الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَحْجُبُ حَجَبْتَهُ كَمَا تَعْمَل فِي مَسَائِلِ الصُّلْبِ فَتَأَمَّلْ كَوْنَهُ اعْتَبَرَ الِاسْتِوَاءَ فِي الدَّرَجَةِ وَالسَّبْقِ إلَى الْوَارِثِ بَعْد تَنْزِيلِ الْفَرْعِ مَنْزِلَةَ أَصْلِهِ لَا قَبْلَهُ تَجِدْهُ شَاهِدًا لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ عَدَمِ حَجْبِ الْخَالِ لِابْنِ الْخَالَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا بَعْدَ تَنْزِيلِ ابْنِ الْخَالَةِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُشْكَلَةٌ وَأَنَّ فِي كَلَامِهِمْ ظَوَاهِرُ تَقْتَضِي حَجْبَ الْخَالِ لِوَلَدِ الْخَالَةِ وَظَوَاهِرُ تَقْتَضِي عَكْسَهُ وَأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ مِنْ مَدَارِكِهِمْ بِبَادِي الرَّأْيِ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدَّرَ بَعْضُهُمْ مُدَّةً لِلْمَفْقُودِ بِسَبْعِينَ سَنَةً فَهَلْ تَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ أَمْ كَيْف الْحَالُ أَفْتُونَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا لَا تَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى مُضِيِّ مُدَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَوْتُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً نَعَمْ التَّقْدِيرُ بِهَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ» ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الشَّهَادَاتِ]
(مَسْأَلَة) قَالَ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَتَاوِيهِ مَا لَفْظُهُ نَجِدُ كِتَابَ مُبَايَعَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِعَقَارِ أَوْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حُدُودٍ يَقَعُ اخْتِلَافٌ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَبَطَلَتْ مِنَّا إثْبَاتُ تِلْكَ الْحُدُودِ كَمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَمَا فَعَلَتُهُ قَطُّ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِي الْبَيْعِ أَوْ الْوَقْفِ أَوْ نَحْوِهِمَا هُوَ الْعَقْدُ الصَّادِرُ عَلَى الْمَحْدُودِ بِتِلْكَ الْحُدُودِ وَقَدْ لَا يَكُونُ الشَّاهِدُ عَارِفًا بِتِلْكَ الْحُدُودِ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا سَمِعَ لَفْظَ الْعَاقِدِ فَاَلَّذِي شَهِدَ بِهِ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَالْحُدُودُ مِنْ كَلَامِهِ لَا مِنْ كَلَامِ الشَّاهِدِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْعُقُودِ وَالْأَقَارِيرِ وَظُهُورُهُ فِي الْأَقَارِيرِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُمَا مِنْ كَلَامِ الْمُقِرِّ لَا مِنْ كَلَامِ الشَّاهِدِ وَفِي الْعُقُودِ دُونَهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْعَقْدِ مِنْ كَلَامِ الشَّاهِدِ وَحِكَايَتِهِ عَنْ حُضُورِهِ الْعَقْدَ وَسَمَاعِهِ فَهُوَ شَاهِدٌ بِالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ لَا بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ بِصُدُورِ الْبَيْعِ عَلَى الْمَبِيعِ وَالْوَقْفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ.
لَكِنَّا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَدْعِي مَعْرِفَتِهِ لِلْمَبِيعِ وَالْمَوْقُوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ الْبَلَدَ أَوْ الدَّارَ الَّتِي حَدُّهَا كَذَا وَلَا يَكُونُ عِنْد الشَّاهِدِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى جَرَيَانِ الْبَيْعِ عَلَى الْمَحْدُودِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَا حُدُودَهُ يَبْقَى عَلَيْنَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَدْ يُشْكِلُ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي كُتُبِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْأَوْقَافِ مُسْتَقِلًّا تَقُومُ بَيِّنَةٌ أَنَّ فُلَانًا مَالِكٌ حَائِزٌ لِلْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ الَّذِي حُدُودُهُ كَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَكَانُ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي حُدُودِهِ أَوْ فِي بَعْضِهَا وَالشُّهُودُ قَدْ مَاتُوا بَعْدَ أَنْ قَدْ ثَبَتَ الْمَكْتُوبُ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَقْصِدُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَكْتُوبُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي الْحُدُودِ وَيَنْزِعُ مِنْ صَاحِبِ يَدٍ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ وَيَدَّعِي أَنَّ تِلْكَ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِمُقْتَضَى مَكْتُوبِهِ وَقَدْ طُلِبَ مِنِّي ذَلِكَ فَلَمْ أَفْعَلْهُ لِأَنِّي أَعْلَمُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَعْلَمُ مِلْكَ زَيْدٍ لِلْبَلَدِ الْفُلَانِيّ مَثَلًا عِلْمًا يُسَوِّغُ لَهُ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِهِ وَيَدِهِ وَذَلِكَ الْبَلَدُ مُشْتَهِرٌ وَتَحْقِيقُ حُدُودِهِ قَدْ لَا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهَا فَيَسْتَسْمِيهَا مِمَّنْ هُوَ يَعْرِفُهَا هَكَذَا رَأَيْنَا الْعَادَةَ كَمَا يَشْهَدُ عَلَى زَيْدٍ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَيَتَحَقَّقهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ نَسَبَهُ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَاحِدٍ فِيهِ فَالتَّمَسُّكُ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ كَالتَّمَسُّكِ فِي إثْبَاتِ الشَّرَفِ وَنَحْوِهِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى شَيْءٍ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ بِحَقٍّ لَا تُزَالُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّ يَدَهُ عَادِيَةُ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي رَفْعِ يَدِهِ عَلَى كِتَابٍ قَدِيمٍ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى مُسْتَنَدُهَا وَقَالَ أَيْضًا مَسْأَلَةٌ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى كَثِيرًا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَكَلَّمَ فِيهَا وَتَكَرَّرَتْ فِي الْمُحَاكِمَاتِ كَثِيرًا يَأْتِي كِتَابُ مُبَايَعَةٍ أَوْ وَقْفٍ عَلَى عَقَارٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى حُدُودٍ وَصِفَاتٍ وَيَجْرِي نِزَاعٌ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَيُوجَد بَعْضُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ غَيْر الْمُشْتَرِي أَوْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَيُرَاد انْتِزَاعُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِمُقْتَضَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَيَكُون الْكِتَابُ فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً.
وَذَلِكَ الْكِتَابُ ثَابِتٌ وَقَدْ قَامَتْ فِيهِ بَيِّنَةٌ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ وَعِنْدِي تَوَقُّفٌ فِي الِانْتِزَاعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى تَثْبُتَ بَيِّنَةٌ صَرِيحَةٌ أَنَّ هَذَا الْعَقَارَ الْمَبِيعَ أَوْ الْمَوْقُوفَ مِلْكُ
الْبَائِعِ أَوْ الْوَاقِفِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَيَكُونُ الْحَدُّ مَشْهُودًا بِهِ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَاقِعَ كَمَا شَهِدْنَا أَنَّ الشُّهُودَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْوَقْفِ إنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ دَارِي عَلَى جَارِهِ بِأَنَّ مِلْكَهُ يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْحَدِّ وَالْجَارُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَهُمْ إنَّمَا سَمِعُوا قَوْلَ الْمُنْشِئ وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ فِي كِتَابَةِ الْحُدُودِ وَالصِّفَاتِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ هَكَذَا رَأَيْنَا الْكُتَّابَ وَالْوَرَّاقِينَ وَالشُّهُودَ يَفْعَلُونَ وَلَا يُحِيطُ عِلْمُهُمْ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالشُّهُودِ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ يَعْرِفُونَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَنَّ الدَّارَ الْفُلَانِيَّةَ وَالضَّيْعَةَ الْفُلَانِيَّةَ مِلْكٌ لِفُلَانِ وَلَوْ سُئِلُوا عَنْ تَحْرِيرِ حُدُودِهَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ وَلَمْ يُحَرِّرُوهُ وَلَا يَشْهَدُوهُ فَلَا يُكْتَفَى بِإِطْلَاقِ شَهَادَتِهِمْ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا بِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الصِّفَةِ وَالتَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَشْهُودًا بِهِ حَتَّى يَقُولُوا إنَّا نَشْهَدُ بِالْحُدُودِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ انْتِزَاعُهُ بِبَيِّنَةٍ أَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَمَتَى انْتَزَعْنَاهُ بِدُونِ بَيِّنَةٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» .
فَاَلَّذِي أَرَاهُ هُنَا فِي حُكْمِ الْفَرْعِ أَنَّ الْيَمِينِ هُنَا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُنْزَعُ وَلَا تُرْفَعُ يَدُهُ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ لِمَا قُلْنَا وَلِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْهَا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ أَمَسُّ فِي قَبُولِهَا خِلَاف وَالْكُتُبُ الْقَدِيمَةُ كَذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ قَدْ تَتَغَيَّرُ وَالْأَحْوَالَ قَدْ تَتَغَيَّرُ فَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الْقَدِيمِ فِي حَدٍّ نُقِلَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ قَدْ يَقْوَى بَعْضَ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ يَضْعُفُ لَكِنَّ مَقْصُودَنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي دَفْعِهِ مِنْ شَهَادَةٍ صَرِيحَةٍ حَتَّى يَكُونَ انْتِزَاعًا بِبَيِّنَةٍ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ طَرَأَ نَاقِلٌ لِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا فِي الْمِلْكِ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا وَفِي الْوَقْفِ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ مُبَادَلَةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهَا وَمِنْهَا أَنَّ الِاشْتِمَالَ عَلَى مَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ عُمُومٌ.
وَقَدْ يَكُونُ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ وَقُدِّمَتْ لِأَنَّهَا خُصُوصٌ وَتَكُون الْيَدُ مُسْتَنِدَةً إلَيْهَا وَالْخُصُوصُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعُمُومِ فَلَا يُكْتَفَى فِي رَفْعِ الْيَدِ الْخَاصَّةِ بِالْبَيِّنَةِ الْعَامَّةِ حَتَّى يُصَرَّحُ بِالْخُصُوصِ بَلْ أَقُولُ إنَّ الْيَدَ عَلَى الْبَعْضِ خُصُوصٌ وَالْبَيِّنَةَ بِالْكُلِّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ الْبَعْضِ عُمُومٌ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ دَلَالَةِ الْكُلِّ عَلَى أَجْزَائِهِ وَلَيْسَ بِعُمُومٍ فِي الِاصْطِلَاحِ لَكِنْ لِضَعْفِهِ يَصِيرُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ بِأَدَاةِ الْعُمُومِ لَا سِيَّمَا فِي الْحُدُودِ فَقَدْ كَثُرَ فِيهَا ذَلِكَ وَضَعُفَتْ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا يَتَمَسَّكُ مِنْ الْبَيِّنَةِ الَّتِي قَدْ تَقُومُ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّهَا رَافِعَةٌ لِلْيَدِ اهـ. كَلَامُ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ فَهَلْ مَا قَالَهُ مَعْمُولٌ بِهِ مُطْلَقًا أَوْ لَا وَفِيهِ تَفْصِيلٌ.
(الْجَوَابُ) مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ أَوَاخِرَ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَلَى مَسْأَلَةٍ ذَكَرهَا قَبْلَ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فِي فَتَاوِيهِ أَيْضًا وَقَالَ إنَّ بَيْنَهُمَا تَشَابُهًا وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ هِيَ قَوْلُهُ فَرْعٌ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى فِيهِ بِالْقَاهِرَةِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً تَتَبَّعَ كَثِيرًا فِي مَكَاتِيبَ أَقَرَّ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ مَثَلًا لِفُلَانٍ بِكَذَا وَتَذَيَّلَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ بِذَلِكَ وَهَمَ ذَاكِرُونَ لِلشَّهَادَةِ وَأَدَّوْهَا وَذَلِكَ الْمَكْتُوبُ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي نَسَبِ زَيْدٍ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي الْمَكْتُوبِ أَنَّهُ شَرِيفٌ حَسَنِيٌّ أَوْ حُسَيْنِيٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُ إثْبَاتَهُ وَيُقَال إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ ثَابِتٌ عَلَى الْقَاضِي الْفُلَانِيِّ فَهَلْ ذَلِكَ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَنَدًا صَحِيحًا فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إنَّمَا هُوَ إقْرَارٌ بِكَذَا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَهُوَ عَلَى حَالَيْنِ تَارَةً لَا يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ فَيَشْهَدُونَ بِحِلِّيَّتِهِ وَالْأَخْلَصُ حِينَئِذٍ أَقَرَّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ اسْمَهُ كَذَا وَعِنْدَ الْأَدَاءِ لَا يَشْهَدُونَ إلَّا عَلَى شَخْصِهِ فَهَذَا الْإِشْهَادُ فِيهِ نَسَبٌ وَتَارَةً لَا يَكْتُبُ الشُّهُودُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ وَهُوَ تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا لِأَنَّهُ قَدْ كَثُرَ ذَلِكَ وَعُرِفَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى تَسْمِيَةِ الشَّخْصِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَقُولُوا هُوَ مَعْرُوفٌ وَقَدْ تَطُولُ مُعَاشَرَةُ الْإِنْسَانِ لِآخَرَ وَلَا يَعْرِفُ نَسَبُهُ فَإِذَا شَهِدَا عَلَيْهِ اعْتَمَدَا عَلَى إخْبَارِهِ أَوْ إخْبَارِ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَهُ ظَنٌّ قَوِيٌّ يُسَوِّغُ لَهُ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ النَّسَبِ بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ اشْتَهَرَ بَيْن النَّاسِ بِالشَّرَفِ وَيُطْلِقُونَهُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَلَوْ سُئِلُوا بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالشَّرَفِ لَامْتَنَعُوا وَمَنْ
شَهِدَ مِنْهُمْ مُعْتَمِدًا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُخَلِّصْهُ إذْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى تَوَاتُرٍ وَلَا اسْتِفَاضَةٍ وَلَا رُكُونٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَلْ إلَى ظَنٍّ ضَعِيفٍ وَهُوَ مُسَوِّغٌ لِلْمُخَاطَبَةِ لَا لِلشَّهَادَةِ فَإِذَا رَأَيْنَا مَكْتُوبًا لَيْسَ مَقْصُودُهُ إثْبَاتَ النَّسَبِ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ غَيْرَهُ وَهُنَا بَحْثٌ نَذْكُرهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ} [التحريم: 11] الْآيَة.
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: 9] فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلْيَكُنْ قَوْلُنَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو كَذَا إخْبَارًا بِأَنَّهُ ابْنُ عَمْرٍو فَتَحْصُلُ الشَّهَادَةُ بِهِ فَتَقْتَضِي ثُبُوتَهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ دَلَالَةُ الْتِزَامٍ وَدَلَالَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْقَوْلِ دَلَالَةُ مُطَابِقَةٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهَا هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ لَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَأَمَّا الشُّهُودُ فَلَيْسُوا عَالِمِينَ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ فَإِنْ قَالُوا نَشْهَدُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْحُسَيْنِيِّ وَصَرَّحُوا بِالشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِ وَنِسْبَتِهِ رَجَعَ إلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمْ يُحْمَلُ كَلَامُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَالنَّسَبِ غَالِبًا وَإِنَّهُمْ إنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى أَدْنَى ظَنٍّ فَضَعُفَتْ الدَّلَالَةُ الِالْتِزَامِيَّة فِي كَلَامِهِمْ بَلْ لَوْ قَوِيَتْ لَمْ تُعْتَمَدْ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ إثْبَاتُهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَهُ الشَّاهِدُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً كَانَ أَوْ الْتِزَامًا فَافْهَمْ الْفَرْقَ بَيْن الْمَوْضِعَيْنِ. اهـ كَلَامُهُ مُلَخَّصًا وَهُوَ مَعْزُورٌ فِيهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْفَرْعَ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ وَإِنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ.
