الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
بيان أن عدم ظهور المعجزات التي يقترحونها على الرسول، وعدم موافقة الله - تعالى إياهم في تعيين شخص يتوخون رسالته، وعدم إرساله - تعالى شأنه - الملائكة رسلا بين الناس، وعدم إيحائه إلى كل شخص من الأشخاص، كل ذلك ينبني على المصالح الكلية التي يقصر علمهم عن إدراكها وتعجز عقولهم عن الإحاطة بمراميها.
ولما أن أكثر الناس الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، لذلك فإن هذه المعاني قد تكررت في القرآن الكريم بأساليب متعددة وفي سور كثيرة، وبتأكيدات بالغة، ولم يتحاش القرآن العظيم تردادها وتكرارها، فإنه حقيق أن يكون خطاب الحكيم المطلق لهؤلاء الجهلة، والضعيفي العقول كذلك بتأكيد بليغ وتكرار مزي.
-
الجدل القرآني مع اليهود
-
أنواع ضلال اليهود:
لقد كان اليهود يؤمنون بالتوراة، وكان ضلالهم التحريف في أحكام التوراة، سواء كان تحريفا لفظياً أو تحريفاً معنوياً، وكتمان آيات التوراة، وإلحاق ما ليس منها بها، والتقصير في تنفيذ أحكامها، والعصبية الشديدة لديانتهم، واستنكار رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسوء الأدب مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم تبارك وتعالى، والبخل والحرص، وأمثالها من الرذائل الخلقية.
التحريف اللفظي:
وقد تحقق لدى الفقير أن تحريفهم اللفظي إنما كان في ترجمة التوراة وما يجري مجراها، لا في أصل التوراة وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
التحريف المعنوي وبعض أمثلته:
أما التحريف المعنوي فإنه عبارة عن التأويلات الفاسدة وحمل الآيات على غير معانيها المرادة بتعسف وانحراف عن قصد السبيل. ونذكر فيما يلي عدداً من وجوه التحريف المعنوية:
المثال الأول:
1 -
منها: أن الفرق بين المتدين الفاسق والكافر الجاحد معتبر في كل ملة من الملل، وتوعد الكافر بالخلود في النار والعذاب الأليم وأثبت للفاسق خروجه من النار بشفاعة الأنبياء والمرسلين وجاء التصريح في كل ديانة بذلك باسم التدين بتلك الديانة، فأثبت ذلك في التوراة لليهود
والعبريين، وفي الإنجيل للنصرانيين، وفي القرآن العظيم للمسلمين.
والحقيقة أن مناط الحكم هو الإيمان بالله - تعالى - وباليوم الآخر، والإيمان بالنبي الذي بعث لهم، والنقياد له والعمل بشريعته، والاجتناب عن نواهيه، لا خصوص الديانة وخصوص الطائفة المسماة باليهود والنصرانيين وغيرهم، ولكن اليهود بدأوا يظنون أن كل من كان يهودياً أو عبريا، فهو من أهل الجنة، ولابد أن تناله شفاعة الأنبياء وتخلصه من العذاب، وأنه لا يمكث في النار إلا أياماً معدودات، ولو لم يكن مناط الحكم - الذي قد سبق بيانه - متحققاً ولم يكن إيمانه بالله - تعالى - على الوجه الصحيح ولا يملك شيئاً من الإدراك الصحيح لمعنى الرسالة والآخرة، وهذا هو الخطأ الصريح والجهل الصرف.
ولما أن القرآن العظيم مهيمن على الكتب السابقة ومبين لما فيها من إبهام وغموض، فقد كشف شبهاتهم هذه ورد عليها ردوداً واضحة مقنعة.
المثال الثاني:
2 -
ومنها أن الأحكام ذكرت في كل ملة من الملل السابقة حسب مصالح عصرها ودورها، وروعيت في التشريع عادات الناس الصالحة، وأكد الحكم بالأخذ بها والمداومة عليها، واعتقادها، وانحصار الحق فيها، والمراد أن الحق منحصر فيها في ذلك العصر، وأن المداومة عليها إضافية وليست مداومة حقيقة، اي أنها صالحة للعمل إلى أن يأتي نبي جديد ويكشف الستار عن رسالة جديدة، ولكن اليهود حملوا ذلك على استحالة النسخ.
