الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس
إخراج الكفارة بين الفور والتراخي
اختلف العلماء في وجوب إخراج الكفارة والقيام بها، هل هو على الفور أم على التراخي؟
القول الأول: أنها على التراخي، وهو مذهب الأحناف، ورواية في مذهب أحمد.
يقول الكاساني: "الكفارات كلها واجبة على التراخي هو الصحيح من مذهب أصحابنا في الأمر المطلق عن الوقت حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان ويكون مؤديا لا قاضيًا.
ومعنى الوجوب على التراخي هو أن يجب في جزء من عمره غير معين، وإنما يتعين بتعيينه فعلا، أو في آخر عمره؛ بأن أخره إلى وقت يغلب على ظنه أنه لو لم يؤد فيه لفات، فإذا أدى فقد أدى الواجب" (1).
وقال صاحب البحر الرائق: "وهي واجبةٌ على التّراخي على الصّحيح
…
" (2).
والقول الثاني أنها تجب على الفور وهو قول الحنابلة والمالكية:
قال الخرشي المالكي في شرح مختصر خليل: "وهل الكفّارة واجبةٌ على الفور أو التّراخي؟ والظّاهر: الأوّل
…
" (3).
(1) بدائع الصنائع (5/ 96 - 97).
(2)
البحر الرائق (4/ 109).
(3)
شرح مختصر خليل (3/ 58).
وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: "نصّ الإمام أحمد رحمه الله على وجوب كفّارة اليمين والنّذر على الفور إذا حنث. وهو الصّحيح من المذهب. وقيل: لا يجبان على الفور
…
" (1).
وقال ابن تيمية: "قضاء النذر، والكفارة عندنا: على الفور، فهو كالمتعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت"(2).
وقال الشيخ ابن عثيمين: "كذلك من حفظ اليمين: إخراج الكفارة بعد الحنث، والكفارة واجبة فورًا؛ لأن الأصل في الواجبات هو الفورية، وهو قيام بما تقتضيه اليمين "(3).
الرأي الثالث لبعض الشافعية، وقول في المذهب الحنبلي:
التفريق بين الحنث طاعة، والحنث معصية، فقالوا بالتراخي في الأول، والفور في الثاني.
جاء في تحفة المحتاج: "هل يجب إخراج الكفّارة على الفور؟ قال في التّتمّة: إن كان الحنث معصيةً، فنعم وإلا فلا"(4).
وقال النووي في المجموع: "وأمّا الكفّارة: فإن كانت بغير عدوانٍ، ككفّارة القتل خطأً، وكفّارة اليمين في بعض الصّور: فهي على التّراخي بلا خلافٍ؛ لأنّه معذورٌ. وإن كان متعدّيًا فهل هي على الفور أم على التّراخي؟ فيه وجهان حكاهما القفّال والأصحاب، أصحّهما: على الفور
…
" (5).
(1) الإنصاف (11/ 44).
(2)
الفتاوى الكبرى (5/ 518).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 456)، الشرح الممتع (15/ 159).
(4)
تحفة المحتاج في شرح المنهاج (10/ 18)
(5)
المجموع (3/ 70).
وقال الزركشي في قواعده: "هل تجب على الفور؟ -يعني الكفارة- إن لم يتعد بسببه فعلى التراخي وإلا فعلى الفور، وقال المتولي: إذا عصى بالحنث لم يبح له تأخير التكفير، وإن كان الحنث طاعة أو مباحاً فالأولى أن يبرئ الذمة، فلو أخر فلا حرج عليه"(1).
وسبب الخلاف هو قاعدة الأمر المطلق هل يحمل عل الفور أم على التراخي، والمسألة طويلة الخلاف والاحتجاجات، والردود، فتراجع في مظانها.