وَفِي مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بِرَأْيِهِ وَبِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَجِيبٌ مِنْهُ مَعَ سِعَةِ اطِّلَاعِهِ إذْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَحْضِرْ مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الْمُصَرَّحِ بِهَا فِي كَلَامِهِمْ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَا ابْنُهُ تَاجُ الدِّينِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ وَمَا يُشَابِهُهَا كَمَا قَالَ فِي مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ رَأْيٌ لَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَلِنُبَيِّنَ أَوَّلًا مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الْمَنْقُولَةِ ثُمَّ نُبَيِّنَ مَا هُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهَا مِنْ مَسْأَلَتَيْ الْحُدُود مُتَعَرِّضِينَ لِمَا فِي كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ نَقْدٍ وَرَدٍّ.
فَنَقُولُ قَالَ الْهَرَوِيُّ رحمه الله تبارك وتعالى فِي الْإِشْرَاقِ وَالْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِمْ مَا حَاصِلُهُ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَ فُلَانًا كَانَتْ شَهَادَةً بِالنَّسَبِ لِلْمُوَكَّلِ ضِمْنًا وَبِالتَّوْكِيلِ أَصْلًا لَتَضَمُّنِ ثُبُوتِ التَّوْكِيلِ الْمَقْصُودِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْمُوَكِّل لِغَيْبَتِهِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيلَ لَا كَمَا يَأْتِي وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ النِّسْبَةُ الْإِسْنَادِيَّةُ كَالنِّسْبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا نَائِمٌ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو نَائِمٌ لَا مَا يَقَعُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ كَبُنُوَّةِ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فِي هَذَا الْمِثَالِ وَيُفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ مَوْرِدَ الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا شَهَادَةٌ بِالتَّوْكِيلِ دُونَ نَسَبِ الْمُوَكِّلِ وَيَشْهَدُ لِلرَّاجِحِ عِنْدنَا وَهُوَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِهِمَا كَمَا مَرَّ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.
وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ يُقَال لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ لَك ذَلِكَ وَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةً هَكَذَا وَإِنَّهَا مَشْهُورَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْننَا وَبَيْنَ مَالِكٍ وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا وَافَقَ مَالِكًا وَأَنَّ الرَّاجِحَ مُخَالَفَتُهُ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْت ظَهَرَ لَكَ وَاتَّضَحَ أَنَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ وَمَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا الرَّأْيَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَنْقُولَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُوَ بِقَوْلِهِ فَرْعٌ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ وَبِمَا ذَكَرَهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ وَخِلَالَ مَسْأَلَتَيْ الْحُدُودِ وَأَنَّهُ لَوْ رَأَى مَسْأَلَةَ النَّسَبِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا لَمْ يَسَعْهُ مُخَالَفَتهَا وَلَمَّا أَجَابَ عَنْ إيرَادِهِ دَلِيلهَا عَلَيْهِ وَهُوَ {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] .
بِقَوْلِهِ إنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ دَلَالَةُ الْتِزَامِ إلَخْ وَإِذَا اتَّضَحَ
لَك ذَلِكَ وَإِنَّ الْمَنْقُولَ أَنَّ الشَّهَادَةَ الضِّمْنِيَّةَ كَالْمُطَابَقَةِ اتَّضَحَ لَك أَنَّ الشَّاهِدَ مَتَى قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ بِكَذَا أَقَرَّ بِهَا فُلَانٌ أَوْ بَاعَهَا فُلَانٌ أَوْ وَقَفَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ شَهَادَةٌ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْعَقْدِ أَصْلًا وَبِالْحُدُودِ ضِمْنًا فَنَقْبَلُ كُلًّا مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَيُعْمَلُ بِهِمَا وَبِتَأَمُّلِ قَوْلِهِمْ إنَّ الشَّهَادَةَ بِالْبُنُوَّةِ ضِمْنِيَّةٌ يَنْدَفِعُ قَوْلُ السُّبْكِيّ فِي أَوَاخِرِ مَسْأَلَةِ النَّسَبِ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الَّذِي يَقْصِدُ إثْبَاتَهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَهُ الشَّاهِدُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً كَانَ أَوْ الْتِزَامًا وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ مِنْ الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ فِي شَيْءٍ.
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الدَّلَالَةِ التَّضَمُّنِيَّةِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الدَّلَالَتَيْنِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ أَيْضًا جَوَابُهُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] وَيَظْهَرُ صِحَّةُ اسْتِدْلَالِهِمْ لِلرَّاجِحِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنُّبُوَّةِ مَقْصُودَةٌ أَيْضًا وَوَجْهُ دَلَالَتَهَا لِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ صُدُورُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالزَّوْجِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ فَوَصْفُهَا بِذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْخَبَرِ وَفَرْقُهُ بَيْنَ اللَّهِ وَالشُّهُودِ بِمَا مَرَّ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَا يُنْتِجُ مَا قَالَهُ وَيُرَدُّ مَا قَالُوهُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَظَرُوا إلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ مَعَ قَطْعِ النَّظَر عَنْ عِلْم الْمُتَكَلِّمِ وَكَوْنِهِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّة الَّتِي هِيَ وَضْعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا مَرَّ عَنْ النَّصَارَى وَتَكْذِيبُهُمْ فِي أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَلَوْلَا أَنَّ دَعْوَاهُمْ بُنُوَّتَهُ وَقَعَتْ فِي كَلَامِهِمْ مَقْصُودَةً لَمَا كَذَّبُوا إذْ التَّكْذِيبُ كَالتَّصْدِيقِ إنَّمَا يَكُونُ فِي النِّسَبِ الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ أَقَصَدْت مُطَابَقَةً أَمْ تَضَمُّنًا فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتَيْ النِّسَبِ.
وَالْحُدُودِ مِنْ النِّسَبِ الْخَبَرِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ ضِمْنًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا إذَا وَقَعَتْ فِي لَفْظِ الشَّاهِدِ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ نَعَمْ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَزِيدُ تَحَرٍّ وَضَبْطٍ وَمَعْرِفَةٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَتَسَاهَلُ بِإِطْلَاقِ الْبُنُوَّةِ وَالْحُدُودِ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ لَهُ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْعَاقِدِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُفِيدهُ ظَنًّا قَوِيًّا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ وَكَلَامُهُمْ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا هُنَا أَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْبُنُوَّةِ إلَّا أَنَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى دَالٌ عَلَى ذَلِكَ وَبِهَذَا انْدَفَعَتْ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ وَالْقَرَائِنُ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا السُّبْكِيّ وَجَعَلَهَا حُجَّةً لَهُ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْبُنُوَّةِ وَالْحُدُودِ.
وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا فِي الشَّاهِدِ تِلْكَ الصِّفَاتِ أَخْذًا مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ قَوِيَ الظَّنُّ بِقَبُولِ قَوْلِهِ الْمَقْصُودِ لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ وَإِذَا قَوَّى الظَّنُّ بِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ وَالْحُكْمُ بِهِ وَقَوْلُهُ لَا يَكُونُ مَشْهُودًا بِهِ حَتَّى يَقُولُوا إنَّا نَشْهَدُ بِالْحُدُودِ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَشْهُودٌ بِهِ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَأَنَّ الضِّمْنِيَّ فِي ذَلِكَ كَالْمَقْصُودِ فَتَأَمَّلْ مَا قُلْنَاهُ الْمُسْتَنِدَ إلَى مَا قَالُوهُ وَصَرَّحُوا بِهِ يَظْهَرْ لَك بِهِ رَدُّ جَمِيعِ مَا قَالَهُ وَاسْتَنَدَ إلَيْهِ ثُمَّ رَأَيْتُنِي اُسْتُفْتِيتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا لَفْظُهُ مَا قَوْلكُمْ فِي مُسْتَنَدِ لَفْظِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ جَمِيعَ الْعُزْلَةِ الَّتِي يَحُدُّهَا مِنْ الْمَشْرِقِ كَذَا وَمِنْ الْمَغْرِبِ كَذَا وَمِنْ الشَّامِ كَذَا وَمِنْ الْيَمَنِ الطَّرِيقُ الْمَسْلُوكُ اشْتِرَاءً صَحِيحًا شَرْعِيًّا.
ثُمَّ قَالَ شَاهِدُهُ لَمَّا تَكَامَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ لَدَى فُلَانٍ الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْهِ جَرَيَانُ عَقْدِ التَّبَايُعِ الْمَشْرُوحِ أَعْلَاهُ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ بِأَعَالِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ فِيهِ شِرَاءً صَحِيحًا شَرْعِيًّا وَحُكِمَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ حُكْمًا صَحِيحًا شَرْعِيًّا فَهَلْ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَدَّ الْيَمَنِيَّ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ أَوْ لَا فَأَجَبْت نَعَمْ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْحُكْمِ بِمَا ذُكِرَ فَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِنَظِيرِهِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَكَّلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ هَذَا فِي كَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ تَبَعًا لِلْوَكَالَةِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ مَنْ شَهِدَ بِثَمَنٍ فِي بَيْعٍ أَوْ مَهْرٍ فِي نِكَاحٍ كَانَ شَاهِدًا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِشَهَادَتِهِ إلَّا الْمَالَ اهـ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا إذَا شَهِدَا عِنْد الْحَاكِمِ بِجَرَيَانِ عَقْدِ التَّبَايُعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَحْدِيدِهِمَا لِلْمَبِيعِ بِمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً مِنْهُمَا بِأَنَّ الْحَدَّ الْيُمْنَى شَارِعٌ مَسْلُوكٌ فَإِذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَا بِهِ كَانَ حُكْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ شَارِعٌ اهـ فَإِنْ قُلْتَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْحُدُودِ وَمَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ
التَّوْكِيلَ مُتَضَمِّنٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ تَضَمُّنًا لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ تَوْكِيلِ فُلَانٍ إلَّا إنْ كَانَ ابْنُ فُلَانٍ لِأَنَّ الصُّورَةَ أَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ الْقَصْدَ انْتِهَاؤُهَا إلَى كَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُت كَذَا قُلْتُ هَذَا الْفَرْقُ خَيَالٌ بَاطِلٌ بَلْ هُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاء إذْ الْحُدُودُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْبَيْعِ أَيْضًا فَشَهَادَتُهُمَا بِبَيْعِ الْمَحَلِّ الْمَحْدُودِ بِكَذَا وَكَذَا شَهَادَةٌ بِأَنَّ الْمَبِيعَ يَنْتَهِي حَدُّهُ إلَى مِلْكِ فُلَانٍ فَمَتَى لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَان وَإِلَّا كَانَ الْحَدُّ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ عِلْمِهِ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ كَالدَّعْوَى التَّحْدِيدُ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ مَا لَمْ يَحْصُل شُهْرَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ فَظَهَرَ تَوَقُّفُ الْبَيْعِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ كَمَا أَنَّ الْوَكَالَةَ الْمَشْهُودَ بِهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْبُنُوَّةِ.
فَإِذَا قَالُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْبُنُوَّةِ فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْبَيْعِ الْمَذْكُورِ شَهَادَةٌ بِالْحُدُودِ بِلَا فَرْقٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ ثُمَّ رَأَيْتُ فِي فَتَاوَى السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ شَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى سَعْيَهُ مَا لَفْظُهُ مَسْأَلَةٌ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَاهَا مِنْ آخَرَ وَصُورَةُ مَكْتُوبِ الشِّرَاءِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ اشْتَرَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ مَا هُوَ بِيَدِهِ وَمِلْكِهِ يَوْمَئِذٍ وَكَتَبَ كُلٌّ مِنْ الشُّهُودِ وَشَهِدَتْ بِمَضْمُونِهِ وَشَهِدَ كَذَلِكَ عِنْد الْحَاكِمِ فَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي ثُبُوتِ الْمِلْك لِلْبَائِعِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ حَتَّى يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِهَا الْجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ فِيهَا عَنْ الزَّبِيلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَا تُثْبِتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ حِين بَاعَهَا قَالَ لِأَنَّ الْقَبَالَةَ مُكْتَتَبَةٌ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَشَهِدُوا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ مِلْكُ الْبَائِعِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ يَوْمَ بَاعَهَا كَانَتْ مِلْكًا لَهُ وَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ لَيْسَ فِي الْقَبَالَةِ وَأَمَّا إذَا شَهِدُوا بِنَفْسِ الصَّكِّ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ اهـ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ عَقِبَهُ وَهَذَا وَاضِحٌ وَيَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ قُضَاةِ عَصْرِنَا وَشُهُودِهِ بَلْ يَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْقَبَالَةُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ مِنْهُ بِالشَّهَادَةِ لِلْبَائِعِ بِالْمَلَكِيَّةِ.
وَيُرَتِّبُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ حُكْمَهُ غَفْلَةً عَنْ الْحَقَائِقِ اهـ قُلْتُ وَهَذَا شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِمَا فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ فِي ضِمْنِ فُرُوعِ عُمُومِ الْبَلْوَى بِاشْتِمَالِ كُتُبِ الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِهَا عَلَى حُدُودٍ قَالَ ثُمَّ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ وَيَطْلُبُ مِنَّا إثْبَاتُ أَنَّ الْحُدُودَ كَمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ قَالَ وَمَا فَعَلْتُهُ قَطُّ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِي الْبِيَعِ مَثَلًا هُوَ الْعَقْدُ الصَّادِرُ عَلَى الْمَحْدُودِ بِتِلْكَ الْحُدُودِ وَقَدْ لَا يَكُونُ الشَّاهِدُ عَارِفًا بِتِلْكَ الْحُدُودِ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ لَفْظَ الْعَاقِدِ وَالْحُدُودُ مَحْكِيَّةٌ عَنْ الْعَاقِدِ اهـ وَهُوَ جَيِّدٌ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ اهـ مَا فِي فَتَاوَى السَّمْهُودِيِّ وَإِطْلَاقِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ جَيِّدٌ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَكَأَنَّهُ هُوَ أَيْضًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسَبِ السَّابِقَةِ.
وَمَا ذَكَرَهُ الزَّبِيلِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ فَرَضَ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِمَا سَمِعَهُ الشَّاهِدُ أَنَّ مِنْهُمَا وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ صَرَّحَ الشَّاهِدَانِ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ ضِمْنًا كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُدُودِ فَهُمَا سَوَاءٌ انْتَهَتْ.
