الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: أن يحلف على شيء يظن صدقه، فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ.
وحكم هذه اليمين: أنه لا كفارة فيها، ولا مؤاخذة عليها (1)؛ لصريح الآية المتقدمة.
ثانياً: اليمين المنعقدة:
وصورتها: أن يحلف الشخص على أمر من المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، أو يحلف على غيره وأمره بأن يفعل شيئاً.
وحكمها: وجوب الكفارة فيها عند الحنث.
يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225].
ثالثاً: اليمين الغموس:
هي أن يحلف الشخص على خلاف ما يعلم متعمدا الكذب في ذلك ليحق بها باطلاً، أو يبطل حقاً.
فهي اليمين الكاذبة التي تهضم بها الحقوق، أو التي يقصد بها الغش والخيانة.
(1) فقه السنة (3/ 18).
(2)
فقه السنة (3/ 19).
وحكمها: هي كبيرة من كبائر الإثم، وسميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم، أو في الإثم، وتجب التوبة منها لله تعالى، ورد الحقوق إلى أصحابها إذا ترتب عليها ضياع هذه الحقوق.
1 ـ يقول الله سبحانه: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94].
2 -
وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، ويمين صابرة يقطع بها مالا بغير حق)(1).
3 -
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)(2).
ولقد اختلف العلماء في اليمين الغموس هل تجب فيها الكفارة؟ على قولين:
القول الأول: أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها، وهو رأي الجمهور، قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال
(1) أخرجه أحمد (8737). قال محقق المسند: "إسناده ضعيف، المتوكل أو أبو المتوكل مختلف في اسمه، قال الحافظ في "تعجيل المنفعة" (ص 391): جزم البخاري وتبعه ابن أبي حاتم بأنه المتوكل، اسم لا كنية، وقال أبو حاتم: هو مجهول، وهذا هو المعتمد. قلنا: ولم نجد في مطبوع "الجرح والتعديل" (8/ 372) أنه جهله، ولم نجد أحداً روى عنه غير خالد بن معدان، وبقية يدلس تدليس التسوية، وقد عنعن، وباقي رجاله ثقات". انظر: مسند الإمام أحمد (14/ 351) تحقيق: شعيب الأرنؤوط.
(2)
أخرجه البخاري (6675).
أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة (1).
القول الثاني: هي يمين تجب فيها الكفارة (2)، وهو مذهب الشافعي، ورواية لأحمد، وهو قول عطاء والزهري (3).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)(4) فإنه يدل على أن الكفارة تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله (5).
2 ـ قول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]. قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجًا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر
(1) المبسوط (8/ 127)، تحفة الفقهاء (2/ 294)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 46)، التاج والإكليل من مختصر خليل (4/ 406)، الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 447)، المغني (9/ 496)، المبدع في شرح المقنع (8/ 68).
(2)
جاء في نهاية المطلب (18/ 304): "اليمين الغموس، وهي اليمين المعقودة على ماضٍ نفياً كان أو إثباتاً، فاليمين منعقدة عندنا، على معنى أنها توجب الكفارة، ولم نعن بانعقادها أنها تنعقد انعقاد العقود ثم تنحل .. ".
(3)
الحاوي للماوردي (15/ 267)، نهاية المطلب في دراية المذهب (18/ 304)، البيان (10/ 487 - 488)، المغني (9/ 496).
(4)
أخرجه مسلم (1650).
(5)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 131).
عن يمينه، والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين (1).
3 ـ أن اليمين الغموس من الكبائر، وهي أعظم من أن تكفر. كما قال سعيد بن المسيب.
4 ـ ولأن الكفارة لا ترفع إثمها، فلا تشرع فيها (2)، وقد وردت السنة بذكر إثم اليمين الغموس، وعقوبة صاحبها في الآخرة ولم تذكر الكفارة، فقد خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: (الإشراك بالله)، قال: ثم ماذا؟ قال: (عقوق الوالدين)، قال: ثم ماذا؟ قال: (اليمين الغموس)، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: (التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)(3)، وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: (وإن كان قضيبًا من أراك)(4)، ومن حديث عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان). فنزلت: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا .. } إلى آخر الآية (5). ولم يذكر
(1) الشرح الكبير على متن المقنع (11/ 189)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 268).
(2)
المغني لابن قدامة (9/ 496).
(3)
أخرجه البخاري (6920).
(4)
أخرجه مسلم (137).
(5)
أخرجه البخاري (4549)، ومسلم (138).
كفارة، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه، ولقي الله وهو عنه راض، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه، وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب، واستحلال مال الغير، والاستخفاف باليمين بالله تعالى، والتهاون بها وتعظيم الدنيا؟ ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموسًا لأنها تغمس صاحبها في النار (1).
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 ـ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} .. الآية [المائدة: 89] وهذا عام في الماضي والمستقبل.
2 ـ قوله الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، واليمين الغموس مقصودة منوية.
ولأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة (2).
3 ـ وبالقياس على يمين الطلاق، فلو حلف بالطلاق لقد دخل الدار ولم يدخلها لزمه الطلاق، وهو أمر يتعلق بالماضي لا المستقبل.
4 ـ ولأنها يمين بالله تعالى قصدها مختاراً فوجب إذا خالفها بفعله أن تلزمه الكفارة كالمستقبل (3).
والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول أنَّ اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لقوة أدلتهم.
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 268).
