الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفَسَادَهُ وَالدَّقَّ وَالسُّلَّ وَالِاسْتِسْقَاءَ وَفَسَادَ الْفِكْرِ وَإِفْشَاءَ السِّرِّ وَذَهَابَ الْحَيَاءِ وَكَثْرَةَ الْمِرَاءِ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ وَكَشْفَ الْعَوْرَةِ وَعَدَمَ الْغَيْرَةِ وَإِتْلَافَ الْكَسْبِ وَمُجَالَسَةَ إبْلِيسَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَالْوُقُوعَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ وَتَوَالِي الْأَسْقَامِ وَالرَّعْشَةَ وَنَتْنَ الْفَمِ وَسُقُوطَ شَعْرِ الْأَجْفَانِ وَاحْتِرَاقَ الدَّمِ وَصُفْرَةَ الْأَسْنَانِ وَالْبَخَرَ وَثَقْبَ الْكَبِدِ وَغِشَاءَ الْعَيْنِ وَالْكَسَلَ وَالْفَشَلَ وَتَجْعَلُ الْأَسَدَ كَالْعِجْلِ وَتُعِيدُ الْعَزِيزَ ذَلِيلًا وَالصَّحِيحَ عَلِيلًا إنْ أَكَلَ لَا يَشْبَعُ وَإِنْ أُعْطَى لَا يَقْنَعُ وَإِنْ كُلِّمَ لَا يَسْمَعُ تَجْعَلُ الْفَصِيحَ أَبْكَمَ وَالصَّحِيحَ أَبْلَمَ وَتُذْهِبُ الْفِطْنَةَ وَتُحْدِثُ الْبِطْنَةَ وَتُورِثُ اللَّعْنَةَ وَالْبُعْدَ عَنْ الْجَنَّةِ وَلْنَخْتِمْ هَذَا الْكَلَامَ بِقَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَحُدَّ شَارِبُهُ وَالثَّانِيَةُ كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٍ نَجِسٍ.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهَا الْأَفْيُونَ قَبْلَ أَنْ يُجْمَدَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ مَائِعٌ وَلَيْسَ بِنَجِسٍ قَطْعًا وَلَا يَحْرُمُ يَسِيرُهُ بِقَيْدِهِ السَّابِقِ وَبَيْعُ نَحْوِ الْحَشِيشِ لِأَكْلِهَا وَلَوْ ظَنًّا حَرَامٌ كَبَيْعِ الْعِنَبِ لِعَاصِرِ الْخَمْرِ خِلَافًا لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ فَلَا نَظَرَ لِتَوَهُّمِ وُقُوعِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ زَرْعُهَا لِاسْتِعْمَالِ مَا لَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ - عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَنْ شَرِبَ خَمْرًا وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِشُرْبِهَا وَسَبَبُ الْوُجُوبِ قِيلَ مَخَافَةُ السُّكْرِ بِهَا وَقِيلَ نَجَاسَتُهَا وَيَرُدُّ الثَّانِيَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ حَرَامًا طَاهِرًا لَزِمَهُ اسْتِقَاءَتُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ
فَالْمُعْتَمَدُ الْعِلَّةُ الْأُولَى وَحِينَئِذٍ فَمَنْ أَكَلَ مِنْ نَحْوِ الْحَشِيشِ الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ لَزِمَهُ اسْتِقَاءَتُهُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقُ مَنْ أَكَلَ حَرَامًا طَاهِرًا لَزِمَهُ اسْتِقَاءَتُهُ وَكَأَنَّ عِلَّتَهُ أَنَّ الْحَرَامَ يُورِثُ قَسْوَةَ الْقَلْبِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» نَسْأَلُ اللَّهَ سبحانه وتعالى بِخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُبْعِدَنَا عَنْهَا وَعَنْ أَسْبَابِهَا إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَدَدَ مَعْلُومَاتِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ كَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَرْضَى تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا أَبَدًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
[بَابُ التَّعَازِيرِ وَضَمَانِ الْوُلَاةِ]
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ أَوْ لَطَمَ بِنَعْلِهِ مَثَلًا شَرِيفٌ خَسِيسًا أَوْ عَكْسُهُ مَا كَيْفِيَّةُ تَعْزِيرِهِ وَإِذَا رَأَى الْقَاضِي تَعْزِيرَ الْفَاعِلِ بِيَدِ الْمَفْعُولِ بِهِ الْمِثْلَ فَعَلَهُ بِهِ هَلْ يَجُوزُ وَإِذَا قُلْتُمْ لَا وَكَانَتْ الْفِتْنَةُ لَا تَسْكُنُ إلَّا بِذَلِكَ مَا الْحُكْمُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَرْجِعُ فِي التَّعْزِيرِ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرَاهُ زَاجِرًا لِلْفَاعِلِ بِحَسَبِ جَرَاءَتِهِ وَقُبْحِ مَعْصِيَتِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ التَّعْزِيرُ بِنَحْوِ ضَرْبٍ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَوِّضَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ لِئَلَّا يَزِيدُ فِي الْإِيلَامِ وَإِنْ كَانَ بِنَحْوِ وَقْعِ عِمَامَةٍ جَازَ لَهُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحِقِّ إذْ لَا يُخْشَى مِنْهُ مَحْذُورٌ وَهَذَا التَّفْصِيلُ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْجِنَايَاتِ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي التَّعْزِيرِ وَلَوْ تَيَقَّنَ الْحَاكِمُ إثَارَةَ فِتْنَةٍ إنْ لَمْ يُفَوِّضْ اسْتِيفَاءَ التَّعْذِيرِ لِلْمُسْتَحِقِّ لَمْ يَبْعُدْ حِينَئِذٍ جَوَازُ تَفْوِيضِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ إثَارَةِ الْفِتْنَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَشْيَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيلَامِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ قَالَ فِي الْعُبَابِ فَائِدَةً صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا لُدَّ فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَمَرَ بِلَدِّ الْحَاضِرِينَ فَاقْتَضَى جَوَاز التَّعْزِيرِ بِمِثْلِ مَا تَعَدَّى بِهِ اهـ.
مَا اللَّدَدُ وَمَنْ لَدَّهُ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ الْحَاضِرُونَ وَبِمَ اسْتَحَقَّ الْحَاضِرُونَ اللَّدَّ وَكَمْ عَدَدَهُمْ وَهَلْ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ فِي مَرَضٍ آخَرَ وَهَلْ كَانَ اللَّدَدُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ شِدَّةِ وَجَعِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يُغْشَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُفِيقُ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَظَنَّ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ سبحانه وتعالى عَلَيْهِمْ أَنَّ وَجَعَهُ ذَاتُ الْجَنْبِ فَلَدُّوهُ فَجَعَلَ يُشِيرُ
إلَيْهِمْ أَنْ لَا يَلُدُّوهُ فَقَالُوا إنَّمَا أَشَارَ إلَى الْمَنْعِ مِنْ اللَّدِّ لِكَرَاهِيَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ أَيْ إنَّمَا نَهَيْتَنَا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ وَنَفْسُ الْمَرِيضِ تَكْرَهُهُ فَقَالَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلَّا لَدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَاللَّدَدُ هُوَ مَا يُجْعَلُ فِي جَانِبِ الْفَمِ مِنْ الدَّوَاءِ فَأَمَّا مَا يُصَبُّ فِي الْحَلْقِ فَيُقَالُ لَهُ الْوَجُورُ فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ - إنَّهُمْ أَذَابُوا قِسْطًا بِزَيْتٍ وَلَدُّوهُ بِهِ قِيلَ وَإِنَّمَا كَرِهَ اللَّدَدَ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَدَاوَى لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ وَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ التَّدَاوِي وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخَيَّرَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ تَخْيِيرُهُ قَبْلَ هَذَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَهُوَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ» وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِهِ الْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّهُ خَرَجَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ «وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ بِخِرْقَةٍ حَتَّى أَهْوَى إلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَوْضِ مِنْ مَقَامِي هَذَا ثُمَّ قَالَ إنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا إلَخْ ثُمَّ هَبَطَ عَنْهُ فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ بِسَنَدٍ وَصَلَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ «أَنْعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ» وَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَرَضَ أَرَادَ التَّخْيِيرَ الْأَخِيرَ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهَا - كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَحْيَا أَوْ يُخَيَّرُ فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخْذِي غُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرَهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى فَقُلْت إذًا لَا يَخْتَارُنَا» فَعَرَفْت أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَفَهْمُهَا هَذَا نَظِيرُ فَهْمِ أَبِيهَا السَّابِقِ حِينَ بَكَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَعَلِمَ أَنَّهُ خُيِّرَ مَرَّتَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ التَّنْظِيرُ السَّابِقُ.