وكانت الوصاة بالتمسك بتلك الملة والعض عليها تعني التمسك بالإيمان والأعمال الصالحة، ولا اعتبار لخصوص ملة من الملل ولا دخل لها فيها، ولكن هؤلاء اعتقدوا أن الخصوص معتبر، وأن يعقوب عليه السلام إنما وصى بنيه بالتمسك "باليهودية".
المثال الثالث:
3 -
ومنها أن الله تبارك وتعالى شرف الأنبياء والتابعين لهم بإحسان في كل ملة بوصفهم مقربين، محبوبين مؤضين، ووصف أعدائهم والجاحدين لملتهم بالمغضوب عليهم، الملعونين والممقوتين، وجاءت هذه الصفات في
كل ملة في قوالب الألفاظ والكلمات المعروفة السائدة فيهم لهذه المعاني، فما الغرابة إذن، لو ذكرت كلمة "الأبناء" بدل المحبوبين! ؟
ولكن اليهود ظنوا أن هذا التشريف يدور على اسم اليهودي والعبري والإسلرائيلي، ولم يعرفوا أن هذا التشريف ليس لاسم دون اسم، إنما هو لأجل الانقياد والطاعة، والخضوع، والسير على طريق الأنبياء والمرسلين، ليس غير.
وهنا كثير من أمثال هذه التأويلات الفاسدة التي ركزت في نفوسهم، وتلقوها وتوارثوها عن آبائهم، وقد تكفل القرآن الكريم بردها ورفع هذه الشبهات ودحضها وإبطالها أتم إبطال.
كتمان الآيات
أما كتمان الايات فإن اليهود كانوا لأجل المحافظة على جاه شريف أو كبير، أو لطلب منصب أو رئاسة يخفون بعض الأحكام والآيات من التوراة، حى لا يذهب اعتقاد الناس فيهم بتركهم للعمل بها، وانصرافهم عنها، ولنذكر بعض الأمثلة منه.
1 -
كان من تلك الأحكام، حكم رجم الزاني، الذي كان مصرحاً به في التوراة ولكنهم لإجماع أحبارهم على ترك
الرجم واستبداله بالجلد وتسحيم الوجه تركوا العمل برجم الزاني، وكان الأحبار - خشية الفضيجة والعار - يخفون تلك الآيات التي فيها نص هذا الحكم الصريح.
2 -
كذلك تلك آيات التي ذكرت فيها بشارة هاجر وإسماعيل عليهما السلام بأنه سوف يولد في أعقابهم من يبعثه الله - تعالى - نبياً ورسولاً، والآيات التي تحمل إشارات واضحة إلى دين يظهر ويبلغ كماله في أرض الحجاز، وتضج به جبال عرفات بالتلبية، ويؤم الناس لزيارتها من الأقطار والأمصار.
وبالرغم من أن هذه الآيات لا تزال توجد في التوراة حتى اليوم كان اليهود يتأولونها بأن هذه الآيات إنما تخبر بظهرو ذلك الدين ولكنها لا تأمر باتباعه الخوضع له. وكانت هذه الكلمة على طرف لسانهم "ملحمة كتبت علينا".
ولكن لما كان عامة اليهود أنفسهم لا تقبل نفوسهم هذه التأويلات الركيكة الباطلة، ولا يعترفون بصحتها وسلامتها، كانوا يتواصون فيما بينهم أن لا يفشوا هذا السر ولا يتعالنوه فيما بينهم:
{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}
فيا أسفى على جهل اليهود بل على كذبهم وافترائهم، أفهل كان امتتان الله - تعالى - على هاجر وإسماعيل عليهما السلام بهذه المبالغة والتأكيد، وذكر هذه الأمة الخيرة بهذا التشريف والتكريم يعني غير ذلك من معنى؟ يمكن به اليهود أن يزعموا أن هذه الآيات لا تدل على الحث والتحريض على إتباع هذا الدين والتسليم له! سبحانك هذا إفك عظيم.