(وَسُئِلَ) رحمه الله سبحانه وتعالى عَنْ قَوْلِ الْمِنْهَاجِ وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ ابْنُ الْحُسَيْنِ الْمَدَنِيُّ فِي شَرْحِ تَكْمِلَةِ شَرْحِهِ يَعْنِي ولَا يَقْضِي الْقَاضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِلَا خِلَاف بَلْ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ عَمَّا ادَّعَاهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَتَلَهُ حَيٌّ أَوْ رَأَى غَيْرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَتْلَهُ أَوْ سَمِعَ مُدَّعِي الرِّقِّ قَدْ أُعْتِقَ وَمُدَّعِي النِّكَاحَ قَدْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ تَحَقَّقَ كَذِبُ الشُّهُودِ امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ وَكَذَا إذَا عَلِمَ فِسْقَ الشُّهُودِ إلَى آخِرِ كَلَامِ ابْن الْحُسَيْنِ الَّذِي يُحِيطُهُ عِلْمكُمْ فَهَلْ يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ بَلْ إمَامَ أَئِمَّةِ الْأَنَامِ الْمُحَكَّمُ كَالْحَاكِمِ فِي جَمِيع مَا ذُكِرَ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَإِذَا عَلِمَ الْمُحَكَّمُ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْرِي عَنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْمُدَّعَى بِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلهُ عَنْ سَبَبِهِ وَعَنْ سَبَبِ شَهَادَتِهِمْ كَمَا إذَا شَهِدُوا عَلَى زِنًا وَغَصْبٍ وَإِتْلَافٍ وَوِلَادَةٍ فَإِنَّهَا لَا تَتِمُّ شَهَادَتُهُمْ إلَّا بِالْإِبْصَارِ فَإِذَا شَهِدُوا فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحَكَّمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ هَلْ أَبْصَرُوا ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُبْصِرُوا ذَلِكَ وَإِذَا سَأَلَهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنُوا لَهُ الْإِبْصَارَ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى الشَّهَادَةِ فَهَلْ يَقْبَلهُمْ أَمْ لَا يَقْبَلهُمْ لِكَوْنِهِ خِلَافَ عِلْمِهِ وَهَلْ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي اُسْتُحِقَّ عَلَيْك كَذَا وَكَذَا وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهَلْ يَقْبَلُ الْمُحَكَّمُ
الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمُ بِالْمُدَّعَى أَوْ لَا يَقْبَلُهَا حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ لِكَوْنِهِ يَعْلَمُ أَيْ الْمُحَكَّمُ أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِحْقَاقَ أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِأَنَّ الْمُحَكَّمَ لَيْسَ كَالْحَاكِمِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي هِيَ وَاصِلَةٌ إلَيْكُمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ وَلَا بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَقَوْلُ السَّائِلِ فَإِذَا عَلِمَ الْمُحَكَّمُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الشَّاهِدَ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْتِحْقَاقِ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دِرْهَمًا مَثَلًا إذَا عَرَفَ سَبَبَهُ كَأَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَشَهِدَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ.
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي الدَّمِ أَشْهَرُهُمَا لَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي مَذْهَبِهِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أَسْبَابِهَا بَلْ وَظِيفَتُهُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مَا شَاهَدَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ ثُمَّ الْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَآهُ سَبَبًا رَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ.
وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ كَغَيْرِهِ بَعْد اطِّلَاعِهِ عَلَى النَّصِّ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَيُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الشَّاهِدَ عَنْ جِهَةِ الْحَقِّ إذَا لَمْ يَثِقْ بِشِدَّةِ عَقْلِهِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَاَلَّذِي يَتَّجِه حَمْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُوَافِقِ لِلنَّصِّ عَلَى شَاهِدٍ غَيْرِ فَقِيهٍ فَلَا يَكْتَفِي الْحَاكِمُ مِنْهُ بِإِطْلَاقِ السَّبَبِ وَالثَّانِي عَلَى فَقِيهٍ لَا يَجْهَلُ تَرَتُّبَ الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ شَهَادَتَهُ بِمُطْلَقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ يَجِبُ فِيهَا تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ كَأَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِعَيْنٍ ثُمَّ ادَّعَاهَا وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَوْ بِتَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا تُسْمَعُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُصَرِّحَ الْمُدَّعِي وَالْبَيِّنَة بِنَاقِلٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَكَالشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ عَلَى خِلَافٍ فِيهَا أَوْ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ بِأَنَّ نَظَرَ الْوَقْفَ الْفُلَانِيِّ لِفُلَانٍ أَوْ بِأَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ أَوْ بِبَرَاءَةِ الْمَدِينِ مِنْ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ أَوْ بِالرُّشْدِ أَوْ بِأَنَّ الْعَاقِدَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَائِلَ الْعَقْلِ فَيُبَيِّن زَوَالَهُ أَوْ بِالْجُرْحِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالرَّضَاعِ أَوْ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالْقَتْلِ أَوْ بِأَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّ الْحَالَ يَخْتَلِفُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ أَوْ بِأَنَّهُ بَلَغَ بِالسِّنِّ فَيُبَيِّنهُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بِمُطْلَقِ الْبُلُوغِ أَوْ بِأَنَّ فُلَانًا وَقَفَ دَارِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَصْرِفِ الْوَقْفِ بِخِلَافِهَا بِأَنَّ فُلَانًا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ فَإِنَّهَا تُسْمَعُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَصْرِفَ وَلَا الْمُوصَى بِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّفْصِيلُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهَا وَأَحْكَامِهَا وَيُلْحَقُ بِهَا فِي ذَلِكَ مَا يُشَابِهُهَا نَعَمْ لَوْ شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا جَازَ فَإِنْ سَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ هَلْ يَعْرِفَانِ عَيْنَهَا فَلَهُمَا أَنْ يَسْكُتَا أَوْ يَقُولَا لَا يَلْزَمُنَا الْجَوَابُ وَهَذَا فِي الشَّاهِدِ الضَّابِطِ الْعَارِفِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا وَتَلْزَمَهُمَا الْإِجَابَةُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(سُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا جَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَتُهُمَا بِلَادٌ لَيْسَ فِيهَا سُلْطَانٌ وَلَا قَاضٍ وَفِيهَا قَبَائِلُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ إلَّا الْقَلِيلُ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيد الْحُكْمَ بَيِّنَهُمْ أَنْ يَبْحَث عَنْ حَالِ الشُّهُودِ مِنْ عَدَالَةٍ وَفِسْقٍ أَمْ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ وَيَقْبَلُ مِنْهَا الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ.
أَجَابَ الْأَوَّلُ فَقَالَ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ وَلَا يُقْبَل إلَّا عُدُولٌ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ تبارك وتعالى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] .
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَقُرِئَ فَتَثَبَّتُوا دَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَشْهَدَ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْحُسَيْنِ فِي تَكْمِلَتِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِلْحَاكِمِ سَمَاعُ شَهَادَتِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرهُمَا قَالَ لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى حَرَامٍ وَالْإِعَانَةُ عَلَى حَرَامٍ حَرَامٌ وَلِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالْفَاسِقُ غَيْرُ عَدْلٍ وَلَا يُرْضَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى دِينِهِ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ لِدِينِهِ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لِغَيْرِهِ.
فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُسَّاقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَلْ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَبْيَنُ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ تَعَالَى
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَلَيْسَ الْفَاسِقُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ فَمَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ عز وجل وَعَلَيْهِ رَدُّ قَضَائِهِ فَإِنَّ الْفَاسِقَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ اعْتَقَدَ عَدَالَتَهُمَا نُقِضَ حُكْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْكَافِرِينَ اهـ وَعَلَّلَهُ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ الْأَزْرَقُ بِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ نَجْمَ الدِّينِ بْنَ الرِّفْعَةِ وَغَيْرَهُ قَالَ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْمَجْهُولِينَ قَبْلَ الْبَحْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالْمَجْهُولُ قَبْلَ الْبَحْثِ غَيْرُ مُرْضٍ وَنَقَلَ الشَّيْخَانِ عَنْ الْإِمَامِ الْهَرَوِيِّ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَنَقَلَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ وَالْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ أَنَّ رِوَايَةَ مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ لَا تُسْمَعُ بَلْ قَالَ الْإِمَامُ تَاجُ الدِّينِ ابْن الْإِمَامِ السُّبْكِيّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ رِوَايَتَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَرْدُودَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ عَنْ الْإِمَامِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَنَّ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ كَالصِّبَا وَالْكُفْرِ وَالْعَدَالَةِ تُعْرَفُ بِالتَّزْكِيَةِ اهـ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَلَا يَكْتَفِي الْقَاضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ حَتَّى يَعْرِفَ عَدَالَتَهُمْ الْبَاطِنَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ اهـ قَالَ الْإِمَامُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْإِشَارَاتِ لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ اهـ الْأَمْرُ الثَّالِثِ أَنَّ غَيْرَ الْقَاضِي يَعْسُرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا الْقَاضِي فَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْهَا قَالَ الشَّيْخَانِ وَإِذَا لَمْ يَعْرِف الْقَاضِي مِنْ الشُّهُودِ عَدَالَةً وَلَا فِسْقًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِزْكَاءِ وَالتَّعْدِيلِ قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ سَوَاء فِي ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ قَالَ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ إلَى الْحَاكِمِ دُونَ غَيْرِهِ اهـ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي يَعْتَذِرُ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُتَيَقَّنِ عَدَالَتُهُ الْأَمْرُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّزْكِيَةِ اعْتِبَارُ الْعِلْمِ بِالْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ وَأَسْبَابِهِمَا كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ ظَاهِرٌ فِي جَانِبِ التَّعْدِيلِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَدَالَةَ وَشُرُوطَهَا وَأَسْبَابَهَا وَمَوَانِعَهَا لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَشْهَدُ قَالَ وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ مَا يَعْتَمِدهُ كَثِيرٌ مِنْ حُكَّامِ الْعَصْرِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ مِنْ قَبُولِ التَّزْكِيَةِ مِنْ الْعَوَامّ الْمَقْبُولِينَ عِنْدهمْ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَيَبْنُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ خَيْرٍ يَظُنُّونَهُ بِالْمُزَكَّى وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَجْهَلُ مَعْرِفَةَ الْعَدَالَةِ وَأَسْبَابِهَا وَيَجْهَلُونَ اعْتِبَارَ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ قَالَ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ وَالسُّؤَالُ وَالِاسْتِفْسَارُ قَالَ وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُعَدِّلُ أَسْبَابَ الْفِسْقِ ظَنًّا بِمَا هُوَ فِسْقٌ لَيْسَ فِسْقًا فَيَعْدِل جَهْلًا اهـ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ
وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ الشَّيْخِ الْمَقْدِسِيِّ فِي الْإِشَارَاتِ الْعَامِّيُّ لَا يَعْرِفُ الْعَدْلَ مِنْ غَيْرِهِ اهـ وَمُعْظَمُ شَهَادَاتِ النَّاسِ يَشُوبُهَا جَهْلٌ وَغَيْرُهُ يُحْوِجُ الْحَاكِمَ إلَى الِاسْتِفْسَارِ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا كَذَا قَالَ الشَّيْخَانِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي مَوَاضِعَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَقَالَ إنَّهُ الْحَقُّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَلَعَمْرِي إنَّ أَكْثَرَ شُهُودَ عَصْرِنَا غَيْرُ مَرْضِيِّينَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةَ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عَصْرِهِ فَمَا ظَنُّك بِمَا بَعْدَهُ الْأَمْرُ الْخَامِسُ أَنَّ الْإِمَامَ ابْن عُجَيْل الْيَمَنِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سُئِلَ عَنْ أَهْلِ بِلَادٍ لَا يُقَسِّمُونَ لِلنِّسَاءِ مِيرَاثًا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَيُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْبَاطِلِ وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ الْعُدُولِ إلَّا نَاسٌ قَلِيلٌ فَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَوْ لَا؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ وَلَا يُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ وَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ الْفُسَّاقِ حَتَّى يُقَسِّمُوا لِلنِّسَاءِ مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يَرُدُّوا الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَاطِلِ حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ وَهُمْ فَسَقَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْفُسَّاقِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَزَوَالُ الدُّنْيَا عِنْد اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» اهـ جَوَابُهُ
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
بَعْد أَنْ رَأَى جَوَابَهُ هَذَا الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْأَمْرُ السَّادِسُ أَنَّ الْإِمَامَ شِهَابَ الدِّينِ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا كَلَامًا فِيمَا إذَا فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فِي شُهُودِ الْحَاكِمِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقَضَاءِ مِنْ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فَوَاتَ الْعَدَالَةِ لَا يُغَيِّرُ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالسِّتْرِ فِي شَاهِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَثَلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يَقَعُ غَالِبًا بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِّ وَفِي الْبَوَادِي وَالْقُرَى فَلَوْ كُلِّفُوا مَعْرِفَةَ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ لَطَالَ الْأَمْرُ وَشَقَّ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ الْمُزَكِّينَ وَمَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ جَوَابُ الْأَوَّلِ.
وَأَجَابَ الثَّانِي فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ رَأَوْا اغْتِفَار مَا يَغْلِبُ مُخَالَطَةُ النَّاسِ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُفَسَّقًا إذَا عُرِفَ صَاحِبُهُ بِالتَّصَوُّنِ عَنْ الْكَذِبِ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فَصَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَيَدُلُّ لَهُ تَصْحِيحُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ لِفِسْقٍ وَغَيْرِهِ مَعَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا حُرِّرَ مِنْ الْفِقْهِ حَتَّى صَرَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ صَحَّتْ قَطْعًا وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ الْحَقَّ.
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الطَّاعَةَ وَنَدَرَتْ الْمَعْصِيَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ عَدْلٌ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الصَّغَائِرَ فَهُوَ فَاسِقٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8]{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] فَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ وَالْغَلَبَةَ لِأَنَّ فِي النَّفْسِ دَوَاعِيَ الطَّاعَاتِ وَدَوَاعِيَ الْمَعَاصِي فَاعْتُبِرَ الْأَغْلَبُ وَهُوَ كَمَا يُعْتَبَر فِي الْمَاءِ إذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ وَفِي الرَّافِعِيِّ الْإِصْرَارُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْفِعْلِ لَكِنَّهُ قَالَ هَلْ الْمُدَاوَمَة عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ أَوْ الْإِكْثَارُ مِنْ الصَّغَائِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ فِيهِ وَجْهَانِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْجُمْهُورِ يُوَافِقُ الثَّانِيَ فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّا لَوْ كُلِّفْنَا الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لَحَصَلَ عَلَيْهِمْ الضَّرَرُ وَلَاِتَّخَذَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ ذَرِيعَةً حَتَّى يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَقَالَ سبحانه وتعالى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ سِيَّمَا أَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِيَ الدِّينِ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي بَابِ نَقْضِ الْكَعْبَةِ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ إذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ فِعْلِ الْمَصْلَحَةِ وَتَرْكِ الْمَفْسَدَةِ بُدِئَ بِالْأَهَمِّ وَقَالَ فِي بَابِ الْخَدِيعَةِ مِنْ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَاحْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ لِدَفْعِ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ إلَّا بِذَلِكَ اهـ. وَجَوَابُ الثَّانِي فَمَا الرَّاجِحُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ أَوَّلُهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ عِنْد الْحَاكِمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْعُدُول فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ قَلِيلِينَ أَوْ كَثِيرِينَ لِمَا ذَكَره الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ نَظَرٌ يُعْرَف لِلْمُتَأَمِّلِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَشْهَدَ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا إلَخْ فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَتَارَةً يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْحَقِّ وَإِنْ خَفِيَ فِسْقُهُ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَحْرِيمِ الْأَدَاءِ مَعَ الْفِسْقِ الْخَفِيِّ نَظَرٌ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ بِحَقِّ وَإِعَانَةٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْقَاضِي إذَا لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ يَتَّجِهُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْأَدَاءِ إنْقَاذُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ بُضْعٍ قَالَ وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِسْقِ الظَّاهِرِ بِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْخَفِيِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَبِالظَّاهِرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَصَرَّحَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِيهِمَا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ وَقَالَ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَنَقَلَ أَعْنِي الْأَذْرَعِيَّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مَا يُوَافِقهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ شَهِدَ أَبُو الْوَلَدِ لِوَلَدِهِ أَوْ الْعَدُوُّ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ الْفَاسِقُ بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ الْحَقِّ
وَالْحَاكِمُ لَا يَشْعُرُ بِمَانِعِ الشَّهَادَةِ فَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الْحَاكِمَ عَلَى بَاطِلٍ بَلْ عَلَى إيصَالِ حَقٍّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْخَصْمِ وَلَا عَلَى الشَّاهِدِ وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَا إذَا لَمْ يُجْمَع عَلَى فِسْقِهِ كَشَارِبِ النَّبِيذِ يَلْزَمهُ الْأَدَاءُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَاضِي يَرَى التَّفْسِيقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ بِهِ أَمْ لَا فَقَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ وَيَرَى قَبُولَهَا
وَقَضِيَّةُ الْعِلَّةِ عَدَمُ اللُّزُومِ إذَا كَانَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا لِمَنْ يَرَى التَّفْسِيقَ بِذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي صُورَةِ النَّبِيذِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَ مُقَلَّدِهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مِثْلِ ذَلِكَ بَعِيدٌ نَادِرٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنْ نَقْضِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِينَ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ كَالْأَصْحَابِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ نَقَضَ خَطَأَهُ فَكَانَ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ بَانَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ وَقَوْلُهُ الْأَمْرُ الثَّانِي لِأَنَّ الْإِمَامَ نَجْمَ الدِّينِ ابْنَ الرِّفْعَةِ إلَخْ عَجِيبٌ مِنْهُ نَقْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ الْكَثِيرَةِ فِي كَلَامِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ أَنَّهُ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْأَصْحَابِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بَلْ وَقَعَ لَهُ رَدُّ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ عَنْ الْإِسْنَوِيِّ وَالْأَذْرَعِيِّ عَنْ ابْنِ الرِّفْعَة ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ بِبَلْ إلَى بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا مِنْ التَّهَافُتِ فِي الْوَضْعِ مَا لَا يَخْفَى وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ الثَّانِي فَكَلَامٌ وَاهٍ سَاقِطٌ ضَعِيفٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إمَّا بَاطِلٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ بِصِحَّةِ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ لِلْفَاسِقِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَقَدْ نَقَلَ مُحَقِّقُو الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يُفْهِمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاعْتَمَدُوهُ حَيْثُ قَالُوا لَوْ تَعَذَّرَ جَمِيعُ شُرُوطِ الْقَضَاءِ فَوَلَّى الْإِمَامُ فَاسِقًا أَوْ مُقَلِّدًا جَازَ لِلضَّرُورَةِ وَسَكَتُوا عَنْ نَظِيرِهِ فِي الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَا لَوْ رَتَّبَ الْإِمَامُ شُهُودًا فِيهِمْ جَارِحُ الْفِسْقِ أَوْ غَيْرِهِ وَفِي قَوَاعِدِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَوْ فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فِي شُهُودِ الْحَاكِمِ فَهَذَا فِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَصْلَحَةِ الْمُدَّعِي مُعَارِضَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَمِ وَالْأَبْدَانِ وَالظَّاهِرُ مِمَّا فِي الْأَيْدِي أَنَّهُ لِأَرْبَابِهَا وَلَا يَلْحَقُ بِتَنْفِيذِ وِلَايَةِ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضَةِ الْمَذْكُورَةِ. اهـ.