ويمكن أن يقال في المسألة السابقة:
الأصل أن يبادر المسلم إلى تنفيذ وامتثال أوامر الله تعالى، والوفاء بما عليه من الالتزامات والتكاليف الشرعية، والديون التي في الذمة، فإن هذه أقرب لتحقيق مقصود الشرع من تحقق المسارعة في الامتثال، ومواساة المحتاجين من الأمة، والتخفيف عنهم، وهو كذلك أبرأ للذمة، وأيسر على النفس في القيام بمقتضى الكفارات، فإن الإنسان إذا سوف وأخر الامتثال ربما تراكمت عليه، وقد ينسى بعضها، وقد يتعسر عليها الوفاء بها.
ولو أخرها الإنسان ثم أداها في وقت لاحق، فقد أدى ما عليه، ولا إثم عليه، إلا أنه فعل خلاف الأولى.
مسألة: حكم من أخر الكفارة حتى مات:
له حالتان:
الأولى: أن يكون معذوراً، فلم يتمكن من أدائها، فهذا لا شيء عليه، لأن الخطاب الشرعي تتحقق المؤاخذة عليه حال التمكن وعدم الامتثال.
(1) المنثور في القواعد الفقهية (3/ 103).
والثانية: أن يتمكن ثم يسوِّف حتى مات، فهذا اختلف العلماء في إخراج الكفارة عنه.
يقول الماوردي: "إذا وجب عليه صيام أيام من نذر أو كفارة أو قضاء فلم يصمها حتى مات، فله حالان:
أحدهما: أن يموت بعد إمكان القضاء.
والثاني: أن يموت قبل إمكان القضاء.
فإن مات قبل إمكان القضاء سقط عنه الصوم ولا كفارة في ماله.
وإن مات بعد إمكان القضاء، سقط عنه الصوم أيضًا ووجب في ماله الكفارة عن كل يوم مد من طعام، ولا يجوز لوليه أن يصوم عنه بعد موته، هذا مذهب الشافعي في القديم والجديد، وبه قال مالك وأبو حنيفة وهو إجماع الصحابة (1).
وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يصوم عنه وليه إن شاء أو يستأجر من يصوم عنه، وقد حكى بعض أصحابنا هذا القول عن الشافعي في القديم، قال: لأنه قال وقد روي في ذلك خبر فإن صح قلت به، فخرجه قولاً ثانيًا، وأنكره سائر أصحابنا أن يكون للشافعي مذهبا (2).
استدل من أجاز الصوم عن الميت بما يلي (3):
(1) الحاوي للماوردي (3/ 452 - 453)، وانظر: المبسوط (3/ 89)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 402)، العناية شرح الهداية (2/ 360)، الذخيرة (2/ 524)، مواهب الجليل (2/ 544).
(2)
الحاوي للماوردي (3/ 452 - 453). وانظر: المبسوط (3/ 89)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 402)، العناية شرح الهداية (2/ 360)، شرح الزركشي (7/ 223) ..
(3)
الحاوي للماوردي (3/ 452 - 453)، وانظر: المبسوط (3/ 89)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 402)، العناية شرح الهداية (2/ 360)، الذخيرة (2/ 524)، مواهب الجليل (2/ 544).
1 ـ ما رواه عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه الصيام صام عنه وليه)(1) وقد رواه أيضا ابن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ـ وروى سعد بن أبي وقاص أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها صوم فقال صلى الله عليه وسلم: (اقض عنها)(2).
3 ـ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن تصوم شهرا، فماتت قبل أن تصوم فسأل أخوها، رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالصيام عنها (3).
4 ـ ولأنها عبادة يدخلها الجبران بالمال فجاز أن تدخلها النيابة كالحج.
واستدل المانعون بما يلي (4):
1 ـ رواية نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم رمضان فليطعم عن كل يوم مسكينا)(5)
فأسقط القضاء وأمر بالكفارة.
(1) أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).
(2)
أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).
(3)
أخرجه أبو داود (3308).
(4)
الحاوي للماوردي (3/ 452 - 453). وانظر: شرح الزركشي (7/ 223) ..