الإلحاق والافتراء
وأما الإلحاق والافتراء على الله - تعالى - ونسبة ما يكتبونه إلى الله - تعالى - وإلى التوراة، فيرجع سببه إلى أن أحبارهم ورهبانهم تعقموا وتشددوا في الدين، وسلكوا طريق الاستحسان أي استنباط بعض الأحكام بناءًأ على إدراك المصالح فيها بدون أي نص من الشارع، (بل بالعقل المصلحي والهوى البشري) ورجحوا استنباطات واهية، واستسحانات دخلية، فوضعها أتباعهم موضع الأصل وألحقوها به، واعتقدوا اتفاق سلفهم على شيء حجة قاطعة، ولم يكن لديهم مستند في إنكار نبوة عيسى عليه السلام إلا أقوال سلفهم، وكذلك حالهم في كثير من الأحكام.
وأما التقصير والتساهل في تنفيذ أحكام الشريعة وارتكاب المناهي، والبخل والحرص، وما إلى ذلك فظاهر أنه من
مقتضيات النفي الإمارة بالسوء ولا ينجو منها إلا من شاء ربك ورحمه.
{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}
ولكن هذه الرزيلة في أهل الكتاب تحمل لوناً آخر، إذ أنهم يتكلفون تأويلات فاسدة لتبيرها، وإبرازها في صورة التدين وصبغها بصبغة الأحكام الشرعية.
أسباب استبعاد رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
وأما استبعاد رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيرجع سببه إلى اختلاف عادات الأنبياء وأحوالهم وسيرهم في الإكثار من التزوج مثلاً والتقليل منه، وأمثال ذلك، واختلاف شرائعهم ومناهجهم، واختلاف سنن الله - تعالى - في معاملة انبيائه ورسله، وبعثة نبي إسماعيل، وقد كان جمهور الأنبياء قبل ذلك يبعثون في بني إسرائيل، وأمثال هذه الأسباب.
الغرض من النبوة:
والأصل في هذه المسالة أن النبوة يقصد منه إصلاح النفوس، وإصلاح العادات الجارية في القوم الذي يبعث إليه النبي لا إنشاء أصول البر والإثم، والخير والشر.
مجال عمل النبوة في إصلاح الناس:
وكل قوم يملك عادات ومناهج خاصة في عباداته، ونظام اسرته، واجتماعه وسياسته ومدنيته، فإذا ظهرت فيه النبوة، فإنها لا تستأصل هذه العادات ولا تضع له عادات جديدة، بل إنما تقييم الميزان القسط، وتمييز بينها، فما كان منها موافقاً للأصل، مطابقاً لرضا الله - تعالى - أبقته وحفظته، وما كان منها مخالفاً لرضا الله - تعالى - أبقته وحفظته، وما كان منها مخالفاً للأصل، منافياً لرضا الله - تعالى - عدلته حسب الضرورة وسوته.
كذلك يكون التذكير بآلاء الله، والتذكير بايام الله - على هذا الأسلوب - بمكا يكون معروفاً عندهم، شائعاً لديهم، فهذا هو السبب في اختلاف شرائع الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه -.
اختلاف شرائع الأنبياء كاختلاف وصفات الطبيب:
وهذا الاختلاف في شرائع الأنبياء كالاختلاف في أحكام الطبيب، فإنه عند معالجته لشخصين مختلفى المزاج، يصف لأحدهما أدوية وأغذية باردة، وللآخر أدوية وأغذية حارة، وغرض الطبيب من معالجتهما واحد، وهو إصلاح مزاجه، وإزالة الفساد الطارئ عليه، ليس غير، ويمكن أن يصف الطبيب لكل منطقة أدوية وأغذية مختلقة تلائم أهلها، كما
يمكن أن يختار في كل فصل من فصول وطقس من الطقوس علاجاً مختلفاً يناسب الفصل والطقس.
كذلك لما أراد الحكيم المطلق والطبيب الحقيقي معالجة مرض النفوس والقلوب، واقتضت مشيئته - جل مجده - إصلاح مزاجهم، وتقوية ملكاتهم وإزالة الفساد الطارئ عليهم، اختلف عرجه - تقدست أسماؤه - لاختلاف عادات الشعوب والأمم واختلاف ملكاتهم واستعداداتهم ومراعاة للمشهورات والمسلمات عندهم.