فَتَأَمَّلْ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُهُ مِنْ الْفَرْقِ تَجِدهُ رَدًّا فِيمَا ذَكَره الْمُجِيبُ الثَّانِي وَقَوْلُهُ إنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَعَدَمِ إتْقَانِهِ بِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى غَلَبَةِ الطَّاعَاتِ أَوْ الْمَعَاصِي أَوْ اسْتِوَائِهِمَا إلَّا إذَا لَمْ تُوجَدْ كَبِيرَةٌ بِأَنْ وُجِدَتْ صَغَائِرُ أَوْ صَغِيرَةٌ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا فَإِنْ غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَيُعَدَّلُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ تِلْكَ الصَّغَائِرِ وَإِنْ لَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ فَغَيْرُ عَدْلٍ لِأَنَّ غَلَبَةَ الْمَعَاصِي حِينَئِذٍ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ فَزَالَتْ بِهِ الْعَدَالَةُ وَأَمَّا إذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَإِنَّهُ يَصِيرُ فَاسِقًا وَإِنْ غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيه لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْكَبِيرَةِ مُزِيلٌ لِلْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى غَلَبَةِ طَاعَاتِهِ أَوْ عَدَمِهِ وَأَمَّا اسْتِدْلَاله بِمَا ذَكَره فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ وَبِكَلَامِ شَرْحِ مُسْلِمٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِمَا مَرَّ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ تَعَارُضُ مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ وَإِنَّمَا فِيهِ تَعَارُضُ مَصْلَحَتَيْنِ - وَلَا مُرَجِّحَ فَلَا يُعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ وَتَرَكْنَا الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَاءِ الْحُقُوقِ فِي أَيْدِي أَرْبَابِهَا وَعَمِلْنَا بِالْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي ذَلِكَ وَبَرَاءَةِ الذِّمَمِ وَنَحْوِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّا لَوْ أَوْصَى شَخْصٌ لِآخَرَ بِشَيْءٍ فَادَّعَى عَصَبَةُ الْمُوصِي الرُّجُوعَ وَأَقَامُوا شَاهِدًا بَعْد أَنْ أَقَامَ الْمُوصَى لَهُ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَصَبَةِ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ الْعَصَبَةِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ إخْوَةٌ حَتَّى تَكْمُلَ الْحُجَّةُ وَتُرَجَّحَ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تبارك وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ إنَّ عَصَبَةَ الْمُوصِي إنْ كَانُوا وَرَثَةً لَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِذَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَانِ بِالرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الرُّجُوعِ لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ وَالْأُخْرَى مُسْتَصْحَبَةٌ أَوْ قَالَتْ الْأُخْرَى شَاهَدْنَاهُ بَعْد الْوَصِيَّةِ تَكَلَّمَ أَوْ فَعَلَ مَا يَكُون رُجُوعًا تَعَارَضَتَا وَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُسْتَوْدَعٍ مَأْذُونٍ لَهُ مِنْ الْمُودِع
فِي دَفْعِ الْوَدِيعَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَطَلَبَ الشَّخْصُ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُسْتَوْدَع فِي غَيْبَةِ الْمُودِعِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً لَهُ بِالْإِذْنِ عِنْد حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ وَلَدُ الْمُسْتَوْدَعِ وَأَجْنَبِيُّ وَقَبِلَهُمَا الْحَاكِمُ وَحَكَمَ بِالدَّفْعِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ بَعْدَ الدَّفْعِ وَأَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ فَأَقَامَ الْمُسْتَوْدَعُ الْبَيِّنَةَ الْمَحْكُوم بِهَا فَهَلْ تُقْبَلُ وَيَبْرَأُ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ الْوَدِيعَةِ بَعْد إنْكَارِ الْإِذْنِ مِنْ الْمُودِعِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ أَمْ لَا أَمْ كَيْف الْحَالُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِأَنَّ الْوَدِيعَ كَانَ هُوَ الْمُقِيمَ لِلْبَيِّنَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ تُقْبَل لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَهُ بِمَا يَدَّعِيه عَلَى الْمُودِعِ مِنْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ لَهَا غَيْرَ الْوَدِيعِ كَأَنْ ادَّعَى الْمَأْذُونُ لَهُ الْإِذْنَ وَأَنْكَرَهُ الْوَدِيعُ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ الْمَذْكُورَةَ قُبِلَتْ وَجَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا وَلَا نَظَرَ حِينَئِذٍ إلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا وَلَدُهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَلَا نَظَرَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَرَاءَةِ الْوَدِيعِ بِهَذَا الدَّفْعِ إذَا حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْإِذْنَ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُدَّعَى بِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِمَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرِهِمَا.
وَالْعِبَارَةُ لِلرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَبْدٌ فِي يَدِ زَيْدٍ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ عَمْرٌو مِنْ زَيْدٍ صَاحِبِهِ وَقَبَضَهُ وَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَأَنْكَرَ زَيْدُ جَمِيعَ ذَلِكَ فَشَهِدَ ابْنَاهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا يَقُولهُ حَكَى الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَيْنِ أَحَدَهُمَا رَدّ شَهَادَتهمَا لِتَضَمُّنِهَا إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِأَبِيهِمَا وَأَصَحُّهُمَا الْقَبُولُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ الْمُدَّعِي وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا. اهـ. فَتَأَمَّلْ تَعْلِيلَ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الْأَصَحُّ بِمَا ذُكِرَ تَجِدهُ نَصًّا فِي مَسْأَلَتِنَا وَتَأَمَّلْ تَعْلِيلَ الْقَوْلِ الضَّعِيفِ بِتَضَمُّنِهَا إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِأَبِيهِمَا تَعْلَمْ أَنَّ الصَّحِيحَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَلَا يُنْظَر لِتَضَمُّنِهَا مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالشَّهَادَةِ وَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ ابْنِ الْوَدِيعِ وَأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَرَاءَتُهُ إذَا أَنْكَرَ الْمُودِعُ الْإِذْنَ وَلَا نَظَرَ لِهَذَا التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالشَّهَادَةِ فَإِنْ قُلْتَ هَلْ مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّصْوِيرِ قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْقَبُولِ قُلْتُ لَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَقِبَهُ لَا يُحْتَاجُ عِنْدِي لِهَذَا التَّصْوِيرِ بَلْ لَوْ ادَّعَى عَلَى زَيْدٍ أَنَّهُ بَاعَهُ فَشَهِدَ ابْنَاهُ قُبِلَتْ شَهَادَتَهُمَا. اهـ. وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ مَسْأَلَتِنَا إيضَاحًا كَمَا هُوَ جَلِيٌّ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَرَاءَةُ الْوَدِيعِ قَوْلُهُمْ مَحَلُّ عَدَم قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ضِمْنًا فَإِنْ كَانَ قُبِلَتْ كَمَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ نَسَبَ وَلَدٍ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ أَجْنَبِيٌّ وَأَبُو الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إقْرَارِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَبِ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ الشَّهَادَةُ لِحَفِيدِهِ
ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَتَاوِيهِ وَأَقَرَّهُ الْأَذْرَعِيُّ أَيْضًا وَالزَّرْكَشِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرُهُمَا وَمَنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْقَاضِي شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رَوْضَتِهِ إذَا شَهِدَ عَلَى مَوْلَى أُمِّهِمَا أَنَّهَا أَعْتَقَتْهُ عَلَى أَلْفٍ سُمِعَتْ فِي الْعِتْقِ وَهَلْ تُسْمَعُ فِي الْأَلْفِ فِيهِ قَوْلَانِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ أَمْ أَنْكَرَتْ. اهـ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ هَكَذَا وَقَالَ صَاحِبُهُ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِشْرَافِ وَأَنَا قَدْ بَيَّنْتُ أَنَّهُ يُفْصَلُ بَيْن مَا لَوْ سَبَقَ مِنْهُمَا الدَّعْوَى أَوْ لَمْ يَسْبِق عَلَى مَا حَكَيْته عَنْ الْإِمَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. اهـ. قَالَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهَا إذَا ادَّعَتْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِالْأَلْفِ شَهَادَةً لَهَا بِمَالٍ قَصْدًا لَا ضِمْنًا إذْ الْأَمْرُ الضِّمْنِيّ لَا يَمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ بِهِ لِلْوَلَدِ أَوْ لِلْوَالِدِ قَالَ الشَّيْخَانِ رَحِمهمَا اللَّهُ تَعَالَى وَغَيْرهمَا وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الْقَبُولَ يُحْوِجُهُ إلَى اللِّعَانِ وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ فَشَهَادَتُهُمَا تَجُرُّ نَفْعًا إلَى أُمِّهِمَا وَأَظْهَرهُمَا الْقَبُولُ وَلَا عِبْرَةَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَرِّ لِأَنَّهُ ضِمْنِيٌّ لَا مَقْصُودٌ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ أُمُّهُمَا تَحْتَهُ وَقَدْ شَهِدَ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الضَّرَّةِ وَإِلَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا قَطْعًا لِضَعْفِ جَرِّ النَّفْعِ إلَى الْأُمِّ فِي الثَّانِيَةِ وَعَدَمِهِ فِي الْأُولَى وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ طَلَاقَهَا فِي زَمَنٍ سَابِقٍ لِيُسْقِطَ بِمَا يَدَّعِيه عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَةً مَاضِيَةً وَنَحْوِهَا أَوْ أَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ فَشَهِدَا لَهُ ابْنَاهُ لَمْ يُقْبَلَا قَطْعًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ وَتَقَعُ
قَطْعًا
وَأَفْهَمُ تَقْيِيدَهُمْ عَدَمَ الْقَبُولِ بِدَعْوَى الْأَبِ أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ حِسْبَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَزِمَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ ضِمْنِيٌّ لَا مَقْصُودٌ وَهُوَ مُتَّجَهٌ نَظِيرُ مَا مَرَّ قَالَ الشَّيْخَانِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا وَلَوْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ فَشَهِدَ ابْنَاهَا لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ شَهِدَا حِسْبَةً قُبِلَا وَكَذَا فِي الرَّضَاعِ. اهـ. وَقَضِيَّةُ كِلَامِهِمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ عَلَى أَبِيهِمَا أَوْ عَلَى زَوْجٍ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا حِسْبَةً لِأَنَّ ذَلِكَ إزَالَةُ رِقٍّ عَنْ الْأُمِّ وَذَلِكَ نَفْعٌ إلَّا أَنْ يَتَمَشَّى هَذَا خَاصَّةً إذَا كَانَتْ الْأُمُّ مَنْكُوحَةً لِغَيْرِ الْأَبِ ضَعِيفٌ قَالَا أَيْضًا وَلَوْ شَهِدَ الْأَبُ مَعَ ثَلَاثَةٍ عَلَى امْرَأَةِ ابْنِهِ بِالزِّنَا فَإِنْ سَبَقَ مِنْ الِابْنِ قَذْفٌ فَطُولِبَ بِالْحَدِّ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِدَفْعِهِ لَمْ يُقْبَل وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ وَشَهِدَ الْأَبُ حِسْبَةً قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَنْبَغِي بَعْدَ ذَلِكَ التَّوَقُّفُ فِيهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا ادَّعَى وَرَثَةُ مَيِّتٍ أَنَّهُ أَبَانَ زَوْجَتَهُ وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ مَعَ أَيْمَانِهِمْ وَتُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ قِيَاسًا عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْغَزَالِيُّ وَقَرَّرَهُ الشَّيْخَانِ رَحِمهمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَوْ ادَّعَتْ نِكَاحَ فُلَانٍ الْمَيِّت وَطَلَبَتْ الْإِرْثَ مِنْهُ حَيْثُ قَالُوا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ وَكَذَا لَوْ ادَّعَى وَارِثُهَا ذَلِكَ بَعْد مَوْتِهَا هَلْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بَيِّنُوا الرَّاجِحَ عِنْدكُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَأَمْعِنُوا النَّظَرَ فِي الْعِلَلِ وَالْمَدَارِكِ جَزَاكُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنَّا وَعَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ لَكُمْ أَجْرًا وَزَادَكُمْ بِالْعِلْمِ فَخْرًا وَلَا عَسَّرَ عَلَيْكُمْ أَمْرًا آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ؟
(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ فِيهِ غَيْرُ بَعِيدٍ فَإِذَا حَلَفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ مُنِعَتْ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ وَاحِدٌ بِبَيْعٍ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ هَلْ تُلَفَّقُ الشَّهَادَتَانِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ بِبَيْعٍ مَثَلًا وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ تُلَفَّق الشَّهَادَتَانِ نَعَمْ لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا وَشَهِدَ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ الْأَمْرَيْنِ.
