الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
هل الكفارات عقوبات أم جوابر
؟
تحدث الفقهاء عن الكفارات من حيث بيان حقيقتها وصفتها، هل هي عقوبة أم جابرة للخلل الذي أحدثه المكلف؟ أم تجمع بين الصفتين؟ وهذه بعض أقوالهم:
في شرح تنقيح الفصول للقرافي: "وكفارة الحنث جابرة لما فات من البر"(1).
وفي تفسير الألوسي عند تفسير قوله تعالى من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 3 - 4]. قال: "ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة، وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب، وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار: الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناء على أن الكفارات زواجر كالتعازير، أو جوابر للخلل، ورجح ابن عبد السلام الثاني، لأنها عبادة، لافتقارها للنية أي: فهي كسجود السهو، إلى أن قال: ومتى قيل: بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا
(1) شرح تنقيح الفصول (ص 269).
يعدّ ثوابا لا يخلو عن نظر ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب، وإن تضمنه في الجملة فتأمل" (1) انتهى.
ويقول العز ابن عبد السلام: " (قاعدة) في الجوابر والزواجر.
الجوابر مشروعة لجلب ما فات من المصالح، والزواجر مشروعة لدرء المفاسد، والغرض من الجوابر جبر ما فات من مصالح حقوق الله وحقوق عباده، ولا يشترط في ذلك أن يكون من وجب عليه الجبر آثمًا، وكذلك شرع الجبر مع الخطأ والعمد والجهل والعلم والذكر والنسيان، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجرًا له عن المعصية، وقد تجب الزواجر دفعًا للمفاسد من غير إثم ولا عدوان
…
وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر أم جوابر؟ فمنهم من جعلها زواجر عن العصيان؛ لأن تفويت الأموال وتحميل المشاق رادع زاجر عن الإثم والعدوان، والظاهر أنها جوابر؛ لأنها عبادات وقربات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله زاجرًا، بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست بقربات إذ ليست فعلا للمزجور، وإنما يفعلها الأئمة ونوابهم" (2).
ويقول السبكي: "قاعدة الكفارات من العبادات جابر وزاجر، والمعنى بالجابر: ما يجبر مصلحة فاتت ويستدركها، فهو داخل في جلب المصالح، والمعنى بالزاجر: ما يمنع من ارتكاب مفسدة. إما محرمة أو مكروهة أو مصورة بصورة المحرم؛
…
إذا عرفت هذا؛ فقد اختلف في الكفارات أهي من الجوابر أو الزواجر؛ فقال
(1) روح المعاني (14/ 208).
(2)
قواعد الأحكام (1/ 178).
كثيرون: إنها جوابر لما فات من حق الله تعالى بدليل وجوبها على حافر البئر والنائم ونحوهما، ولأنها عبادات للنية فيها مدخل؛ فلا تشبه الحدود والتعزيرات التي هي زواجر محضة وقال آخرون بل هي زواجر عن الفعل الذي وضعت بإزائه، إما لفاعله أن يقع في مثله أو لغيره أن يفعل مثل فعله (1).
وفي شرح زاد المستقنع للشيخ محمد الشنقيطي: "وقوله: الكفارة عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان، ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة، ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة"(2).
وجاء في الموسوعة الفقهية: "حقوق دائرة بين العبادة والعقوبة وهي الكفارات، مثل: كفارة الظهار، وكفارة الفطر في رمضان عمدا، وكفارة الحنث في اليمين، والكفارة عقوبة لأنها وجبت جزاء على الفعل المحظور شرعا، فالعقوبة في الكفارة من جهة الوجوب، وأما العبادة في الكفارات فهي من جهة الأداء، لأنها تؤدى ببعض أنواع العبادات، مثل: الصوم والإطعام والعتق.
أما كفارة الفطر في رمضان عمدًا فإن جهة العقوبة فيها غالبة، لأنه ليس في الإفطار عمدا شبهة الإباحة بوجه ما، ولما كانت جناية المفطر عمدًا كاملة، كان المفروض أن يترتب على ذلك عقوبة محضة، ولكنه عدل عن ذلك لقصور الجناية من حيث
(1) الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 424 - 425).
(2)
شرح زاد المستقنع للشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي - مادة صوتية مفرغة - باب مفسدات الصوم.
إن المفطر ليس مبطلا لحق الله الثابت، وإنما هو مانع من تسليم الحق إلى مستحقه. ولذلك لم يكن الزجر عقوبة محضة، لأن تقصيره كان لضعفه وعدم
قدرته على أداء ما وجب عليه، وذلك مع التسليم بخطئه وقبح فعله (1).
أما بقية الكفارات فإن العقوبة فيها تبع" (2).
ومن خلال ما تقدم يمكن توصيف الكفارات بما يلي:
أولاً: أنها عقوبات لمن ارتكب موجبها، وزواجر لمن يهمَّ بارتكابه في بعض الأفعال، وذلك في كفارة القتل الخطأ
وكفارة الظهار، وكفارة قتل الصيد بالنسبة للمُحرِم، وكفارة المجامع أهله في نهار رمضان.
ثانياً: أنها جوابر للخلل الذي وقع من المكلف وذلك في كفارة اليمين، وما شابهه.
ثالثاً: أنها جميعها عبادات لله تعالى يؤجر صاحبها على فعلها مع النية والإخلاص، كونها عبارة عن عتق أو صيام أو إطعام، ويرفع بها عنه إثم المخالفة لأنها حسنة بعد سيئة، والله تعالى يقول:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه:(اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)(3).
(1) وهذا في حق من يعظم الصوم، وهو من أهل الصيام إلا أنه ضعف أمام شهوته فأفطر بالجماع، أما من لا يرعى حرمة الصيام، وتعمد الإفطار من غير استشعار لخطئه فهذا مرتكب لكبيرة تقتضي التوبة النصوح بالإضافة إلى وجوب الكفارة.
(2)
الموسوعة الفقهية الكويتية (18/ 16 - 17).
(3)
أخرجه الترمذي (1987)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.