(2)
البيان للعمراني (10/ 488)، المجموع (18/ 13).
(3)
الحاوي (15/ 268).
ولأن اليمين المنعقدة مشروعة فتصلح سببًا للكفارة، واليمين الغموس حرام محض فلا تصلح موجبًا للكفارة ولا يجوز قياس الحرام على المشروع (1).
ولأن الكفارة في اليمين المنعقدة إنما جاءت لدفع حرج أوقعه المكلف على نفسه في حالة غضب أو انفعال عارض، ثم رغب في التراجع عنه، بخلاف اليمين الغموس فإنها اتخذت وسيلة لإضاعة حق، وانتهابه وانتهاكه.
والأصل في اليمين المنعقدة إلزام النفس بفعل شيء مشروع أو مباح أو الامتناع عنه، وتأتي الكفارة لاستعادة الوضع الأصلي الذي غيرت حاله اليمين، أما اليمين الغموس فليس فيها إقدام على أمر مباح أو الإحجام عنه، وغايتها إقرار باطل أو إبطال لحق، وهذه يتعلق بها التوبة ورد الحقوق لأصحابها، ولا تغني الكفارة عن مجرد التراجع عنها.
ومما تقدم يتبين أن اليمين التي تجب فيها الكفارة هي اليمين المنعقدة فقط.
مسألة: هل تجب الكفارة في الحلف بغير الله؟
لا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق؛ كالكعبة، والأنبياء، وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها. وهو قول أكثر الفقهاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من كان حالفًا، فليحلف بالله، أو ليصمت)(2).
ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه؛ لعدم الشبه، وانتفاء المماثلة (3).
(1) الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة (ص 179).
(2)
أخرجه البخاري (2679).
(3)
البناية شرح الهداية (6/ 122)، التاج والإكليل (4/ 398)، الأم للشافعي (7/ 64)، المهذب (3/ 95)، (المغني (513 - 514).
مسألة: يمين المُكره هل تنعقد؟
لا تنعقد يمين المُكره على الصحيح عند جمهور الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)(1).
مسألة: تعدد الأيمان:
تعدد الأيمان له حالتان:
الحالة الأولى: أن تكون الأيمان معلومة، وهذه لها صور:
الصورة الأولى: أن يحلف أكثر من مرة على أمر واحد ثم يحنث أكثر من مرة أيضًا، ففي هذه الحالة عليه كفارة واحدة، وهكذا كل يمين على فعل واحد أو ترك شيء واحد ولو تكررت أو تكرر الحنث ليس فيها إلا كفارة واحدة، وذلك لأن اليمين تنحل بالحنث (2).
الصورة الثانية: أن يحلف على أمر معين، ثم كفر عنه، ثم حلف على الأمر السابق وحنث مرة أخرى فعليه الكفارة عن الأخرى.
الصورة الثالثة: أن يحلف يميناً واحداً على أشياء مختلفة، مثل أن يقول: والله لا أزور فلان، ولا أكلمه، ولا أسلم عليه، فهذه فيها كفارة واحدة؛ لأن اليمين واحدٌ (3).
الصورة الرابعة: أن يحلف أيمانا متعددة على أشياء مختلفة مثل أن يقول: والله لا آكل هذا الطعام، والله لا ألبس هذا الثوب والله لا أذهب إلى مكان كذا فإنه إن
(1) البيان للعمراني (10/ 485)، الحاوي (15/ 368)، المجموع (18/ 9).
(2)
المهذب (3/ 115)، البيان (586 - 587).
(3)
المدونة (1/ 589) الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 447) القوانين الفقهية (ص 111).
حنث في الجميع كفر ثلاث مرات، وإن حنث في واحدة كفر مرة واحدة هذا قول أكثر أهل العلم (1).
وقيل يكفر كفارة واحدة ما لم يكفر من قبل، وهذا قول إسحاق وبعض الحنابلة.
الصورة الخامسة: أن يحلف أيمانًا متعددة على شيء واحد، ثم يحنث، كأن يقول: والله، والله، وبالله لا أكلم فلاناً فعليه كفارة واحدة عند الجمهور، خلافاً للحنفية.
وعند بعض الشافعية إن نوى التأكيد فعليه كفارة واحدة، وإن نوى الاستئناف فيلزمه كفارتان (2).
الحالة الثانية: أن يحلف أيماناً كثيرة، ونسي عددها، فعليه أن يكفر العدد الذي يتوقع أن العدد لا ينقص عنه، ويغلب على الظن براءة الذمة به، إذ لا يستطيع غير ذلك، {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].
قال ابن قدامة في (الكافي): "ومن حلف أيمانًا كثيرة على شيء واحد فحنث لم يلزمه أكثر من كفارة
…
وإن حلف يمينًا واحدة على أفعال مختلفة، فَحَنَث في الجميع أجزأه كفارة واحدة، لأنها يمين واحدة.
وإن حلف أيمانا على أفعال فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لَبِسْت؛ ففيه روايتان:
(1) المراجع السابقة.
(2)
النتف في الفتاوى للسغدي (387)، تبيين الحقائق (3/ 109).
أحداهما: يُجزئه عن الجميع كفارة واحدة، اختارها أبو بكر والقاضي؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت كالحدود.
والثانية: يجب في كل يمين كفارة، وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارة بها كالمختلفة الكفارة. قال أبو بكر: المذهب الأول، وقد رجع أحمد عن الرواية الأخرى" (1).
(1) الكافي (4/ 195).