الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
الكفارة بين الترتيب والتخيير
اختلف العلماء في كفارة الجماع في رمضان هل هي على الترتيب أم على التخيير على قولين:
القول الأول: هي مرتبة، فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد والثوري وسائر الكوفيين (1).
القول الثاني: هي على التخيير بين العتق والصيام والإطعام، وبأيها كفر أجزأه. وهو مذهب مالك (2) وراوية عن أحمد (3).
وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب:
تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا. وظاهر ما رواه مالك من:(أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا) أنها على التخيير، إذ (أو) إنما يقتضي في لسان العرب التخيير، وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب، إذ كانوا أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال.
(1) البحر الرائق (2/ 298)، روضة الطالبين (2/ 379)، البيان للعمراني (3/ 520)، المغني (3/ 140).
(2)
وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه يستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام. بداية المجتهد (2/ 67).
(3)
بداية المجتهد (2/ 67)، المغني (3/ 140).
وأما الأقيسة المعارضة في ذلك: فتشبيهها تارة بكفارة الظهار، وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي.
وأما استحباب مالك الابتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس، لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ:{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه، وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول (1).
ويرجح القول الأول لما يلي:
1 ـ ما رواه عن أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للواقع على أهله: (هل تجد رقبة تعتقها؟ ) قال: لا. قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ ) قال: لا. قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ ) قال: لا. وذكر سائر الحديث لفظ الترتيب، والأخذ بهذا أولى من رواية مالك؛ لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا، سوى مالك وابن جريج، واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه.
2 ـ ولأن الترتيب زيادة، والأخذ بالزيادة متعين.
3 ـ ولأن حديث القول الأول لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحديث القول الثاني لفظ الراوي، ويحتمل أنه رواه بـ (أو) لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء.
(1) بداية المجتهد (2/ 67).
4 ـ ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين، فكانت على الترتيب، ككفارة الظهار والقتل (1).
5 ـ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقله عن العتق إلى الصيام إلا بالعجز عنه فدل على عدم التخيير، ووجوب الترتيب.
6 ـ ولأنه نوع تكفير يجب بضرب من المأثم، فوجب أن يكون من شرط الترتيب أصله كفارة القتل والظهار.
7 ـ ولأن الكفارات في الشرع ضربان: ضرب بدئ فيها بالأغلظ فكان الترتيب فيها واجبا، مثل كفارة الظهار والقتل بدئ فيها بالعتق وضرب بدئ فيها بالأخف، فكان التخيير فيها مستحقا مثل كفارة اليمين بدئ فيها بالإطعام ثم وجدنا كفارة الجماع بدئ فيها بالأغلظ، وهو العتق فوجب أن يكون الترتيب فيها مستحقا.
8 ـ وأما ما رواه مالك فقد رُوي في الطرق الأخرى على الترتيب، والقصة واحدة، والرواية التي استدل بها القول الآخر أولى لكثرة الرواة، ونقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير ألفاظه التي لا يدخلها احتمال (2).
(1) المغني (3/ 140 - 141).
(2)
الحاوي (3/ 432 - 433)، البيان للعمراني (3/ 520).