(وَسُئِلَ) رحمه الله إذَا شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّ مَالَ فُلَانٍ وَقْفٌ بِالسَّمَاعِ وَلَمْ يُبَيِّنُوا الْمَصْرِفَ هَلْ تَصِحُّ تِلْكَ الشَّهَادَةُ أَمْ لَا حَتَّى يُبَيِّنُوا الْمَصْرِفَ وَهَلْ تُسْمَعُ دَعْوَى وَقْفِ أَبُونَا هَذِهِ الْأَرْض وَلَمْ يَقُولُوا عَلَيْنَا مَثَلًا أَوْ حَتَّى يَقُولُوا عَلَيْنَا وَقَوْلُ الْقَائِلِ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ فُلَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ أَمْ حَتَّى يُبَيِّنَ الثَّمَنَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْوَقْفِ عَلَى بَيِّنَةِ الْمِلْكِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ وَلَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِبَيِّنَةِ الْوَقْفِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ غَيْرُ مُرَجِّحٍ وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ بِالْوَقْفِ إلَّا مَعَ بَيَانِ مَصْرِفِهِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِ ثَمَنِهِ وَتُقَدَّمَ بَيِّنَةُ الْإِثْبَاتِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ ادَّعَتْ فَسَادَ النِّكَاحِ لِصِغَرِهَا وَادَّعَى الزَّوْجُ بُلُوغَهَا بِالْحَيْضِ مَا كَيْفِيَّةُ صُورَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحَيْضِ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَدَّعِي حِسْبَةً بِشَيْءٍ ثُمَّ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَأَيْضًا شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ تُشْتَرَطُ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ بِالْحَيْضِ وَقَوْلُهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُرَادُهُمْ بِهِ التَّعَسُّرَ فَإِنَّ مَا يُرَى قَدْ يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا جَزَمَ الشُّهُودُ بِأَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ بِأَنْ احْتَفَّ بِقَرَائِنَ وَأَمَارَاتٍ يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِمْ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَيْضٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا تِلْكَ الْأَمَارَاتِ بَلْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهَا فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَا يَلْزَمنَا الْجَوَابُ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ وَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَدَّعِي حِسْبَةً ثُمَّ يَشْهَدُ لَأَنْ دَعْوَى الْحِسْبَةِ لَا يَتَوَقَّفُ الْأَمْرُ عَلَيْهَا فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهَا.
فَاَلَّذِي رَجَّحَهُ الْإِسْنَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْعِرَاقِيِّينَ الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَتِهَا بَلْ أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ سَمَاعُهُمَا وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ مَحْضِ حُقُوقِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي سَمَاعِهَا وَالْمُعْتَمَدُ سَمَاعُهَا إلَّا فِي مَحْضِ حُدُودِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا يُفِيدهُ قَوْلُهُمْ
لَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ حَتَّى يَقُولَ شُهُودُهَا ابْتِدَاءً لِلْقَاضِي نَشْهَدُ بِكَذَا عَلَى فُلَانٍ فَأَحْضِرْهُ لِنَشْهَدَ عَلَيْهِ. اهـ.
فَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ إلَّا فِي حَضْرَتِهِ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ بِشَرْطِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) فِي أَمْرِ السُّلْطَانِ لِلْقُضَاةِ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لَوْ أَتَى بِجَرْحِ الشُّهُودِ بَعْد ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا تَقْبَلُوا ذَلِكَ بَعْد الْحُكْمِ أَمْ شُهُود الْجَرْحِ تُقْبَلُ لِمَا ذُكِرَ وَلَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ وَهَلْ لَوْ احْتَجَّ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ بِأَنَّ تَجْوِيزَ قَبُولِ الْجَرْحِ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ أَحْكَامٍ مُتَقَدِّمَة الْقَبُولِ أَمْ لَا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ وَلَوْ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَلَا نَظَر إلَى أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ أَحْكَامٍ مُتَقَدِّمَةٍ لِأَنَّا لَا نَقْبَلُ بَيِّنَةَ الْجَرْحِ إلَّا بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي مَحِلِّهَا فَإِذَا وُجِدَتْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَبَانَ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهَا وَمَتَى أَلْزَمَ السُّلْطَانُ الْقُضَاةَ بِمَا ذُكِرَ أَطَاعُوهُ خَوْفًا مِنْ شَقِّ الْعَصَا.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا حَقِيقَةُ النَّرْدِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَته بِقَوْلِهِ فَصٌّ أَوْ فُصُوص مِنْ نَحْو عَظْمٍ أَوْ خَشَبٍ فِيهَا نَقْطٌ تُطْرَحُ عَلَى لَوْحٍ فِيهِ بُيُوتٌ لِكُلِّ نُقْطَةٍ بَيْتٌ يُعْرَفُ بِهَا كَيْفِيَّةُ اللَّعِبِ وَهَذَا مَعَ أَنِّي لَمْ أَرَهُ أَخَذْتُهُ مِنْ قَوْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَضَعَهُ سابرزن ثَانِي مُلُوكِ السَّاسَانِ وَلِأَهْلِهِ يُقَال لَهُ النَّرْدَشِيرَ وَشَبَّهَ رُقْعَتَهُ بِالْأَرْضِ وَقَسَّمَهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ تَشْبِيهًا بِالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ اهـ لَهُ وَمِنْ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقِيلَ إنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْبُرُوجِ الِاثْنَا عَشَرَ وَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ لِأَنَّ بُيُوتَهُ اثْنَا عَشَرَ وَنَقْطُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَصِّ يُتْبَعُ كَالْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ يَعْدِلُ بِهِ إلَى تَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَالْبُرُوجِ اهـ لَهُ وَمِنْ فَرْقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشِّطْرَنْج بِأَنَّ التَّعْوِيلَ فِي النَّرْدِ عَلَى مَا يُخْرِجهُ الْكَعْبَانِ فَهُوَ كَالْأَوْرَامِ وَفِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَأَنَّهُ يَنْفَعُ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَعَبَّرَ الزَّرْكَشِيُّ بَدَلَ الْكَعْبَيْنِ بِالْفُصُوصِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَسَخَ كِتَابًا وَأَعَانَهُ آخَرُونَ فِي نَسْخِهِ قَلِيلًا هَلْ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي آخِرِهِ كَتَبَهُ فُلَان يَعْنِي نَفْسَهُ أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذِبًا لِكَوْنِهِ لَمْ يَكْتُبهُ كُلَّهُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ كَتَبَهُ فُلَانٌ مُرِيدًا بِهِ غَالِبه وَلَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَيْسَ مِنْ الْكَذِبِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِك جِئْتُكَ مِائَة مَرَّةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْهِيم الْمُبَالَغَةِ لَا الْمَرَّاتِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْكَذِبِ حِينَئِذٍ وَإِذَا جَازَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مَثَلًا بِمِائَةِ مَرَّةٍ مُبَالَغَةً فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكْتُبَ فِي كِتَابٍ كَتَبَ بِيَدِهِ أَكْثَرَهُ كَتَبَهُ فُلَانٌ بِالْأَوْلَى، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - شَاهِدٌ يَظْهَر عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ مَعَ فِسْقِهِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَته بِقَوْلِهِ لَا تُقْبَل فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ رَأَيْتُ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ لَمْ أَقْبَلْهُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ بِدْعَتِهِ ذَكَره أَبُو نُعَيْمٍ وَقَدْ تَظْهَرُ الْكَرَامَةُ عَلَى يَدِ فَاسِقٍ بَلْ كَافِرٍ كَالسَّامِرِيِّ فَإِنَّهُ رَأَى فَرَسَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَخَذَ مِنْ تُرَابِ حَافِرِهِمَا وَجَعَلَهُ فِي الْعِجْلِ فَخَارَ وَنَقَلَ ابْنُ الْعِمَادِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إخْفَاءُ الْكَرَامَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَرَحَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْأُخْرَى فَهَلْ تُسْمَعُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ مَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَحْرِ أَنَّهَا تُسْمَعُ وَأَفْتَى بِهِ جَمْعٌ يَمَنِيُّونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تُسْمَعُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِذَا بَادَرْت بَيِّنَةٌ وَشَهِدَتْ بِفِسْقِ الْأُخْرَى قُبِلَتْ فَإِنْ شَهِدَتْ الْمَشْهُودُ بِفِسْقِهَا بِفِسْقِ الشَّاهِدَةِ لَمْ تُقْبَلُ لِثُبُوتِ جَرْحِهَا فَلَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ رَآهَا مُسْفِرَةً فَهَلْ يُقْبَل؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ لِلرُّويَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ احْتِمَالَانِ رَجَّحَ مِنْهُمَا عَدَمَ الْقَبُولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَتْرُ وُجُوهِهِنَّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الصَّرْفِ عَلَى عِمَارَةِ دَارٍ فِي
مِلْكٍ أَوْ وَقْفٍ هَلْ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ تَفْصِيلُ مَا صُرِفَ فِي ثَمَنِ أَحْجَارٍ وَخَشَبٍ وَأُجْرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَا صُرِفَ فِي أَحْجَارِ كَذَا وَفِي خَشَبِ كَذَا وَفِي أُجْرَةِ كَذَا وَكَذَا إلَخْ أَوْ يَكْفِي قَوْلُهُمَا أَنَّهُ صُرِفَ فِي عِمَارَةِ هَذِهِ الدَّارِ وَكَذَا وَكَذَا مُبْهَمًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَكْفِي فِي الشَّاهِدَيْنِ بِعِمَارَةِ أَنْ يَقُولَا صُرِفَ فِي الْعِمَارَةِ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُفَصِّلَاهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا حُكْمُ كَتْبُ الْوَثَائِقِ لِلذِّمِّيِّينَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ كَتْبُ الْوَثَائِقِ لِلذِّمِّيِّينَ لَكِنْ لَا يُعَظَّمُونَ فِيهَا بِأَلْقَابٍ وَلَا بِكُنًى وَلَا بِغَيْرِهِمَا بَلْ يُقَالُ اشْتَرَى مَثَلًا فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ الذِّمِّيِّ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ شَخْصٍ وَضَعَ خَطَّهُ بِشَهَادَةٍ فِي مَالٍ لِشَخْصٍ آخَرَ وَسَمِعَ شَخْصًا يُشْهِدُ شُهُودًا أَوْ يُثْبِتُ مَالًا عِنْد حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ فِيهِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَم أَوْضِحُوا لَنَا ذَلِكَ أَثَابَكُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْجَنَّةَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ مُجَرَّدُ الْخَطِّ وَالسُّكُوتِ مَعَ حُضُورِ مَا ذُكِرَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ مِمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فَلَهُ الدَّعْوَى بِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سُؤَالًا صُورَتُهُ سَبَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الشُّهُودَ فَهَلْ يُعَزَّرُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّه سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ نَعَمْ يُعَزَّرُ إنْ سَبَّهُمْ بِالْكَذِبِ وَنَحْوه لِائْتِمَانِ الشَّارِعِ لَهُمْ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُهُمْ إذَا سَبَّ الشُّهُودَ زَجْرَهُ الْقَاضِي ثُمَّ هَدَّدَهُ ثُمَّ عَزَّرَهُ أَمَّا سَبُّهُمْ بِذِكْرِ مُفَسِّقٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ زِنًا فَلَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَغِيبُ أَوْ تُنْسَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ السَّبُّ بَلْ دَفْعُ الْحُجَّةِ قِيلَ وَيُعَزَّرُ عَلَى تَفْسِيقِهِمْ بَعْد الْحُكْمِ لِأَنَّهُ سَبٌّ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الشَّارِعُ. اهـ.
وَفِي إطْلَاقِهِ نَظَرٌ بَلْ حَيْثُ أَرَادَ إقَامَةَ بَيِّنَةٍ بِهِ لَمْ يُعَزَّرْ عَلَيْهِ لِقَبُولِهَا بِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا فُقَهَاءُ زَبِيدَ وَهِيَ إذَا سَبَقَ لِسَانُ الشَّاهِدِ بَيْنَ يَدَيَّ الْقَاضِي إلَى خِلَافِ التَّارِيخِ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سَنَة ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةِ فَقَالَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْغَلَطِ إلَى الصَّوَابِ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي شَهَادَتِهِ أَوْ لَا بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا لَا عَدِمَكُمْ الْمُسْلِمُونَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي شَهَادَتِهِ حَيْثُ تَدَارَكَهَا فَوْرًا أَوْ بَعْد نَوْعِ مُهْلَةٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْقَاضِي نَوْعُ رِيبَةٍ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ كُلِّهِ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ فَمَنْ بَعْدِهِمْ مِنْهُمْ الْقَاضِي حُسَيْن - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ إذَا ادَّعَى عَيْنًا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِلْكَهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا مِلْكَهُ وَرِثَهَا مِنْ أُمِّهِ فَالْأَظْهَر أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا وَقِيلَ تُقْبَلُ وَيَقْضِي بِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْمِلْك وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ زَائِدٍ فَلَوْ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا بَعْد ذَلِكَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهِدَا بِأَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ مَثَلًا أَوْ شَهِدَا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا قَالَ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَ لِلْقَاضِي رِيبَةٌ كَمَا إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ قُبِلَ وَقُضِيَ بِهِ قَالَ شَارِحُ الْأَنْوَارِ.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ بِالْأَوْلَى قَبُولُ الشَّهَادَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَهُمَا إذَا تَدَارَكَ ذَلِكَ فَوْرًا لِأَنَّ تَدَارُكَهُ فَوْرًا قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ جِدًّا عَلَى سَبْقِ لِسَانِهِ أَوْ بَعْدَ مُهْلَةٍ قُبِلَ الْحُكْمُ وَلَمْ يَقَع لِلْقَاضِي رِيبَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ لَهُ رِيبَةٌ فِيهِ وَمِنْهُمْ الْقَفَّالُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ أَيْضًا لَوْ ذَكَر حُدُودًا فَشَهِدُوا لَهُ بِهَا ثُمَّ جَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّ الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْحُدُودِ وَسَأَلَ الشُّهُودَ فَإِنْ قَالُوا غَلِطْنَا نُظِرَ فَإِنْ بَيَّنُوا وَجْهَ غَلَطِهِمْ بِأَنَّا رَأَيْنَا تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي بِجَنْبِهِ بِيَدِ فُلَانٍ فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَحَدَّدْنَا هَذِهِ الدَّارَ بِتِلْكَ وَكَانَ مِثْله مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الشَّهَادَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَلَا يُحْكَمُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ أَوَّلًا. اهـ.
فَانْظُرْ قَوْلَهُ وَكَانَ مِثْلُهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَإِطْلَاقُ الرَّافِعِيِّ النَّقْل عَنْهُمْ أَنَّهُمْ إذَا أَخْطَئُوا فِي حَدٍّ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ كَمَا عَلِمْت لِأَنَّ النَّقْلَ إنْ كَانَ عَنْ فَتَاوِيه فَوَاضِحٌ إذْ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا التَّفْصِيلُ أَوْ عَنْ غَيْرِهَا فَالْغَالِبُ
تَقْدِيمُ مَا فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِتَحْرِيرِهِ أَكْثَرُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَذْهَبِ بِخِلَافِ مَا فِي الْمُصَنَّفِ فِيهِمَا وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا غَيَّرَ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ فَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيهَا نَصٌّ.
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَحْكُم الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ فَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ وَقَدْ يَسْهُو ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْد ذَلِكَ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ. اهـ.
قَالَ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَبُوله إذَا نَقَصَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لِلْقَاضِي دَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِهِ. اهـ. وَقَوْلُهُ إلَّا إلَخْ لَيْسَ خَاصًّا بِحَالَةِ النَّقْصِ لِأَنَّهُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَوْلَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ بَلْ مِنْ الْقَبُولِ الْمُقَدَّرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَيْ شَرْطُ قَبُولِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ عُلِمَ أَنَّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ مِنْ الْقَبُولِ حَالَةَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مُقَيَّدٌ بِمَا قَالَهُ السَّيِّدُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ الْكَلَامَ فِيهَا.
