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَطْرَافِهَا سَكَتَ كَثِيرُونَ عَنْ التَّرْجِيحِ فِيهَا وَامْتَنَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْإِفْتَاءِ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَاسْتِعْمَالُ التَّوَقِّي أَوْلَى مِنْ زَلَّاتِ الْأَقْدَامِ وَمَنْ يَحْتَاطُ فِي دِينِهِ لَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ مِنْ الْعَامَّةِ وَلَا سِيَّمَا النِّسَاءُ

وَمِنْهَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ لَا أَدَعُك تُخْرِجُ هَذَا الْمَتَاعَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَإِنْ فَعَلْت فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَخَرَجَ الْحَالِفُ ثُمَّ ذَهَبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالْمَتَاعِ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ حَفِظَهُ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ فَسَرَقَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، أَوْ أَكْرَهَهُ حَتَّى أَخَذَهُ مِنْهُ فَعَلَى قَوْلِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ عَنْهُ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ضَامِنًا فِي الْوَدِيعَةِ بِهِ حَنِثَ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِسَاكِنِهِ فِي الدَّارِ فَإِنْ حَفِظَهُ عَنْهُ حِفْظًا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ فَكَالْمُكْرَهِ وَإِلَّا فَيَحْنَثُ.

وَمِنْهَا أَخَذَتْ لِزَوْجِهَا دِينَارًا.

ص: 178

فَقَالَ إلَّا لَمْ تُعْطِنِي الدِّينَارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَتْ قَدْ أَنْفَقَتْهُ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا بِالْيَأْسِ مِنْ إعْطَائِهَا لَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ تَلِفَ الدِّينَارُ قَبْلَ تَمَكُّنِهَا مِنْ رَدِّهِ إلَيْهِ فَهِيَ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا تَطْلُقُ، أَوْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ طَلُقَتْ.

وَمِنْهَا لَوْ قَالَ اللُّصُوصُ لَا نُخَلِّيك حَتَّى تَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ إنَّك لَا تُخْبِرُ بِنَا فَحَلَفَ كَذَلِكَ كَانَ إكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الْحَلِفُ الْمَذْكُورُ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فَإِذَا خَبَّرَ بِهِمْ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إلْغَاءِ فِعْلِ الْمُكْرَهِ بِبَاطِلٍ وَقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَأَلَهُ ظَالِمٌ عَنْ مَالِهِ أَوْ إنْسَانٍ مَثَلًا أَنَّهُ يَعْرِفُ مَحَلَّهُ فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ بِهِ فَحَمَلَهُ وَأَكْرَهَهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُكْرَهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْحَلِفِ بِخُصُوصِهِ بَلْ لَا غَرَضَ لِمُكْرِهِهِ فِي حَلِفِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ فِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ سَائِلٌ عَنْهُ فَإِذَا تَرَكَ دَلَالَتَهُ وَحَلَفَ كَانَ مُخْتَارًا لِلْحَلِفِ فَيَحْنَثُ كَمَا لَوْ قَالَ مُتَغَلِّبٌ لِآخَرَ اُقْتُلْ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ طَلِّقْ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ إكْرَاهٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْيِيرِ وَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالدَّلَالَةِ فَإِذَا آثَرَ الْحَلِفَ كَانَ مُخْتَارًا لَهُ فَيَحْنَثُ بِهِ وَيُقَاسُ بِمَا تَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُهَا.

وَمِنْهَا لَوْ قَالَ طَلَّقْتُ مُكْرَهًا فَأَنْكَرَتْ زَوْجَتُهُ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ كَالْحَبْسِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ وَإِلَّا صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَ مَرِيضٌ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنْ عُهِدَ لَهُ إغْمَاءٌ قَبْلَ ذَلِكَ قَبْلَ قَوْلِهِ وَإِلَّا فَلَا.

وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ ابْنِ الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ، أَوْ نَائِمٌ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ زَادَ فِي الرَّوْضَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي النَّائِمِ نَظَرٌ. اهـ.

أَيْ: لِأَنَّهُ لَا أَمَارَةَ عَلَى النَّوْمِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَلَكِنْ لَا مُخَالَفَةَ فِي دَعْوَى النَّوْمِ لِلظَّاهِرِ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ نَوْعُ اتِّجَاهٍ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمَا فِي الْأَيْمَانِ لَا يُصَدَّقُ مُدَّعِي عَدَمِ قَصْدِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، ظَاهِرُ التَّعَلُّقِ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِمَا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ هُنَاكَ تَلَفَّظَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ثُمَّ ادَّعَى صَرْفَهُ بِعَدَمِ الْقَصْدِ وَأَمَّا هُنَا فَالْمُدَّعَى طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ بِحَالَةٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الطَّلَاقُ فَقُبِلَ قَوْلُهُ لِعَدَمِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ كَمَا مَرَّ. هَذَا آخِرُ مَا قَصَدْتُهُ وَتَمَامُ مَا حَرَّرْتُهُ مِمَّا آمُلُ أَنْ أَكُونَ فِيهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَسَنَنٍ قَوِيمٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ وَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَاَللَّهَ سبحانه وتعالى أَسْأَلُ أَنْ يُسْبِلَ عَلَيَّ ذَيْلَ السِّتْرِ وَأَنْ يَمُنَّ بِإِصَابَةٍ صَوْبَ الصَّوَابِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْغَنِيُّ الْوَهَّابُ فَلَهُ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِ كَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَإِلَيْهِ أَفْزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. يَقُولُ مُؤَلِّفُهُ عَفَا اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنْهُ فَرَغْتُ مِنْ تَسْوِيدِهِ عَشِيَّةَ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. قَالَ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا وَشَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْعُمْدَةُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ الْفَهَّامَةُ جَامِعُ أَشْتَاتِ الْفَضَائِلِ بَقِيَّةُ الْأَمَاثِلِ وَالْأَفَاضِلِ الْحُجَّةُ فِي زَمَانِهِ وَالْقُدْوَةُ فِي عَصْرِهِ وَأَوَانِهِ مُفْتَى الْحِجَازِ وَشَيْخُ الْحَرَمَيْنِ أَدَامَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى نَفْعًا لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ، لَا زَالَتْ كُتُبُ الْعُلَمَاءِ بِتَقْرِيرِهِ فِي الدُّرُوسِ وَاضِحَةَ الْبَيَانِ، وَمَسَائِلُ الْفُقَهَاءِ بِتَأْيِيدِهِ فِي الطُّرُوسِ ظَاهِرَةً وَاضِحَةَ التِّبْيَانِ حَتَّى يَخْرِقَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْعَادَةَ بِطُولِ مُدَّتِهِ فِي عَافِيَةٍ وَيَنْفَعَ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ بِعُلُومِهِ الْكَمَالِيَّةِ الْكَافِيَةِ - آمِينَ

بَعْدَ مَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الدَّوْرِ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَابَ جَوَابًا شَافِيًا كَانَ لِكُلِّ مِنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا كَافِيًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَنْجُو بِهَا مِنْ قَبِيحِ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ سبحانه وتعالى وَلَا يَرْضَاهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إمَامُ الْعَالَمِينَ فِي وَرَعِهِ وَتَقْوَاهُ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ تَأْخُذْهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَلَمْ يَخْشَوْا سِوَاهُ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِ رُبُوبِيَّتِهِ وَعُلَاهُ آمِينَ (أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ

ص: 179

هَذِهِ قَدْ كَثُرَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَأَفْرَدَهَا جَمَاعَةٌ بِالتَّصْنِيفِ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَغَيْرُهُمْ وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِبَسْطِ الْكَلَامِ فِيهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَلَقَّنَهَا بَعْضُ الْعَوَامّ مِنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ كَمَا تَلَقَّنَهَا هَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ وَصَارُوا يُعَلِّمُونَهَا لِأَجْلَافِ الْبَوَادِي وَيَتَحَيَّلُونَ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِتَعْلِيمِهِمْ لَهَا وَأَبَاحُوا لَهُمْ الْعَمَلَ بِهَا وَجَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَكْرَارِهِ فِي أَلْسِنَتِهِمْ حَتَّى صَارَ لَهُمْ عَادَةً وَصَارَ جَرَاءَةً لَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ يَظُنُّ صِدْقَهُمْ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ عَلَى الْحَلِفِ بِهِ كَاذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ وَبَالُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ وَأَغْوَاهُمْ وَصَيَّرَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِ يُضِلُّ بِسَبَبِهِمْ النَّاسَ وَيُلْجِئُهُمْ إلَى أَقْبَحِ الْمَسَالِكِ. فَعَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْتُهُ وَعَذَابُهُ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْقَبِيحَةِ وَكَيْفَ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فُرُوضَ الْوُضُوءِ عَلَى وَجْهِهَا أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَنْسَابِ وَيَتَجَرَّأَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْخَطَرِ، أَمَا عَلِمَ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ وَقَدْ ظَهَرَ فِي كَلَامِهِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ مَا قَضَى عَلَى حَالِهِ وَحَكَمَ عَلَى مَقَالِهِ بِالْجَهْلِ الْمُفْرِطِ وَالْغَبَاوَةِ الظَّاهِرَةِ وَبِأَنَّهُ عَامِّيٌّ صِرْفٌ لَا يَهْتَدِي لِضَارٍّ فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا لِنَافِعٍ فَيَقْصِدُهُ

بَلْ هُوَ كَالرَّاكِبِ مَتْنَ عَمْيَاءَ وَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ وَمَنْ ذَا الَّذِي سَوَّغَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُفْتِيَ، أَوْ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَأْمُرُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَلَوْ جَاءَ هَذَا الْجَاهِلُ مِنْ بِلَادِ الْأَجْلَافِ وَالْهَمَجِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى بِلَادِنَا بِلَادِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ لَأَمَرْنَا حُكَّامَنَا بِأَنْ يُوجِعُوهُ ضَرْبًا وَتَأْدِيبًا وَبِأَنْ يُبَالِغُوا فِي زَجْرِهِ وَتَعْنِيفِهِ بِالْحَبْسِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُ جَرَاءَتَهُ عَلَى مَنْصِبٍ لَا يَعْرِفُهُ وَتَصَدِّيهُ لِرَدِّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ الَّتِي جَاءَتْ لِتِلْكَ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي جَوَابِهِ بِأَمْرِهِ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ لِمَسْأَلَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ وَتَوَهَّمَ؛ لِأَنَّ لِمَسْأَلَةِ ابْنِ سُرَيْجٍ مَعَ ضَعْفِهَا نَقْلًا وَمَعْنًى كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا مَبْسُوطًا شُرُوطًا لَمْ يُحِطْ بِهَا هَذَا الرَّجُلُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَامِّيٌّ صِرْفٌ وَإِنَّمَا حَفِظَ كَلِمَاتٍ مِنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاعْتَنَى بِهَا دُونَ بَقِيَّةِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا جَلْبٌ لِحُطَامٍ مِنْ الدُّنْيَا وَتَكُونُ نَارًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ كَيْفَ وَهُوَ مِمَّنْ صَدَقَ عَلَيْهِ إنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] مَا لَمْ يَتُبْ وَيَرْجِعْ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَيَسْتَغْفِرْهُ وَتَحْسُنْ تَوْبَتُهُ، فَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ وَأَجِلَّائِهِمْ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى تَصْحِيحِ الدَّوْرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ مِنْ عَارِفٍ بِمَعْنَاهُ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ عِلْمًا وَفَهْمًا وَمَعْرِفَةً ابْنُ عُجَيْلٍ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو بَكْرٍ وَلَدُ الْإِمَامِ مُوسَى بْنِ الزَّيْنِ الصِّدِّيقِيِّ الرَّدَّادِ شَارِحُ الْإِرْشَادِ فِي جَمْعِهِ لِفَتَاوَى وَالِدِهِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطُوهُ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ بَلْ وَلَا لِمُتَفَقِّهٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الدَّوْرِ الْمُوجِبِ لِإِلْغَاءِ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ وَكَفَاك دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَوُصُولِهِ إلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الِاجْتِهَادِ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَتَارَةً صَحَّحَ الدَّوْرَ لِظُهُورِ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ

وَتَارَةً أَفْسَدَهُ لِفَسَادِ مَعْنَاهُ، وَتَارَةً رَجَعَ عَنْ هَذَا إلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا قِيلَ وَاعْتَمَدَهُ الْأَصْبَحِيُّ لَكِنَّ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْآتِي يَرُدُّهُ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ إلَى بُطْلَانِهِ وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ وَقَعَ لَهُ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ تَارَةً وَبِصِحَّتِهِ أُخْرَى مَا لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِدِقَّةِ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَزِيدِ خَفَائِهِ.