وعل كل، فإنك إذا أردت أن ترى نماذج اليهود في هذه الأمة فانظر إلى علماء السوء، طلاب الدنيا، المولعين بتقليد آبائهم، المعرضين عن كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يستندون إلى تعمقات العلماء وتشديداتهم، واستنباطاتهم التي لا اصل لها في الكتاب والسنة، تاركين كلام الشارع المعصوم صلى الله عليه وسلم يتتبعون الأحاديث الموضوعة. ويجرون وراء التأويلات الفاسدة.
الجدل القرآني مع النصارى
ضلال النصارى في بحث حقيقة المسيح عليه السلام: -
لقد كان النصارى يؤمنون بسيدنا عيسى عليه السلام ولكن كان ضلالهم في تقسيمهم الرب تبارك وتعالى إلى
ثلاثة أجزاء تتتغاير من بعض الوجوه، وتتحد من بعض آخر، وكانوا يسمونها "الأقانيم الثلاثة" أحدها: الأب الذي يحتل مكانة "مبدأ العالم"، والثاني: الإبن، وهو بمعنى "الصادر الأول" الذي يعني الكلي العام الشامل لجميع الموجودات، والثالث: أقنوم روح القدس، وهو يعني "العقول المجردة".
أقنوم "الإبن" تقمص المسيح عليه السلام:
وكانوا يعتقدون أن أقنوم الإبن تقمص روح المسيح - عليه الصلام - أي أن الملك جبريل كما كان يأتي - أحياناً - في صورة رجل، كذلك ظهر "الإبن" في صورة عيسى، ولذلك فهو "الإله" أيضاً، وهو "ابن الله" كذلك، وهو البشر أيضاًَ، وتجري بالنسبة إليه الأحكام البشرية والأحكام الإلهية على السواء.
دليل هذه العقيدة الباطلة:
وقد استندوا في استنباط هذه العقيدة الغريبة إلى بعض الآيات في الإنجيل التذ ذكر فيها لفظ "الإبن" والآيات التي نسب فيها المسيح عليه السلام بعض أفعال الله - تعالى - إلى نفسه.
جواب الإشكال الأول:
وجواب الإشكال الأول - وهو ورود لفظ "الإبن"
في آيات الإنجيل بالنسبة لعيسى عليه السلام إذا سلمنا أن ما نقل في الإنجيل من مثل هذه الآيات هي من كلام عيسى عليه السلام لا من الإضافات والإلحاقات - أن لفظ "الإبن" في العهد القديم كان يستعمل بمعنى المقرب والمحبوب والمختار، وتشهد على هذه الدعوى دلائل وقرائن كثيرة في الإنجيل.
جواب الإشكال الثاني:
وجواب الإشكال الثاني - وهو نسبة سيدنا عيسى عليه السلام بعض أفعال الله - تعالى إلى نفسه - إذا سلمنا صحتها وثبوت نقلها عنه - أنها على طريق الحكاية، مثل أن يحكي رسول الملك عنه فيقول: فتحنا البلد الفلاني، وحكمنا القلعة الفلانية، فظاهر أن هذا الرسول ليس إلا ترجماناً للملك ومبلغاً عنه، وحقيقة الفعل راجعة إلى نفسه.
نوع خاص من الوحي:
ويمكن أن الوحي إلى عيسى عليه السلام عن طريق إنطباع المعاني في لوح قلبه من قبل الملأ الأعلى، لا تمثل جبريل عليه السلام بصورة البشر وإلقاء الوحي إليه، فبسبب هذا الإنطباع المباشر جري منه من الكلام ما أشعر بنسبة الأفعال إليه، مع أن الحقيقة غير ذلك، والأمر واضح. وبالجملة فإن الله - تعالى - رد على هذه المسالك الباطلة،
وبين أن عيسى عبد الله، وروحه الطاهرة التي نفخ بها في مريم الصديقة عليها السلام وأنه أيده بروح القدس، وحاطه بعناية وكلاءة خاصة.