فَإِذَا قُيِّدَتْ هَذِهِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ فَلْتُقَيَّدْ بِهِ نَظِيرَتُهَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا وَمِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ رَحِمهمَا اللَّه تَعَالَى لَوْ قَالَ الشَّاهِدَانِ لِلْقَاضِي بَعْد الشَّهَادَةِ تَوَقَّفْ فِي الْحُكْمِ تَوَقَّفَ وُجُوبًا لِأَنَّهُ يُوهِمُ رِيبَةً فَإِنْ قَالَا بَعْدُ اقْضِ فَإِنَّا عَلَى شَهَادَتِنَا قَضَى بِلَا إعَادَةِ الشَّهَادَةِ. اهـ. هَذَا مُشْكِلٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فَإِنْ لَمْ تَبْقَ عِنْدَهُ رِيبَةٌ حَكَمَ وَإِنْ دَامَتْ أَوْ زَادَتْ أَوْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَسَاهُلِ فَلَا وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ ضَبْطِ الشُّهُودِ وَبُرُوزِ عَدَالَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ سَبَبِ التَّوَقُّفِ ثُمَّ الْجَزْمِ بَعْده لِيَظْهَرَ لَهُ الْحَالُ وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ فِي الْعَامِّيِّ. اهـ.
وَذُكِرَ فِي الْخَادِمِ نَحْوُهُ وَسَبَقَهُ إلَى نَحْوِهِ الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ بَحْثٌ مُتَّجَهٌ وَمِنْهُ يُسْتَفَادُ صِحَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْته فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِجَامِعِ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَمَتَى صَحِبَ ذَلِكَ قَرِينَةٌ تُزِيلهَا لَمْ تُؤَثِّر وَإِلَّا أَثَّرَتْ وَإِذَا اتَّضَحَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ تَعَيَّنَ إجْرَاءُ نَظِيرِ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ أَحَدَ النَّظِيرِينَ يَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لِنَظِيرِهِ وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته مِنْ الْجَامِعِ بَيْن هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ فِي كُلٍّ مَا يُرِيبُ فَاحْتِيجَ فِي قَبُولِهِ إلَى مُزِيلِ الرِّيبَةِ يَتَّضِحُ الْجَامِعُ بَيْنَ صُورَةِ السُّؤَالِ وَصُورَةِ الْقَاضِي وَصُورَةِ الْقَفَّالِ وَصُورَةِ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ وَيُعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ مَعَ صُورَةِ الْأَذْرَعِيِّ مُسَاوِيَةٌ لِصُورَةِ السُّؤَالِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ مِنْ إجْرَاء هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فَمَتَى بَقِيَ عِنْده رِيبَةٌ أَوْ زَادَتْ أَوْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَسَاهُلٍ لَمْ يُقْبَل وَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ضَبْطِ الشُّهُودِ وَبُرُوزِ عَدَالَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ.
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ يُنَافِي مَا قَرَّرْته فِي صُورَةِ السُّؤَالِ قَوْلُهُمْ لَوْ رَجَعَ الشَّاهِدُ عَنْ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ قَبُولُهَا أَيْ وَإِنْ أَبْدَى لِغَلَطِهِ وَجْهًا مُحْتَمَلًا قُلْتُ لَا يُنَافِيهِ وَلَا يُلَاقِيهِ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي شَخْصٍ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ شَهَادَتِهِ وَالْجَزْمِ بِهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ لَهُ تَغْيِيرٌ فِي أَمْرٍ تَابِعٍ لَهَا فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ التَّغْيِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ هَلْ صَحِبَهُ مَا يُزِيل مَا فِيهِ مِنْ الْإِرَابَةِ أَوْ لَا فَلِذَلِكَ جَرَى فِيهِ التَّفْصِيلُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ نَظَائِرِهِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِمْ فَهُوَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الشَّهَادَةِ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا كَمَا شَهِدَ بِهَا أَوَّلًا فَلَا يُقْبَلُ.
وَإِنْ ادَّعَى غَلَطًا مُحْتَمَلًا لِأَنَّا الْآن شَاكُّونَ فِي حَقِيقَةِ مَا شَهِدَ بِهِ وَمِنْ ثَمَّ زَيَّفُوا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِقَبُولِهِ بِأَنَّ احْتِمَالَ كَذِبِهِ فِي الرُّجُوعِ كَاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا مُرَجِّحَ وَدَعْوَى الْغَلَطِ هُنَا لَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِأَنَّهُ لَمَّا جَزَمَ بِالشَّهَادَةِ أَوَّلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ مَا شَهِدَ بِهِ فَلَمَّا رَجَعَ عَنْ هَذَا الْجَزْمِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْهُ فَتَوَارَدَ مِنْهُ إثْبَاتُ التَّحَقُّقِ تَارَةً وَنَفْيُهُ أُخْرَى فَإِذَا أَرَادَ الْعَوْدَ إلَى التَّحَقُّقِ لَمْ يُمْكِنْ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ مَا أَزَالَ ظَنَّ صِدْقِهِ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ فِي أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْجَزْمَ بِهِ لَمْ يَزَلْ وَإِنَّمَا وَقَعَ تَغْيِيرٌ فِي وَصْفٍ تَابِعٍ لَهُ وَوُقُوعُهُ فِي هَذَا لَا يُوجِبُ رَدَّ الْأَصْلِ الْمَجْزُومِ بِهِ.
فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ أَخَفَّ فَأَثَّرَتْ فِيهِ الْقَرَائِنُ وَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّغْيِيرَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُنَافِي
الْجَزْمَ وَفِيمَا فِي كَلَامِهِمْ يُنَافِيهِ وَإِنَّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي أَمْرٍ تَابِعٍ وَفِيمَا فِي كَلَامِهِمْ فِي الْمَتْبُوعِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ وَيُغْتَفَرُ فِي التَّابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَتْبُوعِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مُسْتَنَدٍ صُورَتُهُ بَعْد أَنْ ثَبَتَ لَدَى سَيِّدنَا فُلَانٍ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ وَلَدَهُ فِي إيقَافِ الْأَمْكِنَةِ الْكَائِنَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ الْجَارِيَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَحِيَازَتِهِ إلَى حِينِ صُدُورِ هَذَا الْوَقْفِ الثُّبُوت الشَّرْعِيّ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْلَاهُ وَأَشْهَد عَلَيْهِ الْوَكِيلَ الْمَذْكُورَ أَنَّهُ وَقَفَ عَنْ وَالِدِهِ الْمُوَكِّلِ الْمَذْكُورِ كَذَا وَكَذَا وَذَكَرَ الْأَمْكِنَةِ وَحُدُودَهَا ثُمَّ بَعْد مَا ذَكَر قَالَ وَحَكَمَ سَيِّدُنَا بِمُوجَبِ ذَلِكَ حُكْمًا صَحِيحًا شَرْعِيًّا مُسْتَوْفِيًا شَرَائِطَهُ الشَّرْعِيَّةَ بَعْد أَنْ أَعْذَرَ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ تَوَجَّهَ لَهُ الْإِعْذَارُ شَرْعًا هَلْ قَوْله الثُّبُوتُ الشَّرْعِيّ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَاصِرٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّوْكِيلِ أَوْ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ جَرَيَانَ الْأَمْكِنَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ إلَى حِينِ صُدُورِ الْوَقْفِ وَهَلْ قَوْلُهُ أَيْضًا وَحَكَمَ سَيِّدنَا بِمُوجَبِ ذَلِكَ مُشَارٌ بِهِ إلَى ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ وَجَرَيَانِ الْأَمْكِنَةِ فِي الْمِلْكِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِمَا صُورَته قَوْلُهُ يَثْبُتُ إلَخْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا فِي حَيِّزِهِ فَيَكُونَ الثَّابِتُ التَّوْكِيلَ وَالْجَرَيَانَ الْمَذْكُورَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّتنَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَوْ شَهِدَا بِتَوْكِيلِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فُلَانًا كَانَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ شَهَادَةً بِالنَّسَبِ لِلْمُوَكِّلِ ضِمْنًا وَبِالتَّوْكِيلِ أَصْلًا لِتَضَمُّنِ ثُبُوتِ التَّوْكِيلِ الْمَقْصُودِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْمُوَكِّل لِغَيْبَتِهِ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَوْلٌ مَرْجُوحٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالتَّوْكِيلِ دُون نَسَبِ الْمُوَكِّلِ نَظَرًا إلَى أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ كَقَامَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو النِّسْبَة الَّتِي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ دُون غَيْرِهَا وَهِيَ قِيَامُ زَيْدٍ لَا بُنُوَّتُهُ لِعَمْرٍو أَيْضًا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِخْبَارَ بِهَا وَيُجَابُ بِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِخْبَارَ بِالْبُنُوَّةِ.
إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ الرَّاجِحَ السَّابِقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا ثَبَتَتْ قَصْدًا حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ إنَّهَا ثَبَتَتْ ضِمْنًا لِوُجُودِ الْمُسَوِّغِ السَّابِقِ وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّاجِحَ ثُبُوتُ الْبُنُوَّةِ ضِمْنًا فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ الَّتِي حَكَيْنَا فِيهَا الْخِلَافَ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ عَلَى فَرْضِ أَنَّ شَاهِدَيْ التَّوْكِيلِ ذَكَرَاهُ إمَّا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْد الْحَاكِمِ بِغَيْرِ شَاهِدَيْ التَّوْكِيلِ فَلَا إشْكَالَ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ حِينَئِذٍ وَعَلَى كُلٍّ فَهُمَا ثَابِتَانِ وَقَوْلُهُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَهُ وَهُمَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَزِلَةِ إذَا تَبَيَّنَ مِنْهُمْ سَبُّ الصَّحَابَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْمُبْتَدِعَةِ مَا لَمْ نُكَفِّرهُمْ بِبِدْعَتِهِمْ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِيٌّ بِبَلْدَةٍ وَفُوِّضَ إلَيْهِ أُمُورُهَا بِأَنْ يَعْزِلَ وَيُنَصِّبَ وَيَحْكُمُ فَحَكَمَ بِحُرِّيَّةِ إنْسَانٍ وَقَبْلَ الْحُكْمِ نَادَى فِي الْقَرْيَةِ كُلُّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِرِقِّ الْعَبْدِ فَلْيَحْضُرْ فَحَضَرُوا وَقَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا شَهَادَةٌ وَبَعْد ذَلِكَ شَهِدُوا عِنْد حَاكِمٍ آخَرَ بِرِقِّهِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ إنْ كَانُوا قَالُوا ذَلِكَ حِينَ قَصَدُوا لِلشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَالُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَحَمَّلُونَ بَعْدُ وَلَوْ قَالَ الشَّاهِدُ لَا شَهَادَةَ لِي عَلَى فُلَان ثُمَّ شَهِدَ وَقَالَ كُنْتُ نَسِيتُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إنْ اشْتَهَرَتْ دِيَانَتُهُ وَإِلَّا فَلَا.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَيْتَامِهِ فَهَلْ يَصِيرُ بِذَلِكَ عَدُوًّا لَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ لَا يَصِيرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَدُوًّا لَهُ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْأَصْبَحِيُّ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ أَنْكَرَ الشَّهَادَةَ ثُمَّ ادَّعَى النِّسْيَانَ وَأَرَادَ الْأَدَاءَ هَلْ تُسْمَعُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ أَطْلَقَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ وَخَصَّهُ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا إذَا لَمْ يُمْكِن أَنْ يَتَحَمَّلَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ بَعْد إنْكَارِهِ وَابْنُ عُجَيْلٍ بِمَا إذَا لَمْ يَدَّعِ النِّسْيَانَ وَفَارَقَ قَوْلَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي حَيْثُ تُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ هُنَا صَدَرَ مِنْ الشَّاهِدِ فَاقْتَضَى طَعْنًا فِيهِ وَثَمَّ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ بَلْ مِنْ
خَارِجٍ عَنْهُ فَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ رَجُلٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ لَكِنَّهُ خَافَ مِنْ التَّجْرِيحِ فَهَلْ ذَلِكَ عُذْرٌ لَهُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ عُذْرٍ وَلَوْ قِيلَ مَحِلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُ تَجْرِيحٍ فِيهِ بِبَاطِلٍ لَمْ يَبْعُدْ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّا صُورَته مَا يَتَعَاطَاهُ جَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ الطَّيَرَانِ وَالْقَصَبِ وَالْغِنَاءِ وَالصِّيَاحِ وَالرَّقْصِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَتَكْنِيَتُهُمْ عَنْ الْبَارِي عز وجل بِهِنْدٍ وَلَيْلَى فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَاجِدِ وَهَلْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ ذَلِكَ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ وَهَلْ يُكَفَّرُ مَنْ اعْتَقَدَ التَّقَرُّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى أَوْضِحُوا لَنَا ذَلِكَ وَبَيِّنُوهُ بَيَانًا شَافِيًا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ قَدْ أَشْبَعَ الْأَئِمَّةُ كَالْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ عَلَيْهَا بِاخْتِصَارٍ فَنَقُولُ أَمَّا الدُّفُّ فَمُبَاحٌ مُطْلَقًا حَتَّى لِلرِّجَالِ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ الْجُمْهُورِ وَصَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ وَضَعَّفَ مُخَالَفَةَ الْحَلِيمِيِّ فِيهِ وَأَمَّا الْيَرَاعُ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَالْأَكْثَرِينَ حُرْمَتُهُ.
وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا فَحَرَّمَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَخَالَفَهُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ لَمْ تَتَأَتَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَلَمْ تَسْرِ إلَى الدُّفِّ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْيَرَاعُ الْمُسَمَّى بِالشَّبَّابَةِ وَأَمَّا الْغِنَاءُ وَسَمَاعُهُ بِلَا آلَةٍ فَمَكْرُوهَانِ وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَذْهَبُ الْجَوَازُ إذَا سَمِعَهُ مِنْ الرَّجُلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَقْتَرِن بِهِ مَكْرُوهٌ ضَعِيفٌ بَلْ الْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ نَوَى بِهِ التَّرْوِيحَ لِلتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ مُطِيعٌ وَأَمَّا الصِّيَاحُ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الصِّيَاحُ وَالتَّغَانِي إنْ كَانَ عَنْ حَالٍ لَا يَقْتَضِيهِ أَثِمَ مِنْ وَجْهَيْنِ إبْهَامِهِ الْحَالَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ وَتَصَنُّعِهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ حَالٍ يَقْتَضِيهِ أَثِمَ بِرِيَائِهِ لَا غَيْر وَنَتْفُ الشُّعُورِ وَضَرْبُ الصُّدُورِ وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ مُحَرَّمٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَأَمَّا الرَّقْصُ فَلَا يَحْرُم لِفِعْلِ الْحَبَشَةِ لَهُ فِي حَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ تَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ يُكْرَهُ لِخَرْمِ الْمُرُوءَةِ وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِوَجْدٍ فَيَجُوزُ لَهُمْ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِمْ وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَدُّ الشَّهَادَةِ بِهِ لِغَيْرِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ حَيْثُ كَانَ لَهُمْ مَنْصِبٌ أَوْ فَخَامَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ خَارِمٌ لِمُرُوءَتِهِ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ تَعَاطِيهِ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِمٍ لِلْمُرُوءَةِ حِينَئِذٍ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا حَاجَةَ لِاسْتِثْنَاءِ أَرْبَابِ الْأَحْوَال لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالِاخْتِيَارِ وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُرْمَةٌ كَفِعْلِ الْمُخَنَّثِينَ وَإِلَّا حَرُمَ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُكْرَهُ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمُخَنَّثِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالصَّحِيحُ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا وَأَمَّا التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ لِلرِّجَالِ فَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمه اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ حَرَامٌ
وَجَزَمَ بِهِ الْمَرَاغِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِيهِ نَظَرٌ وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِصَرِيحِ لَفْظِ النَّاوِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ ذَلِكَ وَلَوْ لِقَرِينَةٍ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ خَيْرٌ بَلْ رُبَّمَا يَكُون ظَنُّ ذَلِكَ بِمِثْلِ هَذَا جَالِبًا لِلْمَقْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَتَسْمِيَةُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا بِالْمَخْلُوقِينَ حَرَامٌ عِنْد كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا بِمِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ وَحَاشَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى أَدْنَى دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُشَبِّهَ الْقَدِيمَ بِالْحَادِثِ وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَنَّهَا لَمْ تُبْنَ لِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُم ذَلِكَ إلَّا إنْ أَضَرَّ بِأَرْضِ الْمَسْجِدِ أَوْ حُصُرِهِ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ شَوَّشَ عَلَى نَحْوِ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ بِهِ وَقَدْ رَقَصَ الْحَبَشَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرهُمْ وَيُقِرّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَافْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» وَفِيهِ إيمَاءٌ إلَى جَوَازِ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي الْمَسَاجِدِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَلَى تَسْلِيمِهِ يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا نَقْلُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ فَقَدْ قَالَ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فِي تَحْرِيرِهِ صَحَّ عَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُمَا سَيِّدَا الْمُتَأَخِّرِينَ عِلْمًا وَوَرَعًا وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ
عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَفَاكَ بِهِ وَرِعًا مُجْتَهِدًا وَأَمَّا دَلِيلُ الْحِلِّ لِمَا ذُكِرَ فَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «سَمِعَ بَعْضَ جَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَهِيَ تَقُولُ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم دَعِي هَذَا وَقُولِي الَّذِي كُنْت تَقُولِينَ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ أَتَتْهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ رَدَّك اللَّهُ تَعَالَى سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ فَقَالَ لَهَا إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَأَوْفِ بِنَذْرِك» .