ص: 180

وَمِنْ ثَمَّ اضْطَرَبَتْ فِيهَا أَفْهَامُ الْأَصْحَابِ وَاخْتَلَفَتْ وَتَبَايَنَتْ وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَى بَعْضٍ وَسَيَأْتِي عَنْ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُفْرَدِ فِي بُطْلَانِ الدَّوْرِ أَلْزَمَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ بِتَنَاقُضَاتٍ لِلْأُصُولِ وَمُخَالَفَاتٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بَعْضَهُ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَا وَصَفْت لَك مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ الْعَظِيمِ وَتَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا أَنْ يَصْدُرَ التَّعْلِيقُ مِمَّنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ الْمُجِيبَ بِمَا مَرَّ لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ أَدْنَى تَصَوُّرٍ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمُجَازَفَاتِ فِي كَلَامِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَإِيضَاحُهُ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ وَفَضْلًا عَنْ أَجْلَافِ الْبَوَادِي. فَكَيْفَ سَاغَ لَهُ الْأَمْرُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَالْإِفْتَاءِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ فِي تَدْرِيبِهِ وَنَاهِيكَ بِالْكِتَابِ وَمُصَنِّفِهِ أَنْ تَمْضِيَ لَحْظَةٌ بَعْدَ التَّعْلِيقِ تَسَعُ الْحُكْمَ بِالْوُقُوعِ أَمَّا لَوْ لَمْ تَمْضِ لَحْظَةٌ كَذَلِكَ بِأَنْ أَعْقَبَ تَعْلِيقَهُ بِالتَّنْجِيزِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِنْهَا كَمَا فِي التَّدْرِيبِ أَيْضًا أَنْ لَا تَطْلُقَ بِطَلَبِهَا فِي الْإِيلَاءِ وَالْحُكْمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ، أَمَّا إذَا طَلَّقَ بِطَلَبِهَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ أَيْضًا كَمَا يَقَعُ الْفَسْخُ فِي إنْ فَسَخْت بِعَيْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَمِنْهَا كَمَا فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلتَّعْلِيقِ الْمُوجِبِ لِإِلْغَاءِ الدَّوْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ.

أَمَّا لَوْ نَسِيَهُ ثُمَّ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ أَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَاسٍ لَهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ أَيْضًا وَإِذَا تَقَرَّرَ لَك أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ عَلَى ضَعْفِهِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْكَثِيرَةِ فَكَيْفَ سَاغَ لِهَذَا الزَّهْرَانِيِّ التَّجَرِّي عَلَى الْإِفْتَاءِ بِإِطْلَاقِ صِحَّةِ الدَّوْرِ مِنْ ذِكْرِهِ هَذِهِ الشُّرُوطِ جَمِيعِهَا وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ. وَالْمَجْمُوعِ مَتَى أَطْلَقَ الْمُفْتِي إفْتَاءَهُ فِي مَحَلِّ التَّفْصِيلِ كَانَ مُخْطِئًا وَبِهِ يُعْلَمُ خَطَأُ هَذَا الْمُفْتِي وَأَنَّهُ عَاصٍ آثِمٌ وَلَيْتَهُ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّذِي تَلَقَّنَهُ مِنْ شَيْخِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَلَمْ يَضُمَّ لِذَلِكَ أَمْرَهُ بِرَدِّ النِّسَاءِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَذَلِكَ أَخَفُّ وَأَمَّا تَصَدِّيهِ لِلْإِفْتَاءِ وَأَمْرُهُ بِرَدِّهِنَّ مَعَ جَهْلِهِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ فَخَطَأٌ عَظِيمٌ وَذَنْبٌ قَبِيحٌ جَسِيمٌ. عَلَى أَنَّ شَيْخَهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةٌ وَافِرَةٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ لَهُ مُجَرَّدَ تَعْدَادَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الشُّرُوطِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْإِضْلَالُ لِتِلْمِيذِهِ الْمَذْكُورِ وَلِلْعَوَامِّ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ - وَعَدَّدَ بَعْضَهُمْ - قَائِلُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ طَلَاقٌ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: شَرْطُ عَدَمِ الْوُقُوعِ عِنْدَهُمْ كَذَا أَوْ كَذَا. فَهَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مُفْرِطٌ وَضَلَالٌ بَيِّنٌ وَإِطْلَالٌ لِلْعَوَامِّ وَاتِّبَاعٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ وَوَسْوَسَتِهِ إيثَارًا لِلْعَرْضِ الْفَانِي وَهُوَ مَا أَخَذَهُ مِنْ الرِّشَا وَالسُّحْتِ الَّذِي يَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فِي قَبْرِهِ فَقَبَّحَ اللَّهُ سبحانه وتعالى هَذَا الرَّجُلَ الزَّهْرَانِيَّ وَشَيْخَهُ الْمَذْكُورَ فَإِنَّهُمَا ضَلَّا وَأَضَلَّا ضَلَالًا مُبِينًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْهَوَى وَإِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَغِشِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ أَنَّهُ ذَكَرَ مُجَرَّدَ تَعْدَادٍ لِبَعْضِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ حَتَّى قَالَ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ وَنَاهِيكَ بِهِ: مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَقَدْ وَهَمَ

وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ جَوَابُهُ فَقَالَ مَرَّةً بِالصِّحَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ عَنْهُ، وَقَالَ مَرَّةً بِالْبُطْلَانِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي كَافِيهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ وَلَمْ يُعْرَفْ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَسَاقُطِهِمَا وَالرُّجُوعِ إلَى مَرْجِعٍ آخَرَ، وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا قَوْلَ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الشَّامِلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِ الْمَذْهَبِ أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ خَطَأً ظَاهِرًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَذْهَبٍ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا.

قَوْلَ الْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي رَجَعَ فِيهِ عَنْ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِهِ دَخَلْت بَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْأَسْئِلَةُ عَنْ دَوْرِ الطَّلَاقِ وَرَأَيْت أَكْثَرَهُمْ.

ص: 181

قَدْ أَطْبَقَ عَلَى إبْطَالِ الدَّوْرِ وَتَشْدِيدِ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ يُصَحِّحُ الدَّوْرَ وَيَحْسِمُ بِهِ بَابَ الطَّلَاقِ مُعَوِّلِينَ فِيهِ عَلَى اعْتِرَاضَاتٍ ضَعِيفَةٍ قَاصِرَةٍ عَنْ إبْطَالِ عُمْدَةِ الْقَوْلِ بِالدَّوْرِ فَابْتَدَأْت فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَاتِ لِأُبْطِلَ اعْتِرَاضَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَصَنَّفْت فِيهِ كِتَابًا سَمَّيْته غَايَةُ الْغَوْرِ فِي نِهَايَةِ الدَّوْرِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَزْيِيفِ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ وَمُهَيِّئًا لِلْكَلَامِ فِيهِ إلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ. ثُمَّ انْتَشَرَ ذَلِكَ الْكِتَابُ فِي الْأَمْصَارِ وَاسْتَطَارَ الْفَتْوَى بِصِحَّةِ الدَّوْرِ مِنِّي فِي الْأَقْطَارِ، ثُمَّ اتَّفَقَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ فِكْرَةٌ فِي حَقِيقَةِ الدَّوْرِ فَاطَّلَعْت فِيهِ عَلَى غَوْرٍ وَتَغَيَّرَ شَبَهُ الِاجْتِهَادِ وَرَأَيْت إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدَّوْرِ أَقْرَبَ إلَى السَّدَادِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الدَّوْرِ مِنْ الْفَسَادِ الْمَانِعِ مِنْ الِاعْتِقَادِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ لِنُعَوِّلَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْفَتْوَى قَبْلَهُ. فَذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي وَعَلَى التَّخْمِينِ وَالِاجْتِهَادِ تُبْنَى فِقْهِيَّاتُ الْمَسَائِلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ فَأَقُولُ: لَفْظُ الْعَقْدِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ وَجَبَ إلْغَاؤُهُ، وَلَفْظُ الدَّوْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحَالٍ فَيَجِبُ إلْغَاؤُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَطَالَ فِيهِ فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ هَذَا تَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فِي زَمَنِهِ

وَنَاهِيكَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ مِنْ كَثْرَةٍ وَجَلَالَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ وَبِأَنَّهُ كَانَ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلًا صِحَّتُهُ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُهُ وَبِأَنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْحَقُّ وَصِحَّتَهُ هِيَ الْبَاطِلُ لِقَوْلِهِ: وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَيْضًا قَوْلَ الْمُتَوَلِّي وَنَاهِيكَ بِجَلَالَتِهِ إنْ كُنْت جَاهِلًا بِمَقَادِيرِ الرِّجَالِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي إبْطَالِ الدَّوْرِ وَلَفْظِهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لَمَّا ظَهَرَ مَيْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُعْرَفُ بِالْيَمِينِ الدَّائِرَةِ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامّ الْهَمَجِ فَصَارَ يَلْقَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَسْوَاقِ وَيُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا وَنُسِبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى الرَّفْضِ لَمَّا وَقَعَ فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ أَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ، وَصَارَ ذَلِكَ شَنَاعَةً فِي الْمَذْهَبِ وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ سَأَلَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنْ أَبْسُطَ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَكْشِفَ عَنْ الشُّبْهَةِ فِيهَا وَأُظْهِرَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ فَأَجَبْته مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ خَيْرُ مُوَفِّقٍ وَمُعِينٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الدَّوْرَ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهِ وَمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مِمَّا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بَعْضُهُ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ وَجَزَاهُ خَيْرًا -: وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامّ الْهَمَجِ، تَجِدْهُ مُصَرِّحًا بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الْإِفْتَاءِ بِتَصْحِيحِ الدَّوْرِ إلَّا عَوَامُّ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ لَا يُعْبَأُ بِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ مِنْ أُولَئِكَ الْعَوَامّ فَإِنَّ كَلَامَ الْمُتَوَلِّي هَذَا مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى شَيْخِهِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا الْفَسَادَ الَّذِي انْجَرَّ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ أُولَئِكَ الْعَوَامّ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا صَارَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَرْفَاضٌ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ إنَّمَا يُعْزَى إلَى الْأَرْفَاضِ بَلْ إلَى النَّصَارَى كَمَا يَأْتِي. فَقَاتَلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أُولَئِكَ الْعَوَامَّ وَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ الْقَبِيحَ.

كَهَذَا الرَّجُلُ وَشَيْخُهُ فَإِنَّهُمْ سَلَّطُوا الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ عَلَى الْخَوْضِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ فَمَعَاذَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَفُرْسَانُ مَيْدَانِهَا أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْإِثْمَ الْعَظِيمَ وَالْعِقَابَ الْأَلِيمَ إنَّمَا هُوَ عَلَى أُولَئِكَ الْعَوَامّ وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَشَابَهَهُمْ، حَيْثُ جَعَلُوا أَئِمَّةَ الدِّينِ وَعُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ هَدَفًا وَعُرْضَةً لِإِلْحَاقِ النَّقَائِصِ الْقَبِيحَةِ بِهِمْ وَلِلْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِهِمْ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ بِالثَّلْبِ وَالسَّبِّ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ - بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ - مُعَادٍ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» أَيْ: أَعْلَمْته أَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ، وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَا يُفْلِحُ أَبَدًا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى. هَذَا فِيمَنْ عَادَى وَلِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءً كَثِيرِينَ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَ الْمُتَوَلِّي: وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ قُدَمَاءِ

ص: 182

أَصْحَابِنَا لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَشَاعَةِ تَجِدُهُ صَرِيحًا أَيْضًا فِي امْتِنَاعِ إظْهَارِ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ وَلَوْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الرُّويَانِيِّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كَالرَّوْضَةِ يَحْرُمُ التَّسَاهُلُ فِي الْفَتْوَى، وَمَنْ عُرِفَ بِهِ يَحْرُمُ اسْتِفْتَاؤُهُ فَمِنْ التَّسَاهُلِ أَنْ لَا يَتَثَبَّتَ وَيُسْرِعُ بِالْفَتْوَى قَبْلَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ التَّسَاهُلِ أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَغْرَاضُ الْفَاسِدَةُ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالشُّبْهَةِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ لِمَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ، أَوْ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ضُرَّهُ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ الْحِيلَةِ الَّتِي فِيهَا شَبَهٌ وَيُذَمُّ فَاعِلُهَا الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ فِي سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ. اهـ.