الخطأ في استعمال الألفاظ:
وعل كل، فلو سلمنا - جدلاً - أن الله - تعالى - ظهر في كسوة روحية من جنس سائر الأرواح، وتدرع بالبشرية، ثم أردنا أن نكشف هذه النسبة والعلاقة كشفاً لم يجز لنا أن نستعمل لذلك لفظ "الاتحاد" إلا بتجوز كبير، وأقرب ما يمكن التعبير به عنه هو لفظ "التقويم" أو شبهه من الألفاظ.
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
موازنة بين النصارى وبين المبتدعة من المسلمين:
وإذا أردت أن ترى نموذجاً لهؤلاء الضالين في قومك فانظر إلى كثير من أولاد الأولياء و"المقدسين" ما هي تصوراتهم عنهم واعتقاداتهم فيهم وإلى أي حد وصلوا بهم! "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
اعتقادهم بصلب المسيح عليه السلام:
ومن ضلالات النصارى في معتقداتهم أنهم يؤمنون بقتل
عيسى صلباً، مع أن الواقع خلاف ذلك، وقد شبه لهم والتبس عليهم الأمر، فظنوا رفع عيسى عليه السلام إلى السماء قتلاً له وصلباً، وتوارثوا ذلك فيما بينهم جيلاً بعد جيل حتى كشف القرآن الكريم عن شبهتهم وأزاح الستار عن الحقيقة قائلاً:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} .
وما حكى في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام مما يشير إلى قتاه، فإنه ليس إلا إخباراً منه بجراءة اليهود وإجرامهم وإقدامهم على قتله، لكن الله عصمه منهم وخلصه من أيديهم، وما جاء فيه من كلام الحواريين بهذا الصدد فإنه ناشئ عن الاشتباه والتباس الأمر، ولم يكن لهم إطلاع على الرفع الذي لم تكن تألفه عقولهم ولم تسمعه من آذانهم.
ضلالهم في حمل "فارقليط" على عيسى عليه السلام "
ومن ضلالاتهم أيضاً أنهم يزعمون أن الفار قليط الموعود بمجيئه والمبشر بقدومه في الإنجيل، هو عيسى عليه السلام نفسه الذي جاء بعد قتله - حسب زعمهم - إلى الحواريين، وأوصاهم بالتمسك بالإنجيل، ويزعمون أن عيسى عليه السلام أوصاهم أيضاً بأن المدعين للنبوة سيكثرون، فمن ذكرني وسماني فاقبلوا كلامه، وإلا فرده.
وقد بين القرآن العظيم أن بشارة عيسى عليه السلام -
تصدق على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا على الصورة الروحية لعيسى عليه السلام كما يدعون، إذ أنه قد صرح في الإنجيل بأن "فار قليط يمكث فيكم مدة طويلة، ويعلمكم ويزكي النفوس" ولم يظهر ذلك بعد عيسى عليه السلام إلا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأما ذكر عيسى وتسميته، فالغرض منه التصديق بنبوته، لا أن يتخذ رباً، أو يعتقد بأنه ابن الله {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
الجدل القرآني مع المنافقين
المنافقون صنفان:
كان المنافقون صنفين، فكانت طائفة منهم تشهد بلسانها بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولكن قلوبها كانت مطمئنة إلى الكفر والجحود، وكانت تتظاهر بإسلامها للمصالح، وهؤلاء هم الذين قيل فيهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} .
مظاهر النفاق العملي:
وكانت الطائفة الأخرى ممن دخلوا في الإسلام مع ضعف فيه وقلة إيمان به، فهم - مثلاً - يجرون على عادات قومهم ويدورون مع مصلحتهم، فإن أسلم قومهم أسلموا، وإن كفر.