فَالْأَوْلَى رَدُّ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ سَبَبَ إنْكَارِ التَّدَاوِي أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِدَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَدَاوَوْهُ بِمَا يُلَائِمُهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ سَعْدٍ قَالَ «كَانَتْ تَأْخُذُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَاصِرَةُ فَاشْتَدَّتْ بِهِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَدَدْنَاهُ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيَّ ذَاتَ الْجَنْبِ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ لَهَا عَلَيَّ سُلْطَانًا وَاَللَّهِ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلَّا لَدَّ وَلَدَدْنَا وَلَدَّتْ مَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَهِيَ صَائِمَةٌ»
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَاتَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» وَجَمَعَ بَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ ذَاتَ الْجَنْبِ تُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ وَرَمٍ حَارٍّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ وَرِيحٍ يَحْتَقِنُ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْفِيُّ هُنَا وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ذَاتُ الْجَنْبِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أُثْبِتَ هُنَا وَلَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ كَالْأَوَّلِ وَمِمَّا تَقَرَّرَ عُلِمَ مَعْنَى اللَّدَدِ وَإِنَّ الَّذِينَ لَدُّوهُ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَلَمْ نَرَ تَعْيِينَ عَدَدِهِمْ وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَإِنَّهُ كَانَ فِي الْأَدْوِيَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ بِمَ اسْتَحَقَّ الْحَاضِرُونَ اللَّدَّ فَيُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعُبَابِ فَاقْتَضَى جَوَازَ التَّعْزِيرِ بِمِثْلِ مَا تَعَدَّى بِهِ هُوَ مَا سَبَقَهُ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَكِنَّ عِبَارَتَهُ وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِيمَا يُصَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ اهـ.
لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَتَعَاطَوْا لَدَّهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا الَّذِي تَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْ الْجَمِيعِ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ دُونَ الْقِصَاصِ لِتَرْكِهِمْ امْتِثَالَ نَهْيِهِ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَلَكِنْ رُدَّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ كَمَا أَشَارُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ وَالْمُتَأَوَّلِ الْمَعْذُورِ فِي تَأْوِيلِهِ لَا يُعَزَّرُ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَأْدِيبَهُمْ لِئَلَّا يَعُودُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اقْتِصَاصٌ وَلَا انْتِقَامٌ وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْعُبَابِ فَاقْتَضَى إلَخْ
لَمَّا عَلِمْت أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا وَإِنَّمَا خَشِيَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْنُوا عَلَى ظَنِّهِمْ ذَلِكَ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِمْ الْأَوَّلِ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بِنَهْيِهِ لِتَأْوِيلِهِمْ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَرُدَّ أَفْعَالَهُمْ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ كَفِعْلِهِمْ وَهُوَ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ إيذَاءٍ لِأَنَّ شُرْبَ الْقِسْطِ بِالزَّيْتِ نَافِعٌ لِلْأَصِحَّاءِ دُونَ الْمَرْضَى بِمَرَضٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَوَاءً لَهُ فَهُمْ أَذُوهُ لَكِنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْذِهِمْ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ عَدَمَ عَوْدِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَرَادَ أَنْ لَا يَأْتُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِمْ حَقُّهُ فَيَقَعُوا فِي خَطِيئَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَدْ عَلِمْت رَدَّهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَكِبُوا خَطِيئَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةً لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْإِصْلَاحَ وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ الظَّنِّ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَنْتَهُوا بِنَهْيِهِ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ كَرَاهِيَةِ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ رَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ وَبِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ اهـ.