فَتَأَمَّلْ عِبَارَتَهُ هَذِهِ تَجِدْهَا صَرِيحَةً فِي مَنْعِ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ مِنْ الْإِفْتَاءِ لَوْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ فَكَيْفَ وَهُوَ عَامِّيٌّ صِرْفٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِلْعَوَامِّ وَعَلَّمَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ نِسَائِهِمْ بَعْدَ حِنْثِهِمْ فِيهِنَّ بِالثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَوْ ذَكَرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي ذَمِّ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ لِلْعَوَامِّ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ فِيهَا، وَمِمَّنْ ذَمَّهَا أَيْضًا وَبَالَغَ فِي تَخْطِئَةِ الْقَائِلِينَ بِهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. وَنَاهِيك بِهِ جَلَالَةً وَمِنْ ثَمَّ لُقِّبَ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ وَعِبَارَتُهُ كَمَا حَكَاهُ تِلْمِيذُهُ الْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ عَنْهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّقْلِيدُ وَالتَّقْلِيدُ فِيهَا فُسُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْإِجْمَاعَ، أَوْ النَّصَّ، أَوْ الْقَوَاعِدَ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَمَا لَا نُقِرُّهُ شَرْعًا إذَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَنَنْقُضُهُ فَأَوْلَى فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ شَرْعٍ هَلَاكٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ التَّقْلِيدُ فِيهَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ حَسَنٌ ظَاهِرٌ. اهـ. وَأَقَرَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ وَمِمَّنْ بَالَغَ فِي ذَمِّهَا أَيْضًا الْإِمَامُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا فِي فَتَاوِيهِ مِمَّا وَدَّ لَوْ مُحِيَتْ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ فِيهِ صِحَّةَ الدَّوْرِ تَبَعًا لِابْنِ سُرَيْجٍ

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: ابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَجَمَاهِيرِ أَصْحَابِنَا إبْطَالُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ الطَّلَاقِ بَلْ يَقَعُ فِي كَمِّيَّةِ الْوَاقِعِ مِنْهَا. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ الْقَوْلَ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ وَمَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ قَالَ وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالُوا: إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ.

وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا. قَالَ: وَمَا أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذَا لِلِاحْتِيَالِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَوْ قَالَهُ مِنْ طُرُقِ الْقِيَاسِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَاحْتَالَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ. وَالظَّاهِرُ الثَّانِي. اهـ. وَقَالَ فِي الْخَادِمِ أَيْضًا: وَبَالَغَ السُّرَيْجِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ الْقَوْلُ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ يُشْبِهُ مَذْهَبَ النَّصَارَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الزَّوْجَ إيقَاعُ طَلَاقٍ عَلَى زَوْجَتِهِ مُدَّةَ عُمُرِهِ. إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فَلْتَرْجِعْ إلَى الْكَلَامِ عَلَى الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الزَّهْرَانِيِّ وَنَبْنِي عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْمُجَازَفَاتِ وَالْجَهَالَاتِ وَالتَّنَاقُضَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى سُوءِ فَهْمِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ، بَلْ وَعَلَى إفْرَاطِهِ فِي الْجَهْلِ وَالتَّسَاهُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي سَتَتَّضِحُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ عَنْ جَوَابِ الْمُفْتِي الَّذِي جَاءَهُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّ فِيهِ مَنْ أَلْقَى عَلَى زَوْجَتِهِ بِمَسْأَلَةِ الدَّوْرِ أَنَّهَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْإِلْقَاءِ كَلَامٌ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَلَا يَتَوَهَّمُ هَذَا مَنْ لَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِفِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ كَيْفَ وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمُطَوَّلَاتِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ قَوْلُهُ عَنْ شَيْخِهِ مُرَادُ النَّوَوِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ طَلُقَتْ وَلَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْإِلْقَاءِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا جَهْلٌ إذْ لَا يُقَالُ الْمُرَادُ كَذَا إلَّا إذَا دَلَّتْ الْعِبَارَةُ عَلَى خِلَافِهِ وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ التَّعْلِيقِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ حَتَّى فِي الْمِنْهَاجِ الَّذِي سَاقَ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ عِبَارَتَهُ فَقَوْلُهُ: فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَلُوا النِّسَاءِ عَنْ

ص: 183

أَزْوَاجِهِنَّ كَذِبٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي جَاءَهُمْ فِيهِ أَنَّ مَنْ عَلَّقَ بِمَسْأَلَةِ الدَّوْرِ ثُمَّ حَنِثَ يَقَعُ عَلَيْهِ مَا أَوْقَعَهُ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُونَ مِنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِنَفْسِ الْإِلْقَاءِ وَيَعْزِلُونَ مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِمْ حِنْثٌ مِنْهُمْ؟ وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ اسْتِظْهَارًا. . . إلَخْ بَاطِلٌ لِأَمْرَيْنِ

أَمَّا أَوَّلًا فَمَنْ ذَا الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فِيهَا وَأَنَّى لَهُ مَعَ جَهْلِهِ بِالتَّجَاسُرِ عَلَى ذَلِكَ؟ وَفِي مَتْنِ الْأَنْوَارِ كَالْعَزِيزِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الصَّحَابِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِدَلَالَةٍ وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ اسْتِظْهَارًا عَلَى مَزِيدِ جَهْلٍ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ، وَلَا يَدْرِي مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمَ بِالْهَذَيَانِ لَكِنْ لَا يُتَعَجَّبُ إلَّا إذَا صَدَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ إلْمَامٌ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُلُومِ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ بِهَا جُمْلَةً كَافِيَةً كَهَذَا الزَّهْرَانِيِّ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَبَيَانُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِوُقُوعِهَا عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ بِهَا، وَإِنَّمَا أُلْهِمَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أُلْهِمَ حُكْمَهَا بِأَنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مَا تَبَلَّجَ لَهُ صَدْرُهُ إذْ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِلْهَامِ كَانَ خَطَأً مِنْ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ وَجَهْلًا وَسَفَاهَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ نَفْسَهُ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِلْهَامَاتِ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُعْمَلُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ هِيَ لَا تُبْنَى عَلَى الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ حَتَّى شُرَّاحُ الْمِنْهَاجِ فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَسْنَدْت التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ إلَى هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُتَفَقِّهٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ لَمْ يَقْرَأْ، مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ بَابَ الطَّهَارَةِ فَضْلًا عَمَّا بَعْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَنَاقُضٌ آخَرُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ يَكْتُبُ مَا لَا يَفْهَمُهُ، وَلَا يَتَصَوَّرُهُ إذْ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ تَنَاقُضًا ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَعَلِّمٍ إلَّا مَنْ أَفْرَطَ جَهْلُهُ وَقَلَّ عَقْلُهُ، وَهُمَا قَوْلُهُ: وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ

وَقَوْلُهُ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ أَرَادَ بِوُقُوعِهَا عَلَى خَاطِرِهِ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَهَا مِنْ دَلِيلٍ كَانَ تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ: وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِهِ خَطَأً إذْ لَا يُقَالُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَسْتَنْبِطُهَا الْمُجْتَهِدُ مِنْ الْأَدِلَّةِ إنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْإِلْهَامَاتِ، وَقَوْلُهُ اسْتِظْهَارًا خَطَأٌ مِنْهُ أَيْضًا إذْ الِاسْتِظْهَارُ طَلَبُ ظُهُورِ الْأَمْرِ وَانْجِلَائِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ بِهِ عَنْ الِاحْتِيَاطِ. وَمَعْلُومٌ مِمَّا قَدَّمْتُهُ مَبْسُوطًا وَمَا يَأْتِي أَنَّهُ لَا احْتِيَاطَ فِي تَصْحِيحِ الدَّوْرِ، وَإِنَّمَا الِاحْتِيَاطُ فِي بُطْلَانِهِ إذْ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي تَصْحِيحِهِ احْتِيَاطٌ لَمْ يُبَالِغْ الْعُلَمَاءُ فِي ذَمِّهِ وَتَخْطِئَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ كَمَا قَدَّمْت لَك ذَلِكَ عَنْهُمْ مَبْسُوطًا ثُمَّ جَزْمُهُ بِنِسْبَتِهَا لِابْنِ سُرَيْجٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُصُورِ نَظَرِهِ لِمَا مَرَّ لَك أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ خَطَّأَ مَنْ نَسَبَهَا إلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ جَوَابَهُ اخْتَلَفَ فِيهَا فَقَالَ مَرَّةً بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَهُوَ الَّذِي اُشْتُهِرَ عَنْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَمَرَّةً قَالَ بِبُطْلَانِهِ مُوَافَقَةً لِجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ وَلِعُلَمَاءِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ صَحَّحَ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ فَهُمْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَكْثَرُ فَهُوَ - وَإِنْ قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ وَمَنْ تَبِعْهُ كَالْفَتَى فِي مُخْتَصَرِهَا وَغَيْرِهِ - مَرْدُودٌ بَلْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَكْثَرُونَ حَتَّى مِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ كَمَا قَدَّمْت ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ الْإِسْنَوِيِّ وَجَمِيعِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فَلَا يُلْتَفَتُ لِكَلَامِ هَؤُلَاءِ مَعَ كَلَامِهِ وَعِبَارَتِهِ كَمَا مَرَّ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَجَمَاهِيرِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ الطَّلَاقِ بَلْ يَقَعُ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: وَجَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا تَعْلَمْ بِهِ بُطْلَانَ قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ: إنَّ الْقَوْلَ بِالِانْسِدَادِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَمِمَّا يُبْطِلُهُ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ يُونُسَ فِي شَرْحِ التَّعْجِيزِ نَقَلَ الْقَوْلَ بِوُقُوعِ الْمُنَجَّزِ عَنْ أَكْثَرِ النَّقَلَةِ

وَنَاهِيكَ بِابْنِ يُونُسَ هَذَا فَإِنَّهُ قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ بَلَغَ مَرْتَبَةَ أَصْحَابِ الْأَوْجُهِ وَلَهُ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِكَلَامِ الْأَصْحَابِ مَا لَيْسَ لِلْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَإِذَا تَعَارَضَ نَاقِلَانِ ثِقَتَانِ فِي شَيْءٍ كَانَ

ص: 184

الرُّجُوعُ لِلْأَعْلَمِ أَوْلَى وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ تَعَارَضَ فِي النَّقْلِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ الْإِسْنَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ يُونُسَ وَهُمَا أَجَلُّ وَأَدْرَى وَأَحْفَظُ وَأَثْبَتُ وَأَعْلَمُ مِنْ الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ مَا قَالَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ غَيْرُهُمَا فَإِنْ قُلْت يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّ الْإِمَامَ وَنَاهِيكَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَجَلِّ أَوْ أَجْمَلِ كُتُبِ الْمَذْهَبِ نَقَلَ الْقَوْلَ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَفِي الْبَيَانِ أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ قُلْت: مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِي مُتَفَرِّقَاتِ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ قَدْ يَنْقُلُ شَيْئًا عَنْ الْأَصْحَابِ، أَوْ مُعْظَمِهِمْ، أَوْ الْأَكْثَرِينَ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَصْحَابَ، أَوْ مُعْظَمَهُمْ، أَوْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِهِ كَالْخُرَاسَانِيِّ ن، أَوْ الْعِرَاقِيِّينَ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ نَسَبَهُ إلَى جُمْهُورِ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَافْهَمْ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَصْحَابِ مَا عَدَا جُمْهُورَ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى الْقَوْلِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا عَدَا جُمْهُورَ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ الْأَصْحَابِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ بِكَثِيرٍ، نَعَمْ وَافَقَ جُمْهُورَ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْ سَائِرِ طُرُقِ الْأَصْحَابِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الَّتِي ذَكَرْتهَا عَنْ الْإِمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ: جَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْوُقُوعِ وَقَوْلُ ابْنِ يُونُسَ أَكْثَرُ النَّقَلَةِ عَلَى الْوُقُوعِ فَلَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا طَرِيقَةَ يَنْفَرِدُونَ بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِهَا وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى سَائِرِ الطُّرُقِ يَنْقِلُونَ عَنْ أَرْبَابِهَا بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ فَإِنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ طَرِيقَةً مُنْفَرِدَةً لَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَا سِوَاهَا وَلَا يَنْقُلُونَ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إلَّا نَادِرًا فَكَانَ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ يُونُسَ أَقْرَبَ إلَى إرَادَةِ الْأَكْثَرِينَ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَمَنْ ذَكَرْته مَعَهُ

وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمَا كَذَلِكَ كَمَا بَانَ وَظَهَرَ لَك وَجْهُهُ كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَإِنْ قُلْت: الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْضًا قَدْ نَقَلُوا عَنْ الْأَكْثَرِينَ صِحَّةَ الدَّوْرِ فَلِمَ لَا يُعْتَمَدُ نَقْلُهُمْ سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْمَنْسُوبَ لِلْأَكْثَرِينَ فِي الطَّرِيقَيْنِ صِحَّةُ الدَّوْرِ قُلْت: لَمَّا عَارَضَهُمْ فِي النَّقْلَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُمْ قَدْرًا وَعِلْمًا وَحِفْظًا وَخِبْرَةً بِالْمَذْهَبِ وَدِرَايَةً بِطُرُقِهِ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَجَلِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَحَقَّ وَأَوْلَى. وَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأَذْرَعِيِّ الْمَنْسُوبَ إلَى الْأَكْثَرِينَ تَجِدْهُ كَالْمُتَبَرِّي مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ وَصَحَّحَ الشَّيْخَانِ بُطْلَانَهُ كَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمَا وَاجِبًا مُتَعَيَّنًا إذْ الْمَدَارُ عَلَيْهِمَا فِي التَّرْجِيحِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمَا فِي التَّصْحِيحِ أَمْرٌ لَازِمٌ وَقَوْلٌ جَازِمٌ وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ خَالَفَا فِيهَا الْأَكْثَرِينَ بِاتِّفَاقِ النَّقَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الرَّاجِحُ مَا قَالَاهُ وَرَجَّحَاهُ بَلْ يَقَعُ لَهُمَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُمَا يَنْقُلَانِ حُكْمًا عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَيُصَرِّحَانِ بِأَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرِينَ وَمَعَ ذَلِكَ يُخَالِفَانِهِ وَيُرَجِّحَانِ سِوَاهُ وَيَكُونُ الْحَقُّ مَا رَجَّحَاهُ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُمَا نَقَلَا حُكْمًا عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَنَقَلَا عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ مُقَابِلَهُ ثُمَّ قَالَا: وَالْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَوَافَقَهُمَا عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا أَحْسَبُ، إذْ مَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ فِي ذَلِكَ غَايَةُ الْإِشْكَالِ لَا يُفْهَمُ لَهُ وَجْهٌ إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ، وَقَدْ أَشَرْت إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْعُبَابِ فَإِنْ أَرَدْت تَحْقِيقَ ذَلِكَ فَعَلَيْك بِهِ مِنْ مَظِنَّتِهِ ثَمَّ وَبَيَّنْت أَيْضًا الرَّدَّ عَلَى الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ بِمُخَالَفَتِهِمَا لِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ إلَّا الْمُقَلِّدُ الصِّرْفُ الْقَاصِرُ عَنْ رُتْبَةِ التَّرْجِيحِ وَالتَّصْحِيحِ، وَأَمَّا مَنْ وَصَلَ لِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ وَبَيَّنْت ثَمَّ أَيْضًا الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعُبَابِ فِي مُخَالَفَتِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ تَبَعًا لِلْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِمَا بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ

وَقَدْ أَشَارَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْضًا إلَى الرَّدِّ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ وَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ بُطْلَانَهُ كَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمَا حَتْمًا لَازِمًا فَكَيْفَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَا رَجَّحَاهُ كَمَا قَدَّمْته

ص: 185

لَك وَاضِحًا مُبَيَّنًا مَبْسُوطًا مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ وَمِمَّا يَزِيدُهُ بَيَانًا وَوُضُوحًا أَنِّي أُعَدِّدُ لَك الْقَائِلِينَ بِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِحَسَبِ مَا رَأَيْت فِي كُتُبِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَانْظُرْ عَدَدَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ إنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ كَذِبٌ بَاطِلٌ صُرَاحٌ لَا سَنَدَ لَهُ فِيهِ وَلَا سَلَفَ إلَّا تَجَرِّيهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الْمَذْهَبِ غَيْرِ مَذْهَبِنَا عَلَى فَسَادِ الدَّوْرِ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَيْفَ وَشَنَّعَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يُشَنِّعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ عَلَى الْقَائِلِ بِذَلِكَ وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ الِاتِّفَاقَ عَلَى فَسَادِ الدَّوْرِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ عَنْهُمْ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَالْمُنَجَّزِ وَحْدَهُ، وَفِي مُغْنِي الْحَنَابِلَةِ لَا نَصَّ لِأَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ تَطْلُقُ بِالْمُنَجَّزِ لَا غَيْرُ. اهـ. فَهُمَا مُتَّفِقَانِ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ الدَّوْرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ يُكَذِّبُهُ فِيهِ قَوْلُهُ أَوَّلًا: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَابْنُ سُرَيْجٍ إنَّمَا جَاءَ بَعْدَ أَنْ انْقَضَتْ أَعْصُرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَقِيَّةِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَسُوغُ لِهَذَا الْجَاهِلِ الْغَبِيِّ أَنْ يَقُولَ: إنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ لَك بُطْلَانُ قَوْلِهِ هَذَا فَلْنَعُدْ إلَى تَعَدُّدِ الْقَائِلِينَ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ ابْنُ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ أُسْتَاذُ الْقَفَّالِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي

وَصَنَّفَ فِيهِ تَصْنِيفًا حَافِلًا أَطَالَ فِيهِ الرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَالشَّرِيفُ نَاصِرٌ الْيَعْمُرِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي وَالْمَاوَرْدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَقَالَ: مِنْ نَقَلَ عَنْهُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَقَدْ وَهَمَ لَكِنْ مَرَّ أَنَّهُ اخْتَلَفَ جَوَابُهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَصَنَّفَ فِيهِ تَصْنِيفًا كَمَا قَدَّمْت بَعْضَهُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلِلْغَزَالِيِّ مُصَنَّفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ مُطَوَّلٌ فِي تَصْحِيحِ الدَّوْرِ وَمُخْتَصَرٌ فِي إبْطَالِهِ رَجَعَ عَنْ تَصْحِيحِهِ وَاعْتَذَرَ فِيهِ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ. اهـ. وَكَذَا الْإِمَامُ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ قَالَ فِي الْأَنْوَارِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي شَرْحِ اللُّبَابِ وَصَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ وَالِانْتِصَارِ وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَتَنُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ تَصْنِيفًا وَالْبَغَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ الصَّلَاحِ. فَهَؤُلَاءِ عِشْرُونَ نَفْسًا قَائِلُونَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْوَاقِعِ كَمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ بِقَوْلِي وَكَذَا الْإِمَامُ. . . إلَخْ. وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْغَوْرُ فِي الدَّوْرِ إنَّهُ رَأَى أَكْثَرَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ مُطْبِقِينَ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ وَمُشَدِّدِينَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يُصَحِّحُهُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَهَبَ خَلَائِقُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى مَا اخْتَارَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ فَقَطْ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا بُطْلَانُ الدَّوْرِ، وَقَوْلُ ابْنِ يُونُسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّقَلَةِ.

وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ الْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ وَالْقَفَّالَانِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَأَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ وَأَبُو يَحْيَى الْبَصْرِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَالْإِمَامُ،

وَمَرَّ أَنَّهُ اخْتَارَ الْأَوَّلَ فَلَعَلَّ كَلَامَهُ اخْتَلَفَ كَكَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَالْقَزْوِينِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَابْنُ أَبِي الْخَلِّ. فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَالْأَوَّلُونَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ بِكَثِيرٍ فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعِي أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلِمُك بِصِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إنَّ جَمَاهِيرَ أَصْحَابِنَا عَلَى بُطْلَانِهِ وَقَوْلِ ابْنِ يُونُسَ: إنَّ أَكْثَرَ النَّقَلَةِ عَلَيْهِ، وَمَا يَرُدُّ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ وَمِنْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ هُمْ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ فِي كُتُبِ الشَّيْخَيْنِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَقَدْ جَمَعْت وَتَقَصَّيْت وَتَفَحَّصْت الْكُتُبَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذُكِرَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَبَعْدَ أَنْ جَمَعْتهمْ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ رَأَيْت الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ أَكْثَرَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ كَمَا بَانَ لَك ذَلِكَ وَظَهَرَ مِنْ تَعْدَادِهِمْ

ص: 186

وَإِنَّمَا حَمَلَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْأَوَّلِ عَدَمُ إمْعَانِهِمْ فِي تَفْتِيشِ كُتُبِ النَّقَلَةِ عَنْ الْقَائِلِينَ بِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ فَتَّشُوا كَمَا فَتَّشْنَا لَرَأَوْا مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ أَكْثَرُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهِ فَإِنْ قُلْت: أَتْبَاعُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى مَقَالَتِهِ وَهُمْ كَثِيرُونَ إذْ هُوَ شَيْخُ الطَّرِيقَتَيْنِ قُلْت: أَتْبَاعُ الرَّجُلِ لَا يُعَدُّونَ مَعَهُ فَإِنَّهُمْ تَابِعُونَ وَمُقَلِّدُونَ لَهُ فِيمَا قَالَهُ مَعَهُ كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ فِي أَوَّلِ الْخَادِمِ فَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْته أَنَّا إنْ قَابَلْنَا الرِّجَالَ بِالرِّجَالِ كَانَ الرِّجَالُ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ أَكْثَرَ، هَذَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ - إلَّا مَنْ شَذَّ - عَلَى بُطْلَانِهِ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ إلَى مَنْ قَالَ بِبُطْلَانِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَانْضَمَّ لِذَلِكَ اعْتِمَادُ الشَّيْخَيْنِ. الْمُعَوَّلُ فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّصْحِيحِ إنَّمَا هُوَ عَلَيْهِمَا بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمَا إلَّا مَنْ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَانْضَمَّ لِذَلِكَ أَيْضًا اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَمُحَقِّقِيهِمْ لَهُ أَيْضًا كَمَا سَتَعْلَمُهُ

فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اعْتِمَادِ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ مِنْ شُبْهَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَحُبُّ الرِّشَا الَّتِي يَأْخُذُهَا مِنْ الْعَوَامّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَعْتَمِدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَمَدَهُ لَفَاتَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ وَمَا عَلَيْهِ أَنَّهَا سُحْتٌ وَنَارٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ عَنْ كِفَايَةِ الْقَاضِي النَّهَارِيِّ.

وَلَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ. . . إلَخْ مِمَّا يَتَعَقَّبُ النَّهَارِيُّ فِيهِ فَإِنَّهُ نَقَلَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ يَنْفَعُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ وَقَدْ مَرَّ لَك بُطْلَانُهُ عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ، الْجُمْهُورُ لَيْسُوا عَلَى صِحَّتِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّهَارِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْإِلْقَاءَ يَنْفَعُ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَنْفَعُ الْإِلْقَاءُ فِيهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ قَدْ صَحَّ فَلَمْ يَمْلِكْ حَلَّهُ وَلَقَدْ أَطَالَ الْمُتَوَلِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَيَانِ الرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَنْفَعُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي بُطْلَانِ الدَّوْرِ فَانْظُرْهُ مِنْهُ إنْ شِئْت وَقَوْلُهُ: هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ مَنْظُورٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الرَّافِعِيَّ قَالَ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ التَّعْلِيقَاتِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِفْصَاحِ حَكَاهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَاعْتَرَضَهُ جَمْعٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَالَ تَصَفَّحْت كِتَابَ الطَّلَاقِ مِنْ الْإِفْصَاحِ فَلَمْ أَرَهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنْ قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ مُضَافًا إلَى تَصْنِيفِهِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي ذَلِكَ التَّصْنِيفِ قُلْت: ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ إلَّا أَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الرَّافِعِيِّ - وَرَأَيْت فِي بَعْضِ التَّعْلِيقَاتِ فِيهِ نَوْعُ تَبَرٍّ مِنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ - وَقَوْلَ الْمُهِمَّاتِ فِي نَقْلِ الْبَحْرِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَنْثُورِ فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ

فَإِنَّ الْعِرَاقِيِّينَ إنَّمَا حَكَوْهُ عَنْ الْمَنْثُورِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُزَنِيِّ نَفْسِهِ لَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَمِمَّا يُوَضِّحُ الرَّدَّ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ وَنَاهِيكَ بِهِ وَبِكِتَابِهِ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْكَرَ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ: قَدْ أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ خَطَأً ظَاهِرًا وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ النَّحْوِيِّ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفَتْوَى بِهِ تَقَدَّمَ مَا يُبْطِلُ هَذَا وَيُفْسِدُهُ وَكَيْفَ يَنْبَغِي الْفَتْوَى بِذَلِكَ مَعَ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: إنَّ تَقْلِيدَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ هُنَا فُسُوقٌ. وَقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ إنَّهُ يَوَدُّ لَوْ مُحِيَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَوْلِ غَيْرِهِمَا إنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يُشْبِهُ مَذْهَبَ النَّصَارَى. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَتْ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ فَلَا يَنْبَغِي بَلْ لَا تَجُوزُ الْفَتْوَى بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ وَلَا الْحُكْمُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَوْلُهُ وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يُقَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَرْهُ بَلْ رَجَّحَهُ كَالرَّافِعِيِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اخْتَارَ وَرَجَّحَ لَكِنَّ هَذَا الزَّهْرَانِيَّ لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُعَبِّرُ بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، وَقَوْلُهُ: تَعْلِيلًا لِصِحَّةِ الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ التَّضَادَّ حَاصِلٌ بَيْنَهُمَا. . . إلَخْ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِفَسَادِ هَذَا الدَّوْرِ وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ بَلْ أَفْسَدُوهُ بِأُمُورٍ طَوِيلَةٍ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِهَا، وَمِنْهَا مَا مَرَّ عَنْ الْخَادِمِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ

ص: 187

الْعِلَّةَ غَلَطٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ بُطْلَانُ هَذَا الدَّوْرِ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي رَجَعَ فِيهِ إلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ.

وَحَاصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ وَجَبَ إلْغَاؤُهُ، وَلَفْظُ الدَّوْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحَالٍ فَيَجِبُ إلْغَاؤُهُ فَهَاتَانِ مُقَدِّمَتَانِ إذَا سُلِّمَتَا وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ بُطْلَانُ الدَّوْرِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَوَضَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ إذَا قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ زَيْدٍ لَا يَقَعُ الشِّرَاءُ عَنْ زَيْدٍ وَهَلْ يَقَعُ مِنْ الْمُشْتَرِي

فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قِيلَ نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ قَوْلُهُ لِزَيْدٍ فَيَخْتَصُّ الْإِلْغَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَالُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ اشْتَرَيْت صَحِيحًا وَقِيلَ لَا بَلْ يُلْغَى جَمِيعُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُؤَاخَذُ بِبَعْضِ كَلَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ إذْ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ شَرْحٌ لِأَوَّلِهِ فَقَدْ اتَّفَقَ الطَّرِيقَانِ عَلَى إلْغَاءِ الْمُحَالِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يُلْغَى مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ قِيلَ تَطْلُقُ إلْغَاءً لِلشَّرْطِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَالُ إذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَقِيلَ لَا تَطْلُقُ لِلْمُحَالِ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ بِصِفَةٍ مُتَعَذَّرَةٍ فَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحَالَ بَاطِلٌ، فَقَدْ حَصَلَ الْبُرْهَانُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَبَيَانُ الْمُقْدِمَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنَّ الدَّوْرَ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ؛ لِأَنَّ ثَلَاثًا مَوْصُوفَةً بِقَبْلِيَّةٍ رَابِعَةٍ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مُحَالًا فَإِمَّا أَنْ يُلْغَى أَصْلُ كَلَامِهِ فَيَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يُلْغَى الْقَدْرُ الْمُحَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ فَيَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمُعَلَّقِ، وَقَدْ قَالَ بِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ قَائِلُونَ كَمَا مَرَّ فَعُلِمَ أَنَّ الدَّوْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُحَالٍ قَطْعًا وَأَنَّ فِي ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ الدَّوْرَ اللَّفْظِيَّ وَيَمْنَعُ حَسْمَ بَابِ الطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِحَالَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ إذْ هُوَ جَزَاءٌ وَلَهُ شَرْطٌ وَهُوَ الزَّمَانُ الْمَوْصُوفُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الطَّلَاقِ مَعْقُولٌ إذْ لَا مَانِعَ لِلطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَإِذَا أُوقِعَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ بَعْدَهُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَمْ يَكُنْ الزَّمَانُ الْمَوْصُوفُ بِقَبْلِيَّةِ الطَّلَاقِ مَوْجُودًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقَعُ وَهُوَ مَعْنَى الدَّوْرِ فَالْجَوَابُ أَنْ لَا نُسَلِّمَ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الشَّرْطَ مُفْرَدًا، أَوْ أَخَذَ الطَّلَاقَ مُفْرَدًا عَنْ الشَّرْطِ يَسْتَحِيلُ وَلَكِنْ إذَا أَخَذَ الْمَجْمُوعَ اسْتَحَالَ، وَالتَّعْلِيقُ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَجْمُوعِ لِلْمُحَالِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِبْطَالُ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُوَ طَلَاقٌ وَلَكِنْ عَلَّقَ إيقَاعَهُ بِزَمَانٍ مَوْصُوفٍ بِقَبْلِيَّةِ طَلَاقٍ آخَرَ إذْ لَوْ وَقَعَ غَيْرَ مَوْصُوفٍ بِهَذَا الْوَصْفِ غَيْرُ مَا عَلَّقَهُ وَوَصَفَهُ فَإِنْ وَقَعَ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ كَانَ مُحَالًا فَقَدْ قَصَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ إيقَاعَ مَا هُوَ مُحَالٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ وَأَوْقَعَهُ فَوَجَبَ أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُنْحَلُّ بِالْإِيقَاعِ وَهُوَ لَفْظُ الْقَبْلِ.

اهـ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالْبَيَانِ. وَالظَّاهِرُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِرُجُوعِ الْغَزَالِيِّ عَمَّا كَانَ مُعْتَمِدَهُ مِنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى غَيْرِ الْغَزَالِيِّ بِالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ حَكَى التَّاجُ السُّبْكِيّ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ وَعَلَيْهِ مَاتَ وَصَنَّفَ فِيهَا تَصْنِيفًا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَمِنْ الْمُعَلَّقِ تَكْمِلَةُ الثَّلَاثِ وَأَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا كَانَ صَنَّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي نُصْرَةِ قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ الْحَدَّادِ وَهُمَا تَصْنِيفَانِ سَمَّى أَحَدَهُمَا قِطْفَ النَّوْرِ فِي مَسَائِلِ الدَّوْرِ وَسَمَّى الثَّانِيَ الْغَوْرَ فِي الدَّوْرِ. اهـ. فَوَافَقَ مَا وَقَعَ لَهُ مَا مَرَّ عَنْ الْغَزَالِيِّ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ عَنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي بُطْلَانِ الدَّوْرِ وَقَدْ سَاقَهُ بِرُمَّتِهِ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ فَمَنْ أَرَادَ الْإِحَاطَةَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالْفَوَائِدِ فَعَلَيْهِ بِهِ فِي مَظِنَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ أَصْحَابِنَا: إنَّ قَوْلَهُ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا مُتَنَاقِضٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَتَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ فِي صِفَةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ حَتَّى يَظْهَرَ فَسَادُهَا كَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، أَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ شَرْطٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ جَزَاءٌ، وَالْجَزَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى الشَّرْطِ فَإِذَا قُدِّمَ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا كَمَا لَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي أَكْرَمْته قَبْلَ أَنْ يَجِيئَنِي، أَوْ مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ عَشْرٌ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ وَهَذَانِ بَاطِلَانِ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ شَرْطٌ

ص: 188

وَأَنْتِ طَالِقٌ جَزَاءٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِوُقُوعِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ خَطَأٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهُ فِي الزَّمَانِ قَبْلَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي زَمَنٍ مَاضٍ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ فِي زَمَنٍ مَاضٍ كَمَا لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك أَمْسِ يُرِيدُ الْإِنْشَاءَ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ أَسْئِلَةً وَأَجَابَ عَنْهَا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ إنْ طَلَّقْتُك لَا خِلَافَ أَنَّهُ شَرْطٌ

وَقَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ جَزَاءٌ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ وَالْجَزَاءُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هُنَا الطَّلَاقُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْكُمَ بِوُقُوعِهِ وَإِذَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِهِ فَلَوْ رَتَّبْنَا عَلَيْهِ الْجَزَاءَ احْتَجْنَا أَنْ نُبْطِلَ مَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِهِ وَالطَّلَاقُ وُقُوعُهُ لَا يَقْبَلُ الرَّفْعَ فَبَقِيَ الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، فَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ وُجُودِ صِفَتِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُرَدَّ، وَيُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ، قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ يَقْبَلُ الرَّدَّ وَإِلَّا بَطَلَ عِنْدَكُمْ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ عَنْ النَّهَارِيِّ، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ يَبْطُلُ حُكْمُهُ بِالْخُلْعِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِيهِ أَيْضًا الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ أَحْكَامٍ ثَابِتَةٍ بَعْضُهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبَعْضُهَا بِنَصِّ السُّنَّةِ وَبَعْضُهَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ فَمَتَى قَالَ لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا: مَتَى اسْتَقَرَّ صَدَاقُكِ عَلَيَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا بِشَهْرٍ وَمَضَتْ ثُمَّ وَطِئَهَا فَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ خَالَفْتُمْ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ قُلْتُمْ يَسْتَقِرُّ طَلُقَتْ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ وَتُشُطِّرَ الصَّدَاقُ وَإِذَا تُشُطِّرَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِ لَمْ تَطْلُقْ وَإِذَا لَمْ تَطْلُقْ بَقِيَ يَطَؤُهَا مُدَّةً وَلَا يَسْتَقِرُّ صَدَاقُهَا وَمِنْهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ مِنْ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِالتَّمْكِينِ فَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ إذَا ثَبَتَ لَك النَّفَقَةُ عَلَيَّ وَطَالَبْتِنِي بِهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا بِشَهْرٍ، ثُمَّ مَكَّنَتْهُ فَوَطِئَهَا إنْ قَالُوا: لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فَقَدْ خَالَفُوا الْإِجْمَاعَ وَإِنْ قَالُوا: تَسْتَحِقُّهَا وَلَا تُطَالِبُ بِهَا فَمُحَالٌ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهَا بِلَا تَأْجِيلٍ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى الْإِيفَاءِ فَالْمَنْعُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ لَا وَجْهَ لَهُ وَإِنْ قَالُوا تَسْتَحِقُّهَا وَتُطَالِبُ بِهَا فَإِذَا طَالَبَتْهُ طَلُقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بِشَهْرٍ فَلَا تَثْبُتُ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهَا لَمْ تَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ مُطَالَبَتُهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فَلَزِمَ بَقَاؤُهَا مَعَهُ فِي طَاعَتِهِ مُدَّةً مِنْ غَيْرِ نَفَقَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَمِنْهُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَوْ قَالَ لِإِحْدَاهَا مَتَى ثَبَتَ حَقُّ الْقَسْمِ فَطَالَبْتِنِي بِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا بِشَهْرٍ

ثُمَّ بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى فَإِنْ قَالُوا: إنَّ تِلْكَ لَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ فَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَالُوا: تَسْتَحِقُّهُ وَلَا تَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ فَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ قَالُوا: تَسْتَحِقُّ وَتُطَالِبُهُ فَإِذَا طَالَبَتْ طَلُقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بِشَهْرٍ وَإِذَا طَلُقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْقَسْمَ وَلَمْ تَصِحَّ مُطَالَبَتُهَا وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ مُطَالَبَتُهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا مُدَّةً يَبِيتُ عِنْدَ ضَرَّتِهَا وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ مَعَ عَدَمِ تَقْصِيرٍ مِنْهَا وَسَاقَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا كَثِيرَةً أَلْزَمَهُمْ مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا مِنْ جِهَتِهِمْ

وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا فِيهِ طُولٌ ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُمْ أَيْضًا مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلَى سُقُوطِهِ كَانَ سَاقِطًا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي دَوْرِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْإِقْرَارِ وَالْوَلَاءِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَاقِ وَغَيْرِهَا وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَلَكِنْ إنَّمَا يُؤَدِّي قَوْلُهُ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ لَوْ صَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ فَيَقْتَضِي وُقُوعُ الْمُنَجَّزِ وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ قَبْلَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ ثُبُوتُهُ إلَى سُقُوطِهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِذَلِكَ بَلْ الَّذِي نَقُولُهُ: إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَنْعَقِدُ مِنْ أَصْلِهَا فَيَقَعُ الْمُنَجَّزِ وَلَا يُؤَدِّي ثُبُوتُهُ إلَى سُقُوطِهِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ أَسْئِلَةً

وَأَجَابَ عَنْهَا بِمَا فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ سَبَبَهَا وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ وَالْمُنَجَّزَ مِلْكًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ اجْتَمَعَا هَهُنَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَانِعٌ لِلْآخَرِ فَتَعَارَضَا وَتَسَاقَطَا كَمَا لَوْ نَكَحَ أُخْتَيْنِ مَعًا وَكَمَا إذَا تَعَارَضَ بَيِّنَتَانِ ثُمَّ رَدَّ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَنْفَرِدُونَ بِهِ وَهُوَ انْعِقَادُ هَذِهِ الصِّيغَة وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ هُنَا إلَّا الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ وَهَذِهِ نُبَذٌ

ص: 189

مِمَّا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ فِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ - وَلَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: هَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ لِمَنْ تَحَقَّقَ وَتَأَمَّلَ فِيهَا حَقِّيَّةَ التَّأَمُّلِ وَقَاطِعَةٌ لِلْعُذْرِ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَنْ أَنْصَفَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. اهـ. وَهُوَ كَمَا قَالَ وَقَوْلُهُ وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا الزَّرْكَشِيُّ فِي مَسَائِلِ الدَّوْرِ فِي قَوَاعِدِهِ وَذَكَرَ فِيهَا كَلَامَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَكَلَامَ غَيْرِهِ هَذَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا فَذَكَرَ حَشْوًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ إلَّا إيهَامَ السَّامِعِينَ أَنَّ الزَّرْكَشِيّ فِي قَوَاعِدِهِ قَائِلٌ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ

وَقَوْلُهُ: وَاعْتَرَضَ الشَّيْخُ الْفَتَى عَلَى النَّوَوِيِّ. . . إلَخْ يُقَالُ لَهُ الْفَتَى تَابِعٌ لِلْإِسْنَوِيِّ وَقَدْ مَرَّ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ دَلِيلٍ وَأَوْضَحِهِ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْفَتَى دُونَ مَنْ هُوَ أَجَلُّ بِذَلِكَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى الْقُصُورِ وَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ هُوَ وَشَيْخُهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى كَلَامِ جَمْعٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَلَّدَاهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَهُمْ بِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ وَالتَّنَاقُضَاتِ وَالتَّحْقِيقِ الظَّاهِرِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ لِكُلِّ مُكَابِرٍ كَمَا بَيَّنْت لَك جَمِيعَ ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا بَيَّنْت هَذِهِ الْمَقَالَاتِ لِتَعْرِفَ الْأَحْكَامَ وَالْمُخَالَفَاتِ يُقَالُ عَلَيْهِ: لَسْت أَهْلًا لِبَيَانِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ كَلِمَاتِك فِي هَذَا الْجَوَابِ تَدُلُّ عَلَى جَهْلِك الْمُفْرِطِ وَغَبَاوَتِك الظَّاهِرَةِ وَإِنَّك حَقِيقٌ بِأَنْ تُؤَدَّبَ عَلَى تَصَدِّيك لِمَا لَسْت أَهْلًا لَهُ وَلَيْتَكَ تَأَسَّيْت بِمَا ذَكَرْته عَنْ صَاحِبِ الْمِفْتَاح مِنْ عَدَمِ تَعْلِيمِ الْعَوَامّ وَعَدَمِ الْحُضُورِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِنَّ أَحَدًا إذَا أَدْخَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَمَرْتهمْ بِالرَّدِّ إلَى غَيْرِك لَكِنْ إنَّمَا أَوْجَبَ لَك الدُّخُولَ مَعَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ وَأَمْرَهُمْ بِرَدِّ نِسَائِهِمْ بَعْدَ حِنْثِهِمْ فِيهِنَّ حُبُّ الْأَمْوَالِ السُّحْتِ الَّتِي تَأْخُذُهَا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالشُّهْرَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَوْلُهُ: إنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ وَعُلَمَاءَهُمْ صَحَّحُوهَا وَأَفْتَوْا بِهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مُنْقَسِمُونَ إلَى قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمِنْهُمْ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِهِ فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ الْجَلِيلُ قَمَرُ تِهَامَةَ وَقُطْبُهَا إسْمَاعِيلُ الْحَضْرَمِيُّ وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ تَصْنِيفًا مُخْتَصَرًا قَالَ فِيهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ مَا حَاصِلُهُ: الْمُفْتُونَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِفْتَاءِ بِهِ تَقْلِيدُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَلَوْ طُولِبَ هَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَعْدَ التَّعْلِيقِ بِالدَّوْرِ طَلَاقُهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا ذَلِكَ بَلْ يَرَوْنَ أَنَّ كَلَامَ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ كَافٍ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا ضَعْفُ قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمَذْهَبِ كَثِيرٌ وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ أَنْ يُقَالَ: قَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ إلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ

وَمِنْهُمْ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الشَّامِلُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ قَدْ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ خَطَأً كَبِيرًا. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْجَلِيلِ التَّهْذِيبِ قَالَ: الصَّحِيحُ وُقُوعُهُ. وَكَذَلِكَ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي قَطَعَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَعْدَهُ وَهَذَا الْبَنْدَنِيجِيُّ هُوَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ لَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ: كِتَابُ الْمُعْتَمَدِ فِي الْخِلَافِ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَكِتَابُ الْكَامِلِ فِي الْمَذْهَبِ بَحْرٌ غَزِيرٌ، وَلَهُ كِتَابُ الْكَافِي فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَكَذَلِكَ الْفَتْوَى لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي وَسِيطِهِ وَوَجِيزِهِ قَالَ: وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. فَهَذَا جَوَابُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْكُتُبِ بِالْكُتُبِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهَمَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي فُتْيَاهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ الدَّوْرِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَزِمَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ وَإِذَا وَقَعَتْ لَزِمَ أَنْ لَا يَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ لَمْ تَقَعْ الثَّلَاثُ الْمُعَلَّقَةُ فَجَوَابُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إذَا وَقَعَتْ الْمُنَجَّزَةُ لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ الْمُعَلَّقَةُ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ثَلَاثًا بِوَاحِدَةٍ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ أَرْبَعًا فَهَذَا التَّعْلِيقُ مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلِّقَ بِالطَّلْقَةِ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ فَإِذَا عَلَّقَ بِهَا ثَلَاثًا قُلْنَا: إمَّا أَنْ يَبْطُلَ التَّعْلِيقُ كُلُّهُ فَلَا يَقَعُ إلَّا الْمُنَجَّزَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْ الثَّلَاثِ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ الثَّلَاثُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْيَسُ إذَا تَمَّ هَذَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي رُجُوعِهِ عَنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ إلَى بُطْلَانِهِ وَقَدْ ذَهَبَ لِذَلِكَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا فَقَالَ: مَنْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً ظَاهِرًا

ص: 190

وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ وَالشَّرْطُ هَهُنَا هُوَ الْوَاحِدَةُ وَالْمَشْرُوطُ الثَّلَاثُ وَالْمَشْرُوطُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الشَّرْطِ. اهـ

حَاصِلُ كَلَامِ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الْحَضْرَمِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفَائِسَ نَبَّهْتُ عَلَى جَمِيعِهَا مَعَ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ فِيمَا قَدَّمْتُهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاسْتَمَرَّ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى كَمَا صَرَّحَ بِهِ وَلَدُهُ أَحْمَدُ فَقَالَ مَاتَ وَهُوَ يُفْتِي بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَنَامًا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا الْمَنَامُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، إذْ النَّائِمُ لَا يَضْبِطُ وَمِنْ ثَمَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ طَلِّقْ زَوْجَتَك، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنْ لَا لِخَلَلٍ فِي الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهَا حَقٌّ إذْ الشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهَذَا تَعْلَمُ مَا فِي قَوْلِ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْعَدَ الْوَزِيرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ طَلَاقِ التَّنَافِي أَيْ الدَّوْرِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي أُفْتِي بِهِ وَأَخْتَارُهُ نَصِيحَةً مِنِّي لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَبْطُلُ الدَّوْرُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْفَقِيهَانِ الْأَجَلَّانِ سُلَيْمَانُ وَمُحَمَّدُ الْهَمْدَانِيَّانِ قَالَا: أَخْبَرَنَا الْفَقِيهُ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ الْهَمْدَانِيُّ سَنَة تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ قَالَ: رَأَيْت سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ جُلُوسًا مُسْتَقْبِلِينَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَرُ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ فَسَلَّمْت عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيَّ السَّلَامَ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَلَاقُ التَّنَافِي صَحِيحٌ أَمْ بَاطِلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ: بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَرَّتَيْنِ وَسَكَتَ فِي الثَّالِثَةِ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْمَنَامِ ثُمَّ قَالَ الْوَزِيرِيُّ: وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ فِي الْخِلَافِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ مُعْرِضًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي أَرَاك مُعْرِضًا عَنِّي قَالَ: لِأَنَّك تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَتَلَقَّاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَ بِهِ وَذَهَبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ قَالَ الْوَزِيرِيُّ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا وَكَأَنَّمَا رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ

وَالنَّصُّ لَا يُعَارَضُ بِالْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَيْفَ وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَسَنَّ وَأَمَرَ بِهِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا قَاطِعًا فِي الْمَسْأَلَةِ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى بُطْلَانِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَالشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ. اهـ كَلَامُ الْوَزِيرِيِّ وَقَدْ أَشَرْت لَك إلَى مَا فِيهِ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ الْمَنَامِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِد الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَقْوِيَةٍ وَاسْتِئْنَاسٍ بِهِ لِلْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى خَوْفٍ رَجَعَ عَنْ الْعَمَلِ بِالدَّوْرِ وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحِكَايَةِ الْآتِيَةِ فَإِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَاضِحًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ أَيْضًا الْعَلَّامَةُ إسْمَاعِيلُ بْنُ الْمُقْرِي وَنَاهِيكَ بِهِ جَلَالَةً وَعِلْمًا إذْ لَمْ يُخْرِجْ الْيَمَنُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَقِيهًا مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْكَمَالُ بْنُ الرَّدَّادِ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَعَالِمُ زُبَيْدٍ وَأَعْمَالِهَا فَإِنَّهُ مِمَّنْ اعْتَمَدَ بُطْلَانَ الدَّوْرِ فِي شَرْحِهِ الْكَوْكَبَ الْوَقَّادَ وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوِيهِ وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ فِي جَمْعِهَا فَمِنْهَا أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْإِلْقَاءِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي نَوَاحِي الْحِجَازِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ فَهِمَتْ مِنْهُ عَدَمَ الرَّغْبَةِ قَالَتْ لَهُ: أَقِرَّ أَنَّهُ لَا إلْقَاءَ لَك فَيُقِرُّ ثُمَّ يُشْهِدُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا طَلَاقًا مُنَجَّزًا بَائِنًا ثُمَّ إذَا بَدَا لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا قَالَ: أَنَا كَاذِبٌ فِي إقْرَارِي وَجَاءَ لِمَنْ عَقْدُ الدَّوْرِ صَحِيحٌ عِنْدَهُ مِنْ فَقِيهٍ، أَوْ حَاكِمٍ فَيَحْكُمُ لَهُ بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَبِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ وَبُطْلَانِ طَلَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْدُ لَهُ

ص: 191

رَغْبَةٌ تَزَوَّجَتْ وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مُتَفَقِّهَةِ تِلْكَ النَّوَاحِي زَيْدِيُّهُمْ وَشَافِعِيُّهُمْ وَحَسَمُوا بَابَ الطَّلَاقِ فَهَلْ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ وَالصُّورَةُ هَذِهِ وَرُبَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَوَامَّ لَا يَفْهَمُ الدَّوْرَ وَهَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَبِبُطْلَانِ الطَّلَاقِ بَعْدَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ

وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَنْ أَفْتَاهُ مَنْ يَعْتَقِدُ فِقْهَهُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ. اهـ السُّؤَالُ فَتَأَمَّلْهُ حَتَّى تَتَأَمَّلَ جَوَابَهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجَلِّ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ وَذَلِكَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَهُوَ الْقَوِيُّ فِي الدَّلِيلِ وَعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوَدُّ لَوْ مُحِيَتْ وَابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيهَا وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَجَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ الطَّلَاقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ وَمَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ قَالَ: وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالُوا: إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعُ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعْلِيق صَحِيحًا. اهـ. وَبَالَغَ السُّرُوجِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ الْقَوْلُ بِانْسِدَادِ بَابِ الطَّلَاقِ يُشْبِهُ مَذْهَبَ النَّصَارَى وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ: كَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّقْلِيدُ وَالتَّقْلِيدُ فِيهَا فُسُوقٌ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إذَا خَالَفَ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْإِجْمَاعَ، أَوْ النَّصَّ، أَوْ الْقَاعِدَةَ، أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَمَا لَا يُقَرُّ شَرْعًا إذَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِنَقْضِهِ فَأَوْلَى إذَا لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَإِذَا لَمْ نُقِرَّهُ شَرْعًا حَرُمَ التَّقْلِيدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ شَرْعٍ هَلَاكٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالَفَةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ التَّقْلِيدُ فِيهَا، قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا بَيَانٌ حَسَنٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ حَكَى عَنْ الْإِسْنَوِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْهُمَا

ثَمَّ قَالَ الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ: وَرَجَّحَ عَدَمَ الْوُقُوعِ كَثِيرٌ لَا فِي تَطْلِيقِهِ بِطَلَبِهَا فِي الْإِيلَاءِ وَالْحُكْمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ بَلْ يَقَعُ كَمَا يَقَعُ الْفَسْخُ فِي إنْ فَسَخْت بِعَيْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَلَا فِي حَالِ نِسْيَانِ التَّعْلِيقِ فَيَقَعُ قَبْلَهُ تَخْرِيجًا. اهـ. قَالَ: وَالنَّقْلُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى. اهـ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَالْقَاضِي الْمُقَلِّدُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَلِمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ التَّعْلِيقِ ثُمَّ يُنَجَّزُ الطَّلَاقُ فَإِنْ أَعْقَبَ تَعْلِيقَهُ بِالتَّنْجِيزِ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ قَطْعًا وَنَبَّهَ عَلَيْهِ السِّرَاجُ الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ مِنْ مُتَفَقِّهَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَسُوغُ، وَفِسْقُهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ ظَاهِرٌ نَسْأَلُ اللَّهَ سبحانه وتعالى الْعِصْمَةَ وَالْهِدَايَةَ. اهـ جَوَابُ الْفَقِيهِ الرَّدَّادِ فَتَأَمَّلْ حُكْمَهُ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ الْمَذْكُورِينَ بِفِسْقِهِمْ بِالْعَمَلِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ تَعْلَمْ فِسْقَ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ بِالْعَمَلِ بِهِ وَيَتَّضِحُ لَك صِحَّةُ مَا قَدَّمْته مِنْ شَبَهِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَفْسِيقِهِ إذْ هُوَ فَاسِقٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الْعَظِيمُ، وَالْفَاسِقُ - سِيَّمَا الْمُتَجَاهِرُ - لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا تَوْقِيرَ وَلَا مُرَاعَاةَ بَلْ يُعَامَلُ بِالسَّبِّ وَالزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ لَعَلَّهُ يَنْزَجِرُ وَيَتُوبُ عَنْ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَنَصْبِ نَفْسِهِ لِمَقَامِ الْإِفْتَاءِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْخُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ يُنَالُ بِالْهُوَيْنَا، أَوْ يَتَسَوَّرُ سُورَهُ الرَّفِيعَ مَنْ حَفِظَهُ وَتَلَقَّفَ فُرُوعًا لَا يَهْتَدِي لِفَهْمِهَا وَلَا يَدْرِي مَأْخَذَهَا وَلَا يَعْلَمُ مَا قِيلَ فِيهَا وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَسَوُّرُ ذَلِكَ السُّورِ الْمَنِيعِ مَنْ خَاضَ غَمَرَاتِ الْفِقْهِ حَتَّى اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَصَارَ فَقِيهَ النَّفْسِ بِحَيْثُ لَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَطَّلِعْ فِيهَا عَلَى نَقْلٍ لَوَجَدَ مَا قَالَهُ سَبَقَهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْفِقْهُ فِيهِ حَتَّى وَصَلَ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ سَاغَ لَهُ الْآنَ أَنْ يُفْتِيَ وَأَمَّا قَبْلَ وُصُولِهِ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ إفْتَاءٌ وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ

ص: 192

السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ وَتَسْلِيمُ الْقَوْسِ إلَى بَارِيهَا إذْ هِيَ مَائِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّطَفُّلَ وَلَا يَصِلُ إلَى حَوْمَةِ حِمَاهَا الرَّحْبِ الْوَسِيعِ إلَّا مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ بِغَايَاتِ التَّوْفِيقِ وَالتَّفَضُّلِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهُ إنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَطْبَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ.

وَتَأَمَّلْ أَيْضًا قَوْلَهُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَدَّمْتُهُ عَنْهُ أَيْضًا: إنَّ التَّقْلِيدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حَرَامٌ وَفُسُوقٌ وَهَلَاكٌ فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا تَشْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ بَلْ جَمَعَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقَلِّدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَائِلَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا يَعْمَلُ بِذَلِكَ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُفْتِي بِهِ لَا يُعَلِّمُهُ لِعَامِّيٍّ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ بَاءَ بِعَظِيمِ هَذَا الْإِثْمِ وَازْدَادَ فُسُوقُهُ وَحَقَّ هَلَاكُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ آمِينَ. وَسُئِلَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ عَنْ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ فَقِيهِ الشَّجَرِ وَعَالِمِهِ باسرومي بِمَا حَاصِلُهُ: قَدْ أَحَاطَ عِلْمُ سَيِّدِي بِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَلَاقِ الدَّوْرِ وَالْغَرَضُ بَيَانُ مَا يَتَرَجَّحُ لَكُمْ فِيهِ وَلَوْ حَكَمَ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَصْرِ بِصِحَّةِ طَلَاقِ التَّنَافِي، أَوْ بِبُطْلَانِهِ فِي امْرَأَةٍ بِخُصُوصِهَا لِأَجْلِ التَّرَافُعِ عِنْدَهُ فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ مُنْدَرِجٌ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى نَعَمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ يَجْتَهِدُ وَيَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الصَّحِيحِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهُ وَقُضَاةُ زَمَانِنَا أَمْرُهُمْ غَيْرُ خَافٍ لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا هُنَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَلْ شَرْطُهُ بُلُوغُ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا؟

فَأَجَابَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ أَوْرَدَ مَا قَدَّمْته عَنْ التَّدْرِيبِ وَقَوْلِ صَاحِبِهِ الْإِمَامِ الْبُلْقِينِيُّ: النَّقْلُ الثَّانِي عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَقَطْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْفَتْوَى وَلَوْ حَكَمَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ أَمَّا الْمُقَلِّدُ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَحُكْمُهُ كَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ. اهـ

الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِهِ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُقَلِّدِ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حُكْمٌ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ كَانَ آثِمًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي حَقِّهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ السُّبْكِيّ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ حَاكِمٌ يَرَاهُ نَفَذَ حُكْمُهُ مَحَلَّهُ فِي حَاكِمٍ مُجْتَهِدٍ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يُعَوَّلُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا؛ بِدَلِيلِ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَمَعْلُومٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ أَنَّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ قَدْ انْقَطَعَتْ مِنْ مُنْذُ مِئَاتٍ مِنْ السِّنِينَ فَلَيْسَ لِقَاضٍ الْآنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ بَلَغَ تِلْكَ الرُّتْبَةَ حَتَّى يَجُوزَ حُكْمُهُ بِالضَّعِيفِ بَلْ مَتَى حَكَمَ قَاضٍ بِوَجْهٍ، أَوْ قَوْلٍ ضَعِيفٍ رُدَّ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي وِلَايَتِهِ وَعَدَالَتِهِ إذَا تَقَرَّرَتْ لَك هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ عَلِمْت قَبِيحَ مَا صَنَعَهُ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ مِنْ تَجَرُّئِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِرَدِّ النِّسَاءِ وَإِفْتَائِهِ أَزْوَاجَهُنَّ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَبَائِحِهِ الشَّنِيعَةِ كَقَوْلِهِ: إنَّ عُلَمَاءَ الْيَمَنِ صَحَّحُوا الدَّوْرَ وَأَفْتَوْا بِهِ وَقَدْ ظَهَرَ لَك بِمَا سُقْته عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ بُطْلَانُ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ادَّعَاهَا وَأَنَّ عُلَمَاءَ الْيَمَنِ مُخْتَلِفُونَ كَغَيْرِهِمْ وَحِكَايَتُهُ لِلشِّعْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ وَجَهْلِ هَذَا الشَّاعِرِ وَكَذِبِهِمَا وَافْتِرَائِهِمَا وَمُبَالَغَتِهِمَا فِي الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ مِمَّا لَمْ تَخْفَ قَبَاحَتُهُ وَشَنَاعَتُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّاعِرَ قَالَ: قَدْ حَكَمَتْ بِهَا جَمِيعُ قُضَاةِ الْخَلْقِ وَأَفْتَوْا بِهَا وَفِي هَذَا مِنْ الْكَذِبِ وَالْجَرَاءَةِ مَا يَقْتَضِي فِسْقَ قَائِلِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ كَهَذَا الزَّهْرَانِيِّ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ نَوَاحِيَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَنَاهِيكَ بِهَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَحَلُّ الْعُلَمَاءِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْرِيرِ الْمَذْهَبِ وَتَنْقِيحِهِ كُلِّهِمْ قَاطِبَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الدَّوْرِ وَبِحَمْدِ

ص: 193

اللَّهِ تَعَالَى لَمْ نَسْمَعْ قَطُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ قُضَاةِ هَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ أَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّهُ أَفْتَى بِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ نَاطِقٌ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ فَمَعَ ذَلِكَ كَيْفَ سَاغَ لِهَذَا الشَّاعِرِ هَذَا الْكَذِبُ الصُّرَاحُ أَمَا عَلِمَ أَنَّهُ مِنْهُ كَذِبٌ وَمُفَسِّقٌ؟ لَكِنْ مَنْ هُتِكَ عِرْضُهُ وَعَدِمَ دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ لَا يُبَالِي بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْوَالِهِ الْبَاطِلَةِ الصَّرِيحَةِ وَقَوْلُ هَذَا الشَّاعِرِ أَيْضًا: وَاتَّبَعُوا الْجُمْهُورَ وَقَوْلُهُ فَقَلَّدُوهَا جُمْهُورَنَا قَدْ مَرَّ رَدُّهُ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هُنَا وَقَوْلُهُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ. . . إلَخْ

وَقَوْلُ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ: إنَّهَا لَمَّا وَقَعَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا مِمَّا يُعْلِمُك أَيْضًا بِجَهْلِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَيُوَضِّحُ لَك مَا انْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنْ السَّفَاهَةِ وَالْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ بِالْقَوَاعِدِ وَالْمَآخِذِ وَالْمَقَاصِدِ وَأَنَّهُمَا لَا يَتَأَمَّلَانِ مَا يَقُولَانِهِ وَلَا يَفْهَمَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمَا بِالْأَنْوَامِ أَشْبَهُ، إذْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْكَلَامُ إلَّا مِمَّنْ عَدِمَ لُبَّهُ وَزَادَ جَهْلُهُ وَاسْتَحْكَمَتْ غَبَاوَتُهُ وَحَقَّتْ شَقَاوَتُهُ، كَيْفَ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ رُبَّمَا تُؤَدِّي إلَى كُفْرٍ؛ لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي اعْتِقَادِ هَذَا الزَّهْرَانِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى خَاطِرِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَعَلِمَهَا وَلَمْ يَعْلَمْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ، أَوْ أَجَلَّ مِنْهُ عَلِمَ عِلْمًا حَقًّا وَجَهِلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَافِرًا مُهْدَرَ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَحَدُّهُ الْقَتْلُ إنْ لَمْ يَتُبْ وَيُجَدِّدْ إسْلَامَهُ وَمَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا مُحَارِبًا لِلَّهِ سبحانه وتعالى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَأَمَّلْ عَظِيمَ مَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ الْقَبِيحِ، وَقَوْلُهُ صَدَقَ الْقَلَمُ وَصَدَقَ اللَّوْحُ فَصَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَنْزَلْتهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدِ عُلَمَائِي فَإِنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ أُوحِيَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَنْزَلَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى لِسَانِهِ بِالْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إذْ مَنْ اعْتَقَدَ وَحْيًا مِنْ بَعْدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْكُفْرِ أَشَرْت لَك إلَى بَعْضِهَا وَلَوْ جَاءَ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ إلَى مَكَّةَ لَعُومِلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ هَذَا مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ إنْ لَمْ يُجَدِّدْ إسْلَامَهُ وَيَتُبْ وَيَرْجِعْ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى مِنْ هَذِهِ الْمُجَازَفَاتِ وَلَيْتَهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُجَازَفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ مَعَ ذَلِكَ بَاقٍ وَأَمَّا مُجَازَفَاتٌ تُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى دِينٍ أَقْبَحَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوس فَلَا يُطِيقُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ فَأَسْأَلُ اللَّهَ سبحانه وتعالى الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَى هَذَا الزَّهْرَانِيِّ، أَوْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ فَإِنَّهُمْ فِتْنَةٌ أَشَدُّ عَلَى الْعَوَامّ مِنْ فِتْنَةِ إبْلِيسٍ وَجُنُودِهِ عَامَلَهُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعَدْلِهِ - آمِينَ.