كفروا، أو كان الانسياق وراء اللذات الدنيوية قد ملك قلوبهم بحيث لم يذر مكاناً لحب الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم أو استولى عليهم الحرص وحب المال، والحسد والضغينة وما إلى ذلك من رذائل الأخلاق والعادات بحيث لم تعد في قلوبهم بشاشة الإيمان وحلاوة الدعاء والابتهال وبركات العبادات، أو انغمسوا في شئون دنياهم إلى حد أن لم تكن لديهم فرصة العبادات، أو انغمسوا في شئون دنياهم إلى حد أن لم تكن لديهم فرصة ترقب الآخرة والتفكير فيها، أو كانت تمر لديهم فرصة ترقب الآخرة والتفكير فيها، أو كانت تمر بخواطرهم وقلوبهم ظنون سيئة وشبهات سطحية ركيكة في رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم رغم أنهم لم يبلغ بهم الحال إني أن يخلعوا عن عنقهم ربقة الإسلام، وينفضوا منه أيديهم بتاتاً.
وقد كانت تنشأ عندهم هذه الشكوك والشبهات بسبب ما يجري من أحكام البشرية على ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وبسبب ظهور الملة الإسلامية في صورة سيطرة الملوك واستيلائهم على نواحي البلاد، وأمثال ذلك (من الأساباب المادية التي قد تشوش بعض ضعاف الإيمان وتنشئ فيهم الشبهات) أو لحبهم لقبائلهم وعشائرهم - مثلاً - الذي دفعهم إلى أن يساعدوها ويقووها ويؤيدوها - جهدهم - ولو على حساب الإسلام، ومناوءة أهله، وبذلك يضعفون الإسلام ويلحقون به الضرر. وهذا القسم من النفاق، هو نفاق الأعمال والأخلاق.
النفاق الاعتقادي لا يطلع عليه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم:
أما النفاق الأول - وهو النفاق الاعتقادي - فإنه لا يطلع عليه بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ إنه من الأمور المغيبة، ولا اطلاع لأحد على مكنونات القلب ومغيباته.
النفاق العملي كثير الوقوع:
وأما النفاق الثاني - وهو النفاق العملي - فإنه كثير الوقوع لا سيما في عصرنا هذا، وإلى هذا النفاق وقعت الإشارة في الحديث الشريف، الذي جاء فيه:
"ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر".
و"هم المنافق بطنه وهم المؤمن فرسه" إلى غير ذلك من الأحاديث.
كشف القرآن عن أحوال المنافقين:
وقد كشف الله - تعالى - في القرآن الحكيم عن أعمال هؤلاء المنافقين وأخلاقهم، وبينها أتم بيان، وأكثر من ذكر أحوال الطائفتين من المنافقين حتى تكون الأمة على حذر منها وتجتنبها كل الإجتناب.
نماذج المنافقين في هذا العصر:
وإن كنت تحب أن تشاهد نموذجاً لهؤلاء المنافقين فاشهد في مجالس الأمراء، أصحابهم وندماءهم الذين يؤثرون رضا أمرائهم على رضا الله - تعالى - ولا فرق إطلاقاً بين المنافقين الذين سمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ثم نافقوا وبين هؤلاء المنافقين الآن الذين يطلعون على أحكام الشريعة الإسلامية بالوسائط اليقينية القاطعة ثم يخالفونها وينحرفون عنها.
نفاق المناطقة والفلاسفة:
كذلك طائفة المناطقة والفلاسفة الذين بذرت في قلوبهم بذور الشكوك وتمكنت منهم كثير من الشبهات، ونسوا الدار الآخرة، هم أيضاً من المنافقين من دون شك.
القرآن كتاب كل عصر:
وعل كل، فإنه لا ينبغي أن يظن عند تلاوة القرآن الكريم، أن جداله ومحاجته كانا مع أناس قد انتهوا وانقضوا، كلا، بل إنه بحكم ما جاء في الحديث:"لتتبعن سنن من كان قبلكم إلخ".
ليست هنا من فتنة كانت في عهد الرسالة - صلى الله على صاحبها وسلم - إلا ولها نماذج وأمثلة في عصرنا هذا، ولذلك
فالمطلوب الحقيقى هو بيان كليات هذه المقاصد والمعاني لا خصوص الحوادث والتفصيلات الجزئية.
وهذا هو التحقيق الذي تيسر لي في تفصيل عقائد هذه الفرق الباطلة والردود عليها، وأخال أن هذا البحث المحقق. فيه غنية وكفاية لفهم آيات الجدل القرآني إن شاء الله - تعالى -.
* * *