(5)
أخرجه ابن خزيمة (2056)، وهو ضعيف. قال ابن الملقن: "هذا الحديث رواه الترمذي من حديث قتيبة، ثنا عبثر بن القاسم، عن أشعث، عن محمد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا) ورواه ابن ماجه من حديث قتيبة أيضا وقال: عن محمد بن سيرين. وهو وهم؛ وإنما هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر. قال: وأشعث هو ابن سوار، ومحمد هو ابن عبد الرحمن ابن أبي ليلى. قلت: وكلاهما ضعيف، أما أشعث بن سوار فالأكثر على أنه غير مرضي ولا مختار
…
وأما ابن أبي ليلى فصدوق سيئ الحفظ، قال ابن معين: ليس بذاك. وقال مرة: ضعيف. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: محله الصدق، شغل بالقضاء فساء حفظه، لا يتهم بشيء من الكذب، إنما ينكر عليه كثرة الخطأ. وقال العجلي: كان فقيها صاحب سنة جائز الحديث. والصحيح أنه موقوف على ابن عمر كما قاله الترمذي وغيره من الحفاظ. قال الدارقطني: المحفوظ وقفه عليه. وقال البيهقي: إنه الصحيح. قال: وقد رواه ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر رفعه " في الذي يموت وعليه رمضان لم يقضه قال: يطعم عنه لكل يوم نصف صاع من بر قال: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: رفعه فإنما هو موقوف. والثاني: قوله: " نصف صاع " وإنما قال ابن عمر: "مدا من حنطة " قال: وروي من (وجه) آخر عن ابن أبي ليلى ليس فيه ذكر الصاع. ثم ذكر الرواية التي (رويناها) أولا". انظر: البدر المنير (5/ 730 - 731) .. وقال الحافظ ابن حجر: "روي مرفوعا وموقوفا الترمذي عن قتيبة عن عبثر بن القاسم عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح أنه موقوف على ابن عمر قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى قلت رواه ابن ماجه من هذا الوجه ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبد الرحمن وهو وهم منه أو من شيخه وقال الدارقطني المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك". التلخيص الحبير (2/ 453).
2 ـ ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد)(1).
3 ـ أنه إجماع الصحابة فقد روي عن ابن عباس وعمر وعائشة رضي الله عنهم، أنهم قالوا: من
مات وعليه صوم أطعم عنه، ولا يصوم أحد عن أحد، ولا مخالف لهم.
4 ـ ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة مع العجز، فوجب أن لا تدخلها النيابة بعد الوفاة، أصله الصلاة، وعكسه الحج.
(1) قال ابن حجر: "حديث لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد لم أجده مرفوعا وأخرجه عبد الرزاق عن عبد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر موقوفا بهذا وزاد ولكن إن كنت فاعلا تصدقت عنه أو أهديت وهو في الموطأ ولأبي مصعب عن مالك أنه بلغه أن ابن عمر قال فذكره وروى الترمذي من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن ان عمر رفعه في رجل مات وعليه صيام يطعم عنه عن كل يوم مسكين قال الصحيح عن ابن عمر موقوف وقال الدارقطني المحفوظ موقوف وقال البيهقي رواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر موقوفا .. ". الدراية (1/ 283).
5 ـ ولأن الصوم إذا فات انتقل عنه إلى المال لا إلى النيابة كالشيخ الهرم.
فأما ما رووه من الأخبار، فالمراد بها فعل ما ينوب عن الصيام من الإطعام بدليل ما ذكرنا.
وأما قياسهم على الحج، فالمعنى فيه جواز النيابة في حال الحياة (1).
والراجح ما يلي:
أولاً: وجوب إخراج الكفارة طعاماً إن وصى الميت بذلك.
ثانياً: مشروعية إخراج الكفارة عنه إن علم بها الوارث من تركته ما لم تصل إلى الثلث.
ثالثاً: مشروعية الصيام عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(اقضوا فالله أحق بالقضاء).
(1) الحاوي للماوردي (3/ 452 - 453).