وَتَأَمَّلْ مَزِيدَ جَهْلِهِ وَكَذِبِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَجَعَلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَأَدْنَى الْعُلَمَاءِ بَرِيءٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي حِكَايَةٍ إنَّهَا صَحِيحَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِهَؤُلَاءِ يُعْتَمَدُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِثْلِهَا مَعَ مَا أَدَّتْ إلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ. وَتَأَمَّلْ أَيْضًا مَزِيدَ جَهْلِهِ فَإِنَّ قَضِيَّةَ سِيَاقِهِ بَلْ صَرِيحِهِ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ تَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتْبَعُوهُ عَلَيْهَا إلَّا لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كَلَامٌ بِالْخِرَافِ أَشْبَهُ لَكِنْ نُنَبِّهُ أَنَّ قَائِلَهُ وَصَلَ فِي الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ إلَى غَايَةٍ قَبِيحَةٍ إذْ كَيْفَ يَنْسُبُ إلَى الْأَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ لِابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَبِعُوهُ لِأَجْلِ حِكَايَةٍ فِيهَا أَنْوَاعُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ هَذَا مَعَ مَا قَدَّمْته لَك أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ كَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا قِيلَ قَالُوا بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ لَك إيضَاحَ كَذِبِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا وَأَنَّ قَائِلَهَا وَالْمُصَدِّقَ بِهَا كَاذِبٌ فَاسِقٌ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا

ص: 194

لَمْ تَنْزِلْ إلَّا عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ بِهَا الْمُزَنِيّ فِي الْمَنْثُورِ كَمَا مَرَّ وَقَوْلُهُ: وَهَذَا الَّذِي حَضَرَنَا مِنْ مَبْحَثِ مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي حَضَرَكَ عَرَّفَ النَّاسَ بِقَدْرِ مَرْتَبَتِك فِي الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ وَكَذَا الْكُفْرَانِ إنْ اعْتَقَدْتَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حِكَايَتُك فَلَيْتُك سَكَتّ اتِّقَاءً لِلسُّتْرَةِ عَلَى نَفْسِك وَكَفًّا لَهَا عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ عَنْ شَيْخِهِ فَرَدَدْتُ الْجَوَابَ إلَى مُهِمَّاتِ الْمُهِمَّاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُصُورِ نَظَرِهِ وَمَزِيدِ تَسَاهُلِهِ فَإِنَّ مَنْ يَرُدُّ مَنْ يُفْتِي بِخِلَافِ الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ كَيْفَ يَقْنَعُ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَمَا دَرَى أَنَّ لِأَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْمُهِمَّاتُ تَعَقُّبَاتٌ وَمُلِمَّاتٌ وَمُعَلِّمَاتٌ لِابْنِ الْعِمَادِ وَالْإِمَامِ الْبُلْقِينِيُّ وَلِلْبَدْرِ ابْنِ شُهْبَةَ اعْتَرَضُوا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَكْثَرَ مَا فِي الْمُهِمَّاتِ وَرَدُّوهُ وَبَيَّنُوا مَا فِيهِ مِنْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ

وَكَذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ وَالزَّرْكَشِيُّ فِي خَادِمِهِ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى خَيْرَ الْجَزَاءِ وَأَكْمَلَهُ

وَقَوْلُهُ: لَكِنْ نَحْنُ وَهُمْ مُتَّبِعُونَ وَمُقْتَدُونَ يُقَالُ عَلَيْهِ: كَذَبْت لَسْت مُتَّبِعًا وَلَا مُقْتَدِيًا فَإِنَّك لَوْ كُنْت كَذَلِكَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَلَمْ تَنْسُبْ إلَيْهِمْ مَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُك السَّابِقُ وَنَبَّهْت عَلَيْهِ فِي مَحَالِّهِ فَأَنْتَ مُبْتَدِعٌ لَا مُتَّبِعٌ وَمُعْتَدٍ لَا مُقْتَدٍ، وَقَوْلُهُ: الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ وَالضَّرُورِيَّاتُ لَهَا أَحْكَامٌ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ جَهْلِهِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا لَيْسَتْ مِنْ جُزْئِيَّاتِ قَاعِدَةِ إذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّتِهَا وَإِنَّمَا غَايَةُ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَلِمَاتٍ لَا يَدْرِي مَا مَعْنَاهَا وَلَا مَا أُرِيدَ بِهَا فَيَنْطَلِقُ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا وَقَوْلُهُ: وَالتَّقْلِيدُ وَاجِبٌ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ هَذَا كَلَامٌ أَيْضًا مِنْ تَغَالِيهِ فِي الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ تَقْلِيدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَاجِبٌ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَقَدْ قَدَّمْت لَك عَنْ أَكَابِرَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهِ فُسُوقٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَأَنَّهُ مَتَى حَكَمَ بِذَلِكَ فَسَقَ وَكَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا فَمُنِعَ ذَلِكَ كَيْفَ سَاغَ لِهَذَا الْمُجَازِفِ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ التَّقْلِيدَ هَذَا وَاجِبٌ وَلَيْتَهُ اسْتَحَى مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى حَيْثُ لَمْ يَسْتَحِ مِنْ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ كَذِبَ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَعَلَى دِينِهِ فَرُبَّمَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي حَقِّهِمْ:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] فَإِنْ قُلْت: قَالَ فِي الْأَنْوَارِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُسْتَحَبَّ التَّعْلِيمُ وَالْعَمَلُ بِهِ الْآنَ لِوُجُوهٍ حَاصِلُهَا أَنَّ مَنْ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ الْآنَ قَلِيلٌ وَمَنْ يُحْلِلْ زَوْجَتَهُ إذَا وَقَعَ طَلَاقُهُ مَعْدُومٌ وَإِنَّ النَّاسَ مُنْهَمِكُونَ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَيَتْرُكُونَ الْحَلِفَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ سبحانه وتعالى

وَمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ لَا يَسْمَحُ بِالتَّحْلِيلِ فَيَذْهَبُ إلَى مَنْ لَا مُسْكَةَ لَهُ فِي الدِّينِ فَيُعَلِّمُهُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِ التَّحْلِيلِ كَادِّعَاءِ فِسْقِ الْوَلِيِّ، وَكَأَمْرِهِ بِتَقْلِيدِ الْقَوْلِ الشَّاذِّ الْمَدْفُوعِ بِصَرَائِحِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، إنَّ الْعَقْدَ كَافٍ فِي التَّحْلِيلِ وَإِنَّ الْغَافِلَ الْمُتَسَاهِلَ رُبَّمَا عَلَّمَ السُّوقَةَ وَغَيْرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بَعْدَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ حِفْظًا لِنِكَاحِهِمْ وَحَذَرًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحِنْثِ مَعَ جَهْلِهِمْ، بَلْ وَجَهْلِ مُلَقِّنِهِمْ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ فَيُطَلِّقُونَ وَيَسْتَثْنُونَ ظَنًّا أَنْ لَا يَقَعَ مَعَ وُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ مَعَ نَفْيِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَبِهِ يُخَفَّفُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا الزَّهْرَانِيِّ قُلْت: لَا حُجَّةَ لِهَذَا الزَّهْرَانِيِّ فِي كَلَامِ الْأَنْوَارِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَحَثَ اسْتِحْبَابَ التَّعْلِيمِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ حَتَّى يَتَجَرَّأَ عَلَيْهِ هَذَا الزَّهْرَانِيُّ وَيُفْتِي بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ظَهَرَ لَهُ مِنْ بَحْثِهِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْقُولِ، فَإِنَّ الرُّويَانِيَّ مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ لَا وَجْهَ لِتَعْلِيمِ الْعَوَامّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَبِبُطْلَانِهِ فَهُمْ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ مِنْ امْتِنَاعِ التَّعْلِيمِ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَحْثًا مُخَالِفًا لِاتِّفَاقِهِمْ كَانَ ذَلِكَ

ص: 195

الْبَحْثُ فِي حَيِّزِ الطَّرْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ بَحْثٍ خَالَفَ الْمَنْقُولَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِنْ جَلَّ قَائِلُهُ وَظَهَرَ دَلِيلُهُ هَذَا مَعَ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ عَلَى بَحْثِهِ هَذَا يُرَدُّ بِأَنَّهُ نَفْسَهُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرَ مِنْ جَهْلِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ كَذَلِكَ شُرُوطَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ عَلَى الْمُعَلِّمِينَ لِجَهْلِهِمْ، أَوْ لِجَهْلِ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِكَبِيرِ فِطْنَةٍ وَمَعْرِفَةٍ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ لِجَهْلِ أَكْثَرِ الْمُتَفَقِّهَةِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ بِمَعْنَى الدَّوْرِ هُنَا وَبِبَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْتهَا أَوَّلَ هَذَا الْجَوَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَهْلِهِمْ بِذَلِكَ تَبَايُنُ اخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ الدَّوْرِ وَبُطْلَانِهِ وَتَبَايُنُ آرَاءِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ

فَإِنَّهُ يَقُولُ تَارَةً بِصِحَّتِهِ ثُمَّ تَارَةً بِفَسَادِهِ كَمَا قَدَّمْت لَك عَنْ الْغَزَالِيِّ وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ إمَامُهُ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ فَإِذَا كَانَتْ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَقْبَلُهُ أَفْهَامُ الْعَوَامّ وَشَرْطُ الْعَمَلِ بِالدَّوْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنْ يَصْدُرَ التَّعْلِيقُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الدَّوْرَ كَمَا مَرَّ لَك أَوَّلَ هَذَا الْجَوَابِ مَعَ بَقِيَّةِ شُرُوطٍ أُخْرَى لَا يُحِيطُ بِهَا أَكْثَرُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَتْ الْمَفَاسِدُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الدَّوْرِ أَعْظَمَ وَأَفْحَشَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَمَا شَنَّعَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ عَلَى الْمُعَلَّمِينَ لَهُ فَكَذَلِكَ نُشَنِّعُ نَحْنُ عَلَى مِنْ يُعَلِّمُ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ بِعَيْنِ مَا قَالَهُ فَانْدَفَعَ بِنَفْسِ كَلَامِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِحَثِّهِ نَدْبَ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَنْ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ الْآنَ قَلِيلٌ. . . إلَخْ فَيُرَدُّ بِأَنَّا إذَا غَلَّظْنَا عَلَى الْعَوَامّ وَبَيَّنَّا لَهُمْ أَنَّ الدَّوْرَ فَاسِدٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَقْلِيدُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ كَمَا قَالَهُ أَكَابِرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُخَالِطُونَ الْعُلَمَاءَ، أَوْ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فَهَؤُلَاءِ يَنْتَهُونَ وَيَنْزَجِرُونَ فَزَجَرَهُمْ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ الدَّوْرَ، وَقِسْمٌ لَا يُخَالِطُونَ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ وَهَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُ جَمِيعِهِمْ بَلْ إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُعَلِّمَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ شَيْئًا فَإِنَّ زَوْجَتَهُ بَانَتْ عَنْ عِصْمَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلتَّعْلِيمِ حِينَئِذٍ فَاتَّضَحَ مَا قَالُوهُ وَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَقَوْلُهُ: رُدُّوا النِّسَاءَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ يُقَالُ عَلَيْهِ لَيْسَ هَذَا بِكَثِيرٍ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِك الْقَبِيحَةِ وَخِصَالِك الْمَذْمُومَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مُبَالَغَتِك فِي الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَالْفِسْقِ وَأَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِقَيْدِهِ السَّابِقِ، وَمَنْ تَجَرَّأَ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْلَى أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ، لَكِنْ مَا لَمْ يُتَدَارَكْ بِعَفْوٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَتَوْفِيقٍ وَحُسْنِ تَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِلَّا فَلَكَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَضَمِّنِ لِاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ مَزِيدُ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْفَضِيحَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، وَلَا يَنْفَعُ أَعْوَانٌ وَلَا أَمْوَالٌ. وَقَوْلُهُ: وَقَلِّدُوا جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ عَلَيْهِ: قَاتَلَك اللَّهُ وَقَبَّحَك مَا أَكْذَبَك وَأَفْسَقَك فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ كَمَا قَدَّمْت ذَلِكَ وَاضِحًا مُبِينًا

وَإِنَّمَا الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهِ فِرْقَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَفْرَادٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِعْشَارَ عُشْرِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ سَاغَ لَك أَنْ تَجْعَلَهُمْ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ تَصِفُهُمْ بِصِفَةٍ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ لَيْسُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ كَلَامُك وَإِنْ كُنْت لَا تَفْهَمُ وَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ أَنَّ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَصْفٌ لِلْمُضَافِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ إذْ لَوْ كَانَ وَصْفًا لِلْمُضَافِ إلَيْهِ لَمْ يُنَاسِبْ مَقْصُودَك وَهُوَ أَنَّك تُبَالِغُ لِلْعَوَامِّ فِي مَدْحِ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ فَجَعَلْت هَذَا الْوَصْفَ مَدْحًا لَهُمْ حَامِلًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا قَالُوهُ مِنْ صِحَّةِ الدَّوْرِ وَمَا دَرَيْت أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ الدَّوْرِ لَيْسُوا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنْ كُنْت مُعْتَقِدًا ذَلِكَ فَيَكْفِيك هَذَا دَلِيلًا عَلَى فِسْقِك وَمَقْتِك وَعَظِيمِ وَقِيعَتِك فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ فَلْيُحَارِبَنَّكَ اللَّهُ سبحانه وتعالى وَلْيُهْلِكَنَّكَ، وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ: إنَّمَا أَكْثَرْت فِيهِ لِيَعْلَمُوا أُصُولَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُقَالُ عَلَيْهِ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا انْطَوَيْت عَلَيْهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالْفِسْقِ وَالْمُجَازَفَةِ لِسَوْقِ الْحِكَايَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكُفْرِ فِي أَنْوَاعٍ

ص: 196