الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
في ترتيب مباحث القرآن الكريم
حكمة الدعوة والعرض:
لو أثار أحد السؤال: لماذا لم يراع الترتيب في بيان مباحث القرآن العظيم؟ ولماذا نثرت هكذا نثراً؟ فلماذا لم يبدأ - مثلا - ببيان آلاء الله - تعالى - حتى إذا استوفاها حقها، شرع في بيان أيام الله - تعالى - فإذا أتمها وأكملها بدأ بالجدل مع الكفار وغيرهم؟
…
فنقول: إن قدرة الله تبارك وتعالى وإن كانت محيطة بجميع الممكنات، ولكن القول الفصل في هذا الباب إنما هو للحكمة (إذ أنه كتاب حكيم من لدن حكيم خبير) والحكمة هي موافقة المبعوث إليهم في اللسان وأسلوب البيان، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة في قوله - تعالى -:{لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} إلخ الآية. ولم يكن لدى العرب إلى حين نزول القرآن الحكيم، كتاب، لا كتاب إلهي ولا كتاب بشري.
أسلوب الأولين لا اختراع المصنفين المتأخرين:
وإن الترتيب الذي اخترعه المؤلفون والمصنفون المتأخرون لم يكن يعرفه العرب الأولون، وإذا كنت في شك من هذا،
فارجع إلى قصائد الشعراء المخضرمين، واقرأ رسائل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ورسائل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى تنكشف لك هذه الحقيقة جلية واضحة، فلو جاء الكلام على غير ما كانوا يعهدونه من طرائق البيان، لوقعوا في الحيرة، وواجههم شيء لا يألفونه ولا يأنسون به، وشوش عقولهم وأقلق خاطرهم.
ثم إن الغرض ليس مجرد إفادة ما لا يعلمونه، بل إفادته مع التكرار والاستحضار مرة بعد مرة، ويتوفر هذا المعنى في غير المرتب ما لا يتوفر في المرتب من الكلام (على طريقة المتون الكتابية) .
وجه اختيار الأوزان والقوافي الجديدة:
ولو سألنا: لماذا لم يختر القرآن الكريم تلك الأوزان والقوافي التي تعرف لدى الشعراء وهي أحلى وألذ، قلنا: إن اللذة والحلاوة أمر نسبي، يختلف باختلاف الشعوب والبلدان والعقول والأذواق، ولو سلمنا - جدلا - أن تلك أحلى وألذ، فإن إبداع أسلوب جديد ونموذج جديد من الأوزان والقوافي على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، آية ظاهرة من الآيات الدالة على نبوته ورسالته ولو كان القرآن قد نزل على أوزان الشعر وقوافيه المعروفة لذهبت بالكفار الظنون إلى أنه شعر من شعرهم المتداول المعروف، ولم يعيروه كبير اهتمام ولم يبالوا به.
ومعلوم أن البلغاء من الشعراء المفلقين والكتاب المجيدين
حين يحاولون إبراز مزيتهم وفضلهم ورجحانهم على أقرانهم ومعاصريهم على رؤوس الأشهاد، يأتون بصناعة جديدة، ويستنبطون بحورا جديدة ويقولون عند ذلك: هل هناك من يقرض القصيد مثلي، وينشئ الكلام على حذوي؟ فلو جرى هؤلاء على الطريقة المطروقة في الشعر والنثر لم تظهر براعتهم إلا للمحققين البارعين.