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ حَصَلَ فِي يَدِهِ مَالٌ مِنْ حَرَامٍ ثُمَّ جَهِلَ مَالِكَهُ وَلَمْ يَتَوَقَّع مَعْرِفَتَهُ فَمَا حُكْمُهُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْعَبَّادِيِّ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَدْفَعهُ لِقَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الْغَرَامَةِ لَهُ إنْ وَجَدَهُ وَفِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَوَاخِر الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مَا لَفْظُهُ وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَيَّن لَهُ مَالِكٌ وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ.
فَذَكَر بَعْضُهُمْ أَنَّ لَهُ أَيْ الْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَصْرِفَ ثَمَنَهُ إلَى الْمَصَالِحِ وَأَنَّ لَهُ حِفْظَهُ قُلْت هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُعْرَف خِلَافُهُ. اهـ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ مَا قَالُوهُ فِي الْمَالِ الضَّائِعِ مِنْ حِفْظِهِ إلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ مَحَلَّهُ إنْ تُوُقِّعَتْ مَعْرِفَتُهُ وَإِلَّا كَانَ حِينَئِذٍ مَصْرُوفًا إلَى مَا يُصْرَفُ فِيهِ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ. اهـ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سُرَاقَةَ فِي التَّلْقِينِ.
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ كُلُّ مَالٍ ضَائِعٍ فُقِدَ مَالِكُهُ يَصْرِفُهُ السُّلْطَانُ إلَى الْمَصَالِحِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَالَ الضَّائِعَ عِنْد الْيَأْسِ يَكُونُ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُ الْعِزِّ بْنِ جَمَاعَةٍ تَغَايُرَهُمَا وَكَلَامُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَحَلَّ مَا مَرَّ عَنْ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كَوْنِهِ يَدْفَعهُ إلَى الْإِمَامِ مَحَلَّهُ إنْ كَانَ عَادِلًا أَوْ لَهُ نَائِبٌ كَذَلِكَ قَالَ وَإِلَّا سَلَّمَهُ لِرَجُلٍ عَالِمٍ مَعْرُوفٍ مَوْثُوقٍ بِهِ وَأَعْلَمهُ بِالْحَالِ لِيَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِهِ وَلِلْعَالِمِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ وَلَهُ هُوَ أَنْ يَصْرِفَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ إنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. اهـ.
وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يُؤَيِّدُهُ فَإِنَّهُ قَالَ الْمَالُ الضَّائِعُ يُصْرَفُ لِلْمَصَالِحِ فَإِذَا وَقَعَ فِي يَدِ إنْسَانٍ وَلَمْ يَظْفَرْ بِإِمَامٍ أَيْ عَادِلٍ لِمَا مَرَّ يَدْفَعهُ إلَيْهِ يَصْرِفُهُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَصَالِحِ وَإِنْ كَانَ أَهَمَّ مِنْهُ وَفِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ إذَا عَمَّ الْحَرَامُ قُطْرًا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ الْحَلَالُ إلَّا نَادِرًا جَازَ اسْتِعْمَالُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا يَقْتَصِر عَلَى الضَّرُورَةِ وَلَا يَتَبَسَّطُ فِيهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمه اللَّهُ تَعَالَى وَالصُّورَةُ أَنَّ مَعْرِفَةَ مُسْتَحِقِّهِ مُتَوَقَّعَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ لِلْمَصَالِحِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَا جُهِلَ مَالِكُهُ. اهـ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ نَعَمْ تُقْبَل بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِهَا فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَلَوْ شَهِدَا بِأَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَسْجِدِ شَيْئًا سُمِعَتْ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَلْ يَحِلُّ اللَّعِبُ بِالطَّابِ أَوْ لَا وَهَلْ الْمِنْقَلَةُ مِثْلُهُ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ مَا كَانَ مَدَارُهُ عَلَى الْحِرْزِ وَالتَّخْمِينِ يَحْرُمُ وَمَا كَانَ مَدَارُهُ عَلَى الْحِسَابِ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ ظَاهِرُ فِي حُرْمَةِ الطَّابِ وَالْمِنْقَلَةِ التَّابِعَةِ لَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مُعَلَّقٌ عَلَى مَا يُخْرِجهُ فَقَطْ وَفِي حِلِّ الْمَنْقَلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَنَحْوهَا وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ عَبَثٌ رُبَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّرْدِ فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ دَائِرٌ عَلَى حِسَابٍ وَمَزِيدِ فِطْنَةٍ فَبِتَكْرَارِهِ يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ ذَلِكَ كَمَا فِي الشِّطْرَنْجِ فَتَعَيَّنَ إلْحَاقُهُ بِهِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا صُورَتُهُ لَعِبُ مُعْتَقِدِ حِلَّ الشِّطْرَنْجِ مَعَ مُعْتَقِدِ تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ بِخِلَافِ تَبَايُعِ مَنْ لَا تَلْزَمهُ الْجُمُعَةُ مَعَ مَنْ تَلْزَمهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ قَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ التَّبَايُعَ الْقَصْدُ مِنْهُ غَالِبًا طَلَبُ الرِّبْحِ وَهُوَ غَرَضٌ صَحِيحٌ يُقْصَدُ فِي الْعَادَةِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ فَلَمْ يُمْنَعْ مَنْ لَا تَلْزَمهُ الْجُمُعَةُ مِنْهُ وَلَا نَظَرَ لِكَوْنِهِ يُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِخِلَافِ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ يَغْلِبُ فِي الْعَادَةِ تَحْصِيلُهُ فَكَانَ دُونَ ذَلِكَ الْغَرَضِ فَمُنِعَ مُعْتَقِدُ حِلِّهِ مِنْ إعَانَةِ مُعْتَقِدِ حُرْمَتِهِ عَلَى حَرَامٍ فِي ظَنِّهِ وَأَيْضًا فَالْمَعْصِيَةُ فِي الْبَيْعِ
لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بَيْعًا بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ التَّفْوِيتُ وَمَنْ لَا تَلْزَمهُ لَمْ يَقْصِدهُ بَلْ قَصَدَهُ لِحُصُولِ الرِّبْحِ مَثَلًا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِخِلَافِ اللَّعِب فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهِ لِذَاتِ الْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْهُمَا إذْ لَا يُمْكِن وُجُودُهُ إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ فَتَحَقَّقَتْ فِيهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُمْكِن قَصْدُ أَمْرٍ خَارِجٍ يُجَوِّزُ لَهُ الْإِقْدَامَ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّا عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُنْتَقِبَةِ اعْتِمَادًا عَلَى إخْبَارِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ فَهَلْ يَشْمَلُ عَدْلَ الرِّوَايَةِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِي بِعَدْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ إذْ لَيْسَ لَنَا شَهَادَةٌ يُقْبَلُ فِيهَا وَاحِدٌ إلَّا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَخْتَصُّ بِمَا يَقَعُ بَعْد دَعْوَى صَحِيحَةٍ عِنْد قَاضٍ أَوْ مُحَكَّمٍ وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ عَبْدٍ أَذْنَبَ ثُمَّ نَدِمَ وَعَقَدَ تَوْبَةً نَصُوحًا ثُمَّ أَذْنَبَ ثُمَّ نَدِمَ وَعَقَدَ أَيْضًا ثُمَّ أَذْنَبَ وَعَقَدَ أَيْضًا وَهَذَا حَالُهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَشْيَةِ مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الذَّنْبَ مُقَدَّرٌ وَمُحَتَّمٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَيْف خَلَاصُهُ مِنْ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ صِحَّةُ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا مِنْ الذَّنْبِ وَإِنْ تَكَرَّرَ فَعَلَى الْعَبْدِ عَقِبَ فِعْلِهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَيَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ شُرُوطِهَا فَإِنَّ مِنْ آفَةِ التَّسَاهُلِ فِي الشُّرُوطِ مَيْلَ النَّفْسِ إلَى الْعَوْدِ بَلْ سُرْعَةَ عَوْدِهَا إلَى الذَّنْبِ لِأَنَّهَا ذَاقَتْ حَلَاوَتَهُ وَلَمْ تُسَلَّ عَلَيْهَا سُيُوفُ الْمُجَاهَدَةِ وَالنَّدَمِ الْحَقِيقِيّ وَلَوْ حَقَّ نَدَمُهَا لَبَعُدَ عَوْدُهَا فَعَلَى الْعَبْدِ الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ وَتَقْرِيعُ نَفْسِهِ بِأَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا الْمَرَاهِمَ الْحَادَّةَ مِنْ مَظَاهِرِ الْجَلَالِ وَالِانْتِقَامِ حَتَّى يُكْسِبَهَا ذَلِكَ خَشْيَةً تَامَّة مِنْ سَطَوَاتِ الْحَقِّ وَانْتِقَامِهِ.
وَيَكُون مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَضَرِّعًا إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فِي قَبُولِهِ تَوْبَتَهُ وَغُفْرَانِ زَلَّتِهِ وَرَحْمَةِ حَوْبَتِهِ فَإِنَّ مَنْ أَدْمَنَ قَرْعَ بَابِ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْتَحَ لَهُ وَيَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ فَعَلَيْك بِصِدْقِ الِابْتِهَالِ وَدَوَامِ الذِّلَّةِ وَالْخَشْيَةِ لِتَفُوزَ مِنْ رَبِّك بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ إنَّهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالُ تَابَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا بِفَضْلِهِ وَأَدَامَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَوَابِلَ عَفْوِهِ آمِينَ
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا لَفْظُهُ رَأَيْتُ مَنْقُولًا عَنْ الْخُلَاصَةِ مَا لَفْظُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّ عَقْلَ ثَمَانِينَ مُعَلِّمًا لَا يُسَاوِي عَقْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأَيَّامِ مَعَ الصِّبْيَان وَفِي اللَّيَالِي مَعَ النِّسْوَانِ. اهـ. فَهَلْ هَذَا النَّقْلُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِيهَا أَوْ لَا وَكَيْفَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ قَدْ فَتَّشْتُ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ عَنْ خُلَاصَةِ الْغَزَالِيِّ فَلَمْ أَرَهُ فِيهَا وَلَا أَظُنّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ إلَى السَّفْسَافِ أَقْرَبُ وَكَمْ مِنْ مُعَلِّمِ صِبْيَانٍ رَأَيْنَاهُ يُسْتَسْقَى بِهِ الْغَيْثُ لِبُلُوغِهِ فِي النَّزَاهَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَالصَّلَاحِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ بِإِطْلَاقِهَا عَنْ عَالِمٍ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهَا عَلَى مُعَلِّمٍ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ الْجَهْلِ أَوْ الْفِسْقِ أَوْ الْجُنُونِ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ الْآن فِيمَنْ يَتَعَاطَى هَذِهِ الْحِرْفَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْحِرَفِ بِنَصِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّا إذَا ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ النِّكَاحَ لِثُبُوتِ الْمَهْرِ هَلْ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى بِالْمَهْرِ ثَبَتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ حَتَّى الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ فَقِيهٍ كَشَفَ رَأْسَهُ حَيْثُ لَا يُعْتَاد أَوْ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ مَرَّةً وَاحِدَةً هَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ أَوْ تَكُونُ صَغِيرَةً؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِخَارِمِ الْمُرُوءَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّر وَفَارَقَ الصَّغِيرَةَ بِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَم الْمُبَالَاةِ إلَّا إذَا تَكَرَّرَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ صَغَائِرَ أُخْرَى حَتَّى غَلَبَتْ مَعَاصِيهِ طَاعَاتِهِ وَأَمَّا خَارِمُ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّهُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِعَرْضِهِ وَخَرْمِهِ وَمَنْ لَا يُبَالِي بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّى الزُّورَ وَنَحْوَهُ كَالتَّسَاهُلِ فِي الشَّهَادَةِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ حِينَئِذٍ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْحَسُودِ إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ صَغِيرَةٌ بِجَوَارِحِهِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ هَلْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ
أَمْ لَا وَكَذَلِكَ يُسْأَلُ فِي الْكِبْرِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ كَبِيرَةٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ الزَّوَاجِرِ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَحِينَئِذٍ فَكُلٌّ مِنْهُمَا بِمُجَرَّدِهِ يَقْتَضِي الْفِسْقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ مَعَهُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى أَمْ لَمْ تُوجَدْ مَعَهُ مَعْصِيَةٌ أَبَدًا لِأَنَّ كُلَّ مَا قِيلَ إنَّهُ كَبِيرَةٌ يَكُونُ بِمُفْرَدِهِ مُبْطِلًا لِلْعَدَالَةِ وَرَادًّا لِلشَّهَادَةِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ زَنَى بِحَلِيلَةِ أَحَدٍ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِ أَنْ يَسْتَحِلَّ زَوْجهَا مَا لَمْ يَخْشَ فِتْنَةً أَوْ مُطْلَقًا أَوْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الزَّوَاجِرِ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ رَأَيْتُ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ لَلْغَزَالِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَ الْعِبَادِ إمَّا فِي الْمَالِ فَيَجِبُ رَدُّهُ عِنْد الْمُكْنَةِ فَإِنْ عَجَزَ لِفَقْرٍ اسْتَحَلَّهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ لِغَيْبَتِهِ أَوْ مَوْتِهِ وَأَمْكَنَ التَّصَدُّقُ عَنْهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا فَلْيُكْثِرْ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَيَرْجِعْ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَيَتَضَرَّعْ إلَيْهِ فِي أَنَّهُ يُرْضِيهِ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَأَمَّا فِي النَّفْسِ فَيُمَكِّنهُ أَوْ وَلِيَّهُ مِنْ الْقَوَدِ فَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إرْضَائِهِ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الْعِرْضِ فَإِنْ اغْتَبْتَهُ أَوْ شَتَمْتَهُ أَوْ بَهَتّه فَحَقُّك أَنْ تُكَذِّبَ نَفَسَك بَيْن يَدَيْ مَنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَعَهُ إنْ أَمْكَنَك بِأَنْ لَمْ تَخْشَ زِيَادَةَ غَيْظٍ وَهَيْجَ فِتْنَةٍ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ فَإِنْ خَشِيتَ ذَلِكَ فَالرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى لِيُرْضِيَهُ عَنْك وَأَمَّا فِي حَرَمِهِ فَإِنْ خُنْتَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِحْلَالِ وَالْإِظْهَارِ لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ فِتْنَةً وَغَيْظًا بَلْ تَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى لِيُرْضِيَهُ عَنْك وَيَجْعَلَ لَهُ خَيْرًا كَثِيرًا فِي مُقَابَلَتِهِ فَإِنْ أَمِنْتَ الْفِتْنَةَ وَالْهَيْجَ وَهُوَ نَادِرٌ فَتَسْتَحِلَّ مِنْهُ وَأَمَّا فِي الدِّينِ بِأَنْ كَفَّرْتَهُ أَوْ بَدَّعْته أَوْ ضَلَّلْته فَهُوَ أَصْعُبُ الْأَمْرِ فَتَحْتَاجُ إلَى تَكْذِيبِ نَفْسِك بَيْن يَدَيْ مَنْ قُلْتَ لَهُ ذَلِكَ وَأَنْ تَسْتَحِلَّ مِنْ صَاحِبِك إنْ أَمْكَنَكَ وَإِلَّا فَالِابْتِهَالُ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَالنَّدَمُ عَلَى ذَلِكَ لِيُرْضِيَهُ عَنْك. اهـ.