وَفِيهِ تَسْلِيمٌ لِمَا قَالَهُ فَالْوَجْهُ مَا قُلْتُهُ فِي رَدِّهِ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ ذَلِكَ خَطِيئَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةً، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ - عَمَّا إذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ لَعَنَ اللَّهُ وَالِدَيْك فَهَلْ يُعَزَّرُ الْقَائِلُ مَثَلًا أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِاللَّعْنِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِأَنَّ ذَلِكَ اشْتَهَرَ فِي أَلْفَاظِ الْعَوَامّ بِمَعْنَى اللَّعْنِ وَلَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَذْفِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِتَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ وَعَكْسِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظُ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلَوْ مَعَ تَأْنِيثِ الْمُذَكَّرِ وَعَكْسِهِ فَكَذَا هُنَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظُ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلْيَجِبْ التَّعْزِيرُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ لَائِقًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَعَدِّي اللَّائِقَ وَمِنْ ثَمَّ حَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ لَمَّا وُلِّيَ الْقَضَاءَ الْأَكْبَرَ بِمِصْرَ مَنَعَ نُوَّابَهُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدِّرَّةِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَعْيِيرِ الشَّخْصِ وَتَعْيِيرِ ذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ الضَّرْبُ بِهَا لَا فِي نَحْوِ السَّفَلَةِ الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِهَا وَلَا بِمَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رحمه الله تبارك وتعالى بِمَا لَفْظُهُ كَثِيرًا مَا يَتَخَاصَمُ اثْنَانِ فَيُعَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِالْفَقْرِ، أَوْ رَعْيِ الْغَنَمِ مَثَلًا فَيَقُولُ الْآخَرُ الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا فُقَرَاءَ وَيَرْعَوْنَ الْغَنَمَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَأْلُوفٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) عَفَا اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُفْطَمَ عَنْهُ النَّاسُ غَايَةَ الْفَطْمِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَحْذُورَاتٍ لَا يُتَدَارَكُ خَرْقُهَا وَلَا يَرْتَقِعُ فَتْقُهَا وَكَيْفَ وَكَثِيرًا مَا يُوهِمُ ذَلِكَ الْعَامَّةَ إلْحَاقَ نَقْصٍ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَمَالِهِ الْأَعْظَمِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم نَقِيصَةً فِي ذَاتِهِ كَالْأُمِّيَّةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ عُرْفِ الْعَوَامّ الطَّارِئِ كَالْفَقْرِ وَرَعْيِ الْغَنَمِ فَتَعَيَّنَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ وَتَأَكَّدَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ الْإِلْمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَالِكِ فَإِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَهَالِكِ وَقَدْ بَالَغَ الْحَافِظُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ شَكَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى سَعْيَهُ.
فَأَفْتَى بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ الْبَلِيغِ عَلَى مَنْ عَيَّرَ وَلَدَهُ بِرَعْيِ الْمِعْزَى فَقَالَ مُسْتَدِلًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَقْصٍ الْأَنْبِيَاءُ رَعَوْا الْمِعْزَى؛ لِأَنَّ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ مَثَلًا لِآحَادِ النَّاسِ وَلَمْ يُبَالِ فِي هَذَا الْإِفْتَاءِ بِاعْتِرَاضِ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَيْ بَلْ صَرِيحُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مَحْذُورًا مِنْ تَنْقِيصٍ، أَوْ نَحْوِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِنَقْصٍ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَحَلَّى إلَّا بِمَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ لَا إثْم عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ وَأَنَّ الْإِثْمَ وَالتَّعْزِيرَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأُصُولَهُ الَّتِي بَسَطَ الْكَلَامَ فِيهَا صَاحِبُ الشِّفَاءِ حَيْثُ قَالَ أَمَّا مُلَخَّصُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرُ عَيْبًا وَلَا سَبًّا وَلَكِنَّهُ يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافَهُ أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ عليه الصلاة والسلام الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضْمَةٍ نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي وَطَرِيقِ التَّحْقِيرِ بَلْ عَلَى قَصْدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ
- صلى الله عليه وسلم أَوْ مَعَ قَصْدِ الْهَزْلِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ.
إنْ قِيلَ فِي سُوءٌ، أَوْ كُذِّبْتُ أَيْ بِالتَّشْدِيدِ، أَوْ أَذْنَبْت فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ قَدْ صَبَرْت كَمَا صَبَرَ أَوْلَوْ الْعَزْمِ وَكَمَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ الْمُتَعَجْرِفِينَ فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ كَالْمُتَنَبِّي وَالْمَعَرِّيِّ وَابْنِ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيِّ بَلْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ إلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالْكُفْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ وَغَرَضُنَا الْآنَ بَيَانُ مَا سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا وَلَا أَضَافَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَقْصًا وَلَا قَصَدَ قَائِلُهَا إزْرَاءً، أَوْ غَضًّا فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ وَلَا عَظَّمَ الرِّسَالَةَ حِين شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا، أَوْ مَعَرَّةٍ قَصَدَ الِانْتِفَاءَ عَنْهَا أَوْ ضَرْبَ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ أَوْ إغْلَاءً فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ مِمَّنْ عَظَّمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى خَطَرَهُ وَشَرَّفَ قَدْرَهُ وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ.
وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ فَحَقُّ هَذَا إنْ دُرِئَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْأَدَبُ وَالسِّجْنُ وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ، أَوْ قَرِينَةِ كَلَامِهِ، أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ وَلَمْ يَزَلْ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ عُيِّرَ بِالْفَقْرِ فَقَالَ تُعَيِّرُونِي بِالْفَقْرِ وَقَدْ رَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَنَمَ أَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ لِأَنَّهُ عَرَّضَ بِذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَعَنْ سَحْنُونَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التَّعَجُّبِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِسَابِ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى.
وَعَنْ الْفَاسِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قِيلَ لَهُ اُسْكُتْ فَإِنَّك أُمِّيٌّ فَقَالَ أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا فَكَفَّرَهُ النَّاسُ إطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ خَطَأٌ لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ إذْ الْأُمِّيَّةُ فِيهِ صلى الله عليه وسلم آيَةٌ لَهُ وَفِي هَذَا الْقَائِلِ نَقِيصَةٌ وَجَهَالَةٌ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ تُرِكَ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ الْأَدَبُ فَطَوَّعَ فَاعِلَهُ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ إنَّهُ قَالَ فِيمَنْ نَقَّصَهُ غَيْرُهُ.
فَقَالَ إنَّمَا يُرِيدُ نَقْصِي بِذَلِكَ أَنَا بَشَرٌ وَجَمِيعُ الْبَشَرِ يَلْحَقُهُمْ النَّقْصُ، حَتَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يُطَالُ سَجْنُهُ وَأَدَبُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ السَّبَّ وَعَنْ غَيْرِهِ إنَّهُ قَالَ يُقْتَلُ هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الشِّفَاءِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا أَفْتَى بِهِ الْجَلَالُ مِنْ وُجُوبِ تَعْزِيرِ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي يَخْرُجُ اللَّفْظُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إلَى إيهَامِ النَّقْصِ وَنَحْوِهِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَقَامُ خِصَامٍ وَتَبَرٍّ مِنْ نَقْصِ نُسِبَ إلَيْهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِخِلَافِهِ فِي مَقَامِ تَدْرِيسٍ أَوْ إفْتَاءٍ، أَوْ تَأْلِيفٍ، أَوْ تَقْرِيرٍ لِلْعِلْمِ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ إذْ لَا إيهَامَ فِيهِ حِينَئِذٍ بِوَجْهٍ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي مَا حَاصِلُهُ أَيْضًا الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِهِ، أَوْ مَا يُمْكِنُ إضَافَتُهُ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ، أَوْ مَا اُمْتُحِنَ بِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، أَوْ ابْتِدَاءِ حَالِهِ وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ، أَوْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاةِ عَيْشِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا غَمْصٌ وَلَا إزْرَاءٌ لَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَا فِي مَقْصَدِ اللَّافِظِ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُهَمَاءِ طَلَبَةِ الدِّينِ وَيَجْنَبُ ذَلِكَ مَنْ عَسَاهُ لَا يَفْهَمُهُ، أَوْ يَخْشَى بِهِ فِتْنَةً اهـ.
وَلَمَّا اُعْتُرِضَ عَلَى الْجَلَالِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي عَيْرَةً وَلَا تَعْزِيرًا قَالَ لِلْمُعْتَرِضِ إنْ أَرَدْت مَا وَقَعَ فِي نَحْوِ دَرْسٍ، أَوْ مُذَاكَرَةٍ عُلِمَ فَمُسَلَّمٌ وَلَيْسَ هَذَا صُورَةَ وَاقِعَتِنَا وَإِنْ أَرَدْت عَيْنَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي هِيَ سِبَابٌ وَخِصَامٌ فِي سُوقٍ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ يُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِمَا قَدْ يُوجِبُ سَفْكَ دِمَائِهِمْ فَمَعَاذَ اللَّهِ وَحَاشَا الْمُفْتِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَالَ التَّعْزِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا أَقُولُ لَهُ فَهَلْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا حَتَّى يُقَدَّمَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَيُنْسَبُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ تَنْزِلُ وَأَجَابَ عَمَّنْ قَالَ لَهُ إنَّمَا أَفْتَيْت فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ.
فَإِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا لِلْأَصْحَابِ فَأَجَابَ فِيهَا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَرَّرَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا وَأَجَابَ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ فِي