كَلَامُ الْغَزَالِيِّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالتَّحْقِيقِ اهـ. وَقَضِيَّةُ مَا ذَكَره فِي الْحُرَمِ الشَّامِل لِلزَّوْجَةِ وَالْمَحَارِم كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الزِّنَا وَاللِّوَاطَ فِيهِمَا حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَتَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ عَلَى اسْتِحْلَالِ أَقَارِبِ الْمَزْنِيِّ أَوْ الْمَلُوطِ بِهِ وَعَلَى اسْتِحْلَالِ زَوْجِ الْمَزْنِيِّ بِهَا هَذَا إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَإِلَّا فَلْيَتَضَرَّعْ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فِي إرْضَائِهِمْ عَنْهُ وَيُوَجَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ إلْحَاقُ عَارٍ أَيِّ عَارٍ بِالْأَقَارِبِ وَتَلْطِيخِ فِرَاشِ الزَّوْجِ فَوَجَبَ اسْتِحْلَالُهُمْ حَيْثُ لَا عُذْرَ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ وَطْءَ الْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَتَقْبِيلهَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَالزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الزِّنَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِحْلَالٍ قُلْت هَذَا لَا يُقَاوِمُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالتَّحْقِيقِ فَالْعِبْرَةُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى زِنًا بِمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا قَرِيبَ فَهَذِهِ يَسْقُطُ فِيهَا الِاسْتِحْلَالُ لِتَعَذُّرِهِ وَالثَّانِي عَلَى مَنْ لَهَا ذَلِكَ وَأَمْكَنَ الِاسْتِحْلَالُ بِلَا فِتْنَةٍ فَتَجِبُ وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ بِدُونِهِ وَقَدْ يُجْمَعُ أَيْضًا بِأَنَّ الزِّنَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ إذْ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَمَنْ نَظَر إلَى حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِحْلَالَ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ وَهُوَ مُجْمَلُ عِبَارَةِ غَيْرِ الْغَزَالِيِّ وَمَنْ نَظَر إلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ أَوْجَبَ الِاسْتِحْلَالَ وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَنْ أَخَذَ مَالًا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ هَلْ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ إنْ غَلَّبْنَا عَلَيْهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجِبْ الْإِعْلَامُ بِهِ وَإِنْ غَلَّبْنَا فِي عَلَيْهِ حَقَّ الْآدَمِيِّ وَجَبَ إعْلَامُهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ الْإِمَامُ بِهِ ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ الرِّفْعَةِ مَثَّلَ نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ لِلْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَقَّ فِيهَا لِلْعِبَادِ بِتَقْبِيلِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ يَفْهَمُ أَنَّ وَطْأَهَا فِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ انْتَهَتْ عِبَارَةُ الزَّوَاجِرِ وَفِيهَا الْجَوَابُ الصَّرِيحُ عَمَّا فِي السُّؤَالِ وَزِيَادَة، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ أَمْرِ الْوَاعِظِ أَوْ الْمُرَبِّي لِمَنْ يَتُوبُ بِقَصِّ بَعْضِ شَعْرِهِ أَوْ حَلْقِ كُلِّهِ هَلْ لَهُ مُسْتَنَدًا وَلَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ حَلْقُ الشَّعْرِ سُنَّةٌ فِي النُّسُكِ وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَإِنْ شَقَّ تَعَهُّدُ الشَّعْرِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ وَعِنْد
خَشْيَةِ التَّأَذِّي بِبَقَائِهِ يَكُونُ مِنْ التَّدَاوِي الْمَأْمُورُ بِهِ وَحَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مَكْرُوهٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ حَلْقُ الشَّعْرِ وَإِنْ كَانَ الْحَلْقُ مِنْ شِعَارِ الْخَوَارِجِ وَأَمَّا قَصُّ الشَّعْرِ فَهُوَ عَلَى وَفْقِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَإِنْ فَعَلَ بِالتَّائِبِ بِقَصْدِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ فَلَا بَأْسَ أَوْ بِقَصْدِ أَنَّهُ مِنْ مَطْلُوبَاتِ التَّوْبَةِ فَلَا وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ بِحَلْقِ الرَّأْسِ عِنْد الْإِسْلَامِ لِأَنَّ شَعْرَ الْكَافِرِ أَقْبَحُ مِنْ شَعْرِ غَيْرِهِ
(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْعَارِفُ سَيِّدِي يُوسُفُ الْعَجَمِيُّ أَنَّ صِفَةَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى التَّائِبِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ شُرُوطَ التَّوْبَةِ ثُمَّ يَضَعَ بَاطِنَ يَدِهِ عَلَى بَاطِنِ يَدِ التَّائِبِ الْيُمْنَى وَيَذْكُرُ أَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمَا جَمِيعًا لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31] وَيَسْكُتُ الشَّيْخُ وَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَخْرُجُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْبَيْنِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي يَتُوبُ عَلَيْهِ وَيَرْفَعُ الشَّيْخُ صَوْتَهُ قَائِلًا أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ فِي الْأَخِيرَةِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ وَأَسْأَلهُ التَّوْبَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
وَيَسْكُتُ التَّائِبُ وَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ وَحَكَى هَذَا رِوَايَةً مِنْ طَرِيقِ لُبْسِ الْخِرْقَةِ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى التَّائِبِ مِنْهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْضُهُمْ وَاَلَّذِي يَفْعَلهُ أَهْلُ الْعَصْرِ أَنَّهُ يَذْكُرُ لَهُ شُرُوطَ التَّوْبَةِ وَيَأْخُذُ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَيُعَاهِدهُ لِلَّهِ سبحانه وتعالى عَلَى اتِّبَاعِهِ الطَّاعَةَ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَتْلُو عَلَيْهِ قَوْلَهُ تبارك وتعالى {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. اهـ.
وَاَلَّذِي آثَرْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا أَهْلِ الطَّرِيقِ أَنَّ الشَّيْخَ يَذْكُرُ لِلْمُرِيدِ شُرُوطَ التَّوْبَةِ وَيُحَرِّضُهُ عَلَيْهَا وَعَلَى مُلَازَمَةِ الصَّلَوَاتِ وَالذِّكْرِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّه لَيْلًا بَعْد صَلَاةِ الْعِشَاءِ سَاعَةً طَوِيلَةً حَتَّى يَنَامَ عَلَى الذِّكْرِ ثُمَّ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ أَكْمَلِ الْوِتْرِ ثُمَّ الذِّكْرِ بَعْده سَاعَةً كَذَلِكَ أَوْ إلَى الْفَجْرِ ثُمَّ الذِّكْرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَذْكَارِ الصَّلَوَاتِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَمْضِيَ فِي أَسْبَابِهِ وَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِالذِّكْرِ فَلَا تَقْدِرُ الْأَسْبَابُ عَلَى جَذْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ إلَيْهَا بَلْ تَسْتَمِرَّ مَعَهُ وَهُوَ مُبَاشِرٌ لِلْأَسْبَابِ بَقِيَّة مِنْ بَرَكَةِ الذِّكْرِ وَقِيَام اللَّيْلِ إلَى الْمَسَاءِ ثُمَّ بَعْد أَنْ يُحَرِّضهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ يَذْكُرُ الشَّيْخُ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَة وَالْمُرِيدُ جَالِسٌ طَارِقٌ بَيْن يَدَيْهِ ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُرِيد ثَلَاثًا وَالشَّيْخُ طَارِقٌ ثُمَّ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ذِكْرٌ سِلْسِلَةِ الذِّكْرِ وَهِيَ سِلْسِلَةُ الْخِرْقَة السَّابِقَةِ فِي بَابِ اللِّبَاسِ الْمُنْتَهِيَةُ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُشِيرُ إلَى اعْتِرَاضِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى هَذِهِ السَّلِسَةِ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ ثُمَّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ مُعْتَمِدًا عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ ثَمَّ فِي رَدِّهِ وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقْرَأُ {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] الْآيَة.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَلْ يَحْرُم وَصْفُ الْخَمْرِ الْوَاقِعِ فِي أَشْعَارِ كَثِيرِينَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَجْمُوعِ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ لَا يُقَال يُنَافِيهِ مَا وَقَعَ فِي بَانَتْ سُعَاد الَّتِي أُنْشِدَتْ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشِعْرِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذِكْرِ الْخَمْرِ وَمَدْحِهَا لِأَنَّا نَقُولُ يُحْتَمَل أَنَّ تِلْكَ الْأَشْعَارَ الصَّادِرَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَبِفَرْضِ وُقُوع شَيْءٍ مِنْهَا بَعْد التَّحْرِيمِ فَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَنْتَشِرْ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا مُمْكِنُ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ فَمَا الْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ حَتَّى الشَّافِعِيَّة كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِهِمْ قُلْتُ الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ مَا قَالَهُ فِي أَوْصَافٍ يَتَبَادَرُ مِنْهَا مَدْحُ خَمْرَةِ الدُّنْيَا الْمُحَرَّمَةِ وَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي مَدْحِ مُطْلَقِ الْخَمْرِ الْمُمْكِنِ حَمْلُهَا عَلَى خَمْرِ الْجَنَّةِ أَوْ الْخَمْرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي تُطْلَقُ مَجَازًا أَوْ اسْتِعَارَةً عَلَى نَحْوِ رِيقِ الْمَحْبُوبِ وَالنَّشْوَةِ الْحَاصِلَة مِنْ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَصَارِيفِ الْبُلَغَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي أَشْعَارِهِمْ سِيَّمَا السَّادَةُ الصُّوفِيَّة رِضْوَان اللَّهِ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا لَفْظُهُ ذَكَرُوا أَنَّ الْقَهْوَةَ إذَا أُدِيرَتْ عَلَى هَيْئَةِ الْخَمْرِ بِعَادَةِ الشَّرَبَةِ حُرِّمَتْ نَبَّهَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْيَمَنِيِّينَ هَلَّا يُقَالُ يُكْرَه ذَلِكَ كَمَا كَرِهَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَسْمِيَتُهَا قَهْوَة لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاء الْخَمْرِ وَمَا هَيْئَةُ إدَارَةِ الْخَمْرِ الَّتِي يَعْتَادُهَا الشَّرَبَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ حَرِّرُوا لَنَا كَيْفِيَّة إدَارَةِ الْخَمْرِ.
(فَأَجَابَ) مَا ذَكَرُوهُ صَحِيحٌ صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي إدَارَةِ السَّكَنْجَبِينِ وَغَيْرِهِ وَكَيْفِيَّةُ تِلْكَ الْإِدَارَةِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ الْيَوْم لَمْ يَتَحَرَّرْ عِنْدنَا لِأَنَّا سَأَلْنَا مَنْ شَرِبُوهَا وَتَابُوا مِنْهَا فَاخْتَلَفَ وَصْفُهُمْ لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِقَدَحٍ وَاحِدٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ غَالِبًا إلَّا مَعَ نَحْوِ رَيَاحِين وَمَأْكَلٍ مَخْصُوصٍ وَغِنَاءٍ مَخْصُوصٍ وَآلَةٍ مُطْرِبَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سَاقٍ مَخْصُوصٍ وَكَيْفِيَّةٍ لِوَضْعِ إنَائِهَا الَّذِي يُفْرَغُ مِنْهُ فِي كَأْسِهَا.
وَقَدْ أَشَارَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى بَعْضِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا إنَّهَا تَكُونُ بِأَقْدَاحٍ مَعَ كَلِمَاتٍ يَتَعَارَفُهَا الشَّرَبَةُ بَيْنَهُمْ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا أَيْ فَإِنَّهُمْ يَدِيرُونَ فِيهَا الْكَأْسَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ اللَّغْوِ وَالْإِثْمِ بِالْكَلِمَاتِ الْقَبِيحَةِ الْمُتَعَارَفَة بَيْنَهُمْ فَإِذَا أُدِيرَتْ الْقَهْوَةُ الْحَادِثَةُ الْآن كَهَيْئَةِ إدَارَةِ الْخَمْرِ حُرِّمَتْ إدَارَتُهَا وَإِلَّا فَلَا أَمَّا شُرْبُهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِشَرْطِهِ سَوَاءٌ أُدِيرَتْ أَمْ لَا فَتِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي لِلْخَمْرِ لَيْسَتْ مُحَرِّمَةً لِأَصْلِ الشُّرْبِ وَإِنَّمَا هِيَ مُحَرِّمَةٌ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُحَاكِيَةِ لِأَفْعَالِ شَرَبَة الْخَمْرِ وَلَيْسَ مُطْلَقُ الْإِدَارَةِ حَرَامًا اتِّفَاقًا فَقَدْ أُدِيرَ اللَّبَنُ فِي حَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ فِي مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا قَهْوَة فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمًا مُطْلَقًا لِأَنَّ الْأَسَامِيَ لَا تَقْتَضِي تَشْبِيهًا وَتِلْكَ الْإِدَارَةُ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِاسْتِلْزَامِهَا التَّشْبِيهَ بِالْعُصَاةِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ إخْبَارِ الرَّجُلِ بِطَلَاقِ فُلَانٍ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ تَوْكِيلِهِ هَلْ يُقْبَلُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَهَلْ يُقْبَلُ الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الشَّهَادَةِ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ خَطُّ الْمُرْسِلِ أَمْ لَا وَهَلْ يُكْتَفَى فِي غَيْرِ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِمَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ قَالُوا لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ امْرَأَةً بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْن اللَّهِ سبحانه وتعالى وَكَذَا خَطُّهُ الْمَوْثُوقُ بِهِ إذَا حَفَّتْهُ قَرَائِنُ بِأَنَّهُ قَصَدَ مَدْلُولَ تِلْكَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَا يَغْلِبُ ظَنَّ صِدْقِ الْإِمَارَةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَقِّ الْغَيْرِ أَوْ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَاكِمِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ عَدْلٍ وَلَا خَطٍّ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ شَخْصٍ عَامِّيٍّ شَهِدَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِفُلَانٍ الْمُدَّعِي كَذَا مِنْ الدَّنَانِيرِ فَأَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ الْمَذْكُورَ لَا يَعْرِفُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فَهَلْ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ بِقَوْلِهِ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ جَمِيعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَرْضٌ أَوْ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ نَفْلٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ بِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ النَّفْلِيَّةَ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْعَامِّيِّ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ شَخْصٍ نَقَلَ عَنْ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ رحمه الله تبارك وتعالى أَنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَاعِبَ الشِّطْرَنْجِ مَلْعُونٌ وَأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَهَلْ النَّاقِلُ لِذَلِكَ مُصِيبٌ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ نَعَمْ نَقَلَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ شَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى سَعْيَهُ فِي جَامِعِهِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ الشِّطْرَنْجَ وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ» وَذَكَرْتُ فِي كِتَابِي كَفُّ الرَّعَاعِ عَنْ مُحَرَّمَاتِ اللَّهْوِ وَالسَّمَاعِ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ لِلَّهِ عز وجل فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إلَى خَلْقِهِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الشَّاهِ فِيهَا نَصِيبٌ» وَصَاحِبُ الشَّاهِ هُوَ لَاعِبُ الشِّطْرَنْجِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